الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قدوم الأويراتية
وكان من خبر هذه الطائفة: أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة، سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتية، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هنالك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشام، فأذن لهم، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا، فأكرمهم نائبا وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضيافات، وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا، وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم، فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم، فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام، وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق، فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلاثمائة للقدوم على السلطان، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل، ولما قرب الجماعة من القاهرة، وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم، فكان لدخولهم يوم عظيم، وصاروا إلى قلعة الجبل، فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بإمرة طبلخانة، وعلى اللصوص بإمرة عشرة، وأعطى البقية تقادما في الحلقة واقطاعات، وأجرى عليهم الرواتب، وأنزلوا بالحسينية، وكانوا على غير الملة الإسلامية، فشق ذلك على الناس، وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم، وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم، فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار:
ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا
…
قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانصلقنا
…
وانطبخنا في الدولة المغلية
ولما دخل شهر رمضان من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية، وقيل للسلطان ذلك، فأبى أن يكرههم على الإسلام، ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد، وأظهر العناية بهم، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوّى بهم، فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولة منه احنا وخشوا إيقاعه بهم، فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا، وكانوا مع ذلك صورا جميلة، فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث، واتخذوا منهم عدّة صيّروهم من جملة جندهم، وتعشّقوهم، فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص به وجعله محل شهوته، ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرة، فتكاثر نسلهم في القاهرة
واشتدّت الرغبة من الكافة في أولادهم على اختلاف الآراء في الإناث والذكور، فوقع التحاسد والتشاجر بين أهل الدولة إلى أن آل الأمر بسببهم وبأسباب أخر إلى خلع السلطان الملك العادل كتيفا من الملك، في صفر سنة ست وتسعين وستمائة.
فلما قام في السلطنة من بعده الملك المنصور حسام الدين لاجين، قبض على طرغاي مقدّم الأويراتية، وعلى جماعة من أكابرهم، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها وقتلهم، وفرّق جميع الأويراتية على الأمراء، فاستخدموهم وجعلوهم من جندهم، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع، وأدركنا من ذلك طرفا جيدا، وكان للناس في نكاح نسائهم رغبة، ولآخرين شغف بأولادهم، ولله در الشيخ تقيّ الدين السروجيّ إذ يقول من أبيات:
يا ساعي الشوق الذي مذ جرى
…
جرت دموعي فهي أعوانه
خذ لي جوابا عن كتابي الذي
…
إلى الحسينية عنوانه
فهي كما قد قيل وادي الحمى
…
وأهلها في الحسن غزلانه
أمشي قليلا وانعطف يسرة
…
يلقاك درب طال بنيانه
واقصد بصدر الدرب ذاك الذي
…
بحسنه تحسّن جيرانه
سلم وقل يخشى مسن أي مسن
…
اشت حديثا طال كتمانه
وسل لي الوصل فإن قال بق
…
فقل أوت قد طال هجرانه
وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة، وكان يقال لهم البدورة، فيقال البدر فلان، والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوّة وحمل السلاح، ويؤثر منهم حكايات كثيرة وأخبار جمة، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر اخطاط مصر والقاهرة، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من الشيخة: أنّه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور، وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس، ومن الباعة والمارة وأرباب المعايش، وأصحاب اللهو والملعوب، فيما بين الريدانية، محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة، وإلى باب الفتوح، لا يستطيع الإنسان أن يمرّ في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلّا بمشقة من الزحام، كما كنا نعرف شاعر بين القصرين فيما أدركنا. وما زال أمر الحسينية متماسكا إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة وما بعدها، فخربت حاراتها، ونقضت مبانيها، وبيع ما فيها من الأخشاب وغيرها، وباد أهلها، ثم حدث بها بعد سنة عشرين وثمانمائة آية من آيات الله تعالى، وذلك أنّ في أعوام بضع وستين وسبعمائة، بدا بناحية برج الزيات فيما بين المطرية وسر ياقوس فساد الأرضة التي من شأنها العبث في الكتب والثياب، فأكلت لشخص نحو ألف وخمسمائة قتة دريس، فكنّا لا نزال نتعجب من ذلك، ثم فشت هناك وشنع عبثها في سقوف الدور، وسرت حتى عاثت في أخشاب سقوف