المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر من ملك مصر من الأكراد - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ٣

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌ذكر حارات القاهرة وظواهرها

- ‌ذكر واقعة العبيد

- ‌ذكر أبي عبد الله الشيعي

- ‌ذكر الأمراء البرقيّة ووزارة ضرغام

- ‌ذكر وزارة أبي الفتح ناصر الجيوش يأنس الأرمني

- ‌ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ

- ‌ذكر قدوم الأويراتية

- ‌ذكر اخطاط القاهرة وظواهرها

- ‌ذكر كافور الإخشيدي

- ‌ذكر مقتل الخليفة الظافر

- ‌ذكر الدروب والأزقة

- ‌ذكر الخوخ

- ‌ذكر الرحاب

- ‌ذكر الدور

- ‌ذكر الحمامات

- ‌ذكر القياسر

- ‌ذكر الخانات والفنادق

- ‌ذكر الأسواق

- ‌الشارع خارج باب زويلة

- ‌ذكر العوائد التي كانت بقصبة القاهرة

- ‌ذكر ظواهر القاهرة المعزية

- ‌ذكر ميدان القبق

- ‌ذكر برّ الخليج الغربي

- ‌ذكر الأحكار التي في غربيّ الخليج

- ‌ذكر المقس وفيه الكلام على المكس وكيف كان أصله في أوّل الإسلام

- ‌ذكر ميدان القمح

- ‌ذكر أرض الطبالة

- ‌ذكر حشيشة الفقراء

- ‌ذكر أرض البعل والتاج

- ‌ذكر ضواحي القاهرة

- ‌ذكر منية الأمراء

- ‌ذكر كوم الريش

- ‌ذكر بولاق

- ‌ذكر ما بين بولاق ومنشأة المهراني

- ‌ذكر خارج باب زويلة

- ‌ذكر خارج باب الفتوح

- ‌ذكر الخندق

- ‌ذكر خارج باب النصر

- ‌الريدانية

- ‌ذكر الخلجان التي بظاهر القاهرة

- ‌ذكر خليج مصر

- ‌ذكر خليج فم الخور وخليج الذكر

- ‌ذكر الخليج الناصريّ

- ‌ ذكر القناطر

- ‌ذكر خليج قنطرة الفخر

- ‌ذكر قناطر الخليج الكبير

- ‌ذكر البرك

- ‌ذكر الماردانيّ

- ‌ذكر بساتين الوزير

- ‌ذكر المعشوق

- ‌ذكر الجسور

- ‌وقد وجد بخط المصنف رحمه الله في أصله هنا ما صورته

- ‌ذكر الجزائر

- ‌ذكر الروضة

- ‌ذكر قلعة الروضة

- ‌ذكر السجون

- ‌ذكر المواضع المعروفة بالصناعة

- ‌ذكر الميادين

- ‌ذكر قلعة الجبل

- ‌ذكر بناء قلعة الجبل

- ‌ذكر صفة القلعة

- ‌ذكر النظر في المظالم

- ‌ذكر خدمة الإيوان المعروف بدار العدل

- ‌ذكر العلامة السلطانية

- ‌ذكر جيوش الدولة التركية وزيّها وعوايدها

- ‌ذكر الحجبة

- ‌ذكر أحكام السياسة

- ‌ذكر المياه التي بقلعة الجبل

- ‌ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل

- ‌ذكر من ملك مصر من الأكراد

- ‌ذكر دولة المماليك البحرية

- ‌ذكر دولة المماليك الجراكسة

الفصل: ‌ذكر من ملك مصر من الأكراد

يقال لهم امراء مصر، ومدّتهم ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة عشر يوما أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرم، سنة عشرين من الهجرة، وآخرها يوم الاثنين سادس عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وعدّة هؤلاء الأمراء مائة واثنا عشر أميرا.

القسم الثاني: من وليّ بالقاهرة منذ بنيت إلى أن مات الإمام العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله رحمه الله، وهؤلاء يقال لهم الخلفاء الفاطميون، ومدّتهم بمصر مائتا سنة وثماني سنين وأربعة أشهر واثنان وعشرون يوما، أوّلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وآخرها يوم الأحد عاشر المحرّم، سنة سبع وستين وخمسمائة.

وعدّة هؤلاء الخلفاء أحد عشر خليفة.

والقسم الثالث: من ملك مصر بعد موت العاضد إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ويقال لهم الملوك والسلاطين، وهم ثلاثة أقسام: القسم الأول ملوك بني أيوب، وهم أكراد.

والقسم الثاني البحرية وأولادهم، وهم مماليك أتراك لبني أيوب. والقسم الثالث مماليك أولاد البحرية، وهم جراكسة، وقد تقدّم في هذا الكتاب ذكر الأمراء والخلفاء، وستقف إن شاء الله تعالى على ذكر من ملك من الأكراد والأتراك والجراكسة، وتعرف أخبارهم على ما شرطنا من الاختصار، إذ قد وضعت لبسط ذلك كتابا سميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، وجردت تراجمهم في كتاب التاريخ الكبير المقفى، فتطلبهما تجد فيهما ما لا تحتاج بعده إلى سواهما في معناهما.

‌ذكر من ملك مصر من الأكراد

اعلم أن الناس قد اختلفوا في الأكراد، فذكر العجم أنّ الأكراد فضل طعم الملك بيوراسف، وذلك أنه كان يأمر أن يذبح له كلّ يوم إنسانان ويتخذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يسمى أرماييل، وكان يذبح واحدا ويستحيي واحدا ويبعث به إلى جبال فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا.

ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام، حين سلب ملكه ووقع على نسائه المنافقات الشيطان الذي يقال له الجسد، وعصم الله تعالى منه المؤمنات، فعلق منه المنافقات، فلما ردّ الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه، ووضع هؤلاء الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهم إلى الجبال والأودية، فربتهم أمّهاتهم وتناكحوا وتناسلوا، فذلك بدء نسب الأكراد.

والأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفندام بن منوشهر، وقيل هم ينسبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر، وقيل هم من ولد عمر ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء، وقيل من بني حامد بن طارق، من بقية أولاد حميد بن زهير بن الحارث بن

ص: 404

أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم.

وإنما هم قبيل من قبائل العجم، وهم قبائل عديدة: كورانية بنو كوران وهذبانية وبشتوية وشاصنجانية وسرنجية وبزولية ومهرانية وزردارية وكيكانية وجاك وكرودنيلية وروادية ودسنية وهكارية وحميدية ووركجية ومروانية وجلانية وسنيكية وجوني. وتزعم المروانية أنها من بني مروان بن الحكم، ويزعم بعض الهكارية أنها من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب.

وأوّل من ملك مصر من الأكراد الأيوبية.

السلطان الملك الناصر صلاح الدين: أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ، من قبيل الروادية، أحد بطون الهذبانية. نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شير كوه ببلد دوين من أرض أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج، ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز، شحنة «1» بغداد، فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وأقامه بها مستحفظا لها، ومعه أخوه شير كوه وهو أصغر منه سنا، فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم، فشكر له خدمته، واتفق بعد ذلك أنّ شير كوه قتل «2» رجلا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها، فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعا عنده، ثم رتب أيوب بقلعة بعلبك مستحفظا، ثم أنعم عليه بإمرة، واتصل شير كوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه، فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين، فتمكنا في دولته، حتى بعث شير كوه مع الوزير شاور بن مجير السعديّ إلى مصر، فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده، وكان من أمر شير كوه ما كان حتى مات.

فأقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة، ولقبه بالملك الناصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة، فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجدّ وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ رحمه الله على إزالة الدولة الفاطمية، وولى صدر الدين بن درباس قضاء القضاة، وعزل قضاة الشيعة، وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية، ومدرسة للفقهاء الشافعية، وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم، وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر، ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك،

ص: 405

وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ، وكان العاضد مريضا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام، واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة من أوّل سنة سبع وستين وخمسمائة، واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام، فقدموا عليه بأهاليهم.

وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج، فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرّقها على أصنافها، ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين، وأنزل الغز بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد، وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام، فأتته الخلع الخليفية فلبسها، ورتب نوب الطبلخاناه في كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم سار إلى الإسكندرية، وبعث ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة، وعاد إلى القاهرة. ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك وهي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل، فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة، فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير، ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها، فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع، وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر، وأخذ حمص وحماه، وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي، فقاتله أهلها قتالا شديدا، فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار، ثم عاد إلى حلب، فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفر طاب، ولهم ما بأيديهم، وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار، وأقام بدمشق، وندب قراقوس التقويّ لأخذ بلاد المغرب، فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب أياما، وأخذ بزاعة ومنبج وعزاز، ثم عاد إلى دمشق.

وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين بعد ما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج، فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل، وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، فشرع في بناء قلعة الجبل وعمل السور وحفر الخندق حوله، وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه في القرافة، وعمل مارستانا بالقاهرة، وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان، وسمع الحديث على الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ، وعمر الأسطول وعاد إلى القاهرة، وأخرج قراقوش التقويّ إلى بلاد المغرب، وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج، وعوّض أمير مكة عنه في كلّ سنة ألفي دينار وألف أردب غلة، سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن، ومبلغه ثمانية آلاف أردب.

ص: 406

ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج، وقتل وأسر وسبى وغنم، ومضى يريدهم بالرملة فقاتل البرنس أرياط متملك الكرك قتالا شديدا، ثم عاد إلى القاهرة، ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها، فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب، ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة، وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح «1» أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم، وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن، وعاد فخرّب حصن بهنسا «2» ومضى إلى القاهرة فقدمها في ثالث عشر شعبان.

ثم خرج إلى الإسكندرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة ومدرسة، وجدّد حفر الخليج ونقل فوهته، ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة، ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة، فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك، فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا، وأخذ الشقيف من الفرنج، ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج، وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات، وعدّى إلى الرها فأخذها، وملك حرّان والرقّة ونصيبين، وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضا، فنازل سنجار حتى أخذها، ثم مضى على حرّان إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب، فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين، وعاد إلى دمشق وعبر الأران «3» وحرّق بيسان على الفرنج وخرّب لهم عدّة حصون وعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضا، وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك، ثم رحل عنها إلى نابلس فحرّقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق، ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان، ونزل على الموصل وحصرها، ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها، فمضى حتى أخذ ميافارقين وعاد إلى الموصل، ثم رحل عنها وقد مرض إلى حرّان، فتقرّر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضرب السكة فيها باسمه، ثم سار إلى دمشق فقدمها في ثاني ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين، وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين، ونازل الكرك والشوبك وطبرية، فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج، ثم واقعهم على حطين «4» وهم في خمسين ألفا، فهزمهم بعد وقائع عديدة وأسر منهم عدّة ملوك، ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى، وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر، وأخذ مجدل يافا وعدّة حصون، منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية

ص: 407

ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل، وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف أسير مسلم كانوا في أسر الفرنج، وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان، ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل، ثم فتح بيت المقدس «1» في يوم الجمعة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفا من الفرنج بعد ما أسر ستة عشر ألفا ما بين ذكر وأنثى، وقبض من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية، وقرّر على من يرد كنيسة قمامة «2» من الفرنج قطيعة يؤديها، ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب، وندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك.

وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأوّل وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرا وخمسة أيام، ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشنّ الغارات على الفرنج وأخذ منهم أنطرسوس «3» وخرّب سورها وحرّقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص، ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعد ما دخل حلب، فملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان، وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوّال، وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس، ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أوّل صفر سنة خمس وثمانين، ثم سار منها في ثالث ربيع الأوّل ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبا كثيرة، ومضى إلى عكا وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين، فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة.

وقد خرج الألمان من قسطنطينية في زيادة ألف ألف يريد بلاد الإسلام، فاشتدّ الأمر ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخرّوبة على حصار الفرنج، والإمداد تصل إليه، وقدم الألمان طرسوس يريد بيت المقدس، فخرّب السلطان سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، وقوي الفرنج بقدوم ابن الألمان إليهم تقوية لهم، وقد مات أبوه بطرسوس وملك بعده، فقدّر الله تعالى موته أيضا على عكا، ودخلت سنة سبع وثمانين، فملك الفرنج عكا في سابع عشر جمادى الآخرة وأسروا من بها من المسلمين وحاربوا السلطان وقتلوا جميع من أسروه من المسلمين وساروا إلى عسقلان فرحل السلطان في أثرهم وواقعهم بأرسوف، فانهزم من معه وهو ثابت حتى عادوا إليه، فقاتل الفرنج وسبقهم إلى عسقلان وخرّبها، ثم مضى إلى الرملة وخرّب حصنها وخرّب كنيسة له ودخل القدس

ص: 408

فأقام بها إلى عاشر رجب سنة ثمان وثمانين، ثم سار إلى يافا فأخذها بعد حروب وعاد إلى القدس وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أوّلها حادي عشر شعبان، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية، ونودي بذلك، فكان يوما مشهودا، وعاد السلطان إلى دمشق فدخلها خامس عشري شوّال وقد غاب عنها أربع سنين، فمات بها في يوم الأربعاء سابع عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، عن سبع وخمسين سنة، منها مدّة ملكه بعد موت العاضد، اثنتان وعشرون سنة وستة عشر يوما، فقام من بعده بمصر ولده.

السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان «1» : وقد كان يومئذ ينوب عنه بمصر وهو مقيم بدار الوزارة من القاهرة، وعنده جلّ عساكر أبيه من الأسدية والسلاحية والأكراد، فأتاه ممن كان عند أخيه الملك الأفضل عليّ، الأمير فخر الدين جهاركس، والأمير فارس الدين ميمون القصريّ، والأمير شمس الدين سنقر الكبير، وهم عظماء الدولة، فأكرمهم. وقدم عليه القاضي الفاضل فبالغ في كرامته، وتنكر ما بينه وبين أخيه الأفضل، فسار من مصر لمحاربته وحصره بدمشق، فدخل بينهما العادل أبو بكر حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل، فلم يتم ذلك، وتوحش ما بينهما وخرج العزيز ثانيا إلى دمشق، فدبر عليه عمه العادل حتى كاد أن يزول ملكه وعاد خائفا، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس، فجرت أمور آلت إلى الصلح، وأقام العادل مع العزيز بمصر، وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق، فقام العادل بتدبير أمور الدولة، وخرج بالعزيز لمحاربة الأفضل فحصراه بدمشق حتى أخذاها منه بعد حروب وبعثاه إلى صرخد، وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق حتى مات العزيز في ليلة العشرين من محرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عن سبع وعشرين سنة وأشهر، منها مدّة سلطنته بعد أبيه ست سنين تنقص شهرا واحدا، فأقيم بعده ابنه.

السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد «2» : وعمره تسع سنين وأشهر بعهد من أبيه، وقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسديّ الأتابك، فاختلف عليه أمراء الدولة وكاتبوا الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين، فقدم من صرخد في خامس ربيع الأوّل، فاستولى على الأمور ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم، ثم سار به من القاهرة في ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمه العادل بعد ما قبض على عدّة من الأمراء، وقد توجه العادل إلى ماردين، فحصر الأفضل دمشق، وقد بلغ العادل خبره فعاد وسار يريده حتى دخل دمشق، فجرت حروب كثيرة آلت إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبرها عليه العادل، وخرج العادل في أثره وواقعه على بلبيس فكسره في سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين،

ص: 409

والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح، فعوّضه العادل صرخد ودخل إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشره، وأقام بأتابكية المنصور ثم خلعه في يوم الجمعة حادي عشر شوّال، وكانت سلطنته سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما، واستبدّ بالسلطنة بعده عمّ أبيه.

السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب «1» : فخطب له بديار مصر وبلاد الشام وحرّان والرها وميافارقين، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، واستناب ابنه الملك الكامل محمدا عنه، وعهد إليه بعده بالسلطنة، وحلف له الأمراء، فسكن قلعة الجبل واستمرّ أبوه في دار الوزارة، وفي أيامه توقفت زيادة النيل ولم يبلغ سوى ثلاثة عشر ذراعا تنقص ثلاثة أصابع، وشرقت أراضي مصر إلّا الأقل، وغلت او سعار وتعذر وجود الأقوات حتى أكلت الجيف، وحتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتبع ذلك فناء كبير وامتدّ ذلك ثلاث سنين، فبلغت عدّة من كفنه العادل وحده من الأموات في مدّة يسيرة نحو مائتي ألف وعشرين ألف إنسان، فكان بلاء شنيعا، وعقب ذلك تحرّك الفرنج على بلاد المسلمين في سنة تسع وتسعين، فكانت معهم عدّة حروب على بلاد الشام آلت إلى أن عقد العادل معهم الهدنة، فعاودوا الحرب في سنة ستمائة وعزموا على أخذ القدس، وكثر عيثهم وفسادهم، وكانت لهم وللمسلمين شؤون آلت إلى نزولهم على مدينة دمياط في رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة، والعادل يومئذ بالشام، فخرج الملك الكامل لمحاربتهم، فمات العادل بمرج الصفر في يوم الخميس سابع جمادى الآخرة منها وحمل إلى دمشق، فكانت مدّة سلطنته بديار مصر تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما وقام من بعده ابنه.

السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد «2» : بعهد أبيه. فأقام في السلطنة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما ومات بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأقيم بعده ابنه.

السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر: فاشتغل باللهو عن التدبير، وخرجت عنه حلب، واستوحش منه الأمراء لتقريبه الشباب، وسار أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب من بلاد الشرق إلى دمشق وأخذها في أوّل جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وجرت له أمور آخرها أنه سار إلى مصر فقبض الأمراء على العادل وخلعوه يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، فكانت سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة. وقام بعده بالسلطنة أخوه.

السلطان الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب «3» : فاستولى على قلعة الجبل في

ص: 410