الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متحفّظا لقوانين الدولة، فلم يحدث شيئا ولا خرج عمّا يعيّنه الخليفة له إلا أنه بلغه عن أستاذ من خواصّ الخليفة شيء يكرهه فقبض عليه من القصر من غير مشاورة الخليفة، وضرب عنقه بخزانة «1» البنود، فاستوحش منه الخليفة وخشي من زيادة معناه. وكانت هذه الفعلة غلطة منه، ثمّ إنه خاف من صبيان الخاصّ أن يفتكوا به كما فتكوا بكتيفات، فتنكّر لهم، وتخوّفوه أيضا، فركب في خاصّته وأركب العسكر، وركب صبيان الخاص، فكانت بينهما وقعة قبالة باب التبّانين بين القصرين، قوي فيها يأنس، وقتل من صبيان الخاصّ ما يزيد على ثلثمائة رجل من أعيانهم، فيهم قتلة أبي عليّ كتيفات، وكانوا نحو الخمسمائة فارس، فانكسرت شوكتهم وضعف جانبهم، واشتدّ بأس يأنس وعظم شأنه، فثقل على الخليفة. وتحيّل منه فأحسّ بذلك، فأخذ كلّ منهما في التدبير على الآخر، فأعجل يأنس وقبض على حاشية الخليفة، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح بن قادوس وقتلهما، فاشتدّ ذلك على الحافظ، ودعا طبيبه وقال: اكفني أمر يأنس! فيقال أنّه سمّه في ماء المستراح فانفتح دبره واتّسع حتّى ما بقي يقدر على الجلوس، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك، فلو أنّ مولانا عاده في هذه المرضة اكتسب حسن الأحدوثة، فإنّ هذا المرض ليس له دواء إلا الدّعة والسكون، ولا شيء عليه أضرّ من الحركة والانزعاج، وهو إذا سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ للقاء وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. فنهض لعيادته، وعند ما بلغ ذلك يأنس قام ليلقاه ونزل عن الفراش وجلس بين يدي الخليفة، فأطال الخليفة جلوسه عنده وهو يحادثه، فلم يقم حتّى سقطت أمعاء يأنس، ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما، وترك ولدين كفلهما الحافظ وأحسن إليهما. وكان يأنس هذا مولى أرمنيّا لباديس جدّ عبّاس الوزير، فأهداه إلى الأفضل بن أمير الجيوش، وترقّى في خدمته إلى أن تأمّر، ثمّ ولي الباب وهي أعظم رتب الأمراء، وكنّي بأبي الفتح، ولقّب بالأمير السعيد، ثم لمّا ولي الوزارة نعت بناصر الجيوش سيف الإسلام، وكان عظيم الهمّة بعيد الغور كثير الشرّ شديد الهيبة «2» .
ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ
ولمّا مات الوزير يأنس تولّى الخليفة الحافظ الأمور بنفسه، ولم يستوزر أحدا، وأحسن السيرة. فلمّا كان في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عهد إلى ولده سليمان، وكان أسنّ أولاده وأحبّهم إليه، وأقامه مقام الوزير، فمات بعد شهرين من ولاية العهد، فجعل مكانه أخاه حيدرة في ولاية العهد، ونصّبه للنظر في المظالم، فشق ذلك على أخيه الأمير
حسن- وكان كثير المال متّسع الحال له عدّة بلاد ومواشي وحاشية وديوان»
مفرد- فسعى في نقض ذلك بأن أوقع الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، وكانت الريحانية قويّة الشوكة مهابة مخوفة الجانب، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، وصاح الجند: يا حسن يا منصور، يا للحسينية؛ والتقى الفريقان فقتل بينهما ما يزيد على خمسة آلاف نفس، فكانت هذه الوقعة أوّل مصائب الدولة الفاطمية من فقد رجالها ونقص عساكرها، فلم يبق من الطائفة الريحانية إلا من نجا بنفسه من ناحية المقس «2» ، وألقى نفسه في بحر النيل.
واستظهر الأمير حسن وقام بالأمر، وانضمّ إليه أوباش الناس ودعّارهم، ففرّق فيهم الزرد وسمّاهم صبيان الزرد، وجعلهم خاصّته، فاحتفوا به وصاروا لا يفارقونه، فإن ركب أحاطوا به، وإن نزل لازموا داره، فقامت قيامة الناس منهم. وشرع في تتبّع الأكابر، فقبض على ابن العسّاف وقتله، وقصد أباه الخليفة الحافظ وأخاه حيدرة بالضرر حتّى خافا منه وتغيّبا، فجدّ في طلب أخيه حيدرة، وهتك بأوباشه الذين اختارهم حرمة القصر، وخرق ناموسه، وسلّطهم يفتّشون القصر في طلب الخليفة الحافظ وابنه حيدرة، واشتدّ بأسهم، وحسّنوا له كلّ رذيلة، وجرّوه على الأذى، فلم يجد الحافظ بدّا من مداراة حسن وتلافي أمره عساه ينصلح، وكتب سجلا بولايته العهد وأرسله إليه فقرىء على الناس، فما زاده ذلك إلا جرأة عليه وإفسادا له، وشدّد في التضييق على أبيه وأخذ بأنفاسه. فبعث حينئذ الخليفة بالأستاذ ابن إسعاف إلى بلاد الصعيد ليجمع من يقدر عليه من الريحانيّة، فمضى واستصرخ الناس لنصرة الخليفة على ولده حسن، وجمع أمما لا يحصيها إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنا فزجّ عسكر اللقاء إسعاف، فالتقيا وكانت بينهما وقعة هبّت فيها ريح سوداء على عسكر إسعاف حتّى هزمتهم، وركبهم عسكر حسن فلم ينج منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وأخذ إسعاف أسيرا، فحمل إلى القاهرة على جمل وفي رأسه طرطور «3» لبد أحمر. فلمّا وصل بين القصرين رشق بالنشّاب حتّى هلك، ورمي من القصر الغربي بأستاذ آخر، فقتل، وقتل الأمير شرف الدين. فاشتدّ ذلك على الحافظ وخاف على نفسه؛ فكتب ورقة- وكاد ابنه بأن ألقى إليه تلك الورقة- وفيها: يا ولدي؛ أنت على كلّ حال ولدي، ولو عمل كلّ منّا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه، ولا يحملني قلبي، وقد انتهى الأمر إلى أمراء الدولة وهم فلان وفلان، وقد شدّدت وطأتك عليهم وخافوك وهم معوّلون على قتلك، فخذ حذرك يا ولدي.
فعند ما وقف حسن على الورقة غضب ولم يتأنّ، وبعث إلى أولئك، فلمّا صاروا إليه
أمر صبيان الزرد بقتلهم، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا عدّة من أعيان الأمراء، وأحاط بدورهم وأخذ سائر ما فيها، فاشتدّت المصيبة وعظمت الرزيّة، وتخوّف من بقي من الجند ونفروا منه، فإنّه كان جريئا مفسدا شديد الفحص عن أحوال الناس والاستقصاء لأخبارهم يريد إقلاب الدولة وتغييرها ليقدّم أوباشه، وأكثر من مصادرة الناس، وقتل قاضي القضاة أبا الثريّا نجم لأنه كان من خواصّ أبيه، وقتل جماعة من الأعيان، وردّ القضاء لابن ميسّر، وتفاقم أمره وعظم خطبه واشتدّت الوحشة بينه وبين الأمراء والأجناد، وهمّوا بخلع الحافظ ومحاربة ابنه حسن، وصاروا يدا واحدة، واجتمعوا بين القصرين وهم عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، وسيّروا إلى الحافظ يشكون ما هم فيه من البلاء مع ابنه حسن ويطلبون منه أن يزيله من ولاية العهد، فعجز حسن عن مقاومتهم، فإنه لم يبق معه سوى الراجل من الطائفة الجيوشية ومن يقول بقولهم من الغزّ الغرباء، فتحيّر وخاف على نفسه، فالتجأ إلى القصر وصار إلى أبيه الحافظ، فما هو إلا أن تمكّن منه أبوه، فقبض عليه وقيّده وبعث إلى الأمراء يخبرهم بذلك، فأجمعوا على قتله، فردّ عليهم أنه قد صرفه عنهم ولا يمكّنه أبدا من التصرّف، ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات وأن يكفّوا عن طلب قتله، فألحّوا في قتله وقالوا: إمّا نحن «1» وإمّا هو.
اشتدّ طلبهم إياه حتّى أحضروا الأحطاب والنيران ليحرقوا القصر، وبالغوا في التجرّؤ على الخليفة فلم يجد بدّا من إجابتهم إلى قتله، وسألهم أن يمهلوه ثلاثا، فأناخوا بين القصرين، وأقاموا على حالهم حتّى تنقضي الثلاث، فما وسع الحافظ إلا أن استدعى طبيبيه وهما أبو منصور اليهوديّ وابن قرقة «2» النصرانيّ، وبدأ بأبي منصور وفاوضه في عمله سقية قاتله، فامتنع من ذلك وحلف بالتوراة أنه لا يعرف عمل شيء من ذلك، فتركه وأحضر ابن قرقة وكلّمه في هذا فقال: الساعة، ولا يتقطّع منها جسده، بل تفيض النفس لا غير. فأحضر السقية من يومه، فبعثها إلى حسن مع عدّة من الصقالبة، وما زالوا يكرهونه على شربها حتّى فعل، ومات في العشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فبعث الحافظ إلى القوم سرّا يقول: قد كان ما أردتم، فامضوا إلى دوركم؛ فقالوا: لا بدّ أن يشاهده منّا من نثق به، وندبوا منهم أميرا معروفا بالجرأة والشرّ يقال له المعظّم جلال الدين محمد، ويعرف بجلب راغب الآمري، فدخل إلى القصر وصار جنب حسن، فإذا به قد سجّي بثوب، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه آلة من حديد، وغرزه بها في عدّة مواضع من بدنه إلى أن تيقّن أنه قد مات، وعاد إلى القوم وأخبرهم، فتفرّقوا.
وعند ما سكنت الدهماء حقد الحافظ لابن قرفة وقتله بخزانة البنود، وأنعم بجميع ما كان له على أبي منصور اليهودي، وجعله رئيس الأطباء، فهذا ما كان من خبر يأنس وكيفيّة موته وخبر حسن والخبر عن قتله.
حارة المنتجبية: قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنّ رجلا كان يتحجّب لشمس الدين قاضي زادة كان يقول: إنّ هذه الخطّة «1» منسوبة لجدّة منتجب الدولة.
الحارة المنصورية: هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدا فيها عدّة مساكن السودان، فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين، أمر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بتخريب المنصورة هذه، وتعفية أثرها، فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين، وعملها بستانا. وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره احتراما لهم. وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا، وإذا ثاروا على وزير قتلوه، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم، وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره يقول العماد «2» الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب:
بالملك الناصر استنارت
…
في عصرنا أوجه الفضائل
يوسف مصر الذي إليه
…
تشدّ آمالنا الرواحل
رأيك في الدهر عن رزايا
…
جلى مهماته الجلائل
أجريت نيلين في ثراها
…
نيل نجيع ونيل نائل
كم كرم من نداك جار
…
وكم دم من عداك سائل
وكم معاد بلا معاد
…
ومستطيل بغير طائل
وحاسد كاسد المساعي
…
وسائد نافق الوسائل
أقررت عين الإسلام حتّى
…
لم يبق فيها قذى لباطل
وكيف يزهى بملك مصر
…
من يستقلّ ذنبا لنائل
وما نفيت السودان حتّى
…
حكمت البيض في المقاتل
صيّرت رحب الفضا مضيقا
…
عليهم كفّة لجائل
وكلّ رأي منهم كرا
…
وأرض مصر كلام واصل
وقد خلت منهم المغاني
…
وأقفرت منهم المنازل
وما أصيبوا إلا بطلّ
…
فكيف لو أمطروا بوابل؟
وقد تجلّى بالحقّ ما بال
…
باطل في مصر كان عاجل
والسود بالبيض قد تنحّوا
…
فهي بواديهم نوازل
مؤتمن القوم خان حتّى
…
غالته من شرّه الغوائل
عاملكم بالخنا «1» فأضحى
…
ورأسه فوق رأس عامل «2»
وحالف الذلّ بعد عزّ
…
والدهر أحواله حوائل
يا مخجل البحر بالأيادي
…
قد آن أن تفتح السواحل
نقدّس القدس من خباث
…
أرجاس كفر غتم أراذل «3»
وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر: كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين، وأخذها خطلبا، فعمرها بستانا وحوضا، وهي إلى جانب الباب الحديد، يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية، فيما بينها وبين الهلالية، وقد حكر هذا البستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام، ويسمّى الآن بحكر الغتمي، لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة، وهي الآن أحكار الديوان السلطاني، وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون.
حارة المصامدة: هذه الحارة عرفت بطائفة المصامدة أحد طوائف عساكر الخلفاء الفاطميين، واختطّت في وزارة المأمون «4» البطائحي وخلافة الآمر بأحكام الله بعد سنة خمس عشرة وخمسمائة. قال ابن عبد الظاهر: حارة المصامدة مقدّمهم عبد الله المصمودي. وكان المأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله قدّمه ونوّه بذكره وسلّم له أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه، فلما استخلص المصامدة وقرّبهم سيّر أبا بكر المصمودي ليختار لهم حارة، فتوجّه بالجماعة إلى اليانسية بالشارع، فلم يجد بها مكانا، ووجدها تضيق عنهم، فسيّر المهندسين لاختيار حارة لهم، فاتفقوا على بناء حارة ظاهر باب الحديد على يمنة الخارج على شاطىء بركة الفيل، فقال: بل تكون على يسرة
الخارج والفسح قدّامها إلى بركة الفيل. فبنيت الحارة على يسرة الخارج من الباب المذكور، وبني بجانبها مسجد على زلاقة الباب المذكور، وبنى أبو بكر المصمودي مسجدا أيضا، وهذه فيما أعتقد هي الهلالية، وحذّر من بناء شيء قبالتها في الفضاء الذي بينها وبين بركة الفيل لانتفاع الناس، بها وصار ساحل بركة الفيل من المسجد قبالة هذه الحارة إلى آخر حصن دويرة مسعود إلى الباب الحديد، ولم يزل ذلك إلى بعض أيام الخليفة الحافظ لدين الله. قال: وبنى في صفّ هذه الحارة من قبليّها عدّة دور بحوانيت تحتها إلى أن اتّصل البناء بالمساجد الثلاثة الحاكميّة المعلّقة والقنطرة المعروفة بدار ابن طولون وبعدها بستان ذكر أنه كان في جملة قاعات الدار المذكورة. قال: وأظنّ المساجد هي التي قبالة حوض الجاولي، قال: وبنى المأمون ظاهره حوضا وأجرى الماء له وذلك قبالة مشهد محمد الأصغر ومشهد السيّدة سكينة. قال: وأظنّ هذا البستان هو الذي بنته شجر «1» الدرّ بستانا ودارا وحمّامات قريب من مشهد السيّدة نفيسة، قال: وأمر المأمون بالنداء في القاهرة مع مصر ثلاثة أيام بأنّ من كانت له دار في الخراب أو مكان يعمر، ومن عجز عن أن يعمره فليؤجّره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخّر بعد ذلك فلا حقّ له في شيء منه ولا حكر يلزمه. وأباح تعمير ذلك جميعه بغير طلب بحقّ فيه، فطلب الناس كافة ما هو جار في الديوان السلطانيّ وغيره، وعمروه حتّى صار البلدان لا يتخلّلهما داثر ولا دارس، وبنى في الشارع يعني خارج باب زويلة من الباب الجديد إلى الجبل عرضا وهو القلعة الآن. قال: وكان الخراب استولى على تلك الأماكن في زمن المستنصر «2» في أيام وزارة البازوري حتّى أنه كان بنى حائطا يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا توجّه من القاهرة إلى مصر، وبنى حائطا آخر عند جامع «3» ابن طولون. قال: وعمر ذلك حتّى صار المتعيّشون بالقاهرة والمستخدمون يصلّون العشاء الأخيرة بالقاهرة ويتوجّهون إلى مساكنهم في مصر لا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود إلى باب الصفا وهو المعاصر الآن، وذلك أنه يخرج من الباب الحديد الحاكمي على يمنة بركة الفيل إلى بستان سيف الإسلام وعدّة بساتين، وقبالة جميع ذلك حوانيت مسكونة عامرة بالمتعيّشين إلى مصر والمعاش مستمر الليل والنهار.
حارة الهلالية: ذكر ابن عبد الظاهر أنّها على يسرة الخارج من الباب الحديد الحاكمي.
حارة البيازرة: هذه الحارة خارج باب القنطرة على شاطىء الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جنادق والكدّاشين، وإلى
قريب من حارة بهاء الدين، واختطت هذه الحارة في الأيام الآمرية، وذلك أن زمام «1» البيازرة شكا ضيق دار الطيور بمصر، وسأل أن يفسح للبيازرة في عمارة حارة على شاطىء الخليج بظاهر القاهرة لحاجة الطيور والوحوش إلى الماء، فأذن له في ذلك، فاختطّوا هذه الحارة وجعلوا منازلهم مناظر على الخليج، وفي كلّ دار باب سرّ ينزل منه إلى الخليج واتّصل بنا هذه الحارة بزقاق الكحل، فعرفت بهم وسميت بحارة البيازرة، واحدهم بازيار «2» ، ثم إنّ المختار الصقلبي زمام القصر أنشأ بجوارها بستانا وبنى فيه منظرة عظيمة، وهذا البستان يعرف اليوم موضعه ببستان ابن صيرم خارج باب الفتوح، فلما كثرت العمائر في حارة البيازرة أمر الوزير المأمون بعمل الأقنة «3» لشيّ الطوب على شاطىء الخليج الكبير إلى حيث كان البستان الكبير الجيوشيّ الذي تقدّم ذكره في ذكر مناظر الخلفاء ومنتزهاتهم.
حارة الحسينية: عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية. قال المسبّحي في حوادث سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وأمر بعمل شونة «4» ممّا يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فابتدىء بعملها في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وثلثمائة إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين، فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد، وظنّ كلّ من يتعلّق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أنّ هذه الشونة عملت لهم. ثمّ قويت الإشاعات وتحدّث العوام في الطرقات أنها للكتّاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم، فاجتمع سائر الكتّاب وخرجوا بأجمعهم في خامس ربيع الأوّل ومعهم سائر المتصرّفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة، ولم يزالوا يقبّلون الأرض حتّى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يدعون ويتضرّعون ويضجّون ويسألون العفو عنهم، ومعهم رقعة قد كتبت عن جميعهم إلى أن دخلوا باب القصر الكبير وسألوا أن يعفى عنهم ولا يسمع فيهم قول ساع يسعى بهم، وسلّموا رقعتهم إلى قائد القوّاد الحسين بن جوهر، فأوصلها إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فأجيبوا إلى ما سألوا، وخرج إليهم قائد القوّاد، فأمرهم بالانصراف والبكور لقراءة سجلّ بالعفو عنهم، فانصرفوا بعد العصر، وقرىء من الغد سجل كتب منه نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بأمان لهم والعفو عنهم. وقال:
في ربيع الآخر، واشتدّ خوف الناس من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصّة وزمامهم وأمرائهم من الحمدانية والكجورية والغلمان العرفان والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكميّة القدم
على اختلاف أصنافهم، وكتب أمان الجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعد ما تجمّعوا وصاروا إلى تربة للعزيز بالله وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم، وكتبت سجلّات عدّة بأمانات للديلم والجبل والغلمان الشرابية والغلمان الريحانية والغلمان البشارية والغلمان المفرّقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة، وكتبت عدّة أمانات للزويليين والبنادين والطبّالين والبرقيين والعطوفيين وللعرافة الجوانية والجودرية «1» وللمظفرّية وللصنهاجيين ولعبيد الشراء الحسينية وللميمونية وللفرحية وأمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيارزة والفهّادين والحجّالين وأمانات أخر لعدّة أقوام، كلّ ذلك بعد سؤالهم وتضرّعهم. وقال: في جمادى الآخرة وخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كلّ يلتمس كتب أمان يكون لهم، فكتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق على طبقاتهم نسخة واحدة، وكان يقرأ جميعها في القصر أبو عليّ أحمد بن عبد السميع العباسيّ، وتسلم أهل كل سوق ما كتب لهم، وهذه نسخة إحداها.
بعد البسملة: هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ، الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، لأهل مسجد عبد الله، أنكم من الآمنين بأمان الله، الملك الحق المبين، وأمان جدّنا محمد خاتم النبيين، وأبينا عليّ خير الوصيين، وآبائنا الذريّة النبويّة المهديين، صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم، ولا تمتدّ يد بسوء إليكم إلّا في حدّ يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه، فليوثق بذلك وليعوّل عليه إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى خير الوصيين، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوّة، وسلم تسليما كثيرا. وقال ابن عبد الظاهر:
فأمّا الحارات التي من باب الفتوح ميمنة وميسرة للخارج منه، فالميمنة إلى الهليلجة، والميسرة إلى بركة الأرمن برسم الريحانية، وهي الحسينية الآن، وكانت برسم الريحانية الغزاوية والمولدة والعجمان وعبيد الشراء، وكانت ثمان حارات وهي: حارة حامد، بين الحارتين، المنشية الكبيرة، الحارة الكبيرة، الحارة الوسطى، سوق الكبير، الوزيرية «2» وللأجناد بظاهر القاهرة حارات وهي: حارة البيازرة والحسينية جميع ذلك سكن الريحانية وسكن الجيوشية والعطوفية بالقاهرة، وبظاهرها الهلالية والشوبك وحلب والحبانية والمأمونية وحارة الروم وحارة المصامدة والحارة الكبيرة والمنصورة الصغيرة واليانسية وحارة أبي بكر والمقس ورأس التبان والشارع. ولم يكن للأجناد في هذا الوجه غير حارة
عنتر للمؤمنين المترجلة، وكانت كل حارة من هذه بلدة كبيرة بالبزازين والعطارين والجزارين وغيرهم، والولاة لا يحكمون عليها، ولا يحكم فيها إلّا الأزمة ونوّابهم، وأعظم الجميع الحارة الحسينية التي هي آخر صف الميمنة إلى الهليلجة، وهي الحسينية الآن، لأنها كانت سكن الأرمن، فارسهم وراجلهم، وكان يجتمع بها قريب من سبعة آلاف نفس وأكثر من ذلك، وبها أسواق عدّة.
وقال في موضع آخر: الحسينية منسوبة لجماعة من الأشراف الحسينيين، وكانوا في الأيام الكاملية قدموا من الحجاز، فنزلوا خارج باب النصر بهذه الأمكنة واستوطنوها، وبنوا بها مدابغ صنعوا بها الأديم المشبه بالطائفي، فسمّيت بالحسينية، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وابتنوا بها هذه الأبنية العظيمة، وهذا وهم، فإنه تقدّم أنّ جملة الطوائف في الأيام الحاكمية الطائفة الحسينية، وتقدّم فيما نقله ابن عبد الظاهر أيضا أنّ الحسينية كانت عدّة حارات، والأيام الكاملية، إنما كانت بعد الستمائة، وقد كانت الحسينية قبل ذلك بما ينيف عن مائتي سنة فتدبره.
واعلم أنّ الحسينية شقتان، إحداهما ما خرج عن باب الفتوح، وطولها من خارج باب الفتوح إلى الخندق، وهذه الشقة هي التي كانت مساكن الجند في أيام الخلفاء الفاطميين، وبها كانت الحارات المذكورة. والشقة الأخرى ما خرج عن باب النصر وامتدّ في الطول إلى الريدانية، وهذه الشقة لم يكن بها في أيام الخلفاء الفاطميين سوى مصلى العيد تجاه باب النصر، وما بين المصلى إلى الريدانية فضاء لا بناء فيه، وكانت القوافل إذا برزت تريد الحج تنزل هناك، فلما كان بعد الخمسين وأربعمائة وقدم بدر الجمالي أمير الجيوش، وقام بتدبير أمر الدولة الخليفة المنتصر بالله، أنشأ بحري مصلى العيد خارج باب النصر تربة عظيمة، وفيها قبره هو وولده الأفضل ابن أمير الجيوش، وأبو عليّ كتيفات بن الأفضل وغيره، وهي باقية إلى يومنا هذا. ثم تتابع الناس في إنشاء الترب هناك حتى كثرت، ولم تزل هذه الشقة مواضع للترب، ومقابر أهل الحسينية والقاهرة إلى بعد السبعمائة، ولقد حدّثت عن المشيخة ممن أدرك، بأنّ ما بين مصلى الأموات التي خارج باب النصر وبين دار كهرداش التي تعرف اليوم بدار الحاجب؛ مكانا يعرف بالمراغة، معدّ لتمريغ الدّواب به، وأنّ ما في صف المصلى من بحريها الترب فقط، ولم تعمر هذه الشقة إلا في الدولة التركية، لا سيما لما تغلب التتر على ممالك الشرق والعراق، وجفل الناس إلى مصر، فنزلوا بهذه الشقة وبالشقة الأخرى، وعمروا بها المساكن، ونزل بها أيضا أمراء الدولة فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة، واتخذ الأمراء بها من بحريها فيما بين الريدانية إلى الخندق مناخات الجمال، واصطبلات الخيل، ومن ورائها الأسواق والمساكن العظيمة في الكثرة، وصار أهلها يوصفون بالحسن، خصوصا لما قدمت الأويراتية.