الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها طعام والشراب كلاهما
…
والبقل والريحان وقت حضور
هي روضة إن شئتها ورياضة
…
يغنى بها عن روضة وخمور
ما في المدامة كلّها منها سوى
…
إثم المدام وصحبة المخمور
كلا ونكهة خمرة هي شاهد
…
عدل على حدّ وجلد ظهور
أسفا لدهر غالها ولربما
…
ظلّ الكريم بذلة الماسور
جمعت له الأشهاد كرما أخضرا
…
كعروسة تجلى بخضر حرير
زفوا لها نارا فخلنا جنة
…
برزت لنا قد زوّجت بالنور
ثم اكتست منها غلالة صفرة
…
في خضرة مقرونة بزفير
فكأنها لهب اللظى في خضرة
…
منها وطرف رمادها المنثور
جارى النضار على مذاب زمرّد
…
تركا فتيت المسك في الكافوري
لله درك حية أو ميتة
…
من منظر بهج بغير نظير
أوذيت غير ذميمة فسقى الحيا
…
تربا تضمّن منك ذوب عبير
عندي لذكرك ما بقيت مخلدا
…
سح الدموع ونفثة المصدور
ذكر كافور الإخشيدي
«1»
كان عبدا أسود خصيا، مثقوب الشفة السفلى، بطينا قبيح القدمين، ثقيل البدن، جلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها، في سنة عشر وثلثمائة، فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها، فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم، أحد المتقبلين للضياع، فباعه لابن عباس الكاتب، فمرّ يوما بمصر على منجّم فنظر له في نجومه وقال له: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ معه مبلغا عظيما، فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما، فرمى بهما إليه وقال: أبشّرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال له: وأزيدك، أنت تملك هذه البلد وأكثر منه، فاذكرني.
واتفق أنّ ابن عباس الكاتب أرسله بهدية يوما إلى الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، وهو يومئذ أحد قوّاد تكين أمير مصر، فأخذ كافورا وردّ الهدية، فترقّى عنده في الخدم حتى صار من أخص خدمه.
ولما مات الإخشيد بدمشق، ضبط كافور الأمور ودارى الناس ووعدهم إلى أن سكنت الدهماء، بعد أن اضطرب الناس، وجهز أستاذه وحمله إلى بيت المقدس، وسار إلى مصر
فدخلها. وقد انعقد الأمر بعد الإخشيد لابنه أبي القاسم أونوجور «1» ، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من دمشق بأنّ سيف الدولة عليّ بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة، فخرج كافور بالعساكر وضرب الدباديب، وهي الطبول، على باب مضربه في وقت كل صلاة، وسار فظفر وغنم ثم قدم إلى مصر وقد عظم أمره، فقام بخلافة أو نوجور، فخاطبه القوّاد بالأستاذ، وصار القوّاد يجتمعون عنده في داره فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم، حتى أنه وقع لجانك أحد القوّاد الإخشيدية في يوم بأربعة عشر ألف دينار، فما زال عبدا له حتى مات، وانبسطت يده في الدولة، فعزل وولى وأعطى وحرم، ودعي له على المنابر كلها إلّا منبر مصر والرملة وطبرية، ثم دعي له بها في سنة أربعين وثلثمائة، وصار يجلس للمظالم في كل سبت، ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد، فوقع بينه وبين الأمير أونوجور، وتحرّر كل منهما من الآخر، وقويت الوحشة بينهما، وافترق الجند، فصار مع كل واحد طائفة، واتفق موت أونوجور في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، ويقال أنه سمّه. فأقام أخاه أبا الحسن عليّ بن الإخشيد من بعده، واستبدّ بالأمر دونه، وأطلق له في كل سنة أربعمائة ألف دينار، واستقل بسائر أحوال مصر والشام، ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ، فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد، فاعتل بعلة أخيه ومات، وقد طالت به في محرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة.
فبقيت مصر بغير أمير أياما لا يدعى فيها سوى للخليفة المطيع فقط، وكافور يدبر أمر مصر والشام في الخراج والرجال، فلما كان لأربع بقين من المحرّم المذكور، أخرج كافور كتابا من الخليفة المطيع بتقليده بعد عليّ بن الإخشيد، فلم يغير لقبه بالأستاذ، ودعى له على المنبر بعد الخليفة، وكانت له في أيامه قصص عظام، وقدم عسكر من المعز لدين الله أبي تميم معدّ من المغرب إلى الواحات، فجهّز إليه جيشا أخرجوا العسكر وقتلوا منهم، وصارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة، وعدّتها مائة طبلة من نحاس. وقدمت عليه دعاة المعز لدين الله من بلاد المغرب يدعونه إلى طاعته، فلاطفهم، وكان أكثر الإخشيدية والكافورية وسائر الأولياء والكتّاب قد أخذت عليهم البيعة للمعز، وقصر مدّ النيل في أيامه. فلم يبلغ تلك السنة سوى اثني عشر ذراعا وأصابع، فاشتدّ الغلاء وفحش الموت في الناس، حتى عجزوا عن تكفينهم ومواراتهم، وأرجف بمسير القرامطة إلى الشام، وبدت غلمانه تتنكر له، وكانوا ألفا وسبعين غلاما تركيا سوى الروم والمولدين، فمات لعشر بقين من جمادى الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، عن ستين سنة، فوجد له من العين سبعمائة ألف دينار، ومن الورق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قوّم بستمائة ألف ألف دينار،
وكانت مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما، منها منفردا بالولاية بعد أولاد أستاذه سنتان وأربعة أشهر وتسعة أيام، ومات عن غير وصية ولا صدقة ولا مأثرة يذكر بها، ودعي له على المنابر بالكنية التي كناه بها الخليفة، وهي أبو المسك، أربع عشرة جمعة، وبعده اختلت مصر وكادت تدمر حتى قدمت جيوش المعز على يد القائد جوهر، فصارت مصر دار خلافة، ووجد على قبره مكتوب:
ما بال قبرك يا كافور منفردا
…
بصائح الموت بعد العسكر اللجب
يدوس قبرك من أدنى الرجال وقد
…
كانت أسود الشرى تخشاك في الكثب
ووجد أيضا مكتوب:
انظر إلى غير الأيام ما صنعت
…
أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت
دنياهم أضحكت أيام دولتهم
…
حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت
خط الخرشتف: هذا الخط فيما بين حارة برجوان والكافوري، ويتوصل إليه من بين القصرين، فيدخل له من قبو يعرف بقبو الخرشتف، وهو الذي كان يعرف قديما بباب التبانين، ويسلك من الخرشتف إلى خط باب سرّ المارستان، وإلى حارة زويلة، وكان موضع الخرشتف في أيام الخلفاء الفاطميين ميدانا بجوار القصر الغربيّ والبستان الكافوريّ، فلما زالت الدولة اختطّ وصار فيه عدّة مساكن، وبه أيضا سوق، وإنما سمّي بالخرشتف لأنّ المعز أوّل من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف، وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الأزبال وغيرها. قال ابن عبد الظاهر: الحارة المعروفة بالخرشتف كانت قديما ميدانا للخلفاء، فلما ورد المعز بنوا به اصطبلات وكذلك القصر الغربيّ، وقد كان النساء اللاتي أخرجن من القصر يسكنّ بالقصر النافعي، فامتدّت الأيدي إلى طوبه وأخشابه، وبيعت وتلاشى حاله وبني به وبالميدان اصطبلات ودويرات بالخرشتف، فسمي بذلك، ثم بنى به الأدر والطواحين وغيرها، وذلك بعد الستمائة، وأكثر أراضي الميدان حكر للأدر القطبية.
خط اصطبل القطبية «1» : هذا الخط أيضا من جملة أراضي الميدان، ولما انتقلت القاعة التي كانت سكن أخت الحاكم بأمر الله بعد زوال الدولة الفاطمية، صارت إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، فاستقرّ بها هو وذريته، فصار يقال لها الدار القطبية، واتخذ هذا المكان اصطبلا لهذه القاعة، فعرف باصطبل القطبية، ثم لما أخذ الملك المنصور قلاوون القاعة القطبية من مونسة خاتون، المعروفة بدار إقبال ابنة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، أخت المفضل قطب الدين أحمد المعروفة
بخاتون القطبية، وعملها المارستان المنصوري، بنى في هذا الإصطبل المساكن، وصارت من جملة الخطط المشهورة، ويتوصل إليه من وسط سوق الخرشتف، ويسلك فيه من آخره إلى المدرسة الناصرية والمدرسة الظاهرية المستجدّة، وعمل على أوّله دربا يغلق وهو خط عامر.
خط باب سر المارستان: هذا الخط يسلك إليه من الخرشتف، ويصير السالك فيه إلى البندقانيين، وبعض هذا الخط وهو جله ومعظمه من جملة اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الدولة الفاطمية، وقد تقدّم ذكره. وموضع باب سر المارستان المنصوري هو باب الساباط، فلما زالت الدولة واختط الكافوري والخرشتف واصطبل القطبية، صار هذا الخط واقعا بين هذه الأخطاط، ونسب إلى باب سر المارستان لأنه من هنالك، وأدركت بعض هذه الخطة وهي خراب، ثم أنشأ فيه القاضي جمال الدين محمود القيصري محتسب القاهرة في أيام ولايته. نظر المارستان، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، الطاحون العظيمة ذات الأحجار، والفرن والربع، علوه في المكان الخراب، وجعل ذلك جاريا في جملة أوقاف المارستان المنصوري.
خط بين القصرين: هذا الخط أعمر أخطاط القاهرة وأنزهها، وقد كان في الدولة الفاطمية فضاء كبيرا وبراحا واسعا، يقف فيه عشرة آلاف من العسكر ما بين فارس وراجل، ويكون به طرادهم ووقوفهم للخدمة، كما هو الحال اليوم في الرميلة تحت قلعة الجبل، فلما انقضت أيام الدولة الفاطمية وخلت القصور من أهاليها، ونزل بها أمراء الدولة الأيوبية وغيروا معالمها، صار هذا الموضع سوقا مبتذلا بعد ما كان ملاذا مبجلا، وقعد فيه الباعة بأصناف المأكولات، من اللحمان المتنوّعة والحلاوات المصنعة والفاكهة وغيرها، فصار منتزها تمر فيه أعيان الناس وأماثلهم في الليل مشاة، لرؤية ما هناك من السرج والقناديل الخارجة عن الحدّ في الكثرة، ولرؤية ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مما فيه لذة للحواس الخمس، وكانت تعقد فيه عدّة حلق لقراءة السير والأخبار وإنشاد الأشعار، والتفنن في أنواع اللعب واللهو، فيصير مجمعا لا يقدّر قدره، ولا يمكن حكاية وصفه، وسأتلو عليك من أنباء ذلك ما لا تجده مجموعا في كتاب.
قال المسبّحي في حوادث جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وفيه منع كل أحد ممن يركب مع المكاريين أن يدخل من باب القاهرة راكبا، ولا المكاريين أيضا بحميرهم، ولا يجلس أحد على باب الزهومة «1» من التجار وغيرهم، ولا يمشي أحد
ملاصق القصر من باب الزهومة إلى أقصى باب الزمرّد «1» ، ثم عفى عن المكاريين بعد ذلك وكتب لهم أمان قرىء.
وقال ابن الطوبر: ويبيت خارج باب القصر كل ليلة خمسون فارسا، فإذا أذّن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، وصلّى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم، وقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة ابن الكركندي، فإذا علم بفراغ الصلاة أمر بضرب النوبات، من الطبل والبوق وتوابعهما من عدّة وافرة بطريق مستحسنة ساعة زمانية، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة، فيقول: أمير المؤمنين يردّ علي سنان الدولة السلام، فيصقع ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب وسار إلى حوالي القصر سبع دورات، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم، وأفضى المؤذنون إلى خزانتهم هناك، ورميت السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قريب الفجر، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. انتهى.
وأخبرني المشيخة أنه ما زال الرسم إلى قريب، أنه لا يمرّ بشارع بين القصرين حمل تبن ولا حمل حطب، ولا يستطيع أحد أن يسوق فرسا فيه، فإن ساق أحد أنكر عليه وخرق به.
وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: والمكان الذي كان يعرف في القاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية.
وقال ياقوت: وبين القصرين كان ببغداد بباب الطاق، يراد به قصر أسماء بنت المنصور، وقصر عبد الله بن المهدي، وكان يقال لهما أيضا بين القصرين. وبين القصرين بمصر والقاهرة، وهما قصران متقابلان بينهما طريق العامّة والسوق، عمرهما ملوك مصر المغاربة المتعلونة، الذين ادّعوا أنهم علويّة.
وحدّثني الفاضل الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب، ناظر الخواص الشريفة، ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر، أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء الآخرة، برسم الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن خصيب، من الدجاج المطجن والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم، وخمسين درهما فضة، يكون عنها يومئذ نحو من اثني عشر مثقالا من الذهب، وأنّ هذا كان دأبه في كل ليلة، ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار يؤثر نقصه، فيما كان هنالك من هذا الصنف، لعظم ما كان
يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره، ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفا، من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية، وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدّة، فيباع لحم الدجاج المطجن، ولحم الأوز المطجن، كلّ رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع، وتباع العصافير المقوّة كل عصفور بفلس، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم، والمشيخة تقول إنّا حينئذ في غلاء، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير، ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان، وهو أنّه: كان لنا من جيراننا بحارة برجوان، شخص يعاني الجندية، ويركب الخيل، فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان، وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف، ومعه رقيق له من غلمان الخيل، وأنهما سرقا من شارع بين القصرين، وما قرب منه، بضعا وعشرين بطيخة خضراء، وبضعا وثلاثين شقفة جبن، والشقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل، فما منّا إلّا من تعجب من ذلك، وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا، وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابتين، إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين، وسألته عن ذلك فاعترف لي به، قلت: صف لي كيف عملتما، فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان، أو مقعد البطيخيّ، وكان إذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا، في كل مرصّ ما شاء الله من البطيخ، قال: فإذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى، فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم، فلا يفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه، والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين، وما في ذلك الشارع من غزير الناس، فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا، فإذا أحسّ بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم مع الجبانين، وكانوا كثيرا، فانظر- أعزك الله- إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق.
ولقد حدّثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ، أنّه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، كادوا يذهلون عند مشاهدة بين القصرين.
وقال لي ابنه محب الدين محمد: أوّل ما شاهدّت بين القصرين، حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك، فلما لم ينقطع المارة، سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا؟
فقيل لي: هذا دأب البلد دائما، ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان، من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام، واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة، حتى أفادني بعض من أدركت أنّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله، فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام، فاعتبرت ذلك آلاف مرّات في عدّة سنين، فما أخطأ معي، ولقد كنت أكثر من تأمّل المارة بين القصرين، فإذا هم صفان،