الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد، فتحدّث بكتمر مع السلطان في ذلك فأمر بإخراج الأمراء منه، وردم وعمّر فوقه أطباق المماليك، وكان الذي ردم به هذا الجب، النقض الذي هدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى، والله أعلم بالصواب.
ذكر المواضع المعروفة بالصناعة
لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعا، فهو مصنوع، وصنيع عمله واصطنعه اتخذه. والصناعة ما يستصنع من أمر، هذا أصل الكلمة من حيث اللغة، وأمّا في العرف فالصناعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن، واحدتها سفينة، وهي بمصر على قسمين: نيلية وحربية.
فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة، فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج، وكانت هذه المراكب الحربية يقال لها الأسطول، ولا أحسب هذا اللفظ عربيا.
وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل، صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض، لحمل الغلال وغيرها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو، العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرا يعز الله به الإسلام على يديه، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلي رضي الله عنه، وعلى الثاني سوار بن همام رضي الله عنه، وعلى الثالث خليد بن المنذر بن ساوي رضي الله عنه، وجعل خليدا على عامة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيا، كراهة للتغرير بجنده، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر رضي الله عنه، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فقال: أما بعد، فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرا جرت المقادير على مطيته، وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّا على الخاشعين. فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر، ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع يدعى طاوس، فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها، وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلا، فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق، فعسكروا وامتنعوا، وبلغ ذلك
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاشتدّ غضبه على العلاء رضي الله عنه، وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه، بتأمير سعد بن أبي وقاص عليه وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص بمن معك، فخرج رضي الله عنه من البحرين بمن معه نحو سعد رضي الله عنه، وهو يومئذ على الكوفة، وكان بينهما تباين وتباعد، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن غزوان بأنّ العلاء بن الحضرميّ حمل جندا من المسلمين في البحر فأقطعهم إلى فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله عز وجل بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا، فاندب لهم الناس وضمهم إليك من قبل أن يجتاحوا، فندب عتبة رضي الله عنه الناس وأخبرهم بكتاب عمر رضي الله عنه، فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجراة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية رضي الله تعالى عنهم. فساروا من البصرة في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم رضي الله عنهم، فساحل بهم حتى التقى أبو سبرة وخليد حيث أخذت عليهم الطرق، وقد استصرخ أهل اصطخر أهل فارس كلهم فأتوهم من كل وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين وقتل المشركون، وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة، ورجع أهل البحرين إلى منازلهم.
فلما فتح الله تعالى الشأم ألح معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ على جند دمشق والأردن، على عمر رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص. وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر رضي الله عنه اتهم معاوية لأنه المشير، وأحب عمر رضي الله عنه أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر، أن صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السماء والماء، إن ركد حزّن القلوب، وإن زلّ أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق.
فلما جاءه كتاب عمرو، كتب رضي الله عنه إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشأم يشرف على أطول شيء في الأرض، يستأذن الله تعالى في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب، وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم، فإياك أن تعرض لي وقد تقدّمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء مني ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يسألني الله عز وجل عن ركوب المسلمين البحر أبدا.
وروي عنه ابنه عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى لعلوت راكب البحر بالدرة.
ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، غزا المسلمون في البحر، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان، وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي الله عنه حتى عزم على ذلك، فأخره وقال: تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة، فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، حتى إذا أراد الله عز وجل أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده، ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا.
وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئا وحاربه، فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده، وأغزى معاوية أيضا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه في البحر، وأمره أن يتوجه إلى رودس، فسار إليها.
ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي الله عنه على مصر، فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر، فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين، وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية.
ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات، ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك، فاستشهد جماعة من المسلمين، وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها، وما كان في زمن الإنشاء، فانظره تجده إن شاء الله تعالى. وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي، تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال:
والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه، والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكرّرت ممارستهم البحر وثقافته، استحدثوا بصرا بها، فتاقت أنفسهم إلى
الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس.
وأوّل ما أنشئ الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم، عند ما نزل الروم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق، فملكوها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، ومضوا إلى تنيس فأقاموا باشتومها. فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهمّ ما يعمل بمصر، وأنشئت الشواني برسم الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البرّ، وانتدب الأمراء له الرماة، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب، هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه، لا جرم أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة، ولكل أحد من الناس رغبة في أنه يعدّ من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه، وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التواريخ.
فكانت الحرب بين المسلمين والروم سجالا، ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام بلاد العدوّ، فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية، فلذلك احتاج خلفاء الإسلام إلى الفداء، وكان أوّل فداء وقع بمال في الإسلام أيام بني العباس، ولم يقع في أيام بني أمية فداء مشهور، وإنما كان يفادي بالنفر بعد النفر في سواحل الشأم ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية، إلى أن كانت خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد.
الفداء الأوّل: باللامش من سواحل البحر الروميّ قريبا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة، وملك الروم يومئذ تقفور بن اشبراق، وكان ذلك على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين في أعمال حلب، ففودي بكل أسير كان ببلاد الروم من ذكر أو أنثى، وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان، بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوّة، قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ، معهم أسارى المسلمين، فكان عدّة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوما ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير، وأقام ابن الرشيد باللامش أربعين يوما قبل الأيام التي وقع فيها الفداء وبعدها، وقال مروان بن أبي حفصة في هذا الفداء يخاطب الرشيد من أبيات:
وفكّت بك الأسرى التي شيدت بها
…
محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيى المسلمين فكاكها
…
وقالوا سجون المشركين قبورها
الفداء الثاني: كان في خلافة الرشيد أيضا باللامش في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وملك الروم تقفور، وكان القائم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعيّ أمير الثغور الشامية، حضره ألوف من الناس، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وخمسمائة من ذكر وأنثى.
الفداء الثالث: وقع في خلافة الواثق باللامش، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وملك الروم ميخائيل بن نوفيل، وكان القائم به خاقان التركي، وعدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام أربعة آلاف وثلاثمائة واثنان وستون من ذكر وأنثى، وحضر مع خاقان أبو رملة، من قبل قاضي القضاة أحمد بن أبي داود يمتحن الأسرى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه، ومن أبى ترك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأسرى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وخرج من الأسرى مسلم بن أبي مسلم الحرمي، وكان له محل في الثغور، وكتب مصنفه في أخبار الروم وملوكهم وبلادهم، فنالته محن على القول بخلق القرآن ثم تخلص.
الفداء الرابع: في خلافة المتوكل على الله باللامش أيضا، في شوّال سنة إحدى وأربعين ومائتين، والملك ميخائيل، وكان القائم به سيف خادم المتوكل، وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ القاضي، وعليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور الشامية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفي رجل ومائة امرأة، وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف، فعوّضوا مكانهم عدّة أعلاج، إذ كان الفداء لا يقع على نصرانيّ ولا ينعقد.
الفداء الخامس: في خلافة المتوكل، وملك الروم ميخائيل أيضا باللامش، مستهل صفر سنة ست وأربعين ومائتين، وكان القائم به عليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور، ومعه نصر بن الأزهر الشيعيّ من شيعة بني العباس، المرسل إلى الملك في أمر الفداء من قبل المتوكل، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين من ذكر وأنثى.
الفداء السادس: كان في أيام المعتز، والملك على الروم بسيل، على يد شفيع الخادم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
الفداء السابع: في خلافة المعتضد باللامش، في شوّال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وملك الروم اليون بن بسيل، وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وانطاكية، من قبل الأمير أبي الجيش خماوريه بن أحمد بن طولون، وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت
في سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فقتل أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة، وتم الفداء في إمارة ولده جيش بن خمارويه، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام ألفين وأربعمائة وخمسة وتسعين من ذكر وأنثى، وقيل ثلاثة آلاف.
الفداء الثامن: في خلافة المكتفي باللامش، في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وملك الروم اليون أيضا، وكان القائم به رستم بن نزدوي أمير الثغور الشامية، وكانت عدة من فودي به من المسلمين في أربعة أيام ألفا ومائة وخمسة وخمسين من ذكر وأنثى، وعرف بفداء الغدر، وذلك أن الروم غدروا وانصرفوا ببقية الأساري.
الفداء التاسع: في خلافة المكتفي، وملك الروم أليون باللامش أيضا، في شوّال سنة خمس وتسعين ومائتين، والقائم به رستم، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وثمانمائة واثنين وأربعين من ذكر وأنثى.
الفداء العاشر: في خلافة المقتدر باللامش، في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة، وملك الروم قسطنطين بن اليون بن بسيل، وهو صغير في حجر أرمانوس، وكان القائم بهذا الفداء مونس الخادم، وبشير الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية والمتوسط له، والمعاون عليه أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي التميميّ الأدنيّ من أهل أدنة، وعدّة من فودي به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى.
الفداء الحادي عشر: في خلافة المقتدر، وملك أرمانوس وقسنطيطين على الروم، وكان باللامش في شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والقائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري، وبشير خليفة شمل الخادم على الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في تسعة عشر يوما، ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون من ذكر وأنثى.
الفداء الثاني عشر: في خلافة الراضي باللامش، في سلخ ذي القعدة، وأيام من ذي الحجة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة والملكان على الروم قسطنطين وأرمانوس، والقائم به ابن ورقاء الشيبانيّ، من قبل الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وبشير الشمليّ أمير الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في ستة عشر يوما، ستة آلاف وثلاثمائة ونيف من ذكر وأنثى، وبقي في أيدي الروم من المسلمين الأسرى ثمانمائة رجل ردّوا، ففودي بهم في عدّة مرار، وزيدوا في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدّة ستة أشهر لأجل من تخلف في أيدي الروم من المسلمين، حتى جمع الأسارى منهم.
الفداء الثالث عشر: في خلافة المطيع باللامش، في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة والملك على الروم قسطنطين، والقائم به نصر الشملي من قبل سيف
الدولة أبي الحسن عليّ بن حمدان، صاحب جند حمس وجند قنسرين وديار بكر وديار مصر والثغور الشامية والخزرية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضا مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم، فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم، وكان الذي شرع في هذا الفداء الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر والشام والثغور الشامية، وكان أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأدنيّ شيخ الثغور، قدم إليه وهو بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ومعه رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء، والإخشيد شديد العلة، فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة منها، وسار أبو المسك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعا إلى مصر، وحمل معه أبا عمير ورسول ملك الروم إلى فلسطين، فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال الفداء، فسارا إلى مدينة صور وركبا البحر إلى طرسوس، فلما وصلا كاتب نصر الشملي أمير الثغور سيف الدولة بن حمدان، ودعا له على منابر الثغور، فجدّ في إتمام هذا الفداء، فنسب إليه. ووقعت أفدية أخرى ليس لها شهرة.
فمنها: فداء في خلافة المهدي محمد، على يد النقاش الأنطاكي، وفداء في أيام الرشيد في شوّال سنة إحدى وثمانين ومائة، على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر، في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر أيضا، في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين، وفداء في أيام المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين، على يد محمد بن علي، وفداء في أيام المعتمد، على يد شفيع، في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين، وفداء كان في الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، خرج فيه أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ من مصر، ومعه الشريف أبو القاسم الرئيس، والقاضي أبو حفص عمر بن الحسين العباسي، وحمزة بن محمد الكتاني في جمع كبير، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ستين نفسا بين ذكر وأنثى.
فلما سار الروم إلى البلاد الشامية بعد سنة خمسين وثلاثمائة، اشتدّ أمرهم بأخذهم البلاد، وقويت العناية بالأسطول في مصر منذ قدم المعزل لدين الله، وأنشأ المراكب الحربية، واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول، وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر واسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات، وتسييرها إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان، وكانت جريدة قوّاد الأسطول في آخر أمرهم تزيد على خمسة آلاف مدوّنة، منهم عشرة أعيان يقال لهم القوّاد، واحدهم قائد، وتصل جامكية كلّ واحد منهم إلى عشرين دينارا، ثم إلى خمسة عشر دينارا، ثم إلى عشرة دنانير، ثم إلى ثمانية، ثم إلى دنارين، وهي أقلها. ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون، فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار، وكان يعين من القوّاد العشرة
واحد فيصير رئيس الأسطول، ويكون معه المقدم والقاوش، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتضي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه، ولا بدّ أن يقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفسا، ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير، فإذا أراد أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة، وكانت في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة، وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو الثمانين شونة، وعشر مسطحات، وعشر حمالة، فما تقصر عن مائة قطعة، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال، وفيهم من كان يتمعش بمصر والقاهرة، وفيهم من هو خارج عنهما، فيجتمعون. وكانت لهم المشاهرة والجرايات في مدّة أيام سفرهم، وهم معروفون عند عشرين عريفا يقال لهم النقباء، واحدهم نقيب، ولا يكره أحد على السفر، فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدّم، فأعلم بذلك الوزير، فطالع الوزير الخليفة بالحال، فقرّر يوما للنفقة، فحضر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء على العادة، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلسه، ويجلس الوزير في مكانه، ويحضر صاحبا ديوان الجيش، وهما المستوفي والكاتب، والمستوفي هو أمير هما، فيجلس من داخل عتبة المجلس، وهذه رتبة له يتميز بها، ويجلس بجانبه من وراء العتبة كاتب الجيش في قاعة الدار على حصر مفروشة، وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلا ومن أعيان الكتّاب، ويسمى اليوم في زمننا ناظر الجيش، وأما كاتب الجيش فإنه كان في غالب الأمر يهوديا، وللمجلس الذي فيه الخليفة والوزير انطاع «1» تصب عليها الدراهم، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل الغزاة مائة مائة، فيقفون في أخريات من هو واقف في الخدمة من جانب واحد، نقابة نقابة، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق المنفق عليهم واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر، فإذا تكملت عشرة، وزن الوزانون لهم النفقة، وكانت مقرّرة لكلّ واحد خمسة دنانير صرف ستة وثلاثين درهما بدينار، فيسلمها لهم النقيب وتكتب باسمه وبيده، وتمضي النفقة هكذا إلى آخرها.
فإذا تم ذلك ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفضّ ذلك الجمع، فيحمل إلى الوزير من القصر مائدة يقال لها غداء الوزير، وهي سبع مجنقات أوساط، إحداها بلحم الدجاج وفستق، معمولة بصناعة محكمة، والبقية شواء، وهي مكمورة بالأزهار. فتكون النفقة على ذلك مدّة أيام متوالية مرّة ومتفرّقة مرّة، فإذا تكاملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر، ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك على شاطيء النيل بالجامع منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا
جلس للوداع جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه، وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات، فيرمى بها وتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدوّ، ثم يحضر المقدّم والرئيس إلى بين يدي الخليفة فيودّعهما ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة، ويعطى للمقدم مائة دينار، وللرئيس عشرين دينارا، وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى بحر الملح، فيكون له ببلاد العدوّ صيت عظيم ومهابة قوية، والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم، لا يتعرّض السلطان منه إلى شيء البتة إلّا ما كان من الأسرى والسلاح، فإنه للسلطان، وما عداهما من المال والثياب ونحو هما فإنه لغزاة الأسطول، لا يشاركهم فيه أحد، فإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضا إلى منظرة المقس وجلس فيها للقائه، وقدم الأسطول مرّة بألف وخمسمائة أسير، وكانت العادة أن الأسرى ينزل بهم في المناخ، وتضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى، ويمضى بالنساء والأطفال إلى القصر بعد ما يعطى منهم الوزير طائفة، ويفرّق ما بقي من النساء على الجهات والأقارب، فيستخدمونهنّ ويربونهنّ حتى يتقنّ الصنائع، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الاستادين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية، ويقال لهم الترابي، وفيهم من صار أميرا من صبيان خاص الخليفة، من الأسرى من كان يستراب به فيقتل، ومن كان منهم شيخا لا ينتفع به ضربت عنقه وألقي في بئر كانت في خرائب مصر، تعرف ببئر المنامة، ولم يعرف قط عن الدولة الفاطمية أنها فادت أسيرا من الفرنج بمال ولا بأسير مثله، وكان المنفق في الأسطول كلّ سنة خارجا عن العدد والآلات.
ولم يزل الأسطول على ذلك إلى أن كانت وزارة شاور، ونزل مري ملك الفرنج على بركة الحبش، فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول، فحرّقت ونهبها العبيد فيما نهبوا، فلما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، اعتنى أيضا بأمر الأسطول وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها، والحبس الجيوشي في البرّين الشرقيّ والغربيّ، وهو من البرّ الشرقيّ بهتين والأميريّة والمنية، ومن البرّ الغربيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة، في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار، وقد ذكر خبر هذا الخراج في ذكر أقسام مال مصر من هذا الكتاب، وعين له أيضا النطرون، وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ما ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناي وطنبدي، وسلّم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقام في مباشرته وعمالته صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، وتقرّر ديوان الأسطول الذي ينفق في
رجاله نصف وربع دينار، بعد ما كان نصف وثمن دينار.
فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، استمرّ الحال في الأسطول قليلا ثم قلّ الاهتمام به، وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طلب له الرجا لو قبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهارا وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا، ولا يصرف لهم إلّا شيء قليل من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدوّ فصارت خدمة الأسطول عارا يسبّ به الرجال، وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطوليّ، غضب غضبا شديدا، بعد ما كان خدّام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله، ويتبرّك بدعائهم الناس.
ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر، أهملوا أمر الأسطول إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، فنظر في أمر الشواني الحربية، واستدعى برجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوهم في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر وأمر بمدّ الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرّف في أعواد العمل، وتقدّم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط، وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها، واستدعى بشواني الثغور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد، فإنها كانت عدّة كثيرة، وذلك في شوال سنة تسع وستين وستمائة، ثم سارت تريد قبرس، وقد عمل ابن حسون رئيس الشواني في أعلامها الصلبان، يريد بذلك أنها تفى إذا عبرت البحر على الفرنج حتى تطرقهم على غفلة، فكره الناس منه ذلك، فلما قاربت قبرس تقدّم ابن حسون في الليل ليهجهم المينا فصدم الشونة المقدّمة شعبا فانكسرت، وتبعتها بقية الشواني فتكسرت الشواني كلها، وعلم بذلك متملك قبرس فأسر كلّ من فيها، وأحاط بما معهم وكتب إلى السلطان يقرّعه ويوبخه، وأن شوانيه قد تكسرت، وأخذ ما فيها وعدّتها إحدى عشرة شونة، وأسر رجالها.
فحمد السلطان الله تعالى وقال: الحمد لله، منذ ملكني الله تعالى ما خذل لي عكسر، ولا ذلّت لي راية، وما زلت أخشى العين، فالحمد لله تعالى، بهذا ولا بغيره، وأمر بإنشاء عشرين شونة، وأحضر خمس شواني كانت على مدينة قوص من صعيد مصر، ولازم الركوب إلى صناعة العمارة بمصر كلّ يوم في مدّة شهر المحرّم سنة سبعين وستمائة إلى أن تنجزت، فلما كان في نصف المحرّم سنة إحدى وسبعين وستمائة، زاد النيل حتى لعبت الشواني بين يديه، فكان يوما مشهودا، في سنة اثنتين وتسعين وستمائة تقدّم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون إلى الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس
بتجهيز أمير الشواني، فنزل إلى الصناعة واستدعى الرئيس وهيأ جميع ما تحتاج إليه الشواني حتى كملت عدّتها، نحو ستين شونة، وشحنها بالعدد وآلات الحرب، ورتب بها عدّة من المماليك السلطانية، وألبسهم السلاح، فأقبل الناس لمشاهدتهم من كلّ أوب قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم قصورا من خشب وأخصاص القش على شاطىء النيل خارج مدينة مصر وبالروضة، واكتروا الساحات التي قدّام الدور والزرابي بالمائتي درهم، كلّ زريبة ما دونها، بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك، فصار جمعا عظيما، وركب السلطان من قلعة الجبل بكرة، والناس قد ملأ وأما بين المقياس إلى بستان الخشاب إلى بلاق، وونف السلطان ونائبه الأمير بيدر وبقية الأمراء قدّام دار النحاس، ومنع الحجاب من التعرّض لطرد العامّة، فبرزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمى عليها، وعدّة من النقابين في أعمال الحيلة، في النقب، وما منهم إلّا من أظهر في شونته عملا معجبا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، وتقدّم ابن موسى الراعي وهو في مركب نيلية فقرأ قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
[هود/ 41] ثم تلاها بقراءة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ
[آل عمران/ 26] إلى آخر الآية، هذا والشواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضا إلى أن أذن لصلاة الظهر، فمضى السلطان بعسكره عائد إلى القلعة، فأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم، وكان شيئا يجلّ وصفه، وأنفق فيه مال لا يعدّ، بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستمائة درهم فما دونها، وكان الرجل الواحد يؤخذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم، وحصل لعدّة من النواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم، وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلا بدرهم، فلكثرة اجتماع الناس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم، فبلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنج فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح.
فلما كان المحرّم سنة اثنتين وسبعمائة في سلطنة الناصر محمد بن قلاون، جهزت الشواني بالعدد والسلاح والنفطية والأزودة، وعين لها جماعة من أجناد الحلقة، وألزم كلّ أمير بإرسال رجلين من عدّته، وألزم أمراء الطبلخاناه والعشروات بإخراج كلّ أمير من عدّته رجلا، وندب الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ الزراق إلى السفر بهم ومعه جماعة من مماليك السلطان الزراقين، وزينت الشواني أحسن زينة، فخرج معظم الناس لرؤيتها وأقاموا يومين بلياليهما على الساحل بالبرّين، وكان جمعا عظيما إلى الغاية، وبلغت أجرة المركب الصغير مائة درهم لأجل الفرجة، ثم ركب السلطان بكرة يوم السبت ثاني عشر المحرّم ومعه الأمير سلار النائب، والأمير بيبرس الجاشنكير، وسائر الأمراء، والعسكر، فوقفت المماليك
على البرّ نحو بستان الخشاب، وعدّى الأمراء في الحراريق إلى الروضة، وخرجت الشواني واحدة بعد واحدة، فلعبت منها ثلاثة وخرجت الرابعة وفيها الأمير أقوش القاري من مينا الصناعة حتى توسط البحر، فلعب بها الريح إلى أن مالت وانقلبت، فصار أعلاها أسفلها فتداركها الناس ورفعوا ما قدروا عليه من العدد والسلاح، وسلمت الرجال فلم يعدم منهم سوى أقوش وحده، فتنكد الناس وعاد الأمراء إلى القلعة بالسلطان، وجهز شونة عوضا عن التي غرقت وساروا إلى مينا طرابلس، ثم ساروا ومعهم عدّة من طرابلس فأشرقوا من الغد على جزيرة أرواد من أعمال قبرس، وقاتلوا أهلها وقتلوا أكثرهم وملكوها في يوم الجمعة ثامن عشري صفر، واستولوا على ما فيها وهدموا أسوارها وعادوا إلى طرابلس، وأخرجوا من الغنائم الخمس للسلطان، واقتسموا ما بقي منها، وكان معهم مائتان وثمانون أسيرا، فسرّ السلطان بذلك سرورا كثيرا.
صناعة المقس: قال ابن أبي طيّ في تاريخه عند ذكر وفاة المعز لدين الله، أنه أنشأ دار الصناعة التي بالمقس، وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على ميناء. وقال المسبحي: أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس، وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبرا ووثاقة وحسنا. وقال في حوادث سنة ست وثمانين وثلاثمائة: ووقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة، لست بقين من شهر ربيع الآخر، فأحرقت خمس عشاريات وأتت على جميع ما في الأسطول من العدّة والسلاح واتهموا الروم النصارى، وكانوا مقيمين بدار ماتك بجوار الصناعة التي بالمقس، وحملوا على الروم هم وجموع من العامّة معهم، فنهبوا أمتعة الروم وقتلوا منهم مائة رجل وسبعة رجال، وطرحوا جثثهم في الطرقات، وأخذ من بقي فحبس بصناعة المقس، ثم حضر عيسى بن نسطورس خليفة أمير المؤمنين العزيز بالله في الأموال ووجوهها بديار مصر والشام والحجاز، ومعه يانس الصقلبيّ، وهو يومئذ خليفة العزيز بالله على القاهرة عند مسيره إلى الشام، ومعهما مسعود الصقلبيّ متولي الشرطة، وأحضروا الروم من الصناعة فاعترفوا بأنهم الذين أحرقوا الأسطول، فكتب بذلك إلى العزيز بالله وهو مبرّز يريد السفر إلى الشام، وذكر له في الكتاب خبر من قتل من الروم وما نهب، وأنه ذهب في النهب ما يبلغ تسعين ألف دينار، فطاف أصحاب الشرط في الأسواق بسجل فيه الأمر برد ما نهب من دار ماتك وغيرها، والتوعد لمن ظهر عنده منه شيء، وحفظ أبو الحسن يانس البلد وضبط الناس، وأمر عيسى بن نسطورس أن يمدّ للوقت عشرون مركبا، وطرح الخشب وطلب الصناع وبات في الصناعة، وجدّ الصناع في العمل، وأغلب أحداث الناس وعامّتهم يلعبون برءوس القتلى ويجرّون بأرجلهم في الأسواق والشوارع، ثم قرنوا بعضهم إلى بعض على ساحل النيل بالمقس وأحرقوا يوم السبت، وضرب بالحرس على البلد، أن لا يتخلف أحد ممن نهب شيئا حتى يحضر ما نهبه ويردّه، ومن علم عليه بشيء أو كتم شيئا أو جحده أو أخره، حلت به العقوبة
الشديدة، وتتبع من نهب فقبض على عدّة قتل منهم عشرون رجلا ضربت أعناقهم، وضرب ثلاثة وعشرون رجلا بالسياط، وطيف بهم وفي عنق كلّ واحد رأس رجل ممن قتل من الروم، وحبس عدّة أناس، وأمر بمن ضربت أعناقهم فصلبوا عند كوم دينار، وردّ المصريون إلى المطبق، وكان ضرب من ضرب من النهابة وقتل من قتل منهم برقاع كتبت لهم، تناول كلّ واحد منهم رقعة فيها مكتوب إما بقتل أو ضرب، فأمضى فيهم بحسب ما كان في رقاعهم من قتل أو ضرب، واشتدّ الطلب على النهاية فكان الناس يدل بعضهم على بعض، فإذا أخذ أحد ممن اتهم بالنهب حلف بالأيمان المغلظة أنه ما بقى عنده شيء.
وجدّ عيسى بن نسطورس في عمل الأسطول وطلب الخشب، فلم يدع عند أحد خشبا علم به إلّا أخذه منه، وتزايد إخراج النهابة لما نهبوه، فكانوا يطرحونه في الأزقة والشوارع خوفا من أن يعرفوا به، وحبس كثير ممن أحضر شيئا أو عرف عليه من النهب، فلما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ضربت أعناقهم كلهم على يد أبي أحمد جعفر صاحب يانس، فإنه قدم في عسكر كثير من اليانسية حتى ضربت أعناق الجماعة، وأغلقت الأسواق يومئذ وطاف متولى الشرطة وبين يديه أرباب النفط بعددهم والنار مشتعلة، واليانسية ركاب بالسلاح، وقد ضرب جماعة وشهرهم بين يديه وهم ينادي عليهم هذا جزاء من أثار الفتن ونهب حريم أمير المؤمنين، فمن نظر فليعتبر فما تقال لهم عثرة ولا ترحم لهم عبرة في كلام كثير من هذا الجنس، فاشتدّ خوف الناس وعظم فزعهم، فلما كان من الغد نودي: معاشر الناس قد آمن الله من أخذ شيئا أو نهب شيئا على نفسه وما له، فليردّ من بقي عنده شيء من النهب، وقد أجلناكم من اليوم إلى مثله، وفي سابع جمادى الآخرة نزل ابن نسطورس إلى الصناعة وطرح مركبين في غاية الكبر من التي استعملها بعد حريق الأسطول، وفي غرّة شعبان نزل أيضا وطرح بين يديه أربعة مراكب كبارا من المنشأة بعد الحريق، واتفق موت العزيز بالله وهو سائر إلى الشام في مدينة بلبيس.
فلما قام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله في الخلافة أمر في خامس شوال بحط الذين صلبهم ابن نسطورس، فتسلمهم أهلهم وأعطى لأهل كلّ مصلوب عشرة دنانير برسم كفنه ودفنه، وخلع على عيسى بن نسطورس وأقرّه في ديوان الخاص، ثم قبض عليه في ليلة الأربعاء سابع المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة واعتقله إلى ليلة الاثنين سابع عشريه، فأخرجه الأستاذ برجوان وهو يومئذ يتولى تدبير الدولة إلى المقس، وضرب عنقه، فقال وهو ماض إلى المقس: كلّ شيء قد كنت أحسبه إلّا موت العزيز بالله، ولكن الله لا يظلم أحدا، والله إني لأذكر وقد ألقيت السهام للقوم المأخوذين في نهب دار ماتك، وفي بعضها مكتوب يقتل وفي أخرى يضرب، فأخذ شاب ممن قبض عليه رقعة منها منها فجاء فيها يقتل، فأمرت به إلى القتل، فصاحت أمّه ولطمت وجهها وحلفت أنها وهو ما كانا ليلة النهب في شيء من أعمال مصر، وإنما ورد أمصر بعد النهب بثلاثة أيام، وناشدتني الله تعالى
أن أجعله من جملة من يضرب بالسوط، وأن يعفى من القتل، فلم ألتفت إليها وأمرت بضرب عنقه، فقالت أمّه: إن كنت لا بدّ قاتله فاجعله آخر من يقتل لأتمتع به ساعة، فأمرت به فجعل أوّل من ضرب عنقه، فلطخت بدمه وجمهها وسبقتني وهي منبوشة الشعر ذاهلة العقل إلى القصر، فلما وافيت قالت لي أقتلته؟ كذلك. يقتلك الله، فأمرت بها فضربت حتى سقطت إلى الأرض، ثم كان من الأمر ما ترون مما أنا صائر إليه، وكان خبره عبرة لمن اعتبر، وفي نصف شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم بأمر الله إلى صناعة المقس لتطرح المراكب بين يديه.
صناعة الجزيرة: هذه الصناعة كانت بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة، وهي أوّل صناعة عملت بفسطاط مصر، بنيت في سنة أربع وخمسين من الهجرة، وكان قبل بنائها هناك خمسمائة فاعل تكون مقيمة أبدا معدّة لحريق يكون في البلاد أو هدم، ثم اعتنى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة، ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الملك الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع هذه الصناعة البستان المختار كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب،
صناعة مصر: هذه الصناعة كانت بساحل مصر القديم، يعرف موضعها بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، امرأة الأمير أحمد بن طولون، إلى أن قدم الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أميرا على مصر من قبل الخليفة الراضي، عوضا عن أحمد بن كيغلغ في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وقد كثرت الفتن، فلم يدخل عيسى بن أحمد السلميّ أبو مالك كبير المغاربة في طاعته، ومضى ومعه بحكم وعليّ بن بدر ونظيف النوشريّ وعليّ المغربيّ إلى الفيوم، فبعث إليهم الإخشيد صاعدين الكلكم بمراكبه، فقاتلوه وقتلوه وأخذوا مراكبه، وركب فيها عليّ بن بدر وبحكم وقدموا مدينة مصر أوّل يوم من ذي القعدة، فأرسوا بجزيرة الصناعة، وركب الإخشيد في جيشه ووقف حيالهم، والنيل بينهم وبينه، فكره ذلك وقال:
صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيء، فأقام بحكم وعليّ بن بدر إلى آخر النهار ومضوا إلى جهة الإسكندرية وعاد الإخشيد إلى داره فأخذ في تحويل الصناعة من موضعها بالجزيرة إلى دار خديجة بنت الفتح، في شعبان سة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان إذ ذاك عندها سلّم ينزل منه إلى الماء، وعند ما ابتدأ في إنشاء المراكب بها صاحت به امرأة فأمر بأخذها إليه، فسألته أن يبعث معها من يحمل المال، فسيّر معها طائفة، فأتت بهم إلى دار خديجة هذه ودلتهم على موضع منها فأخرجوا منه عينا وورقا وحليا وغيره، وطلبت المرأة فلم توجد ولا عرف لها خبر، وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله تعالى، فلما ولي المأمون بن البطائحيّ أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر هذه، وأضاف إليها دار