الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هناك، ثم اختطت وعمرت وصارت بها سويقة كبيرة عامرة بأصناف المأكولات، والخط إنما يعرف برحبة التبن، وقد خرب بعد سنة ست وثمانمائة.
رحبة الناصرية: هذه الرحبة كانت فيما بين الميدان السلطانيّ والبركة الناصرية أيام كانت تلك الخطة عامرة، وكان يتفق في ليالي أيام ركوب السلطان إلى الميدان في كل سنة من الاجتماع والإنس ما ستقف على بعض وصفه عند ذكر المنتزهات إن شاء الله تعالى. وقد خربت الأماكن التي كانت هناك، وجهلت هذه الرحبة إلّا عند القليل من الناس.
رحبة ارغون ازكه: والعامّة تقول رحبة أزكي بياء، وهي رحبة كبيرة بالقرب من البركة الناصرية، وهذه الرحبة وما حولها من جملة بستان الزهريّ الآتي ذكره إن شاء الله في الأحكار، وعرفت بالأمير ارغون أزكي.
ذكر الدور
قال ابن سيدة الدار: المحل يجمع البناء والعرصة التي هي من داريدور، لكثرة حركات الناس فيها، والجمع أدور، وأدؤر، وديار، وديارة، وديارات، وديران، ودور، ودورات، والدارة لغة في الدار، والدار البلد، والبيت من الشعر، ما زاد على طريقة واحدة. وهو مذكر يقع على الصغير والكبير. وقد يقال للمبنيّ والبيت، أخص من غير الأبنية التي هي الأخبية بيت، وجمع البيت أبيات وأبابيت، وبيوت وبيوتات، والبيت أخص من الدار، فكلّ دار بيت، ولا ينعكس. ولم تكن العرب تعرف البيت إلّا الخباء، ثم لما سكنوا القرى والأمصار وبنوا بالمدر واللبن سموا منازلهم التي سكنوها دورا وبيوتا، وكانت الفرس لا تبيح شريف البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات، كصنيعهم في النواويس والحمامات والقباب الخضر والشرف على حيطان الدار وكالعقد على الدهليز.
دار الأحمدي: هذه الدار من جملة حارة بهاء الدين، وبها مشترف عال فوق بدنة من بدنات سور القاهرة، ينظر منه أرض الطبالة وخارج باب الفتوح، وهي إحدى الدور الشهيرة، عرفت بالأمير بيبرس الأحمدي.
بيبرس الأحمدي: ركن الدين أمير جاندار، تنقل في الخدم أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن صار أمير جاندار أحد المقدّمين، فلما مات الملك الناصر قوي عزم قوصون على إقامة الملك المنصور أبي بكر بعد أبيه، وخالف بشتاك، فلما نسب المنصور إلى اللعب حضر إلى باب القصر بقلعة الجبل وقال: أيّ شيء هذا اللعب، فلما ولي الناصر أحمد أخرجه لنيابة صفد فأقام بها مدة، ثم أحس من الناصر أحمد بسوء فخرج من صفد بعسكره إلى دمشق، وليس بها نائب، فهمّ الأمراء بإمساكه، ثم أخروا ذلك وأرسلوا إليه الإقامة، فقدم البريد من الغد بإمساكه، فكتب الأمراء من دمشق إلى السلطان
يشفعون فيه، فعاد الجواب بأنه لا بدّ من القبض عليه ونهب ماله وقطع رأسه وإرساله، فأبوا من ذلك وخلعوا الطاعة وشقوا العصا جميعا، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من مصر بخلع الناصر أحمد وإقامة الصالح إسماعيل في الملك بدله، والأحمديّ مقيم بقصر تنكز من دمشق، فورد عليه مرسوم بنيابة طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها نحو الشهرين، ثم طلب إلى مصر فسار إليها وأخرج لمحاصرة أحمد بالكرك، فحصره مدّة ولم ينل منه شيئا، ثم عاد إلى القاهرة فأقام بها حتى مات في يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر نحو الثمانين سنة وكان أحد الأبطال الموصوفين بقوّة النفس وشدّة العزم ومحبة الفقراء وإيثار الصالحين، وله مماليك قد عرفوا بالشجاعة والنجدة، وكان ممن يقتدي برأيه وتتبع آثاره لمعرفته بالأيام والوقائع، وما برحت ذريته بهذه الدار إلى الآن، وأظنها موقوفة عليهم.
دار قراسنقر: هذه الدار برأس حارة بها الدين، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر، وبها كان سكنه، وهي إحدى الدور الجليلة، ووجد بها في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لما أحيط بها، اثنان وثلاثون ألف ألف دينار، ومائة ألف وخمسون ألف درهم فضة، وسروج مذهبة وغير ذلك، فحمل الجميع إلى بيت المال، ولم تزل جارية في أوقاف المدرسة القراسنقرية إلى أن اغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، فيما اغتصب من الأوقاف، وجعلها وقفا على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق وارتجع جميع ما خلفه وصار في جملة الأموال السلطانية، ثم أفرد من الأوقاف التي جعلها جمال الدين على مدرسته شيئا، وجعل باقيها لأولاده، وعلى تربته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق بالصحراء تحت الجبل، خارج باب النصر، فلما قتل الملك الناصر فرج، صارت هذه الدار بيد الأمير طوغان الدوادار، وكانوا كسارق من سارق، وما من قتيل يقتل إلّا وعلى ابن آدم الأوّل كفل منه، لأنه أوّل من سنّ القتل.
دار البلقيني: هذه الدار تجاه مدرسة شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، من حارة بهاء الدين، أنشأها قاضي العساكر بدر الدين محمد بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ الشافعيّ. ومات في يوم الخميس لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ولم تكمل، فاشتراها أخوه قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام وكمّلها، وبها الآن سكنه، وهي من أجلّ، دور القاهرة صورة ومعنا، وقد ذكرت الأخوين وأبيهما في كتابي المنعوت بدرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، فانظر هناك أخبارهم.
دار منكوتمر: هذه الدار بحارة بهاء الدين، بجوار المدرسة المنكوتمرية، أنشأها الأمير منكوتمر نائب السلطنة بجوار مدرسته الآتي ذكرها عند ذكر المدارس إن شاء الله
تعالى، وهي من الدور الجليلة، وبها إلى اليوم بعض ذريته وهي وقف.
دار المظفر: هذه الدار كانت بحارة برجوان، أنشأها أمير الجيوش بدر الجمالي إلى أن مات، فلما ولي الوزارة من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش، وسكن دار القباب التي عرفت بدار الوزارة، وقد تقدّم ذكرها، صار أخوه المظفر أبو محمد جعفر بن أمير الجيوش بهذه الدار، فعرفت به، وقيل لها دار المظفر، وصارت من بعده دار الضيافة، كما مرّ في هذا الكتاب. وآخر ما أعرفه أنها كانت ربعا وحمّاما وخرائب، فسقط الربع بعد سنة سبعين وسبعمائة، وكانت الحمام قد خربت قبل ذلك، فلم تزل خرابا إلى سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فشرع قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسيّ الحنفيّ في عمارتها، فلما حفر أساس جداره القبليّ ظهر تحت الردم عتبة عظيمة من حجر صوّان مانع، يشبه أن يكون عتبة دار المظفر، وكان الأمير جهاركس الخليليّ إذ ذاك يتولى عمارة المدرسة التي أنشأها الملك الظاهر برقوق بخط بين القصرين، فبعث بالرجال لهذه العتبة وتكاثروا على جرّها إلى العمارة، فجعلها في المزمّلة التي تشرب منها الناس الماء بدهليز المدرسة الظاهرية، وكمّل قاضي القضاة شمس الدين بناء داره، حيث كانت دار المظفر، فجاءت من أحسن دور القاهرة، وتحوّل إليها بأهله وما زال فيها حتى مات بها، وهو متقلد وظيفة قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية، في ليلة السبت الثامن عشر من ذي الحجة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وله من العمر سبعون سنة وأشهر، ومولده بطرابلس الشام، وأخذ الفقه على مذهب أبي حنفية رحمه الله، عن جماعة من أهل طرابلس.
ثم خرج منها إلى دمشق فقرأ على صدر الدين محمد بن منصور الحنفيّ، ووصل إلى القاهرة وقاضي الحنفية بها قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ، فلازمه وولّاه العقود وأجلسه ببعض حوانيت الشهود، فتكسب ممن تحمل الشهادة مدّة. وقرأ على قاضي القضاة سراج الهدى، ولازمه فولّاه نيابة القضاء بالشارع، فباشرها مباشرة مشكورة، وأجازه العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفيّ بالإفتاء والتدريس، فلما مات صدر الدين بن منصور قلده الملك الظاهر برقوق قضاء القضاة مكانه في يوم الاثنين ثاني عشرى شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وسبعمائة، فباشر القضاء بعفة وصيانة وقوّة في الأحكام لها النهاية ومهابة وحرمة وصولة تذعن لها الخاصة والعامّة، إلى أن صرف في سابع عشر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بشيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم التركمانيّ، فلم يزل إلى أن عزل مجد الدين وولي من بعده قاضي القضاة وناظر الجيوش جمال الدين محمود القيصريّ، وهو ملازم داره وما بيده من التدريس، وهو على حال حسنة وتجلد من الكافة، إلى أن استدعاه السلطان في يوم الثلاثاء تاسع شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فقلّده وظيفة القضاء عوضا عن محمود القيصري، فلم يزل حتى مات من عامه رحمه الله تعالى، وهذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان طالبا المسجد
المسمى بجعفر، وأما الحمّام فإنها في مكانها اليوم ساحة بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين، ومن جملة حقوق دار المظفر رحبة الأفيال، وحدرة الزاهدي إلى الدار المعروفة بسكنى قريبا من حمّام الرومي.
دار ابن عبد العزيز: هذه الدار بحارة برجوان، على يمنة من سلك من باب الحارة طالبا حمّام الرومي، أيضا من جملة دار المظفر، كانت طاحونا، ثم خربت، فابتدأ عمارتها فخر الدين أبو جعفر محمد بن عبد اللطيف بن الكويك ناظر الأحباس، ومات ولم تكمل، فصارت لامرأته وابنة عمه خديجة، فماتت في رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقد تزوّجت من بعده بالقاضي الرئيس بدر الدين حسن بن عبد العزيز بن عبد الكريم ابن أبي طالب بن علي بن عبد الله بن سيدهم النجميّ السيرواني، فانتقلت إليه، ومات في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، في العشرين من جمادى الأولى، وورثه من بعد موته كريم الدين ابن أخيه.
وهو عبد الكريم بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الكريم بن أبي طالب بن عليّ بن عبد الله بن سيدهم، ومات آخر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانمائة عن سبعين سنة، وولي نظر الجيوش بديار مصر للظاهر برقوق، فباعها لقريبه شمس الدين محمد بن عبد الله بن عبد العزيز، وكملها وسكنها مدّة طويلة إلى أن باعها في سنة خمس وتسعين وسبعمائة بألفي دينار ذهبا، لخوند فاطمة ابنة الأمير منجك، فوقفتها على عتقائها، وهي إلى اليوم بيدهم، وتعرف ببيت ابن عبد العزيز المذكور، لطول سكنه بها، وكان خيّرا عارفا يلي كتابة ديوان الجيش، وعدّة مباشرات، ومات ليلة الثاني عشر من صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة.
دار الجمقدار «1» : هذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان تحت القبو طالبا حمام الرومي، عرفت بالأمير علم الدين سنجر الجمقدار، من الأمراء البرجية، وقدّمه الملك الناصر محمد تقدمة ألف بعد مجيئه من الكرك إلى مصر، ثم أخرجه إلى الشام فأقام بها إلى أن حضر قطلو بغا الفخريّ في نوبة أحمد بالكرك، فحضر معهم واستقرّ من الأمراء بالديار المصرية إلى أن مات يوم الجمعة تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وقد كبر وارتعش وكان روميا ألثغ، صار لخالد بن الزراد المقدّم، فلما قبض عليه ومات في ثاني عشرى جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة تحت المقارع، ارتجعت عنه لديوان السلطان حسن فصارت في يد ورثته إلى أن باع بعض أولاده اسهما منها، فاشتراها الأمير سودون الشيخوني نائب السلطنة، ثم تنقلت وبعضها وقف بيد أولاد السلطان حسن بن
محمد بن قلاوون إلى أن ملك ما تملك منها بالشراء قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي وسكنها، إلى أن سافر، فصارت من بعده لورثته فباعوها للشيخ زين الدين أبي بكر القمنيّ، وهي بيده الآن.
دار أقوش: الرومي بحارة برجوان، هذه الدار من أجلّ دور القاهرة، وبابها من نحاس بديع الصنعة، يشبه باب المارستان المنصوري، وكان تجاهها اصطبل كبير يعلوه ربع فيه عدّة مساكن، عرفت بالأمير جمال الدين أقوش الرومي السلاح دار الناصري، وتوفي سنة سبع وسبعمائة، وهي مما وقفه على تربته بالقرافة، وقد خرب اصطبلها وعلوه وبيع نقض ذلك وتداعت الدار أيضا للسقوط، فبيعت انقاضا وصارت من جملة الأملاك.
دار بنت السعيدي: هذه الدار بحارة برجوان، عرفت بقاعة حنيفة بنت السعيدي إلى أن اشتراها شهاب الدين أحمد بن طوغان دوادار الأمير سودون الشيخوني نائب السلطان، في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فأخذ عدّة مساكن مما حولها، وهدمها وصيرها ساحة بها، فصارت من أعظم الدور اتساعا وزخرفة، وفيها آبار سبعة معينة، وفسقية ينقل إليها الماء بساقية على فوهة بئر، وما زال صاحبها شهاب الدين فيها إلى أن سافر إلى الاسكندرية في محرّم سنة ثمان وثمانمائة، فمات رحمه الله، وانتقلت من بعده لغير واحد بالبيع.
دار الحاجب: هذه الدار فيما بين الخرشتف «1» وحارة برجوان، كان مكانها من جملة الميدان، وكان يسلك من حارة برجوان في طريق شارعه إلى باب الكافوريّ، فلما عمر الأمير بكتمر هذه الدار جعل اصطبلها حيث كانت الطريق، وركّب بابا بخوجة مما يلي حارة برجوان، واشترط عليه الناس أن لا يمنع المارّة من سلوك هذا المكان، فوفى بما اشترط، وما برح الناس يمرّون من هذا الطريق في وسط الاصطبل على باب داره، سالكين من حارة برجوان إلى الكافوري والخرشتف، ومنها إلى حارة برجوان، وأنا سلكت من هذه الطريق غير مرّة، وكان يقال لها خوخة الحاجب، ثم لما طال الأمد وذهبت المشيخة نسيت هذه الطريق وقفل الباب، وانقطع سلوك الناس منه، وصارت تلك الطريق من جملة حقوق الدار، وما برحت هذه الدار ينصب على بابها الطوارق «2» دائما، كما كانت عادة دور الأمراء في الزمن القديم، فلما تغيرت الرسوم وبطل ذلك قلعت الطوارق من جانبي الباب. وأعلى اسكفته، وباب هذه الدار تجاه باب الكافوريّ، وعرفت بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، صاحب الدار، خارج باب النصر والمدرسة بجواره، ثم حل وقفها سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وبيعت كما بيع غيرها من الأوقاف. وهناك ترى ترجمته.
دار تنكز: هذه الدار بخط الكافوري، كانت للأمير ايبك البغدادي، وهي من أجلّ دور القاهرة وأعظمها، انشأها الأمير تنكز نائب الشام، وأظنه أوقفها في جملة ما أوقف، وكان بها ولده، وسكنها قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، فأنفق في زخرفها على ما أشيع سبعة عشر ألف درهم، عنها يومئذ ما ينيف عن سبعمائة دينار مصرية، ولم تزل هذه الدار وقفا إلى أن بيعت على أنها ملك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بدون ألف دينار، لزين الدين عبد الباسط بن خليل، فجدّد بناءها وبنى تجاهها جامعة.
تنكز الأشرفي: سيف الدين أبو سعيد خليل، جلبه إلى مصر وهو صغير الخواجا علاء الدين السوسيّ، فنشأ بها عند الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما ملك السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمّره أمرة عشرة، قبل توجهه إلى الكرك، وسافر معه إلى الكرك، وترسل عنه منها إلى الأفرم، فاتهمه أنّ معه كتبا إلى الأمراء بالشام، وعرض عليه العقوبة فارجف منه وعاد إلى الناصر. فقال له: إن عدت إلى الملك فانت نائب دمشق، فلما عاد إلى الملك جهزه إلى دمشق فوصلها في العشرين من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فباشر النيابة وتمكن فيها وسار بالعساكر إلى ملطية «1» وافتتحها في محرّم سنة خمس عشرة، وعظم شأنه وأمّن الرعايا حتى لم يكن أحد من الأمراء يظلم ذميّا، فضلا عن مسلم، خوفا من بطشه، وشدّة عقوبته، وكان السلطان لا يفعل شيئا بمصر إلّا ويشاوره فيه وهو بالشام، وقدم غير مرّة على السلطان فاكرمه وأجله بحيث أنه انعم عليه في قدومه إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين بما مبلغه ألف ألف درهم وخمسون ألف درهم، عنها خمسون ألف دينار ونيف، سوى الخيل، وزادت أملاكه وسعادته وأنشأ جامعا بدمشق بديع الوصف بهج الزي، وعدّة مواضع، وكان الناس في أيامه قد أمنوا كل سوء، إلّا أنه كان يتخيل خيالا فيحتدّ خلقه ويشتدّ غضبه، فهلك بذلك كثير من الناس، ولا يقدر أحد أن يوضح له الصواب لشدّة هيبته، وكان إذا أغضب لا يرضى البتة بوجه، وإذا بطش كان بطشه الجبارين، ويكون الذنب صغيرا فلا يزال يكبره، حتى يخرج في عقوبة فاعله عن الحدّ، ولم يزل إلى أن أشيع بدمشق أنه يريد العبور إلى بلاد الططر، فبلغ ذلك السلطان فتنكر له وجهز إليه من قبض عليه في ثالث عشرى ذي الحجة سنة أربعين، وأحيط بماله وقدم الأمير بشتاك إلى دمشق لقبضه، وخرج إلى مصر ومعه من مال تنكز وهو من الذهب العين ثلاثمائة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ومن الدراهم الفضة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الجوهر واللؤلؤ والزركش والقماش ثمانمائة حمل، ثم استخرج بعد ذلك من بقايا أمواله أربعون ألف دينار وألف ألف ومائة ألف درهم، فلما وصل تنكز إلى قلعة الجبل جهز إلى الاسكندرية واعتقل فيها نحو الشهر، وقتل في محتبسه ودفن بها في يوم الثلاثاء حادي عشرى المحرّم، سنة إحدى
وأربعين وسبعمائة، ومن الغريب أنه أمسك يوم الثلاثاء، ودخل مصر يوم الثلاثاء ودخل الاسكندرية يوم الثلاثاء وقتل يوم الثلاثاء، ثم نقل إلى دمشق فدفن بتربته جوار جامعه، ليلة الخامس من رجب سنة أربع وأربعين وسبعمائة، بعد ثلاث سنين ونصف بشفاعة ابنته.
دار أمير مسعود: هذه الدار بآخر خط الكافوريّ، عرفت بالأمير بدر الدين مسعود بن خطير الرومي، أحد الأمراء بمصر، أخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذي الحجة سنة أربعين وسبعمائة إلى نيابة غزة، ثم نقل منها إلى إمرة دمشق وولي نيابة طرابلس، ثم أعيد إلى دمشق وأصله من أتباع الأمير تنكز، فشكره عند الملك الناصر وقدّمه حتى صار أميرا حاجبا فلما قتل تنكز أخرجه لنيابة غزة، وتنقل في نيابة طرابلس ثلاث مرات إلى أن استعفى من النيابة، فأنعم عليه بإمرة في دمشق، وعلى ولديه بامرة طبلخاناه «1» ، وما زال مقيما بها حتى مات في سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة بدمشق، ومولده بها ليلة السبت سابع جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
دار نائب الكرك: هذه الدار فيما بين خط الخرشتف وخط باب سر المارستان المنصوري، وهي من جملة أرض الميدان، عرفت بالأمير أقوش الأشرفيّ المعروف بنائب الكرك صاحب الجامع.
أقوش الأشرفي: جمال الدين، ولّاه الملك الناصر محمد بن قلاون نيابة دمشق بعد مجيئه من الكرك، وعزله تنكز بعد قليل، واعتقله إلى شهر رجب سنة خمس عشرة وسبعمائة، ثم أفرج عنه وجعله رأس الميمنة، وصار يقوم له إذا قدم مميزا له عن غيره من الأمراء، وكان لا يلبس مصقولا، ويمشي من داره هذه إلى الحمّام وهو حامل المئزر والطاسة وحده، فيدخل الحمام ويخرج عريانا، فاتفق مرة أنّ رجلا رآه فعرفه، وأخذ الحجر وحك رجله وغسله وهو لا يكلمه كلمة واحدة، فلما خرج وصار إلى داره، طلب الرجل وضربه وقال له: أنا مالي مملوك، ما عندي غلام، مالي طاسة حتى تتجرأ عليّ أنت، وكان يتوجه إلى معبد له في الجبل الأحمر وينفرد فيه وحده اليومين والثلاثة، ويدخل منه إلى القاهرة وهو ماش وذيله على كتفه حتى يصل إلى داره، وباشر نظر المارستان المنصوري مباشرة جيدة، ثم أخرجه السلطان إلى نيابة طرابلس في أوّل سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فأقام بها، ثم طلب الإقالة فأعفى وقبض عليه واعتقل بقلعة دمشق، ثم نقل منها إلى صفد فحبس بها في برج، ثم أخرج منها إلى الإسكندرية فمات بها معتقلا في سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
وكان عسوفا جبارا في بطشه، مات عدّة من الناس تحت الضرب قدّامه، وكان كريما
سمحا إلى الغاية، وعرف بنائب الكرك لأنه أقام في نيابتها من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة.
دار ابن صغير: هذه الدار من جملة الميدان، وهي اليوم من خط باب سرّ المارستان المنصوري، أنشأها علاء الدين علي بن نجم الدين عبد الواحد بن شرف الدين محمد بن صغير، رئيس الأطباء، ومات بحلب عند ما توجه إليها في خدمة الملك الظاهر برقوق في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وسبعمائة. ودفن بها، ثم نقلته ابنته إلى القاهرة ودفنته بظاهرها.
دار بيبرس الحاجب: هذه الدار بخط حارة العدوية، وهي الآن من خط باب سر المارستان، عرفت بالأمير بيبرس الحاجب صاحب غيط الحاجب، فيما بين جسر بركة الرطلي والجرف.
بيبرس الحاجب: الأمير ركن الدين، ترقى في الخدم إلى أن صار أميراخور، فلما حضر الملك الناصر من الكرك عزله بالأمير ايدغمش، وعمله حاجبا، وناب في الغيبة عن الأمير تنكز بدمشق لما حج، ثم تجرّد إلى اليمن وعاد، فتنكر عليه السلطان وحبسه في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأفرج عنه في رجب سنة خمس وثلاثين، وجهزه من الإسكندرية إلى حلب فصار بها أميرا من أمرائها، ثم تنقل منها إلى أمرة بدمشق بعد عزل تنكز، فلم يزل بها إلى أن توجه الفخريّ وطشتمر إلى مصر، فأقرّه على نيابة الغيبة بدمشق، وكان قد أسنّ ومات في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وأدركنا له حفيدا يعرف بعلاء الدين أمير عليّ بن شهاب الدين أحمد بن بيبرس الحاجب، قرأ القراءات السبع على والده، وكان حسن الأداء للقراءة، مشهورا بالعلاج، يعالج بمائة وعشرة أرطال، مات وهو ساح في سابع ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة.
دار عباس: هذه الدار كانت في درب شمس الدولة، عرفت بالوزير عباس بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، أصله من المغرب وترقى في الخدم حتى ولي الغربية، ولقب بالأمير ركن الإسلام، وكانت أمّه تحت الأمير المظفر عليّ بن السلار والي البحيراء والإسكندرية، فلما رحل عليّ بن السلار إلى القاهرة وأزال الوزير نجم الدين سليمان بن مصال من الوزارة واستقرّ مكانه في وزارة الخليفة الظافر بأمر الله، وتلقب بالعادل، قدّمه لمحاربة ابن مصال فلم ينل غرضا، فخرج إليه عباس حتى ظفر به، وولى ناصر الدين نصير بن عباس ولاية مصر بشفاعة جدّته أمّ عباس، فاختص به الخليفة الظافر واشتغل به عمن سواه، وكان جريا مقداما، فخرج إليه أبو عباس بالعسكر لحفظ عسقلان من الفرنج ومعه من الأمراء ملهم والضرغام وأسامة بن منقذ، وكان أسامة خصيصا بعباس، فلما نزلوا
بلبيس «1» تذاكر عباس وأسامة مصر وطيبها وما هم خارجون إليه من مقاساة السفر ولقاء العدوّ، فتأوّه عباس أسفا على مفارقة لذّاته بمصر، وأخذ يثرب على العادل بن السلار، فقال له أسامة: لو أردت كنت أنت سلطان مصر. فقال: كيف لي بذلك؟ قال: هذا ولدك ناصر الدين بينه وبين الخليفة مودّة عظيمة، فخاطبه على لسانه أن تكون سلطان مصر موضع زوج أمّك، فإنه يحبك ويكرهه، فإذا أجابك فاقتله وصر في منزلته، فأعجب عباس ذلك وجهز ابنه لتقرير ما أشار به أسامة، فسار إلى القاهرة ودخلها على حين غفلة من العادل، واجتمع بالخليفة وفاوضه فيما تقرّر، فأجابه إليه ونزل إلى دار جدّته، وكان من قتله للعادل عليّ بن سلار ما كان، فماج الناس وسرح الطائر من القصر إلى عباس وهو على بلبيس في الانتظار، فقام من فوره ودخل القاهرة سحر يوم الأحد ثاني عشر المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فوجد عدّة من الأتراك قد نفروا وخرجوا يدا واحدة إلى الشام، فصار إلى القصر وخلع عليه خلع الوزارة، فباشر الأمور وضبط الأحوال وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد، وازدادت مخالطة ولده للخليفة فخاف أن يقتله كما قتل ابن السلار، فما زال به حتى قتل الخليفة الظافر، كما تقدّم ذكره، وصار إلى القصر على العادة، فلما جلس في مقطع الوزارة سأل الاجتماع على الخليفة، فدخل الزمام إلى دور الحرم فلم يجد الخليفة، فلما عاد إليه أحضر أخوي الظافر واتهمهما بقتله وقتلهما قدّامه، واستدعى بولد الظافر عيسى ولقبه بالفائز بنصر الله، وكثرت النياحة على الظافر، وبحث أهل القصر على كيفية قتله، فكتبوا إلى طلائع بن رزبك وهو والي الأشمونين يستدعونه، فحشد وسار، فاضطرب عباس وكثرت مناكدة أهل القاهرة له، حتى أنّه مرّ يوما فرمي من طاقة تشرف على شارع بقدر مملوء طعاما حارّا، فعوّل على الفرار وخرج ومعه ابنه وأسامة بن منقذ وجميع ما لهم من أتباع ومال وسلاح، ودخل طلائع إلى القاهرة واستقرّ في وزارة الخليفة الفائز، فسير أهل القصر إلى الفرنج البريد بطلب عباس، فخرجوا إليه وكانت بينهم وبينه وقعة فرّ فيها أسامة في جماعة إلى الشام، فظفر به الفرنج وقتلوه وأخذوا ابنه في قفص من حديد، وجهزوه إلى القاهرة، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فلما وصل ابنه إلى القصر قتل وصلب على باب زويلة، وأحرق بعد ذلك، ثم عرفت هذه الدار بعد ذلك بدار تقيّ الدين صاحب حماه، ثم خربت وحكر مكانها، فصار يعرف بحكر صاحب حماه، وبني فيه عدّة دور وموضعها الآن بداخل درب شمس الدولة بالقرب من حمّام عباس التي تعرف اليوم بحمام الكويك.
دار ابن فضل الله: هذه الدار فيما بين حارة زويلة والبندقانيين، كان موضعها من جملة اصطبل الجميزة، عرفت بابن فضل الله: وبنو فضل الله جماعة أوّلهم بمصر:
شرف الدين: عبد الوهاب بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله ابن الأمير عز الدين الحلي بن دعجان العمريّ، ولي كتابة السرّ للملك الناصر محمد بن قلاون، ثم صرفه عنها وولاه كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل بها حتى مات في ثالث شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقد عمر وبلغ أربعا وتسعين سنة، وخلّف أموالا جمة، ورثاه الشهاب محمود، وقد ولي بعده وأرثاه علاء الدين عليّ بن غانم، والجمال ابن نباتة، وكان فاضلا بارعا أديبا عاقلا وقورا ناهضا ثقة أمينا مشكورا، مليح الخط جيد الإنشاء، حدّث عن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وغيره.
ومنهم محيي الدين: يحيى بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله بن مجلي بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن عليّ بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ المريّ، ولي كتابة السرّ بالديار المصرية عن الملك الناصر، نقل إليها من كتابة سرّ دمشق لما مرض علاء الدين باستدعائه إلى مصر، وأقيم بدله في كتابة سرّ دمشق شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وكان استقراره في محرّم سنة ثلاثين وسبعمائة، فباشرها إلى ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين، ونقل منها إلى كتابة السرّ بدمشق، وطلب شرف الدين بن الشهاب محمود فاستقرّ في كتابة السرّ بمصر إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين، وطلب محيي الدين من دمشق هو وابنه شهاب الدين أحمد، فوصلا إلى القاهرة غرّة جمادى الأولى، وخلع عليهما ورسم لهما بكتابة السرّ، ونقل ابن الشهاب محمود إلى كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل محيي الدين يباشر كتابة السرّ هو وابنه إلى أن كان من تنكز السلطان لولده شهاب الدين ما كان، وذلك أنه كان استعفى من الوظيفة لثقل سمعه وكبر سنه، فأذن له أن يقيم ابنه القاضي شهاب الدين يباشر عنه، فصار الاسم لمحيي الدين والمباشر ابنه شهاب الدين إلى أن حضر الأمير تنكز نائب الشام إلى القلعة وسأل السلطان في علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل المعروف بابن القطب أن يوليه كتابة السرّ بدمشق، وكان السلطان لا يمنع تنكز شيئا يسأله، فخلع عليه وأقرّه في ذلك عوضا عن جمال الدين عبد الله بن الأثير، فأخذ شهاب الدين ينقصه عند السلطان بأنه نصرانيّ الأصل، وليس من أهل صناعة الإنشاء، ونحو ذلك، والسلطان مغض عنه غير ملتفت إلى ما يرمى به رعاية لتنكز، فلما كتب توقيع ابن القطب أراد تكثير الألقاب والزيادة له في المعلوم، فامتنع شهاب الدين من كتابة ذلك، وكان حادّ المزاج قويّ النفس شرس الأخلاق، ففاجأ السلطان بغلظة ومخاشنة في القول، وكان من كلامه كيف تعمل قبطيا أسلميا كاتب السرّ وتزيد في معلومه، وبالغ في الجراءة حتى قال ما يفلح من يخدمك، وخدمتك عليّ حرام، ونهض قائما لشدّة حنقه، وكان هذا منه بحضرة الأمراء فغضبوا لذلك وهموا بضرب عنقه، فأغضى السلطان عنه وبلغ محيي الدين ما كان من ابنه فبادر إلى السلطان وقبل الأرض واعترف بخطإ ابنه واعتذر عن تأخره بثقل سمعه،
فرسم له أن يكون ابنه علاء الدين عليّ يدخل ويقرأ البريد، فاعتذر بأنه صغير لا يقوم بالوظيفة. فقال السلطان أنا أربيه مثل ما أعرف، فصار يخلف أباه كما كان شهاب الدين، وانقطع شهاب الدين في منزله مدّة سنين إلى أن مات أبوه محيي الدين في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة، عن ثلاث وتسعين سنة، وهو متمتع بحواسه، فدفن ظاهر القاهرة ثم نقل إلى تربتهم من سفح قاسيون بدمشق، وكان صدرا معظما رزينا كامل السؤدد حركا كاتبا بارعا دبر الأقاليم بكفايته وحسن سياسته، ووفور عقله وأمانته وشدّة تحرّزه، وله النظم والنثر البديع الرايق فمن شعره:
تضاحكني ليلى فأحسب ثغرها
…
سنا البرق لكن أين منه سنا البرق
وأخفت نجوم الصبح حين تبسمت
…
فقمت بفرعيها أشدّ على الشرق
وقلت سواء جنح ليل وشعرها
…
ولم أدر أنّ الصبح من جهة الفرق
علاء الدين: علي بن يحيى بن فضل الله العمريّ، استقل بوظيفة كتابة السرّ قبل موت أبيه محيي الدين، وخلع عليه يوم الاثنين رابع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وله من العمر أربع وعشرون سنة، فخرج وفي خدمته الحاجب والدوادار، وتقدّم أمر السلطان للموقعين بامتثال ما يأمرهم به عن السلطان، فشق ذلك على أخيه شهاب الدين وحسده، وربما قيل أنه سمّه، فكان يعتريه دم منه إلى أن مات، ثم إنه كتب قصة يسأل فيها السفر إلى الشام، وشكا كثرة الكلفة، وكان قبل ذلك جرى ذكره في مجلس السلطان فذمّه وتهدّده، فعند ما قرئت عليه قصته تحرّك ما كان ساكنا من غضبه، ورسم بإيقاع الحوطة عليه، فحمل من داره إلى قاعة الصاحب من قلعة الجبل في رابع عشري شعبان سنة تسع وثلاثين، وخرج إليه الأمير طاجار الدوادار، وأمر به فعرّي من ثيابه ليضرب بالمقارع، فرفق به ولم يضر به واستكتبه خطه بحمل عشرة آلاف، فأحيط بداره وأخرج سائر ما وجد له وبيع عليه، وأرسل مملوكه إلى بلاد الشام فباع كل ما له فيها، واقترض خمسين ألف درهم حتى حمل من ذلك كله مائة وأربعين ألف درهم، عنها سبعة آلاف دينار، فسكن أمره وخف الطلب عنه وأقام إلى ثالث عشر ربيع الآخر سنة أربعين مدّة سبعة أشهر وثمانية عشر يوما، ففرج الله عنه بأمر عجيب، وهو أنّه لما كان يباشر عن أبيه وقع شخص من الكتاب بشيء زور، فرسم السلطان بقطع يده، فلم يزل شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفا السلطان عنه من قطع يده، وأمر به فسجن طول هذه السنين إلى أن قدّر الله سبحانه أنه رفع قصة يسأل فيها العفو عنه، فلما قرئت على السلطان لم يعرفه، فسأل عن خبره وشأنه، فقيل له لا يعرف خبر هذا إلا شهاب الدين بن فضل الله، فبعث إليه بقاعة الصاحب يستخبره عنه، فطالعه بقصته، وما كان منه، فألان الله له قلب السلطان ورسم بالإفراج عن الرجل وعن شهاب الدين وعن مملوكه، ففرّج الله عن الثلاثة، ونزل شهاب الدين إلى داره وأقام إلى أن قبض السلطان على الأمير تنكز نائب الشام، فاستدعى شهاب الدين إلى حضرته وحلفه وولاه كتابة
السرّ بدمشق عوضا عن شرف الدين خالد بن عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خالد بن نصر المخزوميّ، المعروف بابن القيسرانيّ، فباشرها حتى مات بدمشق، وانفرد أخوه علاء الدين بكتابة السرّ إلى أن مات ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بمنزله من القاهرة، عن سبع وخمسين سنة، وترك ستة بنين وأربع بنات.
بدر الدين: محمد بن علي بن يحيى بن فضل الله، ولّاه الملك الأشرف شعبان بن حسين كتابة السرّ، وأبوه في مرض موته، يوم الخميس ثامن عشري شهر رمضان، سنة تسع وستين وسبعمائة، وله من العمر تسع عشرة سنة، وجعل أخاه عز الدين حمزة نائبا عنه، فباشر إلى شوّال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فصرف بأوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن يس، ولزم داره فلم يره أحد البتة إلى أن مات أوحد الدين، فنزل إليه الأمير يونس الدوادار واستدعاه، فركب بثياب جلوسه من غير خف ولا فرجية ولا شاش وصعد إلى القلعة، فخلع عليه في اليوم الرابع من ذي الحجة سنة ست وثمانين، فلما ثار الأمير يلبغا الناصري على الملك الظاهر وخلعه من الملك وأقام الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين ولقبه بالملك المنصور، ثم خرج الملك الظاهر برقوق من محبسه بالكرك وسار إلى محاربة الأمير تمربغا منطاش ومعه المنصور حاجي، فخرج ابن فضل الله، فلما انهزم منطاش على شعجب واستولى برقوق على المنصور والخليفة والقضاة والخزائن، وكان ابن فضل الله وأخوه عز الدين في من فرّ مع منطاش إلى دمشق، فأقام بها واستولى برقوق على تخت الملك بقلعة الجبل، فولى علاء الدين عليّ بن عيسى الكركي كتابة السرّ، وأخذ ابن فضل الله يتحيل في الخروج من دمشق وسيّر إلى السلطان مطالعة فيها من شعره:
يقبل الأرض عبد بعد خدمتكم
…
قد مسّه ضرر مثله ضرر
حصر وحبس وترسيم أقام به
…
وفرقة الأهل والأولاد والفكر
لكنه والورى مستبشرون بكم
…
يرجو بكم فرجا يأتي وينتظر
والشغل يقضي لأن الناس قد ندموا
…
إذ عاينوا الجور من منطاش ينتشر
جورا كما فرّطوا في حقكم ورأوا
…
ظلما عظيما به الأكباد تنفطر
والله إن جاءهم من بابكم أحد
…
قاموا لكم معه بالروح وانتصروا
الله ينصركم طول المدا أبدا
…
يا من زمانهم من دهرنا غرر
قدم إلى القاهرة ومعه أخوه عز الدين حمزة، وجمال الدين محمود القيصري ناظر الجيش، وتاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، وشمس الدين محمد بن الصاحب، فما زال في داره إلى أن سافر الملك الظاهر إلى بلاد الشام في سنة ثلاث وتسعين، فتقدّم أمره إليه بالمسير مع العسكر، فسار بطالا، وقدّر الله تعالى ضعف علاء الدين الكركي، فولاه كتابة
السرّ وصرف الكركي في شوّال، وكانت هذه ولاية ثالثة، فباشر وتمكن هذه المرّة من سلطان تمكنا زائدا إلى أن سافر السلطان إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين، فمات بدمشق يوم الثلاثاء لعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة، ودفن بترتبهم بسفح قاسيون، ومات أخوه حمزة بدمشق أيضا في أوائل المحرم سنة سبع وتسعين وسبعمائة ودفن بها، وانقطع بموتهما هذا البيت فلم يبق من بعدهما إلّا كما قال الله سبحانه، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
. ومن شعر البدر محمد بن فضل الله ما كتبه عنوانا لكتاب الملك الظاهر برقوق جوابا عن كتاب تمرلنك الوارد إلى مصر في سنة ست وتسعين وسبعمائة وعنوانه:
سلام وإهداء السلام من البعد
…
دليل على حفظ المودّة والعهد
فافتتح البدر العنوان بقوله:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ
…
فخبرته أن لا يزيد على العدّ
فلا بدّ من نقص لكل زيادة
…
لأنّ شديد البطش يقتص للعبد
وكتب فيه من شعره أيضا جوابا عن كثرة تهديد تمرلنك وافتخاره:
السيف والرمح والنشاب قد علمت منا الحروب فسل منها تلبيكا
إذ التقينا تجد هذا مشاهدة
…
في الحرب فأثبت فأمر الله آتيكا
بخدمة الحرمين الله شرّفنا
…
فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا
وبالجميل وحلو النصر عوّدنا
…
خذ التواريخ واقرأها فتنبيكا
والأنبياء لنا الركن الشديد وكم
…
بجاههم من عدوّ راح مفكوكا
ومن يكن ربه الفتاح ناصره
…
ممن يخاف وهذا القول يكفيكا
وقال:
إذا المرء لم يعرف قبيح خطيئة
…
ولا الذنب منه مع عظيم بليته
فذلك عين الجهل منه مع الخطا
…
وسوف يرى عقباه عند منيته
وليس يجازي المرء إلا بفعله
…
وما يرجع الصياد إلا بنيته
وهذه الدار كانت موجودة قبل بني فضل الله، وتعرف بدار بيبرس، فعمر فيها محيي الدين وابنه علاء الدين، وكانت من أبهج دور القاهرة وأعظمها، وما زالت بيد أولاد بدر الدين وأخيه عز الدين حمزة إلى أن تغلب الأمير جمال الدين على أموال الخلق، فأخذ ابن أخيه الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب المعروف بسيدي أحمد بن أخت جمال الدين دار بني فضل الله منهم، كما أخذ خاله دور الناس وأوقافهم وعوض أولاد ابن فضل الله عنها، وغيّر كثيرا من معالمها، وشرع في الازدياد من العمارة اقتداء بخاله، فأخذ دورا كانت بجوار
مستوقد حمام ابن عبود المقابلة لدار ابن فضل الله، واغتصب لها الرخام والأحجار والأخشاب، وهدم عدّة دور وكثيرا من الترب بالقرافة، منها تربة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكانت عجيبة البناء، وأدخل ذلك في عمارته المذكورة، ووسع فيها من جهة البندقانيين ما كان خرابا منذ الحريق الذي تقدّم ذكره، وأنشأ من هناك حوض ماء يشرب منه الدواب، فلما قارب إكمالها قبض الملك الناصر فرج على خاله جمال الدين يوسف استادار وقتله، وكان أحمد هذا ممن قبض عليه معه، فوضع الأمير تغري بردي، وهو يومئذ أجلّ أمراء الناصر، يده على هذه الدار، وما رضي بأخذها حتى طلب كتابها فإذا به قد تضمن أنّ أحمد قد وقف هذه الدار، فلم يزل بقضاة العصر حتى حكموا له بهذه الدار وجعلوها له بطريق من طرقهم، فأقام فيها حتى أخرجه الناصر لنيابة دمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فنزل بها الأمير دمرداش بإرث ابنة جمال الدين، وهي امرأة أحمد المذكور ولها منه أولاد، وأرادت استرجاع الدار كما فعلت في مدرسة أبيها، وكان لها ولورثة تغري بردي مخاصمات، واستقرّت لبني تغري بردي.
دار بيبرس: هذه الدار فيما بين دار ابن فضل الله والسبع قاعات في ظهر حارة زويلة، وقريبة من سويقة المسعودي، تشبه أن تكون من جملة اصطبل الجميزة، كانت دار الشريف بن تغلب صاحب المدرسة الشريفية برأس حارة الجودرية، ثم عرفت بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فإنه كان يسكنها وهو أمير قبل أن يلي السلطنة، وجدّد رخامها من الرخام الذي دل عليه الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، بالقصر الذي عرف بقصر أمير سلاح، من جملة قصر الخلفاء، كما سيأتي خبر ذلك عند ذكر الخانقاة الركنية بيبرس، فإن بيبرس هذا هو الذي أنشأها ولم تزل إلى أن هدمها ناصر الدين محمد بن البارزي الحمويّ كاتب السرّ بعد ما اشتراها نقضا، كما اشترى غيرها من الأوقاف، وذلك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
السبع قاعات: هذه الدار عرفت بالسبع قاعات، وهي يتوصل إليها من جوار دار بيبرس المذكورة ومن سويقة الصاحب، وقد صارت عدّة مساكن جليلة، ومكانها من جملة اصطبل الجميزة، أنشأها الوزير الصاحب علم الدين بن زنبور، ووقفها من جملة ما وقف، فلما قبض عليه الأمير صرغتمش في حل أوقافه ووعد بالسبع قاعات خوند قطلوبنك ابنة الأمير تنكز الحساميّ نائب الشام أمّ السلطان الملك الصالح صالح بن الناصر محمد بن قلاوون، ولقّنه الشريفان، شرف الدين عليّ بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، وأبو العباس الصفراويّ، أنّ الناصر لما قبض على كريم الدين الكبير، بعث إلى كريم الدين من شهد عليه أنّ جميع ما صار بيده من الأملاك وقفها وطلقها إنما هو من مال السلطان دون ماله، وشهد بذلك عند قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فأثبت بهذه الشهادة أن أملاك كريم الدين جارية في الأملاك السلطان، فأقرّ السلطان ما وقفه كريم الدين منها على
حاله وسماه الوقف الناصري، فلما جلس السلطان الملك الصالح بدار العدل، وحضر قاضي القضاة والأمراء وغيرهم من أهل الدولة على العادة، تكلم الأمير صرغتمش مع قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن بدر الدين محمد بن جماعة في حل أوقاف ابن زنبور، فإنها ملك السلطان ومن ماله اشتراها، وذكر قضية كريم الدين، فأجابه بأنّ تلك القضية كانت صحتها مشهورة، وذلك أنّ خزائن السلطان وحواصله وأمواله كلها كانت بيد كريم الدين وفي داره، يتصرف فيها على ما يختاره، جعل له السلطان بتوكيله والإذن له في التصرّف، بخلاف ابن زنبور، فإنه كان يتصرّف في ماله الذي اكتسبه من المتجر وغيره، فما وقفه وثبت وقفه وحكم قضاة الإسلام بصحته لا سبيل إلى حله، وساعده في ذلك القاضي موفق الدين عبد الله الحنبليّ، وتردّد الكلام بينهما في ذلك، فاحتج عليهما الأمير صرغتمش بما لقناه الشريفان من مشاطرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عماله وأخذه من كل عامل نصف ماله، وأن مال الوزير جميعه من مال السلطان، فقال له ابن جماعة: يا أمير، إن كنت تبحث معنا في هذه المسألة بحثنا معك، وإن كان أحد قد ذكرها لك فليحضر حتى نبحث معه فيها، فإنّ الذي ذكر لك هذه المسألة إنما قصد أن تصادر الناس وتأخذ أموالهم، فوافقه رفقته الثلاثة قضاة على قوله، وأراد ابن جماعة بقوله هذا التعريض بالشريفين وكان اختصاصهما بالأمير صرغتمش، وقيامهما على ابن زنبور مشهورا، فشق هذا على الأمير صرغتمش وانفض المجلس وقد اشتدّ حنقه لما ردّ عليه من كلامه وعورض فيه من مراده، فبعثت خوند أم السلطان إلى ابن جماعة تعرّفه ما وعدت به من مصير السبع قاعات إليها، وأكدت عليه في أن لا يعارضها في حلّ أوقاف ابن زنبور، فأجابها بتقبيح هذا، وخوّفها سوء عاقبته، فكفت عنه، ولقوّة غيظ الأمير صرغتمش مرض مرضا شديدا من انفتاح صدره ونفثه الدم، حتى خيف عليه الموت، ثم عوفي بعد ذلك بأيام، وذلك كله في سنة أربع وخمسين وسبعمائة، واستمرّت السبع قاعات وقفا بيد ذرية ابن زنبور إلى يومنا هذا، إلّا أنّ الأمير صرغتمش المذكور أخذ رخامها ووجد فيها شيئا كثيرا من صينيّ ونحاس وقماش وغير ذلك قد أخفي في زواياها.
علم الدين: عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن زنبور، أوّل ما باشر به استيفاء الوجه القبلي شريكا لوهب بن سنجر، وطلع صحبته الأمير علم الدين عبد الرزاق كاشف الوجه القبليّ، ونهض فيه، فلما كانت مصادرة ابن الجيعان كاتب الإصطبل، طلب السلطان سائر الكتاب، وكان منهم ابن زنبور، فعرضهم ليختار منهم فشكر الفخر ناظر الجيش منه وقال: هو ولد تاج الدين رفيقه وشكره الأكوز، فلما انفض المجلس طلبه وخلع عليه، فباشر نظر الإصطبل في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ونال فيه سعادة طائلة، واستمرّ إلى أن مات السلطان الملك الناصر محمد، وحكم الأمير ايدغمش، فباشر استيفاء الصحبة، فلما قبض على حمال الكفاة ناظر الخاص وناظر الجيش وعلى الموفق
ناظر الدولة وعلى الصفيّ ناظر البيوت، المعروف بكاتب قوصون، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ومات حمال الكفاة في العقوبة يوم الأحد سادس شهر ربيع الأوّل، عيّن ابن زنبور لوظيفة نظر الخاص، ثم قرّر فيها القاضي موفق الدين هبة الله بن إبراهيم ناظر الدولة، وكان ابن زنبور وهو مستوفي الصحبة، قد سيّره حمّال الكفاة قبل القبض عليه، لكشف القلاع الشامية، ومعه جارا كتمر الحاجب إبعادا له، وكان الأمير أرغون العلائي يعني به، فلما قبض على حمّال الكفاة، تحدّث له العلائي مع السلطان الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في نظر الخاص، فبعث في طلبه، ثم لم يحضر إلّا بعد شهر، فتحدّث الوزير نجم الدين محمود بن عليّ المعروف بوزير بغداد مع السلطان في ولاية الموفق نظر الخاص، فخلع عليه، وحضر ابن زنبور من الشام فباشر نظر الدولة علم الدين بن سهلوك وابن زنبور على ما هي عادته في استيفاء الصحبة، ونهض في المباشرة وحصّل الأموال ودخل هو والوزير نجم الدين وشكيا، توقف الدولة من كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدم والجواري، ومن يلوذ بهم، فتقرّر الحال مع الأمراء على كتابة أوراق بكلفة الدولة، فلما قرئت بمحضر من الأمراء بلغت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم، والمتحصل خمسة عشر ألف درهم، فأبطل ما استجدّ بعد موت الملك الناصر بأسره، فلم يستمرّ غير شهر واحد حتى عاد الأمر على ما كان عليه، بحيث بلغ مصروف الحوائج خاناه في كل يوم اثنين وعشرين ألف درهم، بعد ما كانت في أيام الناصر محمد ثلاثة عشر ألف درهم، فلما مات الملك الصالح إسماعيل وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك الكامل سيف الدين شعبان بن محمد، صرف الموفق عن نظر الخاص ونقل ابن زنبور من استيفاء الصحبة إليها، واستقرّ فخر الدين السعيد في استيفاء الصحبة، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى أخريات رجب نيفا وثمانين يوما، فولى الملك الكامل نظر الخاص لفخر الدين ابن السعيد مستوفي الدولة، وأعاد ابن زنبور من نظر الخاص إلى استيفاء الدولة، فلما كان في المحرّم سنة سبع وأربعين، أعيد نجم الدين وزير بغداد إلى الوزارة، وقرّر ابن زنبور في نظر الدولة، فاستمرّ إلى أن قتل الكامل شعبان، وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك المظفر حاجي في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين، فطلب ابن زنبور وأعيد إلى نظر الخاص، وقبض على فخر الدين بن السعيد، وطولب بالحمل، وأضيف إليه نظر الجيش، فباشر ذلك إلى سنة إحدى وخمسين، فأضيف إليه الوزارة في يوم الخميس سابع عشري ذي القعدة، وخلع عليه، وكان له يوم عظيم جدّا، فلما كان يوم السبت جلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة في دست الوزارة، واستدعى جميع المباشرين وطلب المقدّم ابن يوسف وشدّ وسطه على ما كان عليه، وطلب المعاملين وسلفهم على اللحم وغيره، واستكتب المباشرين أنه لم يكن في بيت المال ولا الاهرا من الدراهم والغلال شيء البتة، ودخل بها وقرأها على السلطان والأمراء، وشرع في عرض
أرباب الوظائف كلهم، وطلب حساب الأقاليم بأسرها، وولى صهره فخر الدين ماجد فرويتة نظر البيوت، وأنفق جامكية شهر وحمل الرواتب إلى الدور السلطانية. والأسمطة من السكر والزيت والقلوبات وغير ذلك، وأقام بكتمر المومني في وظيفة شدّ الدواوين، وألزم نفسه في المجلس السلطاني بحضرة الأمراء، أنه يباشر الوزارة بغير معلوم، وقرّر ابنه في ديوانه المماليك، والتزم أنّه لا يتناول معلوما بل يوفر المعلومين للسلطان، وأبطل رمي الشعير والبرسيم من بلاد مصر، وكان يحصل برميها ضرر كبير، فإن ذلك كان يحصل من سائر البلاد فيغرم على كل أردب أكثر من ثمنه، والتزم بتكفية بيت المال من الشعير والبرسيم بغير ذلك، فبطل على يديه، وكتب به مرسوم وكتب نقشا على حجر في جانب باب القلعة من قلعة الجبل، وأمر بقياس أراضي الجيزة فجاء زيادتها عن الارتفاع الذي مضى ثلثمائة ألف درهم، وعنها خمسة عشر ألف دينار، فلم يزل إلى سابع عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، فأحيط به وقبض عليه حسدا له على ما صار إليه، ولم يجتمع لغيره في الدولة التركية، وتولى القيام عليه الأمير صرغتمش لأنه علم أنه من جهة الأمير شيخو ويقوم له بجميع ما يختاره، وأعانه عليه الأمير طاز، وما زال يدأب في ذلك إلى أن عاد السلطان الملك الصالح من دمشق في يوم الاثنين خامس عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة إلى قلعة الجبل، وعمل يوم الخميس سماطا مهما في القلعة، ولما انفض السماط خلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء، وعلى الوزير وسائر المباشرين، فاتفق لما قدّره الله تعالى أنه حضر إلى الأمير صرغتمش وهو يومئذ رأس نوبة عشر تشريف، غيّر تشريفه ودون رتبته، فأخذه ودخل إلى الأمير شيخو وألقى البلقجة قدّامه وقال: أنظر فعل الوزير معي وكشف الخلعة، فقال شيخو هذا غلط، فقام وقد أخذه من الغضب شبه الجنون وقال: هذا شغل الوزير وأنا ما اصبر على أن أهان لهذا الحدّ، ولا بدّ لي من القبض عليه ومهما شئت أنت افعل بي وخرج فإذا الوزير داخل لشيخو وعليه خلعة فصاح في مماليكه، خذوه فكشفوا الخلعة عنه وسحبوه إلى بيت صرغتمش وسرّح مماليكه في القبض على جميع حاشية الوزير، فقبض على سائر من يلوذ به لأنهم كانوا قد اجتمعوا بالقلعة، وخالطت العامّة المماليك في القبض على الكتاب وأخذوا منهم في ذلك اليوم شيئا كثيرا، حتى أن بعض الغلمان صار إليه في ذلك اليوم ستة عشر دواة من دوي الكتاب، فلم يمكن منها أربابها إلّا بمال يأخذه على كل دواة، ما بين عشرين إلى خمسين درهما، وأمّا ما سلبوه من العمائم والثياب والمهاميز الفضة فشيء كثير، وخرج الأمير قشتمر الحاجب وغيره في جماعة إلى دوره التي بالصوصة من مصر، فأوقعوا الحوطة على حريمه وأولاده وختموا سائر بيوته وبيوت حواشيه، وكانوا قد اجتمعوا وتزينوا لقدوم رجالهم من السفر، وأنزل الوزير في مكان مظلم من بيت صرغتمش، فلما أصبح طلب ولد الوزير وصار به صرغتمش إلى بيت أبيه وأحضر أمّه ليعاقبه وهي تنظره حتى يدلوه على المال، ففتحوا له خزانة وجد فيها خمسة
عشر ألف دينار وخمسين ألف درهم فضة، وأخرج من بئر صندوق فيه ستة آلاف دينار وشيء من المصالح، وحضرت أحماله من السفر فوجد فيها ستة آلاف دينار ومائة وخمسون ألف درهم فضة، وغير ذلك من تحف وثياب وأصناف، وألزم والي مصر بإحضار بناته، فنودي عليهنّ في مصر والقاهرة، وهجمت عدّة دور بسببهنّ ونال الناس من نكاية أعدائهم في هذه الكائنة كل غرض، فإنه كان الرجل يتوجه إلى أحد من جهة صرغتمش ويرمي عدوّه بأنّ عنده بعض حواشي ابن زنبور، فيؤخذ بمجرّد التهمة، ولقي الناس من ذلك بلاء عظيما.
ثم حمل إلى داره وعرّي ليضرب، فدل على مكان استخرج منه نحو من خمسة وستين ألف دينار، فضرب بعد ذلك، وعرّيت زوجته وضرب ولده فوجد له شيء كثير إلى الغاية.
قال الصفديّ خليل بن أيبك الملقب صلاح الدين في كتاب أعيان العصر: وأمّا ما أخذ منه في المصادرة في حال حياته فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصيّ في ورقة بخطه على ما أملاه القاضي شمس الدين محمد البهنسيّ، أواني ذهب وفضة ستون قنطارا، جوهر ستون رطلا، لؤلؤ أردبان، ذهب مصكوك مائتا ألف وأربعة آلاف دينار، ضمن صندوق ستة آلاف حياصة، ضمن صناديق زركش ستة آلاف كلوته ذخائر، عدّة قماش بدنه، ألفان وستمائة فرجية بسط، «1» آلاف صنجة دراهم خمسون ألف درهم، شاشات ثلثمائة شاش، دواب عاملة سبعة آلاف حلابة، ستة آلاف خيل وبغال ألف، دراهم ثلاثة أرداب، معاصر سكر خمسة وعشرون معصرة، إقطاعات سبعمائة، كل إقطاع خمسة وعشرون ألف درهم، عبيد مائة، خدّام ستون، جواري سبعمائة، أملاك القيمة عنها ثلاثمائة ألف دينار، مراكب سبعمائة، رخام القيمة عنه مائتا ألف درهم، نحاس قيمته أربعة آلاف دينار، سروج وبدلات خمسمائة، مخازن ومتاجر أربعمائة ألف دينار، نطوع سبعة آلاف، دواب خمسمائة، بساتين مائتان، سواقي ألف وأربعمائة. وكان في وقت القبض عليه أشدّ الناس قياما في إفساد صورته الشريف شرف الدين عليّ بن الحسين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، وبدر الدين ناظر الخاص، وأمير المؤمنين، والصوّاف، واستادار الأمير صرغتمش، فأوّل ما فتحوه من أبواب المكايد أن حسنوا الصرغتمش أن يأمر بالإشهاد عليه.
أن جميع ماله من الأملاك والبساتين والأراضي والوقف والطلق جميعها من مال السلطان دون ماله، فصير إليه ابن الصدر عمر وشهود الخزانة، فاشهد عليه بذلك، ثم كتبوا فتي في رجل يدعي الإسلام ويوجد في بيته كنيسة وصلبان وشخوص من تصاوير النصارى، ولحم الخنزير، وزوجته نصرانية، وقد رضي لها بالكفر، وكذلك بناته وجواريه، وأنه لا يصلي ولا يصوم ونحو ذلك، وبالغوا في تحسين قتله حتى قالوا لصرغتمش: والله لو فتحت جزيرة قبرص ما كتب لك أجر من الله بقدر ما يؤجرك الله على ما فعلته مع هذا، فأخرج في باشا
وزنجير وضرب في رحبة قاعة الصاحب من القلعة بالمقارع، وتوالت عقوبته، وأسلم لشادّ الدواوين ليعاقبه حتى يموت، فقام الأمير شيخو في أمره، فردّه صرغتمش إلى داره وأكرمه وأقام عنده إلى سابع عشري المحرّم سنة أربع وخمسين، فأخرجه من داره وتسلمه شادّ الدواوين وعاقبه عقوبة الموت في قاعة الصاحب، فاتفق ركوب الأمير شيخو من داره إلى القلعة وابن زنبور يعاقب، فغضب من ذلك ووقف ومنع من ضربه، وبلغ الخبر صرغتمش فصعد إلى القلعة وجرى له مع شيخو عدّة مفاوضات كادت تفضي إلى فتنة، وآل الأمر فيها إلى تسفير ابن زنبور إلى قوص، فأخرج من ليلته، وكانت مدّة شدّته ثلاثة أشهر، وأقام بمدينة قوص إلى أن عرض له مرض أقام به أحد عشر يوما ومات يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة، وله بالقاهرة السبيل الذي على يسرة من دخل من باب زويلة بجوار خزانة شمائل، وقد دخل في الجامع المؤيدي.
دار الدوادار: هذه الدار فيما بين حارة زويلة واصطبل الجميزة، وهي اليوم من جملة خط السبع قاعات عرفت
…
«1» .
دار فتح الله: هذه الدار اليوم بخط سويقة المسعوديّ، كان موضعها زقاقا يعرف بزقاق البناده، وفيه باب قاعة أنشأها سعد الدين إبراهيم بن عبد الوهاب بن النجيب أبي الفضائل الميمونيّ أحد مباشري ديوان الجيش، وهي قاعة في غاية الملاحة من جودة رخام وكثرة دهان وحسن ترتيب، ومات الميمونيّ في ثاني ذي الحجة سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فسكنها فتح الله بن معتصم وهو يومئذ رئيس الأطباء، فلما ولي كتابة السر شره إلى العمارة، فأخذ ما في الزقاق المذكور من الدور شيئا بعد شيء، وأخرج منها سكانها وهدمها وابتنى قاعة تجاه قاعة الميمونيّ، وجعل فيها بئرا وفسقية ماء، وبنى بها حمّاما، ثم أنشأ اصطبلا كبيرا لخيوله، ولم يقنع بذلك حتى حمل القضاة على الحكم له باستبدال دار الميمونيّ، وكانت وقفا على أولاد الميمونيّ ومن بعدهم على الحرمين، فعمل له طرف في جواز الاستبدال بها على ما صار القضاة يعتمدونه منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فلما تم حكم القضاة له بتملكها غير بابها وزاد في سعتها. وأضاف إليها عدّة مواضع مما بجوارها، وغرس في جانبها عدّة أشجار وزرع كثيرا من الأزهار التي حملت إليه من بلاد الشام، وبالغ في تحسين رخام هذه الدار، وأنشأ دهيشة كيسة إلى الغاية بوسطها فسقية ماء ينخرط إليها الماء من شاذروان عجيب الصنعة بهج الزيّ، وتشرف هذه الدهيشة على هذه الجنينة التي أبدع فيها كل الأبداع، وركب علو هذه القاعة الأروقة العظيمة، وبنى بجوارها عدّة مساكن لمماليكه، ومسجدا معلقا كان يصلي فيه وراء إمام راتب قرّره له بمعلوم جار، فجاءت هذه الدار من أجلّ دور القاهرة وأبهجها، ووقف ذلك كله مع أشياء غيرها على تربته
التي أنشأها خارج باب البرقية، وعلى عدّة جهات من البر فلما نكب أكره حتى رجع عن وقف هذه الدار على ما عينه في كتاب وقفه، وجعلها وقفا على أولاد السلطان الملك المؤيد شيخ، فلما مات المؤيد عاد ذلك إلى وقف فتح الله.
فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرايلي الداوديّ العنانيّ التبريزيّ، رئيس الأطباء، وكاتب السرّ، ولد بتبريز في سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان قد قدم جدّه نفيس إلى القاهرة في سنة أربع وخمسين، فأسلم وعظم بين الناس، ثم قدم فتح الله مع أبيه فنشأ بالقاهرة في كفالة عمه، ونظر في الطب وعاشر الفقهاء واتصل بصحبة بعض الأمراء، فعرف منه أحد مماليكه، وكان يسمى بشيخ، فلما تأمّر شيخ فرّبه وأنكحه وفوّض إمر ديوانه، ثم مات عمه بديع ابن نفيس، فأقرّه الملك الظاهر برقوق مكانه في رياسة الأطباء فباشرها مباشرة مشكورة، واختص بالملك الظاهر برقوق اختصاصا كبيرا، فلما مات بدر الدين محمود الكلسانيّ قلده وظيفة كتابة السرّ، وخلع عليه في يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة، ومات الظاهر وقد جعله أحد أوصيائه، فما زال إلى أوائل ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانمائة فقبض عليه واستقرّ بدله في كتابة السر سعد الدين إبراهيم بن غراب، وضرب حتى حمل مالا ثم أفرج عنه فلزم داره إلى شهر رمضان، فحمل إلى دار الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وألزم بمال آخر، فحمله وأطلق، فقام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في أمره، وما زال بالملك الناصر فرج إلى أن أعاده إلى كتابة السرّ في أوائل ذي الحجة فاستقرّ فيها، وتمكن من أعدائه وأراه الله مصارعهم، واتسعت أحواله وانفرد بسلطانه وأنيط به جلّ الأمور، فأصبح عظيم المصر نافذ الأمر قائما بتدبير الدولة، لا يجد أحد من عظماء الدولة بدا من حسن سفارته، وأبدا للناس دينا وخيرا وتواضعا، وحسن وساطة بين الناس وبين السلطان، فلما كان من أمر الناصر وهزيمته على اللجون ما كان، وقع فتح الله مع الخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد المتوكل على الله وعدّة من كتاب الدولة في قبضة الأميرين شيخ ونوروز، وما زال عند هما حتى قتل الناصر وأقيم من بعده أمير المؤمنين المستعين بالله، وهو على حاله من نفوذ الكلمة وتدبير الأمور، فلما استبدّ الأمير شيخ بمملكة الديار المصرية واعتقل الخليفة وتلقب بالملك المؤيد شيخ في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، أقرّ فتح الله على رتبته، ثم قبض عليه يوم الخميس تاسع شوال، وعوقب غير مرّة، وأحيط بجميع أمواله وأسبابه وحواشيه، وبيع عليه بعض ما وجد له، وحمل ما تحصل منه فبلغ ما ينيف عن أربعين ألف دينار، سوى ما أخذ مما لم يبع، وهو ما يتجاوز ذلك، وما زال في العقوبة إلى أن خنق في ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع سنة ست عشرة وثمانمائة، وحمل من الغد إلى تربته فدفن بها، وكان رحمه الله من خير أهل زمانه رياضة وديانة وطيب مقال، وتأله وتنسك ومحبة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن قيام مع السلطان في أمر الناس، وبه كفى الله عن الناس من شرّ الناصر فرج شيئا كثيرا، وقد ذكرته
بأبسط من هذا في كتابي «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» ، وفي كتابي «خلاصة التبر في أخبار كتاب السرّ» .
دار ابن قرقه: هذه الدار من الدور القديمة، وهي بخط سويقة المسعوديّ إلى خط بين السورين، وقد تغيرت معالمها. قال ابن عبد الظاهر: دار ابن قرقة هي الآن سكن الأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة، بأوّل حارة زويلة من جهة باب الخوخة على يسرة السالك إلى داخل الحارة، وهي معروفة اليوم وإلى جانبها الحمام المعروفة بابن قرقة أيضا، وهذه الدار والحمام أنشأهما أبو سعيد بن قرقة الحكيم، وباعهما في حال مصادرته مما خرج عليه، فابتاعهما منه علم السعداء، ثم سكنها الكامل بن شاور، وهما من جهة الخليج. انتهى.
وهذه الدار والحمام قد قدمتا وصار موضع الدار الجامع المعروف بجامع ابن المغربيّ برأس سويقة الصاحب وما يجاوره من دور ابن أبي شاكر، وآخر ما بقي منها شيء، هدمه الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبي شاكر، في رمضان سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
وابن قرقة: هذا كان يتولى الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح، وكان ماهرا في علم الطب والهندسة ونحو ذلك من علوم الأوائل، وقتله الخليفة الحافظ لدين الله من أجل أنه دبر السم لابنه حسن بن الحافظ، عندما تشاور والجند وطلبوا من الخليفة قتل ابنه حسن كما تقدّم ذكره، فلما سكنت الدهماء قبض عليه الخليفة واعتقله بخزانة البنود وقتله، في سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
دار خوند: هذه الدار من حقوق حارة زويلة، عرفت بالست الجليلة خوندار دوتكين ابنة نوغية السلاح دار الططريّ، تزوّج بها الملك الأشرف خليل بن قلاون، ومات عنها فتزوّجها من بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاون، وولدت منه ولدين وماتا، ثم طلقها ونزلت من القلعة فسكنت هذه الدار، وأنشأت لها تربة بالقرافة تعرف الآن بتربة الست، وجعلت لها عدّة أوقاف، وكانت من الخير على جانب عظيم، لها معروف وصدقات وإحسان عميم، وماتت ولها ما ينيف على الألف، ما بين جارية وخادم أعتقتهم كلهم، وخلّفت أموالا تخرج عن الحدّ في الكثرة، وكانت وفاتها في ليلة السبت ثالث عشري المحرم سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ودفنت بتربتها، فتقدّم أمر السلطان للأمراء والقضاة لشهود جنازتها وحمل ما تركته من الأموال والجواهر، وطلب أخوها جمال الدين خضر بن نوغية وصولح على إرثه منها بمائة وعشرين ألف درهم، عنها يومئذ سبعة آلاف دينار، ولم تزل هذه الدار إلى أن هدمت، فأخذها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأدخلها
في داره التي أنشأها فجاءت من أجلّ دور القاهرة.
دار الذهب: هذه الدار خارج القاهرة، فيما بين باب الخوخة وباب سعادة، بناها الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان فيما بين باب القنطرة وباب الخوخة منظرة اللؤلؤة التي تقدّم ذكرها، عند ذكر مناظر الخلفاء، ويجاورها من حيزباب الخوخة دار الفلك، وبناها فلك الملك أحد الأستاذين الحاكمية، ويلاصقها دار الذهب هذه، ويجاور دار الذهب دار الشابورة، ودار الذهب عرفت أخيرا بدار الأمير بها در الأعسر شادّ الدواوين، ثم الآن عرفت بدار الأمير الوزير المشير الأستادار فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير استادار تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأرمنيّ الأصل، وعني بها وهدم كثيرا من الدور التي كانت تجاهها على برّ الخليج الشرقيّ، وأنشأ هناك دارا يتطرّق إليها من هذه الدار بساباط، وأنشأ بجوارها جامعه الآتي ذكره وحمامه، ثم هدم كثيرا من الدور التي كانت على الخليج وما وراءها بتلك الأحكار التي في الجانب الغربيّ من الخليج، وغرس في أراضي تلك الدور الأشجار وجعلها بستانا تجاه داره، فمات قبل أن تكمل، وصار أكثر مواضع الدور التي خربها هناك كيمانا.
دار الحاجب: خارج باب النصر تجاه مصلى الأموات، هذه الدار أنشأها الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ، أحد المماليك الزراقين، وهو الذي فتح جزيرة أرواد في المراكب المتوجهة إلى بلاد الفرنج، وتولى عمارة مأذنة المدرسة المنصورية لما تهدّمت في الزلزلة، وتقدم وكثرت أمواله ومات بدمشق في سنة أربع عشرة وسبعمائة، فاشترى هذه الدار الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ولم تزل بها ذريته من بعد الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر، والأمير ناصر الدين محمد بن عبد الله، وبها الآن ولدا الأمير ناصر الدين، وهما الأمير عليّ وعبد الرحمن، وما برح هذا البيت فيه الأمرة والسعادة.
بكتمر الحاجب: الأمير سيف الدين، كان أميرا خور، ثم وليّ شدّ الدواوين بدمشق في نيابة الأفرم، ولم يكن لأحد معه كلام في عزل ولا ولاية، ثم ولي الحجوبية، وتوجه إلى صفد كاشفا على الأمير ناهض الدين عمر بن أبي الخير والي الولاة وشادّ الدواوين بها، ومعه معين الدين بن حشيش، فحرّر الكشف ورفعه، حتى قال فيه زين الدين عمر بن حلاوات موقع صفد:
يا قاصدا صفدا فعد عن بلدة
…
من جور بكتمر الأمير خراب
لا شافع تغني شفاعته ولا
…
جار له مما جناه جناب
حشر وميزان ونشر صحائف
…
وجرائد معروضة وحساب
وبها زبانية تحثّ على الورى
…
وسلاسل ومقامع وعقاب
ما فاتهم من كلّ ما وعدوا به
…
في الحر إلّا راحم وهاب
ولما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك إلى دمشق، ولّاه الحجوبية، ودخل في خدمته إلى مصر وهو حاجب، ثم أخرجه ثانيا نائبا إلى غزة في سنة عشر وسبعمائة، فأقام بها قليلا وطلبه وولّاه الوزارة بالديار المصرية عوضا عن الصاحب فخر الدين ابن الخليليّ، في رمضان سنة عشر، فباشر الوزارة إلى أن قبض عليه مستهل ربيع الأوّل سنة خمس عشرة، واعتقل مدّة سنة ونصف وأخذ كير من ماله، ثم أفرج عنه وأخرج إلى صفد نائبا في سنة ست عشرة، وأنعم عليه بمائة ألف درهم، عنها يومئذ خمسة آلاف دينار، فأقام بها عشرة أشهر وطلب إلى مصر فصار من الأمراء المشهورة، فإذا تكلم السلطان في المشورة لا يردّ عليه غيره، لما عنده من المعرفة والخبرة، وتزوّج بابنة الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك، وأولاده الذين ذكرنا منها، وسرق له مال كثير من خزانته بهذه الدار، ادّعى أنه مبلغ مائتي ألف درهم، وكان في الباطن على ما قيل سبعمائة ألف درهم، فما جسر يتفوّه خوفا من السلطان، وكان إذ ذاك والي القاهرة الأمير سيف الدين قدادار، المنسوب إليه القنطرة على الخليج، فتقدّم أمر السلطان إليه بتتبع من سرق المال، فدسّ إليه الأمير بكتمر الساقي، والوزير مغلطاي الجمالي، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش في السرّ، أن يتهاون في أمر السرقة نكاية لبكتمر، وأخذوا يحتجون لكل من اتهم ويقولون للسلطان لعن الله ساعة هذه العملة، كل يوم يموت من الناس تحت المقارع عدّة، وإلى متى يقتل المتهم الذي لا ذنب له، فلما طار الأمر شكا بكتمر إلى السلطان في دار العدل، فأحضر الوالي وسبّه السلطان، فقال يا خوند: اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره، اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من إلزامه الذين في بابه. فقال السلطان للجمالي الوزير: احضر هؤلاء المذكورين وعاقبهم، فأخذ بخشي وعصره وكان عزيزا عند بكتمر، قد زوجه بابنته، وهو يثق بعقله ودينه وأمانته، فشق ذلك عليه واغتم غما شديدا مات منه، فجاءة فيما بين الظهر إلى العصر من يومه سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان خبيرا بالأمور بصيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام لا يمل من تطويله، ولو قعد في الحكم الواحد بين الأمير واليهودي ثلاثة أيام، ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة، مع معرفة تامّة وخبرة بالسياسة لم ير مثله في حق أصحابه، لكثرة تذكرهم في غيبتهم، والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم، ومن جفاه منهم عتب عليه، وكان سمحا بجاهه بخيلا بماله إلى الغاية، ساقط الهمة في ذلك، وله متاجر وأملاك وسعادة لا تكاد تنحصر، ومع ذلك فله قدور يكريها لصلاقي الفول والحمص وغير ذلك من العدد والآلات، ويماحك على أجرها مماحكة يستحى من ذكرها، وأنشأ عدّة دور واقتنى كثيرا من البساتين، وولي من بعده ابنه الأمير جمال الدين عبد الله الإمرة، وكان حاجبا، ولأبيه في سيرة البخل والحرص الشديد تابعا ومقلدا، وتولى أمره الحاج غير مرّة، وخرج في سنة ست وثمانين وسبعمائة من القاهرة لولاية كشف الجسور بالغربية، فورد عليه كتاب
السلطان الملك الظاهر برقوق بالإنكار، وفيه تهديد مهول فداخله الخوف ومرض، فحمل في محفة إلى القاهرة فدخلها يوم الأربعاء النصف من جمادى الأولى من تلك السنة، فمات من يومه وأخذ أقطاعه الأمير يودي، وصار ابنه ناصر الدين أحد الأمراء العشراوات، سالكا طريق أبيه وجدّه في الإمساك إلى أن مات خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة اثنين وثمانمائة، ودفن بتربتهم خارج باب النصر.
دار الجاولي: هذه الدار من جملة الحجر التي تقدّم ذكرها، وهي تجاه الخان المجاور لوكالة قوصون، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاولي وجعلها وقفا على المدرسة المعروفة بالجاولية بخط الكبش جوار الجامع الطولوني، وعرفت في زماننا بقاعة البغادّة، لسكنى عبد الصمد الجوهريّ البغداديّ بها هو وأولاده في سنة سبع وأربعين وسبعمائة إلى بعد سنة ست عشرة وثمانمائة، وهي من الدور الجليلة، إلّا أنها قد تشعثت لطول الزمن.
دار أمير أحمد: هذه الدار بجوار دار الجاوليّ من غربيها، عرفت بأمير أحمد قريب الملك الناصر محمد بن قلاون، وعرفت في زماننا بسكن أبو ذقن ناظر المواريث، وهي من جملة ما اغتصبه جمال الدين يوسف الأستادار من الدور الوقف، وجعلها لأخيه شمس الدين محمد البيري قاضي حلب، وشيخ الخانقاه البيبرسية، فغير بابها وشرع في عمارتها، فقبض عليه عند القبض على أخيه وهو بها.
دار اليوسفي: هذه الدار بجوار باب الجوّانية فيما بينها وبين الحوض المعدّ لشرب الدواب، أنشأها هي والحوض الأمير سيف الدين بهادر اليوسفيّ السلاح دار الناصريّ.
دار ابن البقري: هذه الدار أنشأها الوزير الصاحب سعد الدين سعد الله بن البقريّ بن أخت القاضي شمس الدين شاكر بن غزيل البقريّ، صاحب المدرسة البقرية اظهر الإسلام وباشر في الخدمة الديوانية إلى أن ولاه الملك الظاهر برقوق وظيفة نظر الديوان المفرد ونظر الخاص، عوضا عن الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، في ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى تاسع شهر رمضان سنة خمس وثمانين، فقبض عليه ونزل الأمير يونس الدوادار والأمير قرقماش الخازندار إلى داره هذه وأحاط بها، وأخذ جميع ما فيها من المال والثياب والأواني والحلي والجواري وغير ذلك، وحمل إلى القلعة، فبلغ قيمة ما وجد بداره في هذه النوبة مائتي ألف دينار، وسلم ابن البقريّ لشادّ الدواوين بقاعة الصاحب من القلعة، فضرب بالمقارع نيفا وثلاثين شيبا، وولي موفق الدين أبو الفرج نظر الخاص، ثم أن الملك الظاهر لما عاد إلى المملكة، بعد ثورة الأمير بلبغا الناصريّ والأمير تمربغا منطاش عليه، وخلعه من الملك وسجنه بالكرك، ثم قيامه بأهل الكرك ودخوله إلى القاهرة وعوده إلى المملكة، ولي ابن البقريّ الوزارة في يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنين وتسعين وسبعمائة عوضا عن موفق الدين أبي الفرج، ثم
صرف في يوم الخميس لعشرين من شهر رمضان، وأعيد الوزير أبو الفرج وأحيط بدور ابن البقريّ وأسلم هو وابنه تاج الدين عبد الله إلى الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آض، فلما استقرّ الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام الصفديّ في الوزارة يوم الثلاثاء سابع عشري ذي الحجة منها، عوضا عن الوزير أبي الفرج، اشترط على السلطان أمورا منها استخدام الوزراء المعزولين، فجلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة وبعث إلى من بالقاهرة من الوزراء المعزولين، وهم شمس الدين عبد الله المقسي، وعلم الدين عبد الوهاب بن الطنساويّ، المعروف بسنّ إبرة، وسعد الدين سعد الله بن البقريّ، وموفق الدين أبو الفرج، وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن ابراهيم بن مكانس، فأقرّ المقسيّ وسنّ إبرة معا في نظر الدولة وأقرّ ابن البقريّ ناظر البيوت ومستوفي الدولة، وقرّر أبا الفرج في استيفاء الصحبة، وابن مكانس في استيفاء الدولة شريكا لابن البقريّ، فكانوا يركبون في خدمته دائما ويجلسون بين يديه، وربما وقف ابن البقريّ على قدميه بحضرته بعد أن كان ابن الحسام دواداره، ولا يزال قائما بين يديه، فعدّ الناس هذا من أعظم المحن التي لم يشاهد في الدولة التركية مثلها، وهو أن يصير الرجل خادما لمن كان في خدمته، فنعوذ بالله من المحن، ثم إن الوزير ابن الحسام قبض على ابن البقريّ وألزمه بحمل سبعين ألف درهم، ثم أعيد إلى الوزارة بعد القبض على الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن عبد الله بن موسى بن أبي بكر ابن أبي شاكر في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وقبض عليه وعلى ولده في حادي عشري شهر ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وسلما مع عدّة من الكتاب لشادّ الدواوين، ثم أفرج عنهما على حمل مال، فلما ولي الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت الوزارة، بعد الوزير أبي الفرج، قرّر ابن البقريّ في نظر الدولة عوضا عن بدر الدين الأقفهسيّ، واستخدم بقية الوزراء كما فعل الوزير ابن الحسام، فلما خلع السلطان على الأمير ناصر الدين محمد بن تنكر وجعله استادار الأملاك في رجب سنة سبع وتسعين، قرّر ابن البقريّ ناظر الأملاك، وخلع عليه، فصار يتحدّث في نظر الدولة ونظر الأملاك، فلما كان يوم الخميس رابع رجب سنة ثمان وتسعين أعيد إلى الوزارة وصرف عنها الأمير مبارك شاه ناظر الظاهريّ، واستقرّ بدر الدين محمد بن محمد الطوخي في نظر الدولة، ثم قبض عليه في يوم الخميس رابع ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، وأحيط بسائر ما قدر عليه من موجوده، وولي الوزارة بعده ابن الطوخيّ، وعوقب عقابا شديدا في دار الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ، ثم أخرج نهارا وهو عار مكشوف الرأس وبيده حبل يجرّبه وثيابه مضمومة بيده الأخرى والناس تراه من درب قراصيا برحبة باب العيد في السوق إلى دار ابن الطبلاويّ، وقد انتهك بدنه من شدّة الضرب، فسجن بدار هناك. ثم خنق في ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وكان أحد كتاب الدنيا الذين انتهت إليهم السيادة في كتابة الرسوم الديوانية، مع عفة الفرج وجودة الرأي وحسن التدبير، إلّا أنه لم يؤت سعدا في
وزارته، وما برح ينكب كل قليل، وكان يظهر الإسلام ويكتب بخطه كتب الحديث وغيرها، ويتهم في باطن الأمر بالتشدّد في النصرانية، وولي ابنه تاج الدين عبد الله الوزارة ونظر الخاص، ومات قتيلا تحت العقوبة عند الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في سنة ثمان وثمانمائة، ودار ابن البقريّ هذه من أعظم دور القاهرة، وهي من جملة خط حارة الجوّانية في أوّلها.
دار طولباي: هذه الدار بجوار حمّام الأعسر برأس حارة الجوّانية، تجاه درب الرشيديّ، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، ثم عرفت بخوند طولباي الناصرية جهة الملك الناصر.
طلنباي: ويقال دلبية، ويقال طلوبية ابنة طفاجي ابن هندر بن بكر بن دوشي خان ابن جنكزخان، ذات الستر الرفيع الخاتوني، كان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قد جهز الأمير إيدغدي الخوارزميّ في سنة ست عشرة وسبعمائة يخطب إلى أزبك ملك التتار بنتا من الذرية الجنكزية، فجمع أزبك أمراء التومانات وهم سبعون أميرا وكلمهم الرسول في ذلك، فنفروا منه ثم اجتمعوا ثانيا بعدما وصلت إليهم هداياهم وأجابوا، ثم قالوا إلّا أن هذا لا يكون إلا بعد أربع سنين، سنة سلام، وسنة خطبة، وسنة مهاداة، وسنة زواج، واشتطوا في طلب المهر، فرجع السلطان عن الخطبة، ثم توجه سيف الدين طوخي بهدية وخلعة لأزبك، فلبسها وقال لطوخي: قد جهزت لأخي الملك الناصر ما كان طلب وعينت له بنتا من بيت جنكزخان من نسل الملك ياطرخان. فقال طوخي: لم يرسلني السلطان في هذا.
فقال أزبك: أنا أرسلها إليه من جهتي، وأمر طوخي بحمل مهرها فاعتذر بعدم المال.
فقال: نحن نقترض من التجار، فاقترض عشرين ألف دينار وحملها، ثم قال لا بدّ من عمل فرح تجتمع فيه الخواتين، فاقترض مالا آخر نحو سبعة آلاف دينار، وعمل الفرح. وجهزت الخاتون طلنباي ومعها جماعة من الرسل، وهم بانبجار من كبار المغل، وطقبغا ومنعوش وطرحي وعثمان وبكتمر وقرطبا والشيخ برهان الدين أمام الملك أزبك وقاضي حراي، فساروا في زمن الخريف وأقلعوا فلم يجدوا ريحا تسير بهم، فأقاموا في برّ الروم على مينا ابن مشتا خمسة أشهر، وقام بخدمتهم هو والأشكريّ ملك قسطنطينية، وأنفق عليهم الأشكريّ ستين ألف دينار، فوصلوا إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وسبعمائة، فلما طلعت الخاتون من المراكب حملت في خركاة من الذهب على العجل، وجرّها المماليك إلى دار السلطنة بالإسكندرية، وبعث السلطان إلى خدمتها عدّة من الحجاب، وثماني عشرة من الحرم، ونزلت في الحراقة، فوصلت إلى القلعة يوم الاثنين خامس عشري ربيع الأوّل المذكور، وفرش لها بالمناظر في الميدان دهليز أطلس معدني، ومدّ لهم سماط، وفي يوم الخميس ثاني عشرية أحضر السلطان رسل أزبك، ووصل رسل ملك الكرج، ورسل الأشكريّ بتقادمهم، ثم بعث إلى الميدان الأمير سيف الدين أرغون
النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين ناظر الخاص، فمشوا في خدمة الخاتون إلى القلعة وهي في عز، ثم عقد عليها يوم الاثنين سادس ربيع الآخر على ثلاثين ألف دينار، حالة المعجل منها عشرون ألفا، وعقد العقد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وقبل عن السلطان النائب أرغون، وبنى عليها، وأعاد الرسل بعد أن شملهم من الأنعام ما أربى على أملهم، ومعهم هدية جليلة، فساروا في شعبان، وتأخر قاضي حراي حتى حج وعاد في سنة إحدى وعشرين، وماتت في رابع عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وسبعمائة، ودفنت بتربتها خارج باب البرقية بجوار تربة خوند طغاي أم أنوك.
دار حارس الطير: هذه الدار بداخل درب قراصيا بخط رحبة باب العيد، عرفت بالأمير سيف الدين سنبغا حارس الطير، ترقى في الخدم إلى أن صار نائب السلطنة بديار مصر في أيام السلطان حسن بن محمد بن قلاون بعد يلبغا روس، ثم عزل بالأمير قبلاي وجهز إلى نيابة غزة، فأقام بها شهرا وقبض عليه وحضر مقيدا إلى الإسكندرية في شعبان سنة اثنين وخمسين وسبعمائة، فسجن بها مدّة ثم أخرج إلى القدس، فأقام بطالا مدّة، ثم نقل إلى نيابة غزة في شعبان سنة ست وخمسين وسبعمائة.
الدار القردمية: هذه الدار خارج باب زويلة بخط الموّازيين من الشارع المسلوك فيه إلى رأس المنجبية، بناها الأمير الجاي الناصريّ، مملوك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان من أمره أنه ترقي في الخدم السلطانية حتى صار دوادار السلطان بغير أمرة، رفيقا للأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار، فلما مات بهاء الدين استقرّ مكانه بإمرة عشرة مدّة ثلاث سنين، ثم أعطى أمرة طبلخاناه، وكان فقيها حنفيا يكتب الخط المليح، ونسخ بخطه القرآن الكريم في ربعة، وكان عفيفا عن الفواحش، حليما لا يكاد يغضب، مكبا على الاشتغال بالعلم، محبا لاقتناء الكتب، مواظبا على مجالسة أهل العلم، وبالغ في إتقان عمارة هذه الدار بحيث أنه أنفق على بوّابتها خاصة مائة ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسة آلاف مثقال من الذهب، فلما تمّ بناؤها لم يمتع بها غير قليل، ومرض فمات في أوائل شهر رجب، وقيل في رمضان سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، وهو كهل، فدفن بقرافة مصر.
فسكنها من بعده خوند عائشة خاتون المعروفة بالقردمية، ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون زمانا، فعرفت بها، وكانت هذه المرأة ممن يضرب بغناها وسعادتها المثل، إلّا أنها عمرت طويلا وتصرّفت في مالها تصرّفا غير مرضيّ، فتلف في اللهو حتى صارت تعدّ من جملة المساكين، وماتت في الخامس من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ومخدّتها من ليف.
ثم سكن هذه الدار الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الاستادار مدّة، وأنشأ تجاهها مدرسة.
دار الصالح: هذه الدار بحارة الديلم قريبا من السجن، وكانت دار الصالح طلائع بن رزبك يسكنها وهو أمير قبل أن يلي الوزارة، بناها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبناها على ما هي عليه الآن.
دار بهادر: هذه الدار بالقاهرة جوار المشهد الحسيني، في درب جرجي المقابل للابارين، المسلوك منه إلى دار الضرب وغيره، أنشأها الأمير بهادر رأس نوبة أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، واتفق أنه كان ممن مالأ الأمير بدر الدين بيدرا على قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما قدّر الله بانتقاض أمر بيدر أو قتله، وإقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد أخيه الأشرف خليل، قبض على جماعة ممن وافق على قتل الملك الأشرف خليل، وقد تجمعت المماليك الأشرفية مع الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وهو يومئذ وزير الديار المصرية في دار النيابة من قلعة الجبل عند الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وإذا بالأمير بهادر المذكور قد حضر هو والأمير جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب المعروف بنميلة، وكانا قد اختفيا فرقا من سطوة الأشرفية حتى دبر أمرهما النائب، وأذن لهما في طلوع القلعة، فما هو إلّا أن أبصرهما الأشرفية سلوا سيوفهم وضربوا رقبتيهما في أسرع وقت، فدهش الحاضرون وما استطاعوا أن يتكلموا خوفا من الأشرفية، واتفق في بناء هذه الدار ما فيه عبرة لمن اعتبر، وذلك أن بهادر هذا لما حفر أساسها وجد هناك قبورا كثيرة، فأخرج تلك العظام ورماها، فبلغ ذلك قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، فبعث إليه ينهاه عن نبش القبور ورمي العظام ويخوّفه عاقبة ذلك، فقال: إذا مت يجرّوا رجلي ويرموني، فقال القاضي: لما أعيد عليه هذا الجواب: وقد يكون ذلك.
فقدّر الله أنه لما ضربت رقبته ورقبة أقوش ربط في رجليهما حبل وجرّا من دار النيابة بالقلعة إلى المجاير بالكيمان، نعوذ بالله من سوء عاقبة القضاء، ثم عرفت هذه الدار ببيت الأمير جركتمر بن بهادر المذكور، وكان خصيصا بالأمير قوصون، فبعثه لقتل السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لمّا نفاه إلى مدينة قوص بعد خلعه، فتولى قتله، فلما قبض على قوصون قبض على جركتمر في ثاني شعبان سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، وقتل بالإسكندرية هو وقوصون في ليلة الثلاثاء ثامن عشر شوال، تولى قتلهما الأمير ابن طشتمر طلبة، وأحمد بن صبيح، وكان جركتمر هذا فيه أدب وحشمة، وأوّل أمره كان من أصحاب الأمير بيبرس الجاشنكيري، فقدّمه وأعطاه أمرة عشرة، ثم اتصل بالأمير أرغون النائب، فأعطاه أمرة طبلخاناه، وكان يلعب بالأكرة ويجيد في لعبها إلى الغاية.
ثم عرفت هذه الدار بالأمير سيف الدين بهادر المنجكي أستادار الملك الظاهر برقوق لسكنه بها، وتجديد عمارتها، وأنشأ بجوارها حماما وكانت وفاته يوم الاثنين الثاني من
جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، وهذه الدار باقية إلى اليوم تسكنها الأمراء.
دار البقر: هذه الدار خارج القاهرة فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل، بالخط الذي يقال له اليوم حدرة البقر، كانت دارا للأبقار التي برسم السواقي السلطانية، ومنشرا للزبل، وفيه ساقية، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاون أنشأها دارا واصطبلا وغرس بها عدّة أشجار، وتولى عمارتها القاضي كريم الدين عبد الكريم الكبير، فبلغ المصروف على عمارتها ألف ألف درهم، وعرفت بالأمير طقتمر الدمشقيّ، ثم عرفت بدار الأمير طاش تمر حمص أخضر، وهذه الدار باقية إلى وقتنا هذا ينزلها أمراء الدولة.
قصر بكتمر الساقي: هذا القصر من أعظم مساكن مصر وأجلّها قدرا، وأحسنها بنيانا، وموضعه تجاه الكبش على بركة الفيل، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون لسكن أجلّ أمراء دولته، الأمير بكتمر الساقي، وأدخل فيه أرض الميدان التي أنشأها الملك العادل كتبغا، وقصد أن يأخذ قطعة من بركة الفيل ليتسع بها الإصطبل الذي للأمير بكتمر بجوار هذا القصر، فبعث إلى قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ الحنفيّ ليحكم باستبدالها على قاعدة مذهبه، فامتنع من ذلك تنزها وتورّعا، واجتمع بالسلطان وحدّثه في ذلك، فلما رأى كثرة ميل السلطان إلى أخذ الأرض نهض من المجلس مغضبا وصار إلى منزله، فأرسل القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخواص إلى سراج الدين الحنفيّ عن أمر السلطان وقلده قضاء مصر منفردا عن القاهرة، فحكم باستبدال الأرض في غرة رجب سنة سبع عشرة وسبعمائة، فلم يلبث سوى مدّة شهرين ومات في أوّل شهر رمضان، فاستدعى السلطان قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ وأعاده إلى ولايته، وكمّل القصر والإصطبل على هيئة قلّ ما رأت الأعين مثلها، بلغت النفقة على العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمسمائة درهم فضة مع جاه العمل، لأنّ العجل التي تحمل الحجارة من عند السلطان، والحجارة أيضا من عند السلطان، والفعلة في العمارة أهل السجون المقيدون من المحابيس، وقدّر لو لم يكن في هذه العمارة جاه ولا سخرة لكان مصروفها في كل يوم مبلغ ثلاثة آلاف درهم فضة، وأقاموا في عمارته مدّة عشرة أشهر، فتجاوزت النفقة على عمارته مبلغ ألف ألف درهم فضة، عنها زيادة على خمسين ألف دينار، سوى ما حمل وسوى من سخر في العمل، وهو بنحو ذلك.
فلما تمت عمارته سكنه الأمير بكتمر الساقي، وكان له في إصطبله هذا مائة سطل نحاس لمائة سائس، كل سائس على ستة أرؤس خيل، سوى ما كان له في الحشارات والنواحي من الخيل، وكان من المغرب يغلق باب إصطبله فلا يصير لأحد به حس، ولمّا تزوّج أنوك بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بابنة الأمير بكتمر الساقي، في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، خرج شوارها من هذا القصر، وكان عدّة الحمالين ثمانمائة حمّال.
المساند الزركش على أربعين حمّالا، عدّتها عشرة مساند، والمدوّرات ستة عشر حمالا، والكراسي اثنا عشر حمّالا، وكراسي لطاف أربعة حمالين، وفضيات تسعة وعشرون حمّالا، وسلم الدكك أربعة حمالين، والدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مائة واثنين وستين حمالا، والنحاس الشامي اثنين وعشرين حمّالا، والبعلبكي المدهون اثني عشر حمّالا، والخونجات والمحافي والزبادي والنحاس تسعة وعشرين حمّالا، وصناديق الحوائج خاناه ستة حمالين، وغير ذلك تتمة العدّة، والبغال المحملة الفرش واللحف والبسط، والصناديق التي فيها المصاغ تسعة وتسعين بغلا.
قال العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديّ: قال لي المهذب الكاتب: الزركش والمصاغ ثمانون قنطارا بالمصري ذهب، ولمّا مات بكتمر هذا، صار هذا الوقف من بعده من جملة أوقافه، فتولى أمره وأمر سائر أوقافه أولاده، حتى انقرض أولاده وأولاد أولاده، فصار أمر الأوقاف إلى ابن ابنته، وهو أحمد بن محمد بن قرطاي، المعروف بأحمد بن بنت بكتمر، وهذا القصر في غاية من الحسن، ولا ينزله إلّا أعيان الأمراء إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة، وكان العسكر غائبا عن مصر مع الملك المؤيد شيخ في محاربة الأمير نوروز الحافظي بدمشق، عمد هذا المذكور إلى القصر فأخذ رخامه وشبابيكه وكثيرا من سقوفه وأبوابه وغير ذلك، وباع الجميع، وعمل بدل ذلك الرخام البلاط، وبدّل الشبابيك الحديد بالخشب، وفطن به أعيان الناس فقصدوه وأخذوا منه أصنافا عظيمة بثمن وبغير ثمن، وهو الآن قائم البناء يسكنه الأمراء.
الدار البيسرية: هذه الدار بخط بين القصرين من القاهرة، كانت في آخر الدولة الفاطمية، لما قويت شوكة الفرنج قد أعدّت لمن يجلس فيها من قصاد الفرنج، عندما؟؟؟ تقرّر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصل من مال البلد للفرنج، فصار يجلس في هذه الدار قاصد معتبر عند الفرنج يقبض المال، فلما زالت الدولة بالغز، ثم زالت دولة بني أيوب، وولي سلطنة مصر الملوك من الترك، إلى أن كانت أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، شرع الأمير ركن الدين بيبرس الشمسيّ الصالحيّ البخميّ في عمارتها، في سنة تسع وخمسين وستمائة، وتأنّق في عمارتها وبالغ في كثرة المصروف عليها، فأنكر الملك الظاهر ذلك من فعله وقال له: يا أمير بدر الدين، أيّ شيء خليت للغزاة والترك؟ فقال:
صدقات السلطان، والله يا خوند ما بنيت هذه الدار إلّا حتى يصل خبرها إلى بلاد العدوّ، ويقال بعض مماليك السلطان عمّر دارا غرم عليها مالا عظيما، فأعجب من قوله ذلك السلطان وأنعم عليه بألف دينار عينا، وعدّ هذا من أعظم أنعام السلطان، فجاء سعة هذه الدار باصطبلها وبستانها والحمّام بجانبها نحو فدّانين، ورخامها من أبهج رخام عمل في القاهرة، وأحسنه صنعة، فكثر تعجب الناس إذ ذاك من عظمها لما كان فيه أمراء الدولة ورجالها حينئذ من الاقتصاد، حتى أن الواحد منهم إذا صار أميرا لا يتغير عن داره التي كان
يسكنها وهو من الأجناد، وعند ما كملت عمارة هذه الدار وقفها وأشهد عليه بوقفها اثنين وتسعين عدلا، من جملتهم قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن بنت الأعز، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، قبل ولايتهم القضاء في حال تحملهم الشهادة، وما زالت بيد ورثة بيسرى إلى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فشرهت نفس الأمير قوصون إلى أخذها، وسأل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذلك فأذن له في التحدّث مع ورثة بيسرى، فأرسل إليهم ووعدهم ومنّاهم وأرضاهم حتى أذعنوا له، فبعث السلطان إلى قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ الحنبليّ يلتمس منه الحكم باستبدالها، كما حكم باستبدال بيت قتال السبع وحمامّه الذي أنشأ جامعه بخط خارج الباب الجديد من الشارع، فأجاب إلى ذلك، ونزل إليها علاء الدين بن هلال الدولة شادّ الدواوين، ومعه شهود لقيمة، فقوّمت بمائة ألف درهم وتسعين ألف درهم نقرة، وتكون الغبطة للأيتام عشرة آلاف درهم نقرة لتتم الجملة مائتي ألف درهم نقرة، وحكم قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ ببيعها وكان هذا الحكم مما شنع عليه فيه.
ثم اختلفت الأيدي في الاستيلاء على هذه الدار، واقتدى القضاة بعضهم ببعض في الحكم باستبدالها، وآخر ما حكم به من استبدالها في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فصارت من جملة الأوقاف الظاهرية برقوق، وهي الآن بيد ابنة بيرم، وكان لها باب بوّابته من أعظم ما عمل من البوابات بالقاهرة، ويتوصل إلى هذه الدار من هذا الباب، وهو بجوار حمام بيسرى من شارع بين القصرين، وقد بنى تجاه هذا الباب حوانيت حتى خفي وصار يدخل إلى هذه الدار من باب آخر بخط الخرشتف.
بيسرى: الأمير شمس الدين الشمسي الصالحي البخمي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية، تنقل في الخدم حتى صار من أجلّ الأمراء في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، واشتهر بالشجاعة والكرم وعلو الهمة، وكانت له عدّة مماليك راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم، وفيهم من له عليه في اليوم ستين عليقة لخيله، وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه في كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى علف الجمال، وكان ينعم بالألف دينار وبالخمسمائة غير مرّة، ولما فرّق الملك العادل كتبغا المماليك على الأمراء بعث إليه بستين مملوكا، فأخرج إليهم في يومهم لكل واحد فرسين وبغلا وشكا إليه استادار مكثرة خرجه وحسن له الاقتصاد في النفقة، فحنق عليه وعزله وأقام غيره، وقال لا يرني وجهه أبدا، ولم يعرف عنه أنه شرب الماء في كوز واحد مرّتين، وإنما يشرب كل مرّة في كوز جديد، ثم لا يعاود الشرب منه، وتنكر عليه الملك المنصور قلاوون فسجنه في سنة ثمانين وستمائة، وما زال في سجنه إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل، فأفرج عنه في سنة اثنين وتسعين وستمائة بعد عوده من دمشق بشفاعة الأمير بيدرا والأمير سنجر
الشجاعيّ، وأمر أن يحمل إليه تشريف كامل ويكتب له منشور بإمرة مائة فارس، وأنه يلبس التشريف من السجن، فجهز التشريف وحمل إليه المنشور في كيس حرير أطلس، وعظم فيه تعظيما زائدا وأثنى عليه ثناء جما، وسار إليه بيدر والشجاعيّ والدوادار والأفرم إلى السجن ليمشوا في خدمته إلى أن يقف بين يدي السلطان، فامتنع من لبس التشريف والتزم بأيمان مغلظة أنه لا يدخل على السلطان إلا بقيده ولباسه الذي كان عليه في السجن، وتسامعت الأمراء وأهل القلعة بخروجه فهرعوا إليه، وكان لخروجه نهار عظيم، ودخل على السلطان بقيده فأمر به ففك بين يديه وأفيض عليه التشريف، فقبّل الأرض، وأكرمه السلطان وأمره فنزل إلى داره، وخرج الناس إلى رؤيته وسرّوا بخلاصه، فبعث إليه السلطان عشرين فرسا وعشرين اكديشا وعشرين بغلا، وأمر جميع الأمراء أن يبعثوا إليه، فلم يبق أحد حتى سير إليه ما يقدر عليه من التحف والسلاح، وبعث إليه أمير سلاح ألفي دينار عينا. وكانت مدّة سجنه إحدى عشرة سنة وأشهرا.
فصار يكتب بعد خروجه من السجن بيسرى الأشرفي بعد ما كان يكتب بيسري الشمسيّ، وما زال إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين، فأخذ الأمير منكرتمر يغريه بالأمير بيسرى ويخوّفه منه وأنه قد تعين للسلطنة، فعمله كاشف الجيزة وأمره أن يحضر الخدمة يومي الاثنين والخميس بالقلعة، ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل كبره وتقدّمه، ثم زاد منكرتمر في الإغراء به والسلطنة تستمهله إلى أن قبض عليه وسجنه في سنة سبع وتسعين وستمائة، وأحاط بسائر موجوده وحبس عدّة من مماليكه، فسر منكرتمر بمسكه سرورا عظيما، واستمرّ في السجن إلى أن مات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وتسعين وستمائة وعليه ديون كثيرة، ودفن بتربته خارج باب النصر رحمه الله تعالى.
قصر بشتاك: هذا القصر هو الآن تجاه الدار البيسرية، وهو من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان مسكنا للخفاء الفاطميين، ويسلك إليه من الباب الذي كان يعرف في أيام عمارة القصر الكبير في زمن الخلفاء بباب البحر، وهو يعرف اليوم بباب قصر بشتاك، تجاه المدرسة الكاملية، وما زال إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ المعروف بأمير سلاح، وأنشأ دورا واصطبلات ومساكن له ولحواشيه، وصار ينزل إليه هو والأمير بدر الدين بيسرى عند انصرافهما من الخدمة السلطانية بقلعة الجبل في موكب عظيم زائد الحشمة، ويدخل كل منهما إلى داره، وكان موضع هذا القصر عدّة مساجد فلم يتعرّض لهدمها وأبقاها على ما هي عليه، فلما مات أمير سلاح وأخذ الأمير قوصون الدار البيسرية كما تقدّم ذكره، أحب الأمير بشتاك أن يكون له أيضا دار بالقاهرة، وذلك أن قوصون وبشتاك كانا يتناظران في الأمور ويتضادّان في سائر الأحوال، ويقصد كل منهما أن يسامي الآخر ويزيد عليه في التجمل، فأخذ بشتاك يعمل في الاستيلاء على قصر أمير سلاح حتى اشتراه من ورثته، فأخذ
من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قطعة أرض كانت داخل هذا القصر من حقوق بيت المال، وهدم دارا كانت قد أنشئت هناك. عرفت بدار قطوان الساقي، وهدم أحد عشر مسجدا وأربعة معابد كانت من آثار الخلفاء يسكنها جماعة الفقراء، وأدخل ذلك في البناء إلّا مسجدا منها فإنه عمر، ويعرف اليوم بمسجد النجل، فجاء هذا القصر من أعظم مباني القاهرة، فإن ارتفاعه في الهواء أربعون ذراعا، ونزول أساسه في الأرض مثل ذلك، والماء يجري بأعلاه، وله شبابيك من حديد تشرف على شارع القاهرة وينظر من أعلاه عامّة القاهرة والقلعة والنيل والبساتين، وهو مشرق جليل مع حسن بنائه وتأنق زخرفته والمبالغة في تزويقه وترخيمه، وأنشأ أيضا في أسفله حوانيت كان يباع فيها الحلوى وغيرها، فصار الأمر أخيرا كما كان أوّلا بتسمية الشارع بين القصرين، فإنه كان أوّلا كما تقدّم بالقاهرة القصر الكبير الشرقي الذي قصر بشتاك من جملته، وتجاهه القصر الغربيّ الذي الخرشتف من جملته، فصار قصر بشتاك وقصر بيسرى وما بينهما من الشارع يقال له بين القصرين، ومن لا علم له يظنّ إنما قيل لهذا الشارع بين القصرين لأجل قصر بيسرى وقصر بشتاك وليس هذا بصحيح، وإنما قيل له بين القصرين قبل ذلك من حين بنيت القاهرة، فإنه كان بين القصرين القصر الكبير الشرقيّ والقصر الصغير الغربيّ، وقد تقدّم ذلك مشروحا مبينا.
ولما أكمل بشتاك بناء هذا القصر والحوانيت التي في أسفله والخان المجاور له في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة لم يبارك له فيه ولا تمتع به، وكان إذا نزل إليه ينقبض صدره ولا تنبسط نفسه ما دام فيه حتى يخرج منه، فترك المجىء إليه فصار يتعاهده أحيانا فيعتريه ما تقدّم ذكره، فكرهه وباعه لزوجة بكتمر الساقي وتداوله ورثتها إلى أن أخذه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فاستقرّ بيد أولاده إلى أن تحكم الأمير الوزير المشير جمال الدين الأستادار في مصر. أقام من شهد عند قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي بأن هذا القصر يضرّ بالجار والمار، وأنه مستحق للإزالة والهدم كما عمل ذلك في غير موضع بالقاهرة، فحكم له باستبداله وصار من جملة أملاكه، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق استولى على سائر ما تركه وجعل هذا القصر فيما عينه للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، فاستمرّ في جملة أوقاف التربة المذكورة إلى أن قتل الملك الناصر بدمشق في حرب الأمير شيخ والأمير نوروز، وقدم الأمير شيخ إلى مصر هو والخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد، وقف له من بقي من أولاد جمال الدين وأقاربه، وكان لأهل الدولة يومئذ بهم عناية قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ بارتجاع أملاك جمال الدين التي وقفها على ما كانت عليه، فتسلمها أخوه وصار هذا القصر إليهم وهو الآن بيدهم.
قصر الحجازية: هذا القصر بخط رحبة باب العيد بجوار المدرسة الحجازية، كان يعرف أوّلا بقصر الزمرد في أيام الخلفاء الفاطميين، من أجل أنّ باب القصر الذي كان يعرف
بباب الزمرد كان هناك، كما تقدّم ذكره في هذا الكتاب عند ذكر القصور، فلما زالت الدولة الفاطمية صار من جملة ما صار بيد ملوك بني أيوب، واختلفت عليه الأيدي إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير الحاجب من أولاد الملوك بني أيوب، واستمرّ بيده إلى أن رسم بتسفيره من مصر إلى مدينة غزة، واستقرّ نائب السلطنة بها في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وكاتب الأمير سيف الدين قوصون عليه وملّكه إيّاه، فشرع في عمارة سبع قاعات لكل قاعة اصطبل ومنافع ومرافق، وكانت مساحة ذلك عشرة أفدنة، فمات قوصون قبل أن يتم بناء ما أراد من ذلك، فصار يعرف بقصر قوصون إلى أن اشترته خوند تتر الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوج الأمير ملكتمر الحجازيّ، فعمرته عمارة ملوكية وتأنقت فيه تأنقا زائدا، وأجرت الماء إلى أعلاه، وعملت تحت القصر إصطبلا كبيرا لخيول خدّامها، وساحة كبيرة يشرف عليها من شبابيك حديد، فجاء شيئا عجيبا حسنه، وأنشأت بجواره مدرستها التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الحجازية، وجعلت هذا القصر من جملة ما هو موقوف عليها، فلما ماتت سكنه الأمراء بالأجرة إلى أن عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار داره المجاورة للمدرسة السابقية، وتولى استادارية الملك الناصر فرج، صار يجلس برحبة هذا القصر والمقعد الذي كان بها، وعمل القصر سجنا يحبس فيه من يعاقبه من الوزراء والأعيان، فصار موحشا يروع النفوس ذكره لما قتل فيه من الناس خنقا وتحت العقوبة، من بعد ما أقام دهرا وهو مغنى صبابات وملعب أتراب وموطن أفراح ودار عز ومنزل لهو ومحل أماني النفوس ولذاتها، ثم لما فحش كلب جمال الدين وشنع شرهه في اغتصاب الأوقاف أخذ هذا القصر يتشعث شيء من زخارفه، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي باستبداله، كما تقدّم الحكم في نظائره، فقلع رخامه، فلما قتل صار معطلا مدّة، وهمّ الملك الناصر فرج ببنائه رباطا، ثم انثنى عزمه عن ذلك، فلما عزم على المسير إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز في سنة أربع عشرة وثمانمائة، نزل إليه الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري وقلع شبابيكه الحديد لتعمل آلات حرب، وهو الآن بغير رخام ولا شبابيك، قائم على أصوله لا يكاد ينتفع به، إلا أن الأمير المشير بدر الدين حسن بن محمد الأستادار لما سكن في بيت الأمير جمال الدين جعل ساحة هذا القصر اصطبلا لخيوله، وصار يحبس في هذا القصر من يصادره أحيانا.
وفي رمضان سنة عشرين وثمانمائة ذكر الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الأستادار، ما يجده المسجونون في السجن المستجدّ، عند باب الفتوح، بعد هدم خزانة شمائل من شدّة الضيق وكثرة الغم، فعبّن هذا القصر ليكون سجنا لأرباب الجرائم، وأنعم على جهة وقف جمال الدين بعشرة آلاف درهم فلوسا عن أجرة سنتين، فشرعوا في عمل سجن وأزالوا كثيرا من معالمه، ثم ترك على ما بقي فيه ولم يتخذ سجنا.
قصر يلبغا اليحياوي: هذا القصر موضعه الآن مدرسة السلطان حسن المطلة على
الرميلة، تحت قلعة الجبل، وكان قصرا عظيما، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ببنائه لسكن الأمير يلبغا اليحياوي، وأن يبنى أيضا قصر يقابله برسم سكنى الأمير الطنبغا الماردينيّ، لتزايد رغبته فيهما وعظيم محبته لهما، حتى يكونا تجاهه وينظر إليهما من قلعة الجبل، فركب بنفسه إلى حيث سوق الخيل من الرميلة تحت القلعة، وسار إلى حمام الملك السعيد، وعيّن اصطبل الأمير أيدغمش أميراخور، وكان تجاهها ليعمره هو وما يقابله قصرين متقابلين ويضاف إليه إصطبل الأمير طاشتمر الساقي، واصطبل الجوق وأمر الأمير قوصون أن يشتري ما يجاور إصطبله من الأملاك ويوسع في إصطبله، وجعل أمر هذه العمارة إلى الأمير اقبغا عبد الواحد، فوقع الهدم فيما كان بجوار بيت الأمير قوصون، وزيد في الإصطبل وجعل باب هذا الإصطبل من تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة «1» ، وأمر السلطان بالنفقة على العمارة من مال السلطان على يد النشو، وكان للملك الناصر رغبة كبيرة في العمارة بحيث أنه أفرد لها ديوانا، وبلغ مصروفها في كل يوم اثني عشر ألف درهم نقرة، وأقل ما كان يصرف من ديوان العمارة في اليوم برسم العمارة مبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة، فلما كثر الاهتمام في بناء القصرين المذكورين وعظم الاجتهاد في عمارتهما وصار السلطان ينزل من القلعة لكشف العمل ويستحث على فراغهما، وأوّل ما بدىء به قصر يلبغا اليحياوي، فعمل أساسه حضيرة واحدة انصرف عليها وحدها مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، ولم يبق في القاهرة ومصر صانع له تعلق في العمارة إلّا وعمل فيها حتى كمل القصر، فجاء في غاية الحسن، وبلغت النفقة عليه مبلغ أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم نقرة، منها ثمن لازورد خاصة مائة ألف درهم.
فلما كملت العمارة نزل السلطان لرؤيتها، وحضر يومئذ من عند الأمير سيف الدين طرغاي نائب حلب تقدمة، من جملتها عشرة أزواج بسط أحدها حرير، وعدّة أواني من بلور ونحوه، وخيل وبخاتي، فأنعم بالجميع على الأمير يلبغا اليحياويّ، وأمر الأمير أقبغا عبد الواحد أن ينزل إلى هذا القصر ومعه أخوان سلار برفقته، وسار أرباب الوظائف لعمل مهم، فبات النشو ناظر الخاص هناك لتعبية ما يحتاج إليه من اللحوم والتوابل ونحوها، فلما تهيأ ذلك حضر سائر أمراء الدولة من أوّل النهار وأقاموا بقصر يلبغا اليحياوي في أكل وشرب ولهو، وفي آخر النهار حضرت إليهم التشاريف السلطانية، وعدّتها أحد عشر تشريفا برسم أرباب الوظائف، وهم: الأمير أقبغا عبد الواحد، والأستادار، والأمير قوصون الساقي،
والأمير بشتاك، والأمير طقوزدمر أمير مجلس في آخرين، وحضر لبقية الأمراء خلع وأقبية على قدر مراتبهم، فلبس الجميع التشاريف والخلع والأقبية واركبوا الخيول المحضرة إليهم من الإصطبل السلطانيّ بسروج وكنابيش ما بين ذهب وفضة بحسب مراتبهم، وساروا إلى منازلهم، وذبح في هذا المهمّ ستمائة رأس غنم وأربعون بقرة وعشرون فرسا، وعمل فيه ثلثمائة قنطار سكر برسم المشروب، فإن القوم يومئذ لم يكونوا يتظاهرون بشرب الخمر ولا شيء من المسكرات البتة، ولا يجسر أحد على عمله في مهمّ البتة، وما زالت هذه الدار باقية إلى أن هدمها السلطان الملك الناصر حسن، وأنشأ موضعها مدرسته الموجودة الآن.
إصطبل قوصون: هذا الإصطبل بجوار مدرسة السلطان حسن وله بابان، باب من الشارع بجوار حدرة البقر، وبابه الآخر تجاه باب السلسلة الذي يتوصل منه إلى الإصطبل السلطانيّ وقلعة الجبل، أنشأه الأمير علم الدين سنجر الجمقدار، فأخذه منه الأمير سيف الدين قوصون وصرف له ثمنه من بيت المال، فزاد فيه قوصون إصطبل الأمير سنقر الطويل، وأمره الملك الناصر محمد بن قلاوون بعمارة هذا الإصطبل، فبنى فيه كثيرا وأدخل فيه عدّة عمائر، ما بين دور وإصطبلات، فجاء قصرا عظيما إلى الغاية، وسكنه الأمير قوصون مدّة حياة الملك الناصر.
فلما مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، عمل عليه قوصون وخلعه وأقام بعده بدله الملك الأشرف كجك بن الملك الناصر محمد، فلما كان في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة حدث في شهر رجب منها فتنة بين الأمير قوصون وبين الأمراء، وكبيرهم أيدغمش أميراخور، فنادى أيدغمش في العامة يا كسابه عليكم بإصطبل قوصون، إنهبوه، هذا وقوصون محصور بقلعة الجبل، فأقبلت العامّة من السؤال والغلمان والجند إلى إصطبل قوصون، فمنعهم المماليك الذين كانوا فيه ورموهم بالنشاب وأتلفوا منهم عدّة، فثارت مماليك الأمير يلبغا اليحياوي من أعلى قصر يلبغا، وكان بجوار قصر قوصون حيث مدرسة السلطان حسن، ورموا مماليك قوصون بالنشاب حتى انكفوا عن رمي النّهابة، فاقتحم غوغاء الناس إصطبل وقوصون وانتهبوا ما كان بركاب خاناته وحواصله، وكسروا باب القصر بالفؤس، وصعدوا إليه بعد ما تسلقوا إلى القصر من خارجه، فخرجت مماليك قوصون من الإصطبل يدا واحدة بالسلاح وشقوا القاهرة وخرجوا إلى ظاهر باب النصر «1» يريدون الأمراء الواصلين من الشام، فأتت النهابة على جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وحواصل المال التي كانت بالقصر، وكانت تشتمل من أنواع المال والقماش
والأواني الذهب والفضة على ما لا يحدّ ولا يعدّ كثرة.
وعندما خرجت العامّة بما نهبته، وجدت مماليك الأمراء والأجناد قد وقفوا على باب الإصطبل في الرميلة لانتظار من يخرج، وكان إذا خرج أحد بشيء من النهب أخذه منه أقوى منه، فإن امتنع من إعطائه قتل، واحتمل النهابة أكياس الذهب ونثروها في الدهاليز والطرق، وظفروا بجواهر نفيسة وذخائر ملوكية وأمتعة جليلة القدر وأسلحة عظيمة وأقمشة مثمنة، وجرّوا البسط الرومية والأمدية وما هو من عمل الشريف وتقاتلوا عليها وقطعوها قطعا بالسكاكين وتقاسموها، وكسّروا أواني البلور والصيني، وقطعوا سلاسل الخيل الفضة، والسروج الذهب والفضة، وفكوا اللجم وقطعوا الخيم وكسروا الخركاوات وأتلفوا سترها وأغشيتها الأطلس والزركفت.
وذكر عن كاتب قوصون أنه قال: أما الذهب المكيّس والفضة كان ينيف على أربعمائة ألف دينار، وأما الزركش والحوايص والمعصبات ما بين خوانجات وأطباق فضة وذهب، فإنه فوق المائة ألف دينار، والبلور والمصاغ المعمول برسم النساء فإنه لا يحصر، وكان هناك ثلاثة أكياس أطلس فيها جوهر قد جمعه في طول أيامه، لكثرة شغفه بالجوهر، لم يجمع مثله ملك، كان ثمنه نحو المائة ألف دينار، وكان في حاصله عدّة مائة وثمانين زوج بسط، منها ما طوله من أربعين ذراعا إلى ثلاثين ذراعا عمل البلاد، وستة عشر زوج من عمل الشريف بمصر، ثمن كل زوج اثنا عشر ألف درهم نقرة، منها أربعة أزواج بسط من حرير، وكان من جملة الخام نوبة خام جميعها أطلس معدنيّ قصب، جميع ذلك نهب وكسر وقطع وانحطّ سعر الذهب بديار مصر عقيب هذه النهبة من دار قوصون، حتى بيع المثقال بأحد عشر درهما لكثرته في أيدي الناس، بعد ما كان سعر المثقال عشرين درهما ومن حينئذ تلاشى أمر هذا القصر لزوال رخامه في النهب، وما برح مسكنا لأكابر الأمراء، وقد اشتهر أنه من الدور المشئومة، وقد أدركت في عمري غير واحد من الأمراء سكنه وآل أمره إلى ما لا خير فيه، وممن سكنه: الأمير بركة الزينبيّ، ونهب نهبة فاحشة، وأقام أعوام خرابا لا يسكنه أحد، ثم أصلح وهو الآن من أجلّ دور القاهرة.
دار أرغون الكاملي: هذه الدار بالجسر الأعظم على بركة الفيل، أنشأها الأمير أرغون الكامليّ في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وأدخل فيها من أرض بركة الفيل عشرين ذراعا.
أرغون الكاملي: الأمير سيف الدين نائب حلب ودمشق، تبناه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون وزوّجه أخته من أمّه، بنت الأمير أرغون العلائي، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة. وكان يعرف أوّلا بأرغون الصغير، فلما مات الملك الصالح وقام من بعده في مملكة مصر أخوه الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاوون، أعطاه أمرة مائة وتقدمة ألف، ونهي أن يدعى أرغون الصغير، وتسمّى أرغون الكاملي. فلمّا مات الأمير
قطليجا الحمويّ في نيابة حلب، رسم له الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بنيابة حلب، فوصل إليها يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب سنة خمسين وسبعمائة، وعمل النيابة بها على أحسن ما يكون من الحرمة والمهابة، وهابه التركمان والعرب، ومشت الأحوال به.
ثم جرت له فتنة مع أمراء حلب، فخرج في نفر يسير إلى دمشق، فوصلها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فأكرمه الأمير ايتمش الناصريّ نائب دمشق وجهّزه إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده إلى نيابة حلب فأقام بها إلى أن عزل ايتمش من نيابة دمشق، في أوّل سلطنة الملك الصالح صالح بن قلاون، فنقل من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فدخلها في حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين، وأقام بها فلم يصف له بها عيش فاستعفى، فلم يجبّ وما زال بها إلى أن خرج يلبغاروس وحضر إلى دمشق، فخرج إلى اللّد، واستولى يلبغاروس على دمشق.
فلما خرج الملك الصالح من مصر وسار إلى بلاد الشام بسبب حركة يلبغاروس، تلقّاه أرغون وسار بالعساكر إلى دمشق، ودخل السلطان بعده وقد فرّ يلبغاروس، فقلّده نيابة حلب في خامس عشري شهر رمضان. وعاد السلطان إلى مصر، فلم يزل الأمير أرغون بحلب وخرج منها إلى الأبلستين «1» في طلب ابن دلغادر، وحرقها وحرق قراها ودخل إلى قيصرية وعاد إلى حلب في رجب سنة أربع وخمسين.
فلما خلع الملك الصالح بأخيه الملك الناصر حسن في شوال سنة خمس وخمسين طلب الأمير أرغون من حلب في آخر شوّال، فحضر إلى مصر وعمل أمير مائة مقدّم ألف إلى تاسع صفر سنة ست وخمسين، فأمسك وحمل إلى الإسكندرية اعتقل فيها وعنده زوجته. ثم نقل من الإسكندرية إلى القدس فأقام بها بطالا، وبنى هناك تربة ومات بها يوم الخميس لخمس بقين من شوّال سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.
دار طاز: هذه الدار بجوار المدرسة البندقدارية تجاه حمام الفارقاني، على يمنة من سلك من الصليبة يريد حدرة البقر وباب زويلة، أنشأها الأمير سيف الدين طاز في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وكان موضعها عدّة مساكن، هدمها برضى أربابها وبغير رضاهم، وتولى الأمير منجك عمارتها وصار يقف عليها بنفسه حتى كملت، فجاءت قصرا مشيدا واصطبلا كبيرا، وهي باقية إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء. وفي يوم السبت سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين، عمل الأمير طاز في هذه الدار وليمة عظيمة حضرها السلطان الملك الصالح صالح وجميع الأمراء، فلما كان وقت انصرافهم قدّم الأمير طاز للسلطان أربعة أفراس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وقدّم للأمير سنجر فرسين كذلك،
وللأمير صرغتمش فرسين، ولكل واحد من أمراء الألوف فرسا كذلك، ولم يعهد قبل هذا أن أحدا من ملوك الأتراك نزل إلى بيت أمير قبل الصالح هذا، وكان يوما مذكورا.
طاز: الأمير سيف الدين، أمير مجلس، اشتهر ذكره في أيام الملك الصالح إسماعيل، ولم يزل أميرا إلى أن خلع الملك الكامل شعبان وأقيم المظفر حاجي، وهو أحد الأمراء الستة أرباب الحل والعقد، فلما خلع الملك المظفر وأقيم الملك الناصر حسن، زادت وجاهته وحرمته، وهو الذي أمسك الأمير يلبغاروس في طريق الحجاز، وأمسك أيضا الملك المجاهد سيف الإسلام عليّ ابن المؤيد صاحب بلاد اليمن بمكة، وأحضره إلى مصر، وهو الذي قام في نوبة السلطان حسن لما خلع وأجلس الملك الصالح صالح على كرسيّ الملك، وكان يلبس في درب الحجاز عباءة وسرقولا ويخفي نفسه ليتجسس على أخبار يلبغاروس، ولم يزل على حاله إلى ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخلع الصالح وأعيد الناصر حسن، فأخرج طاز إلى نيابة حلب وأقام بها.
دار صرغتمش: هذه الدار بخط بئر الوطاويط بالقرب من المدرسة الصرغتمشية المجاورة لجامع أحمد بن طولون من شارع الصليبية، كان موضعها مساكن فاشتراها الأمير صرغتمش وبناها قصرا واصطبلا، في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وحمل إليه الوزراء والكتاب والأعيان من الرخام وغيره شيئا كثيرا، وقد ذكر التعريف به عند ذكر المدرسة الصرغتمشية من هذا الكتاب في ذكر المدارس، وهذه الدار عامرة إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء، ووقع الهدم في القصر خاصة في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وثمانمائة.
دار الماس: هذه الدار بخط حوض ابن هنس فيما بينه وبين حدرة البقر بجوار جامع الماس، أنشأها الأمير الماس الحاجب، واعتنى برخامها عناية كبيرة، واستدعى به من البلاد، فلما قتل في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلع ما في هذه الدار من الرخام، فقلع جميعه ونقل إلى القلعة، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا ينزلها الأمراء.
دار بهادر المقدم: هذه الدار بخط الباطلية من القاهرة، أنشأها الأمير الطواشي سيف الدين بهادر مقدّم المماليك السلطانية، في أيام الملك الظاهر برقوق.
وبهادر هذا من مماليك الأمير يلبغا، وأقام في تقدمة المماليك جميع الأيام الظاهرية، وكثر ماله وطال عمره حتى هرم، ومات في أيام الملك الناصر فرج، وهو على أمرته وفي وظيفته تقدمة المماليك السلطانية، يوم الأحد سابع عشر رجب سنة اثنتين وثمانمائة.
وموضع هذه الدار من جملة ما كان احترق من الباطلية في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم في ذكر حارة الباطلية عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، ولما مات المقدّم بهادر
استقرّت من بعده منزلا لأمراء الدولة، وهي باقية على ذلك إلى يومنا هذا.
دار الست شقراء: هذه الدار من جملة حارة كتامة، وهي اليوم بالقرب من مدرسة الوزير الصاحب كريم الدين ابن غنام، بجوار حمام كراي، وهي من الدور الجليلة، عرفت بخوند الست شقراء ابنة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وتزوّجها الأمير روس، ثم انحط قدرها واتضعت في نفسها إلى أن ماتت في يوم الثلاثاء ثامن عشري جمادى الأولى، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
دار ابن عنان: هذه الدار بخط الجامع الأزهر، أنشأها نور الدين عليّ بن عنان التاجر، بقيسارية جهاركس من القاهرة، وتاجر الخاص الشريف السلطانيّ في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، كان ذا ثروة ونعمة كبيرة ومال متسع، فلما زالت دولة الأشرف أجمع، وداخله وهم، أظهر فاقة، وتذكّر أنه دفن مبلغا كبيرا من الألف مثقال ذهب في هذه الدار، ولم يعلم به أحد سوى زوجته أمّ أولاده، فاتفق أنه مرض وخرس، ومرضت زوجته أيضا، فمات يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وماتت زوجته أيضا، فأسف أولاده على فقد ماله، وحفروا مواضع من هذه الدار فلم يظفروا بشيء البتة، وأقامت مدّة بأيديهم وهي من وقف أبيهم، ومات ولده شمس الدين محمد بن علي بن عنان يوم السبت تاسع صفر سنة ثلاث وثمانمائة، ثم باعوها سنة سبع عشرة وثمانمائة، كما بيع غيرها من الأوقاف.
دار بهادر الأعسر: هذه الدار بخط بين السورين، فيما بين سويقة المسعودي من القاهرة وبين الخليج الكبير الذي يعرف اليوم بخليج اللؤلؤة، كان مكانها من جملة دار الذهب التي تقدّم ذكرها في ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب، وإلى يومنا هذا بجوار هذه الدار قبو، فيما بينها وبين الخليج، يعرف بقبو الذهب، من جملة أقباء دار الذهب، ويمرّ الناس من تحت هذا القبو.
بهادر هذا: هو الأمير سيف الدين بهادر الأعسر اليحياوي، كان مشرفا بمطبخ الأمير سيف الدين فجا الأمير شكار «1» ، ثم صار زردكاش الأمير الكبير يلبغا الخاصكي، وولي بعد ذلك مهمندار «2» السلطان بدار الضيافة، وولي وظيفة شدّ الدواوين «3» إلى أن قدم الأمير يلبغا
الناصري نائب حلب بعساكر الشام إلى مصر وأزال دولة الملك الظاهر برقوق، في جمادى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، قبض عليه ونفاه من القاهرة إلى غزة، ثم عاد بعد ذلك إلى القاهرة وأقام بها إلى أن مات بهذه الدار في يوم عيد الفطر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وحصرت تركته وكان فيها عدّة كتب في أنواع من العلوم، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا وعلى بابها بئر بجانبها حوض يملأ لشرب الدواب منه.
دار ابن رجب: هذه الدار من جملة أراضي البستان الذي يقال له اليوم الكافوري، كان إصطبلا للأمير علاء الدين عليّ بن كلفت التركمانيّ شادّ الدواوين، فيما بين داره ودار الأمير تنكز نائب الشام. فلما استقر ناصر الدين محمد بن رجب في الوزارة، أنشأ هذا الإصطبل مقعدا صار يجلس فيه، وقصرا كبيرا، واستولى من بعده على ذلك كله أولاده، فلما عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار مدرسته بخط رحبة باب العيد، أخذ هذا القصر والإصطبل في جملة ما أخذ من أملاك الناس وأوقافهم. فلما قتله الملك الناصر فرج، واستولى على جميع ما خلفه أفرد هذا القصر والإصطبل فيما أفرده للمدرسة المذكورة، فلم يزل من جملة أوقافها إلى أن قتل الملك الناصر فرج، وقدم الأمير شيخ نائب الشام إلى مصر، فلما جلس على تخت الملك وتلقب بالملك المؤيد في غرّة شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقف إليه من بقي من أولاد علاء الدين عليّ بن كلفت، وهما امرأتان، كانت إحداهما تحت الملك المؤيد قبل أن يلي نيابة طرابلس، وهو من جملة أمراء مصر في أيام الملك الظاهر برقوق، وذكرتا أن الأمير جمال الدين الاستادار أخذ وقف أبيهما بغير حق، وأخرجتا كتاب وقف أبيهما، ففوّض أمر ذلك لقاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقينيّ الشافعيّ، فلم يجد بيد أولاد جمال الدين مستندا، فقضى بهذا المكان لورثة ابن كلفت وبقائه على ما وقفه حسبما تضمنه كتاب وقفه، فتسلم مستحقوا وقف بن كلفت القصر والاصطبل، وهو الآن بأيديهم، وبينهم وبين أولاد ابن رجب نزاع في القصر فقط.
محمد بن رجب: ابن محمد بن كلفت الأمير الوزير ناصر الدين، نشأ بالقاهرة على طريقة مشكورة، فلما استقرّ ناصر الدين محمد بن الحسام الصفدي شادّ الدواوين بعد انتقال الأمير جمال الدين محمود بن عليّ من شدّ الدواوين إلى استادارية السلطان في يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، أقام ابن رجب هذا استادارا عند الأمير سودون باق، وكانت أوّل مباشراته، ثم ولي شدّ الدواوين بعد الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آص، في سابع عشرى ذي الحجة، وعوّض في شدّ الدواوين بشد دواليب الخاص، عوضا عن خاله الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام، عند انتقاله إلى الوزارة، فلم يزل إلى أن توجّه الملك الظاهر برقوق إلى الشام، وأقام الأمير محمود الاستادار، فقدم عليه ابن رجب بكتاب السلطان وهو مختوم، فإذا فيه أن يقبض على ابن رجب ويلزمه بحمل مبلغ مائة
وستين ألف درهم نقرة، فقبض عليه في رابع شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وأخذ منه مبلغ سبعين ألف درهم نقرة.
فلما كان في يوم الاثنين رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين، صرف السلطان عن الوزارة الصاحب موفق الدين أبا الفرج، واستقرّ بابن رجب في منصب الوزارة، وخلع عليه، فلم يغير زيّ الأمراء، وباشر الوزارة على قالب ضخم وناموس مهاب، وصار أميرا وزيرا مدبرا لممالك، وسلك سيرة خاله الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام في استخدام كل من باشر الوزارة، فأقام الصاحب سعد الدين بن نصر الله ابن البقريّ ناظر الدولة، والصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام ناظر البيوت، والصاحب علم الدين عبد الوهاب سن إبرة مستوفي الدولة، والصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر رفيقا له في استيفاء الدولة، وأنعم عليه بإمرة عشرين فارسا في سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، فلم يزل على ذلك إلى أن مات من مرض طويل في يوم الجمعة لأربع بقين من صفر، سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وهو وزير من غير نكبة، فكانت جنازته من الجنائز المذكورة، وقد ذكرته في كتاب در العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة.
دار القليجي: هذه الدار من جملة خط قصر بشتاك، كانت أوّلا من بعض دور القصر الكبير الشرقيّ الذي تقدم ذكره عند ذكر قصور الخلفاء، ثم عرفت بدار حمال الكفاة، وهو القاضي جمال الدين إبراهيم المعروف بحمال الكفاة، ابن خالة النشو ناظر الخاص، كان أوّلا من جملة الكتاب النصارى، فأسلم وخدم في بستان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي كان ميدانا للملك الظاهر بيبرس بأرض اللوق، ثم خدم في ديوان الأمير بيدمر البدريّ، فلما عرض السلطان دواوين الأمراء واختار منهم جماعة، كان من جملة من اختاره السلطان حمال الكفاة هذا، فجعله مستوفيا إلى أن كات المهذب كاتب الأمير بكتمر الساقي، فولاه السلطان مكانه في ديوان الأمير بكتمر، فخدمه إلى أن مات، فخدم بديوان الأمير بشتاك إلى أن قبض الملك الناصر على النشو ناظر الخاص «1» ، ولّاه وظيفة نظر الخاص بعد النشو، ثم أضاف إليه وظيفة نظر الجيش بعد المكين بن قزوينة عند غضبه عليه ومصادرته، فباشر الوظيفتين إلى أن مات الملك الناصر، فاستمرّ في أيام الملك المنصور أبي بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، فلما ولي الملك الصالح إسماعيل جعله مشير الدولة مع ما بيده من نظر الخاص والجيش، وكان الوزير إذ ذاك الأمير نجم الدين محمود وزير بغداد، وكتب له توقيع باستقراره في وظيفة الإشارة، فعظم أمره وكثر حساده إلى أن
قبض عليه وضرب بالمقارع، وخنق ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ودفن بجوار زاوية ابن عبود من القرافة، وكانت مدّة نظره في الخاص خمس سنين وشهرين تنقص أياما، وكان مليح الوجه حسن العبارة كثير التصرّف ذكيا، يعرف باللسان التركيّ ويتكلم به، ويعرف باللسان النوبيّ والتكروري.
ولم تزل هذه الدار بغير تكملة إلى أن ترأس القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القليجيّ الحنفي، كان أولا يكتب على مبيضة الغزل، وهي يومئذ مضمنة لديوان السلطان، ثم اتصل بقاضي القضاة سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي وخدمه فرفع من شأنه واستنابه في الحكم، فعيب ذلك على الهندي، وقال فيه شمس الدين محمد بن محمد الصائغ الحنفي:
ولمّا رأينا كاتب المكس قاضيا
…
علمنا بأنّ الدهر عاد إلى ورا
فقلت لصحبي ليس هذا تعجبا
…
وهل يجلب الهنديّ شيئا سوى الخرا
وولي افتاء دار العلم، وناب عن القضاة في الحكم بعد مباشرة توقيع الحكم عدّة سنين، فعظم ذكره، وبعد صيته، وصار يتوسط بين القضاة والأمراء في حوائجهم، ويخدم أهل الدولة فيما يعنّ لهم من الأمور الشرعية، فصار كثير من أمور القضاة لا يقوم به غيره، حتى لقد كان شيخنا الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون يسميه دريد بن الصمة، يعني أنه صاحب رأي القضاة، كما أن دريد ابن الصمة كان صاحب رأي هوازن يوم حنين سرّه بذلك، فلما فخم أمره أخذ هذه الدار، وقد تم بناء جدرانها، فرخّمها وبيضها، فجاءت في أعظم قالب وأحسن هندام وأبهج زيّ، وسكنها إلى أن مات يوم الثلاثاء لعشرين من شهر رجب سنة سبع وتسعين وسبعمائة، بعدما وقفها، فاستمرّت في يد أولاده مدّة إلى أن أخذها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، كما أخذ غيرها من الدور.
دار بهادر المعزي: هذه الدار بدرب راشد المجاور لخزانة البنود من القاهرة، عمرها الأمير سيف الدين بهادر المعزي، كان أصله من أولاد مدينة حلب، من أبناء التركمان، واشتراه الملك المنصور لاجين قبل أن يلي سلطنة مصر، وهو في نيابة السلطنة بدمشق، فترقى حتى صار أحد أمراء الألوف إلى أن مات في يوم الجمعة تاسع شعبان سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، عن ابنتين إحداهما تحت الأمير أسدمر المعزي، والأخرى تحت مملوكه اقتمر، وترك مالا كثيرا منه، ثلاث عشر ألف دينار، وستمائة ألف درهم نقرة، وأربعمائة فرس، وثلثمائة جمل، ومبلغ خمسين ألف اردب غلة، وثمان حوايص ذهب، وثلاث كلوتات زركش، واثني عشر طراز زركش، وعقارا كثيرا، فأخذ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون جميع ما خلفه، وكان جميل الصورة، معروفا بالفروسية، ورمى في القبق النشاب بيمينه ويساره، ولعب الرمح لعبا جيدا، وكان لين الجانب حلو الكلام جميل
العشرة، إلّا أنه كان مقتّرا على نفسه في مأكله وسائر أحواله لكثرة شحه، بحيث أنه اعتقل مرّة فجمع من راتبه الذي كان يجرى عليه وهو في السجن مبلغ اثني عشر ألف درهم نقرة، أخرجها معه من الاعتقال.
دار طينال: هذه الدار بخط الخرّاطين في داخل الدرب الذي كان يعرف بخربة صالح، كان موضعها وما حولها في الدولة الفاطمية مارستانا، وأنشأ هذه الدار الأمير طينال، أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون، أقامه ساقيا، ثم عمله حاجبا صغيرا، ثم أعطاه أمرة دكتمر، وجعله أمير مائة مقدّم ألف، فباشر ذلك مدّة ثم أخرجه لنيابة طرابلس. فأقام بها زمانا، ثم نقله إلى نيابة صفد فمات بها في ثالث شهر ربيع سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وكان تتريّ الجنس قصيرا إلى الغاية، مليح الوجه، مشكورا في أحكامه، محبا لجمع المال، شحيحا، وهذه الدار تشتمل على قائمتين متجاورتين، وهي من الدور الجليلة، ولطينال أيضا قيسارية بسويقة أمير الجيوش.
دار الهرماس: هذه الدار كانت بجوار الجامع الحاكمي من قبلية شارعة في رحبة الجامع، على يسرة من يمرّ إلى باب النصر، عمرها الشيخ قطب الدين محمد بن المقدسي المعروف بالهرماس، وسكنها مدّة، وكان أثيرا عند السلطان الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاوون، له فيه اعتقاد كبير، فعظم عند الناس قدره، واشتهر فيما بينهم ذكره إلى أن دبت بينه وبين الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش عقارب الحسد، فسعى به عند السلطان إلى أن تغير عليه وأبعده، ثم ركب في يوم سنة إحدى وستين وسبعمائة من قلعة الجبل بعساكره إلى باب زويلة، فعند ما وصل إليه ترجل الأمراء كلهم عن خيولهم ودخلوا مشاة من باب زويلة كما هي العادة، وصار السلطان راكبا بمفرده، وابن النقاش أيضا راكب بجانبه، وسائر الأمراء والمماليك مشاة في ركابه على ترتيبهم إلى أن وصل السلطان إلى المارستان المنصوري بين القصرين، فنزل إليه ودخل القبة وزار قبر أبيه وجدّه وإخوته، وجلس، وقد حضر هناك مشايخ العلم والقضاة، فتذاكروا بين يديه مسائل علمية، ثم قام إلى النظر في أمور المرضى بالمارستان، فدار عليهم حتى انتهى غرضه من ذلك، وخرج فركب وسار نحو باب النصر والناس مشاة في ركابه إلّا ابن النقاش فإنه راكب بجانبه إلى أن وصل إلى رحبة الجامع الحاكمي، فوقف تجاه دار الهرماس وأمر بهدمها، فهدمت وهو واقف، وقبض على الهرماس وابنه وضرب بالمقارع عدّة شيوب، ونفي من القاهرة إلى مصياف «1» . فقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي في ذلك:
قد ذاق هرماس الخسارة
…
من بعد عز وجساره
حسب البهتان يبقى
…
أخرب الله دياره
فلما قتل السلطان في سنة اثنين وستين، عاد الهرماس إلى القاهرة وأعاد بعض داره، فلما كانت سنة ثمانين وسبعمائة صارت هذه الدار إلى الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، فأنشأها قاعة وعدّة حوانيت وربعا علوّ ذلك، وانتقل من بعده إلى أولاده، وهو بأيديهم إلى اليوم.
دار أوحد الدين: هذه الدار بداخل درب السلامي في رحبة باب العيد، مقابل قصر الشوك وإلى جانب المارستان العتيق الصلاحيّ، كان موضعها من حقوق القصر الكبير، وصار أخيرا طاحونا، فهدمها القاضي أوحد الدين عبد الواحد أيام كان يباشر توقيع الأمير الكبير برقوق، بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فلما حفر أساس هذه الدار ووجد فيه هيئة قبة معقودة من لبن، وفي داخلها إنسان ميت قد بليت أكفانه وصار عظما نخرا، وهو في غاية طول القامة، يكون قدر خمسة أذرع، وعظام ساقيه خلاف ما عهد من الكبر، ودماغه عظيم جدا، فلما كملت هذه الدار سكنها أيام مباشرته وظيفة كتابة السر إلى أن مات بها، وقد حبسها على أولاده، فاستمرت بأيديهم إلى أن أخذها منهم الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، كما أخذ غيرها من الأوقاف، فاستمرّت في جملة ما بيده إلى أن قتله الملك الناصر فرج، فقبضها فيما قبض مما خلف جمال الدين، فلما قتل الملك الناصر فرج واستقل الملك المؤيد شيخ بمملكة مصر استرجع أولاد جمال الدين ما كان أخذه الناصر من أملاك جمال الدين، وصارت بأيديهم إلى أن وقف له أولاد أوحد الدين في طلب دار أبيهم، فعقد لذلك مجلس اجتمع فيه القضاة، فتبين أن الحق بيد أولاد أوحد الدين، فقضي بإعادة الدار إلى ما وقفها عليه أوحد الدين، فتسلمها أولاد أوحد الدين من ورثة جمال الدين، وهي الآن بأيديهم.
عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفيّ: أوحد الدين كاتب السر، ولد بالقاهرة ونشأ بها في كنف قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ لصهارة كانت بين أبيه وبين التركمانية، وباشر توقيع الحكم مدة، واتفق أن أميرا من أمراء الملك الأشرف شعبان بن حسين يعرف بيونس الرماح مات، فادّعى برقوق العثمانيّ أحد الممالك اليلبغاوية أنه ابن عم يونس هذا، وأنه يستحق إرثه لموته عن غير ولد، حضر إلى المدرسة الصالحية بين القصرين حيث يجلس القضاة للحكم بين الناس حتى يثبت ما ادّعاه، فلما أراد الله من اسعاد جدّ أوحد الدين لم يقف برقوق على أحد من موقعي الحكم إلا عليه، وأخبره بما يريد، فبادر إلى توريق سؤال باسم برقوق، وانهائه أنه ابن عمّ يونس الرماح، وأن عنده بينة تشهد بذلك، ودخل بهذا السؤال إلى قاضي القضاة، وأنهى العمل حتى ثبت أن برقوق ابن عم يونس يستحق ارثه، فلما فرغ من ذلك دفع برقوق إلى أوحد الدين مبلغ دراهم اجرة
توريقه كما هي عادة أهل مصر في هذا، فامتنع من أخذها، وألحف برقوق في سؤاله، وهو يمتنع، فتقلد له برقوق المنة بذلك واعتقد أمانته وخيره، وصار لكثرة ركونه إليه إذا قدم فلاحوا إقطاعه يبعثهم إليه حتى يحاسبهم عما حملوه من الخراج، فلما قتل الملك الأشرف وثارت المماليك، وكان من أمرهم ما كان إلى أن تغلّب برقوق وصار من جملة الأمراء واستولى على الاصطبل السلطانيّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وصار أميرا خور، أقام أوحد الدين موقعا عنده، وما زال أمر برقوق يزداد قوّة حتى انيطت به أمور المملكة كلها، فصار أوحد الدين صاحب الحل والعقد، وكاتب السرّ بدر الدين محمد بن عليّ بن فضل الله اسما لا معنى له، إلى أن جلس الأمير برقوق على تخت المملكة في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فقرّر القاضي أوحد الدين في وظيفة كتابة السرّ عوضا عن ابن فضل الله، وخلع عليه في يوم السبت ثاني عشر شوال من السنة المذكورة، فباشر كتابة السرّ على القالب الجائز، وضبط الأمور أحسن ضبط، وعكف سائر الناس على بابه لتمكنه من سلطانه، وكان الأمير يونس الدوادار يرى أنه أكثر الناس من الأمراء تمكينا من السلطان، وجرت العادة بانتماء كاتب السرّ إلى الدوادار، فأحب أوحد الدين الاستبداد على الأمير يونس الدوادار، فقال السلطان سرّا في غيبة يونس: أن السلطان يرسم بكتابة مهمات الدولة وأسرار المملكة إلى البلاد الشامية وغيرها، والأمير الدوادار يريد من المملوك أن يطلع على ذلك، فلم يقدر المملوك على مخالفته، ولا أمكنه إعلامه إلّا بإذن، فأنفق السلطان من ذلك وقال: الحذر أن يطلع على شيء من مهمات السلطان أو أسراره. فقال:
أخاف منه إن سأل ولم أعلمه. فقال السلطان: ما عليك منه.
فرأى أنه قد تمكن حينئذ، فأمسك أياما. ثم أراد الازدياد من الاستبداد فقال للسلطان سرّا: قد رسم السلطان أن لا يطّلع أحد على سرّ السلطان، ولا يعرف بما يكتب من المهمات، وطائفة البريدية كلهم يمشون في خدمة الدوادار، فإذا اقتضت آراء السلطان تسفير أحد منهم في مهم يحتاج المملوك إلى استدعائه من خدمة الأمير الدوادار، فإذا التمس مني أني أخبره بالمعنى الذي توجه فيه البريدي لا أقدر على إعلامه بذلك، ولا آمن إن كتمته، وانصرف. فلما كان من الغد وطلع الأمراء إلى الخدمة على العادة، قال السلطان للأمير يونس الدوادار: أرسل البريدية كلهم إلى كاتب السرّ ليمشوا ويركبوا معه، فلم يجد بدّا من إرسالهم، وحصل عنده من إرسالهم المقيم المقعد، فصار البريدية يركبون نوبا في خدمة أوحد الدين، ويتصرف في أمور الدولة وحده مع سلطانه، فانفرد بالكلمة، وخضع له الخاص والعام إلّا أنه نغّص عليه في نفسه ومرض مرضا طويلا سقطت معه شهوة الطعام، بحيث أنه لم يكن يشتهي شيئا من الغداء، وتنوّع له المأكل من بين يديه لكي تميل نفسه إلى شيء منها، ومتى تناول غذاء تقيأه في الحال، وما زال على ذلك إلى أن مات عن سبع وثلاثين سنة، في يوم السبت ثاني ذي الحجة سنة ست وثمانين وسبعمائة، ودفن خارج باب
النصر، فلم يتأخر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته، وكان حسن السياسة، رضيّ الخلق، عاقلا، كثير السكون، جيد السيرة، جميل الصورة، حسن الهيئة، عارفا بأمر دنياه، محبا للمداراة، صاحب باطن، قليل العلم رحمه الله.
ربع الزيتي: هذا الربع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج الناصري، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف، فإنه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين ففي شرقية غيط الزيتي، وقد خرب، وموضعه اليوم بركة ماء، وفي غريبه غيط الحاجب بيبرس، وأدركته عامرا وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسبيل، وعليه سياج من طين دائر به، ومن قبلي، هذا الربع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطبالة، ومن بحر به بساتين تتصل بالبعل وكوم الريش، وما زال هذا الربع معمورا باللذات آهلا بكثرة المسرّات إلى أن كانت سنة الغرقة، وهي سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخربت دور كوم الريش وغيرها، ووصل ماء النيل إلى قنطرة الحاجب، فخرب ربع الزيتي وأهمل أمره حتى صار كوما عظيما تجاه قنطرة الحاجب، وغيط الحاجب، وسمعت من أدركته يخبر عن هذا الربع بعجائب من الملاذ التي كانت فيه، وكانت العامة تقول في هزلها: ستي أين كنتي وأين رحتي وأين جيتي قالت مع ربع الزيتي:
ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنّهم أحلام
الدار التي في أوّل البرقية من القاهرة التي حيطانها حجارة بيض منحوتة: هذه الدار بقي منها جدار على يمين من سلك من المشهد الحسينيّ يريد باب البرقية، وبقي منها أيضا جدار على يمين من سلك من رحبة الأيدي مريّ إلى باب البرقية، وهي دار الأمير صبيح بن شاهنشاه أحد أمراء الدولة الفاطمية في أيام الصالح طلائع بن رزيك، وكانت في غاية الكبر والتحسين. قال بعض أصحاب الصالح: يا مولانا أبقاك الله حتى تتم دار ابن شاهنشاه، وكان الضرغام قبل أن يلي وزارة مصر قد فرّس العادل أبا شجاع رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، فظهر منه فارسا في غاية الفروسية، بحيث أنه قد حضر في يوم عيد الحلقة وأخذ رمحا وحربة وقوسا وسهما، فأخذ الحلقة بالرمح، ورمى بالسهم فأصاب الغرض، وحذف بالحربة فأثبتها في المرمى، ولعب بالرمح في غاية الحسن.
ثم دخل صبيح ابن شاهنشاه فعمل مثل ذلك، فتحرّك الضرغام وكان يلبس عمامة بعذبة وإكمال واسعة على زيّ المصرييين يومئذ، فتلثم بعذبته ولف أكمامه وأخذ رمحه ولعب به في غاية الحسن، وطرد كذلك ودخل في الحلقة وأخذها، فعجب منه كل من في العسكر، فأخذ عند ذلك الأمير صبيح ابن شاهنشاه المبخرة وأتى إليه وقال: يا مولاي كفاك الله أمر العين، فإن هذا شيء ما يقدر عليه أحد، وجعل يدور حول فرسه ويبخره والضرغام
يتبسم ويعجبه ذلك، وبعد هذا كان قتل ابن شاهنشاه على يده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ولم تكمل هذه الدار.
دار التمر: هذه الدار بمدينة مصر من خارجها، فيما انحسر عنه ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة، وتعرف اليوم بصناعة التمر، تجاه الصاغة بخط سوق المعاريج، ومن جملتها بيت برهان الدين إبراهيم الحليّ ومدرسته، وهذه الدار وقفها القاضي عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ على فكاك الأسرى من المسلمين ببلاد الفرنج.
قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم: ومن جملة بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم، يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمرّ إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يا رحمن يا رحيم ارحم القاضي الفاضل عبد الرحيم.
وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ربع عظيم يؤجره بمبلغ كبير، فلما عزم على الحج ركب ومرّ به ووقف عليه وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إليّ منه، أو قال أعز عليّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج.
وقال ابن المتوّج: ومن جملة الأوقاف الوقف الفاضلي، وهو الدار المشهورة بصناعة التمر الوقف على فكاك الأسرى من يد العدوّ، المشتملة على مخازن وأخصاص وشون ومنازل علوية وحوانيت بمجازها وظاهرها، وهي اثنا عشر حانوتا، وخمسة مقاعد، وثمانية وخمسون مخزنا، وخمسة عشر خصا، وست قاعات وساحة، وست شون، وخمسة وسبعون منزلا، وخمسة مقاعد علوية، الأجرة عن ذلك جميعه إلى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وستمائة في كل شهر ألف ومائة وست وثلاثون درهما نقرة، واستجدّ بها القاضي جمال الدين الوجيزي خليفة الحكم بمصر حين كان ينظر في الأوقاف دارا من ريع الوقف، فأكلها البحر، فأمر ببناء زربية أمامها من مال الوقف.
عمارة أمّ السلطان: هذه العمارة من جملة المنحر كانت دارا تعرف بالأمير جمال الدين ايدغدي العزيزيّ ولها باب من الدرب الأصفر الذي هو الآن تجاه خانقاه «1» بيبرس، وباب من المحايريين تجاه الجامع الأقمر. عرفت هذه الدار بالأمير مظفر الدين موسى