الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلى عين شمس، وما وراء ذلك، إلّا أنه كان تجاه القاهرة بستان ريدان، ويعرف اليوم بالريدانية، وعند مصلّى العيد خارج باب النصر حيث يصلي الآن على الأموات، كان ينزل هناك من يسافر إلى الشام.
فلما كان قبل سنة خمسمائة، ومات أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، بني خارج باب النصر له تربة دفن فيها وبني أيضا خارج باب الفتوح منظرة قد ذكر خبرها عند ذكر المناظر من هذا الكتاب، وصار أيضا فيما بين باب الفتوح والمطرية بساتين قد تقدّم خبرها، ثم عمرت الطائفة الحسينية بعد سنة خمسمائة خارج باب الفتوح عدّة منازل، اتصلت بالخندق، وصار خارج باب النصر مقبرة إلى ما بعد سنة سبعمائة، فعمر الناس به حتى اتصلت العمائر من باب النصر إلى الريدانية، وبلغت الغاية من العمارة، ثم تناقصت من بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة إلى أن فحش خرابها من حين حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة، فهذا حال ظواهر القاهرة منذ اختطت وإلى يومنا هذا، ويحتاج ما ذكر هنا إلى مزيد بيان والله أعلم.
ذكر ميدان القبق
هذا الموضع خارج القاهرة من شرقيها، فيما بين النقرة التي ينزل من قلعة الجبل إليها، وبين قبة النصر التي تحت الجبل الأحمر، ويقال له أيضا الميدان الأسود، وميدان العيد، والميدان الأخضر، وميدان السباق، وهو ميدان السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ النجميّ، بنى به مصطبة في المحرّم من سنة ست وستين وستمائة، عند ما احتفل برمي النشاب وأمور الحرب، وحثّ الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك، وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر، فلا يركب منها إلى العشاء الآخرة، وهو يرمي ويحرّض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلّا وهذا شغله، وتوفر الناس على لعب الرمح ورمي النشاب، وما برح من بعده من أولاده والملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفيّ الصالحيّ النجميّ، والملك الأشرف خليل بن قلاوون يركبون في الموكب لهذا الميدان، وتقف الأمراء والمماليك السلطانية تسابق بالخيل فيه قدّامهم، وتنزل العساكر فيه لرمي القبق.
والقبق عبارة عن خشبة عالية جدّا، تنصب في براح من الأرض، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب، وتقف الرماة بقسيّها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمرّ من داخلها إلى غرض هناك، تمرينا لهم على إحكام الرمي. ويعبّر عن هذا بالقبق، في لغة الترك.
قال جامع السيرة الظاهرية: وفي سابع عشر المحرّم من سنة سبع وستين وستمائة، حثّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جميع الناس على رمي النشاب ولعب الرمح، خصوصا خواصه ومماليكه، ونزل إلى الفضاء بباب النصر ظاهر القاهرة،
ويعرف بميدان العيد، وبنى مصطبة هناك، وأقام ينزل في كل يوم من الظهر، ويركب منها عشاء الآخرة، وهو واقف في الشمس يرمي ويحرّض الناس على الرمي والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، واستمرّ الحال في كل يوم على ذلك حتى صارت تلك الأمكنة لا تسع الناس، وما بقي لأحد شغل إلّا لعب الرمح ورمي النشاب. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، تقدّم السلطان الملك الظاهر إلى عساكره بالتأهب للركوب واللعب بالقبق ورمي النشاب، واتفقت نادرة غريبة، وهو أنه أمر برش الميدان الأسود تحت القلعة لأجل الملعب، فشرع الناس في ذلك، وكان يوما شديد الحرّ، فأمر السلطان بتبطيل الرش رحمة للناس، وقال: الناس صيام وهذا يوم شديد الحرّ، فبطل الرش، وأرسل الله تعالى مطرا جودا استمرّ ليلتين ويوما حتى كثر الوحل وتلبدت الأرض وسكن العجاج وبرد الجوّ ولطف الهواء، فوكل السلطان من يحفظه من السوق فيه يوم اللعب، وهو يوم الخميس السادس والعشرون من شهر رمضان، وأمر بركوب جماعة لطيفة من كل عشرة اثنان، وكذلك من كل أمير، ومن كل مقدّم لئلا تضيق الدنيا بهم. فركبوا في أحسن زيّ، وأجمل لباس، وأكمل شكل، وأبهى منظر، وركب السلطان ومعه من خواصه ومماليكه ألوف، ودخلوا في الطعان بالرماح، فكل من أصاب خلع عليه السلطان، ثم ساق في مماليكه الخواص خاصة، ورتبهم أجمل ترتيب، واندفق بهم اندفاق البحر، فشاهد الناس أبهة عظيمة، ثم أقيم القبق ودخل الناس لرمي النشاب، وجعل لمن أصاب من المفاردة رجال الحلقة والبحرية الصالحية وغيرهم بغلطاقا بسنجاب، وللأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره ومراواته الفضية والذهبية ومزاخمه، وما زال في هذه الأيام على هذه الصورة يتنوّع في دخوله وخروجه، تارة بالرماح، وتارة بالنشاب، وتارة بالدبابيس، وتارة بالسيوف مسلولة، وذلك أنه ساق على عادته في اللعب وسلّ سيفه، وسلّ مماليكه سيوفهم، وحمل هو ومماليكه حملة رجل واحد، فرأى الناس منظرا عجيبا، وأقام على ذلك كل يوم من بكرة النهار إلى قريب المغرب، وقد ضربت الخيام للنزول للوضوء والصلاة، وتنوّع الناس في تبديل العدد والآلات، وتفاخروا وتكاثروا، فكانت هذه الأيام من الأيام المشهودة، ولم يبق أحد من أبناء الملوك، ولا وزير، ولا أمير كبير ولا صغير، ولا مفردي، ولا مقدّم من مقدّمي الحلقة، ومقدّمي البحرية الصالحية، ومقدّمي المماليك الظاهرية البحرية، ولا صاحب شغل، ولا حامل عصا في خدمة السلطان على بابه، ولا حامل طير في ركاب السلطان، ولا أحد من خواص كتاب السلطان، إلّا وشرّف بما يليق به على قدر منصبه، ثم تعدّى إحسان السلطان لقضاة الإسلام والأئمة وشهود خزانة السلطان، فشرّفهم جميعهم، ثم الولاة كلهم، وأصبحوا بكرة يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان لابسين الخلع جميعهم في أحسن صورة وأبهج زي وأبهى شكل وأجمل زينة، بالكلوتات الزركش بالذهب، والملابس التي ما سمع بأن أحدا جاد بمثلها، وهي ألوف، وخدم الناس جميعهم
وقبلوا الأرض وعليهم الخلع، وركبوا ولعبوا نهارهم على العادة، والأموال تفرّق والأسمطة تصف، والصدقات تنفق، والرقاب تعتق. وما زال إلى أن أهلّ هلال شوّال، فقام الناس وطلعوا للهناء، فجلس لهم، وعليهم خلعه، ثم ركب يوم العيد إلى مصلاه في خيمة بشعار السلطنة وأبّهة الملك، فصلى ثم طلع قلعة الجبل وجلس على الأسمطة، وكان الاحتفال بها كبيرا، وأكل الناس، ثم انتهبه الفقراء، وقام إلى مقرّ سلطانه بالقبة السعيدة، وقد غلقت وفرشت بأنواع الستور والكلل والفرش، وكان قد تقدّم إلى الأمراء بإحضار أولادهم، فأحضروا، وخلع عليهم الخلع المفصلة على قدرهم، فلما كان هذا اليوم أحضروا وختنوا بأجمعهم بين يدي السلطان، وأخرجوا فحملوا في المحفات إلى بيوتهم، وعمّ الهناء كل دار، ثم أحضر الأمير نجم الدين خضر ولد السلطان، فختن ورمى للناس جملة من الأموال اجتمع منها خزانة ملك كبير، فرّقت على من باشر الختان من الحكماء والمزينين وغيرهم.
وانقضت هذه الأيام، وجرى السلطان فيها على عادته كما كان، من كونه لم يكلّف أحدا من خلق الله تعالى بهدية يهديها، ولا تحفة يتحفه بها في مثل هذه المسرّة، كما جرت عادة من تقدّمه من الملوك، ولم يبق من لا شمله إحسانه غير أرباب الملاهي والأغاني، فإنه كان في أيامه لم ينفق لهم مبلغ البتة.
وممن لعب بهذا الميدان القبق، السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وعمل فيه المهمّ الذي لم يعمل في دولة ملوك الترك بمصر مثله، وذلك أن خوندار دوتكين ابنة نوكيه، ويقال نوغية السلحدارية، اشتملت من السلطان الملك الأشرف على حمل، فظنّ أنها تلد ابنا ذكرا يرث الملك من بعده، فأخذ عند ما قاربت الوضع في الاحتفال، ورسم لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس أن يكتب إلى دمشق بعمل مائة شمعدان نحاس مكفت بألقاب السلطان، ومائة شمعدان أخر، منها خمسون من ذهب، وخمسون من فضة، وخمسين سرجا من سروج الزركش، ومائة وخمسين سرجا من المخيش، وألف شمعة وأشياء كثيرة غير ذلك، فقدّر الله تعالى أنها ولدت بنتا، فانقبض لذلك وكره إبطال ما قد اشتهر عنه عمله، فأظهر أنه يريد ختان أخيه محمد، وابن أخيه مظفر الدين موسى بن الملك الصالح عليّ بن قلاوون، فرسم لنقيب الجيش والحجاب بإعلام الأمراء والعسكر أن يلبسوا كلهم آلة الحرب من السلاح الكامل، هم وخيولهم، ويصيروا بأجمعهم كذلك في الميدان الأسود خارج باب النصر، فاهتم الأمراء والعسكر اهتماما كبيرا لذلك، وأخذوا في تحسين العدد وبالغوا في التأنق، وتنافسوا في إظهار التجمل الزائد، وخرج في اليوم الرابع من إعلام الأمراء السوقة، ونصبوا عدّة صواوين فيها سائر البقول والمآكل، فصار بالميدان سوق عظيم، ونزل السلطان من قلعة الجبل بعساكره وعليهم لامة الحرب، وقد خرج سائر من في القاهرة ومصر من الرجال والنساء إلّا من خلفه العذر لرؤية السلطان، فأقام السلطان يومه، وحصل في ذلك اليوم للناس بهذا الاجتماع من السرور ما يعزّ وجود مثله، وأصبح السلطان
وقد استعدّ العسكر بأجمعه لرمي القبق، ورسم للحجاب بأن لا يمنعوا أحدا من الجند، ولا من المماليك، ولا من غيرهم من الرمي، ورسم للأمير بيسري والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح، أن يتقدّما الناس في الرمي، فاستقبل الأمير بيسري القبق وتحته سرج قد صنع قربوسه الذي من خلفه وطيئا، فصار مستلقيا على قفاه، وهو يرمي ويصيب يمنة ويسرة، والناس بأسرهم قد اجتمعوا للنظر حتى ضاق بهم الفضاء، فلما فرغ دخل أمير سلاح من بعده، وتلاه الأمراء على قدر منازلهم واحدا واحدا، فرموا. ثم دخل بعد الأمراء مقدّموا الحلقة، ثم الأجناد والسلطان يعجب برميهم، وتزايد سروره حتى فرغ الرمي، فعاد إلى مخيّمه ودار السقاة على الأمراء بأواني الذهب والفضة والبلور يسقون السكّر المذاب، وشرب الأجناد من أحواض قد ملئت من ذلك، وكانت عدّتها مائة حوض، فشربوا ولهوا واستمرّوا على ذلك يومين، وفي اليوم الثالث ركب السلطان واستدعى الأمير بيسري وأمره بالرمي، فسأل السلطان أن يعفيه من الرمي، ويمنّ عليه بالتفرّج في رمي النشاب من الأمراء وغيرهم، فأعفاه ووقف مع السلطان في منزلته، وتقدّم طفج، وعين الغزال، وأمير عمر، وكيلكدي، وقشتمر العجمي، وبرلغي، وأعناق الحسامي، وبكتوت، ونحو الخمسين من أمراء السلطان الشبان الذين أنشأهم من خاصكيته، وعليهم تتريات حرير أطلس بطرازات زركش وكلوتات زركش وحوائص ذهب، وكانوا من الجمال البارع بحيث يذهب حسنهم الناظر، ويدهش جمالهم الخاطر، فتعاظمت مسرّة السلطان برؤيتهم، وكثر إعجابه، وداخله العجب واستخفه الطرب، وارتجب الدنيا بكثرة من حضر هناك من أرباب الملاهي والأغاني وأصحاب الملعوب.
فلما انقضى اللعب، عاد السلطان إلى دهليزه في زينته، ومرح في مشيته تيها وصلفا، فما هو إلّا أنّ عبر الدهليز والناس من الطرب والسرور في أحسن شيء يقع في العالم، وإذا بالجوّ قد أظلم، وثار ريح عاصف أسود إلى أن طبق الأرض والسماء، وقلع سائر تلك الخيم، وألقى الدهليز السلطانيّ، وتزايد حتى أن الرجل لا يرى من بجانبه، فاختلط الناس وماجوا ولم يعرف الأمير من الحقير، وأقبلت السوقة والعامّة تنهب، وركب السلطان يريد النجاة بنفسه إلى القلعة، وتلاحق العسكر به واختلفوا في الطرق لشدّة الهول، فلم يعبر إلى القلعة حتى أشرف على التلف، وحصل في هذا اليوم من نهب الأموال وانتهاك الحرم والنساء ما لا يمكن وصفه، وما ظنّ كل أحد إلّا أنّ الساعة قد قامت، فتنغص سرور الناس وذهب ما كان هناك، وما استقرّ السلطان بالقلعة حتى سكن الريح وظهرت الشمس وكأن ما كان لم يكن، فأصبح السلطان وطلب أرباب الملاهي بأجمعهم، وحضر الأمراء الختان أخيه وابن أخيه، وعمل مهمّ عظيم في القاعة التي أنشأها بالقلعة، وعرفت بالأشرفية، وقد ذكر خبر هذا المهمّ عند ذكر القلعة من هذا الكتاب.
وما برح هذا الميدان فضاء من قلعة الجبل إلى قبة النصر ليس فيه بنيان، وللملوك فيه