الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسّر السلطان بذلك، وحصل للناس رفق، وقويت رغبتهم فيه، فاشتروا عدّة أراض من بيت المال غرست فيها الأشجار وصارت بساتين جليلة، وأخذ الناس في العمارة على حافتي الخليج، فعمر ما بين المقس وساحل النيل ببولاق، وكثرت العمائر على الخليج حتى اتصلت من أوّله بموردة البلاط إلى حيث يصب في الخليج الكبير بأرض الطبالة، وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج، وتنافس الناس في السكنى هناك، وأنشأوا الحمّامات والمساجد والأسواق، وصار هذا الخليج مواطن أفراح ومنازل لهو ومغنى صبابات وملعب أتراب ومحل تيه وقصف، فيما يمرّ فيه من المراكب وفيما عليه من الدور، وما برحت مراكب النزهة تمرّ فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف، كما يرد عند
ذكر القناطر
إن شاء الله تعالى.
ذكر خليج قنطرة الفخر
هذا الخليج يبتدئ من الموضع الذي كان ساحل النيل ببولاق، وينتهي إلى حيث يصب في الخليج الناصريّ، ويصب أيضا في خليج لطيف تسقى منه عدّة بساتين، وكل من هذين الخليجين معمور الجانبين بالأملاك المطلق عليه، والبساتين وجميع المواضع التي يمرّ فيها الخليج الناصريّ، وأرض هذين الخليجين كانت غامرة بالماء، ثم انحسر عنها الماء شيئا بعد شيء، كما ذكر في ظواهر القاهرة، وهذا الخليج حفر بعد الخليج الناصريّ.
ذكر القناطر
اعلم أن قناطر الخليج الكبير عدّتها الآن أربع عشرة قنطرة، وعلى خليج فم الخور قنطرة واحدة، وعلى خليج الذكر قنطرة واحدة، وعلى الخليج الناصريّ خمس قناطر، وعلى بحر أبي المنجا قنطرة عظيمة، وبالجيزة عدّة قناطر.
ذكر قناطر الخليج الكبير
قال القضاعي: القنطرتان اللتان على هذا الخليج، يعني خليج مصر الكبير، أما التي في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى، فإن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بناها في سنة تسع وستين، وكتب عليها اسمه، وابتنى قناطر غيرها، وكتب على هذه القنطرة المذكورة، هذه القنطرة أمر بها عبد العزيز بن مروان الأمير، اللهمّ بارك له في أمره كله، وثبت سلطانه على ما ترضى، وأقرّ عينه في نفسه وحشمه أمين. وقام ببنائها سعد أبو عثمان، وكتب عبد الرحمن في صفر سنة تسع وستين، ثم زاد فيها تكين أمير مصر في سنة عثمان عشرة وثلثمائة، ورفع سمكها، ثم زاد عليها الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، ثم عمرت في أيام العزيز بالله.
وقال ابن عبد الظاهر: وهذه القنطرة ليس لها أثر في هذا الزمان، قلت موضعها الآن خلف خط السبع سقايات، وهذه القنطرة هي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء، فلما انحسر النيل عن ساحل مصر اليوم، أهملت هذه القنطرة، وعملت قنطرة السدّ عند فم بحر النيل، فإن النيل كان قد ربى الجرف، حيث غيط الجرف الذي على يمنة من سلك من المراغة إلى باب مصر بجوار الكبارة.
قنطرة السد: هذه القنطرة موضعها مما كان غامرا بماء النيل قديما، وهي الآن يتوصل من فوقها إلى منشأة المهرانيّ وغيرها من برّ الخليج الغربيّ، وكان النيل عند إنشائها يصل إلى الكوم الأحمر الذي هو جانب الخليج الغربيّ الآن، تجاه خط بين الزقاقين، فإن النيل كان قد ربى جرفا قدّام الساحل القديم، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فأهملت القنطرة الأولى لبعد النيل، وقدّمت هذه القنطرة إلى حيث كان النيل ينتهي، وصار يتوصل منها إلى بستان الخشاب الذي موضعه اليوم يعرف بالمريس وما حوله، وكان الذي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في أعوام بضع وأربعين وستمائة، ولها قوسان، وعرفت الآن بقنطرة السدّ، من أجل أن النيل لما انحسر عن الجانب الشرقيّ وانكشفت الأراضي التي عليها الآن، خط بين الزقاقين إلى موردة الحلفاء، وموضع الجامع الجديد إلى دار النحاس، وما وراء هذه الأماكن إلى المراغة وباب مصر بجوار الكبارة، وانكشف من أراضي النيل أيضا الموضع الذي يعرف اليوم بمنشأة المهرانيّ، وصار ماء النيل إذا بدت زيادته يجعل عند هذه القنطرة سدّ من التراب حتى يسند الماء إليه إلى أن تنتهي الزيادة إلى ست عشرة ذراعا، فيفتح السدّ حينئذ ويمرّ الماء في الخليج الكبير كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، والأمر على هذا إلى اليوم.
قناطر السباع: هذه القناطر جانبها الذي يلي خط السبع سقايات من جهة الحمراء القصوى، وجانبها الآخر من جهة جنان الزهريّ، وأوّل من أنشأها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، ونصب عليها سباعا من الحجارة، فإن رنكه كان على شكل سبع، فقيل لها قناطر السباع من أجل ذلك، وكانت عالية مرتفعة، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ في موضع بستان الخشاب، حيث موردة البلاط، وتردّد إليه كثيرا، وصار لا يمرّ إليه من قلعة الجبل حتى يركب قناطر السباع، فتضرّر من علوّها وقال لومراء أنّ هذه القنطرة حين أركب إلى الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها، ويقال أنه أشاع هذا، والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله، وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يعرف به، وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر، فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به، كما كان يفعل دائما في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره، ومعرفة الآثار به ونسبتها له، فاستدعى الأمير علاء الدين عليّ بن حسن
المروانيّ والي القاهرة وشادّ الجهات، وأمره بهدم قناطر السباع، وعمارتها أوسع مما كانت بعشرة أذرع، وأقصر من ارتفاعها الأوّل، فنزل ابن المروانيّ وأحضر الصناع ووقف بنفسه حتى انتهى في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في أحسن قالب على ما هي عليه الآن، ولم يضع سباع الحجر عليها، وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ، فأقام به ونزل إليه السلطان مرارا، فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه، وأنه رسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر، واتفق أنه عوفي عقيب الفراغ من بناء القنطرة، وركب إلى القلعة، فسرّبه السلطان، وكان قد شغفه حبا، فسأله عن حاله وحادثه إلى أن جرى ذكر القنطرة، فقال له السلطان: أعجبتك عمارتها، فقال والله يا خوند: لم يعمل مثلها، ولكن ما كملت. فقال كيف، قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها، والناس يتحدّثون أن السلطان له عرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره، فامتغص لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه، فبادر إلى تركيبها في أماكنها، وهي باقية هناك إلى يومنا هذا إلّا أنّ الشيخ محمدا المعروف بصائم الدهر شوّه صورها كما فعل بوجه أبي الهول، ظنا منه أن هذا الفعل من جملة القربات ولله در القائل:
وإنما غاية كلّ من وصل
…
صيدا بنى الدنيا بأنواع الحيل
قنطرة عمر شاه: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ.
قنطرة طقزدمر: هذه القنطرة على الخليج الكبير بخط المسجد المعلق، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، وحكر قوصون وغيره.
قنطرة اق سنقر: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من خط قبو الكرمانيّ، ومن حارة البديعيين التي تعرف اليوم بالحبانية، ويمرّ من فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، وعرفت بالأميراق سنقرشادّ العمائر السلطانية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، عمرها لما أنشأ الجامع بالبركة الناصرية، ومات بدمشق سنة أربعين وسبعمائة.
قنطرة باب الخرق: يقال للأرض البعيدة التي تخرقها الريح لاستوائها، الخرق. وهذه القنطرة على الخليج الكبير، كان موضعها ساحلا وموردة للسقائين في أيام الخلفاء الفاطميين، فلما أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب الميدان السلطانيّ بأرض اللوق، وعمريه المناظر في سنة تسع وثلاثين وستمائة، أنشأ هذه القنطرة ليمرّ عليها إلى الميدان المذكور، وقيل قنطرة باب الخرق.
قنطرة الموسكي: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من باب الخوخة
وباب القنطرة، ويمرّ فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، أنشأها الأمير عز الدين موسك، قريب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان خيّرا يحفظ القرآن الكريم ويواظب على تلاوته، ويحب أهل العلم والصلاح، ويؤثرهم، ومات بدمشق يوم الأربعاء ثامن عشرى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
قنطرة الأمير حسين: هذه القنطرة على الخليج الكبير، ويتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، فلما أنشأ الأمير سيف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك الروميّ الجامع المعروف بجامع الأمير حسين في حكر جوهر النوبيّ، أنشأ هذه القنطرة ليصل من فوقها إلى الجامع المذكور، وكن يتوصل إليها من باب القنطرة، فثقل عليه ذلك واحتاج إلى أن فتح في السور الخوخة المعروفة بخوخة الأمير حسين من الوزيرية، فصارت تجاه هذه القنطرة، وقد ذكر خبرها عند ذكر الخوخ من هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.
قنطرة باب القنطرة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من القاهرة، ويمرّ فوقها إلى المقس وأرض الطبالة، وأوّل من بناها القائد جوهر لما نزل بمناخه وأدار السور عليه وبنى القاهرة، ثم قدم عليه القرطميّ، فاحتاج إلى الاستعداد لمحاربته، فحفر الخندق وبنى هذه القنطرة على الخليج عند باب جنان أبي المسك كافور الإخشيديّ، الملاصق للميدان والبستان الذي للأمير أبي بكر محمد الإخشيد، ليتوصل من القاهرة إلى المقس، وذلك في سنة ثنتين وستين وثلثمائة، وبها تسمى باب القنطرة، وكانت مرتفعة بحيث تمرّ المراكب من تحتها وقد صارت في هذا الوقت قريبة من أرض الخليج لا يمكن المراكب العبور من تحتها، وتسدّ بأبواب خوفا من دخول الزعار إلى القاهرة.
قنطرة باب الشعرية: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يسلك إليها من باب الفتوح، ويمشي من فوقها إلى أرض الطبالة، وتعرف اليوم بقنطرة الخرّوبيّ.
القنطرة الجديدة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من زقاق الكحل وخط جامع الظاهر، ويتوصل منها إلى أرض الطبالة وإلى منية الشيرج وغير ذلك، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة عند ما انتهى حفر الخليج الناصريّ، وكان ما على جانبي الخليج من القنطرة الجديدة هذه إلى قناطر الإوز عامرا بالأملاك، ثم خربت شيئا بعد شيء من حين حدث فصل الباردة بعد سنة ستين وسبعمائة، وفحش الخراب، هناك منذ كانت سنة الشراقي في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، فلما غرقت الحسينية بعد سنة الشراقي خربت المساكن التي كانت في شرقيّ الخليج، ما بين القنطرة الجديدة وقناطر الإوز، وأخذت أنقاضها وصارت هذه البرك الموجودة الآن.
قناطر الإوز: هذه القناطر على الخليج الكبير، يتوصل إليها من الحسينية، ويسلك من
فوقها إلى أراضي البعل وغيرها، وهي أيضا مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأدركت هناك أملاكا مطلّة على الخليج بعد سنة ثمانين وسبعمائة، وهذه القناطر من أحسن منتزهات أهل القاهرة أيام الخليج، لما يصير فيه من الماء، ولما على حافته الشرقية من البساتين الأنيقة، إلّا أنها الآن قد خربت. وتجاه هذه القنطرة منظرة البعل التي تقدّم ذكرها عند ذكر مناظر الخلفاء، وبقيت آثارها إلى الآن، أدركناها يعطن فيها الكتان، وبها عرفت الأرض التي هناك، فسميت إلى الآن بأرض البعل، وكان هناك صف من شجر السنط قد امتدّ من تجاه قناطر الإوز إلى منظرة البعل، وصار فاصلا بين مزرعتين يجلس الناس تحته في يومي الأحد والجمعة للنزهة، فيكون هناك من أصناف الناس رجالهم ونسائهم ما لا يقع عليه بصر، ويباع هناك مآكل كثيرة، وكان هناك حانوت من طين تجاه القنطرة يباع فيها السمك، أدركتها وقد استؤجرت بخمس آلاف درهم في السنة، عنها يومئذ نحو مائتين وخمسين مثقالا من الذهب، على أنه لا يباع فيما السمك إلّا نحو ثلاثة أشهر أو دون ذلك، ولم يزل هذا السنط إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، فقطع. وإلى اليوم تجتمع الناس هناك، ولكن شتان بين ما أدركنا وبين ما هو الآن، وقيل لها قناطر الإوز.
قناطر بني وائل: هذه القناطر على الخليج الكبير تجاه التاج، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعرفت بقناطر بني وائل من أجل أنه كان بجانبها عدّة منازل يسكنها عرب ضعاف بالجانب الشرقيّ، يقال لهم بنو وائل، ولم يزالوا هناك إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، وكان بجانب هذه القناطر من الجانب الغربيّ مقعد أحدثه الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ لأخذ المكوس، واستمرّ مدّة ثم خرب، ولم ير أحسن منظرا من هذه القنطرة في أيام النيل وزمن الربيع.
قنطرة الأميرية: هذه القنطرة هي آخر ما على الخليج الكبير من القناطر بضواحي القاهرة، وهي تجاه الناحية المعروفة بالأميرية، فيما بينها وبين المطرية، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعند هذه القنطرة ينسدّ ماء النيل إذا فتح الخليج عند وفاء زيادة النيل ست عشرة ذراعا، فلا يزال الماء عند سدّ الأميرية هذا إلى يوم النوروز، فيخرج والي القاهرة، إليه ويشهد على مشايخ أهل الضواحي بتغليق أراضي نواحيهم بالريّ، ثم يفتح هذا السدّ فيمرّ الماء إلى جسر شيبين القصر، ويسدّ عليه حتى يروى ما على جانبي الخليج من البلاد، فلا يزال الماء واقفا عند سدّ شيبين إلى يوم عيد الصليب، وهو اليوم السابع عشر من النوروز، فيفتح حينئذ بعد شمول الريّ جميع تلك الأراضي، وليس بعد قنطرة الأميرية هذه قنطرة سوى قنطرة ناحية سرياقوس، وهي أيضا إنشاء الملك الناصر محمد بن قلاون، وبعد قنطرة سرياقوس جسر شيبين القصر، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.
قنطرة الفخر: هذه القنطرة بجوار موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب برأس الميدان، وهي أوّل قنطرة عمرت على الخليج الناصريّ على فمه، أنشأها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله بن خروف القبطيّ، المعروف بالفخر ناظر الجيش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، ومات في رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وقد أناف على السبعين سنة، وتمكن في الرياسة تمكنا كبيرا.
قنطرة قدادار: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ، يتوصل إليها من اللوق، ويمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل، وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب، فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانا عظيما، كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب، وعرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي، وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليّ الغربية من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فلقي أهل البلاد منه شرّا كثيرا، ثم انتقل إلى ولاية البحيرة، فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس، وتعنت الناس فيها، وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر، وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ، ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن، فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى السرحة بناحية سرياقوس، بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس، وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قليل الحرمة على السوقة، وكان السلطان كثير النفور من العامّة، شديد البغض لهم، ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارا قبيحة، ويشهر منهم جماعة، فلم يبلغ من ذلك غرضه، فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس، وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله، فما زال به النائب حتى عفا عنه. وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر، فاختار ولاية قدادار عوضه، لما يعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء، فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة.
فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرا منهم بالمقارع ضربا مبرّحا، وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم، ونادى في البلد من ردّ فلسا سمّر، ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة، فهابته العامّة وذعروا منه، وأخذ يتتبع من عصر خمرا، وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب، فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم، ثم أحضر خفراء
الحارات والأخطاط، ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر، فاشتهر ذلك بين الناس وخافوه، فحوّل أهل حارة زويلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية، وألقوها في الأزقة، وبذلوا المال لمن يأخذها منهم، فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير، حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم، ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئا كثيرا، ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها، ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئا كثيرا من الحشيش، وأحرقه عند باب زويلة، واستمرّ الحال مدّة شهر، ما من يوم إلّا ويهرق فيه خمر عند باب زويلة، ويحرق حشيش، فطهر الله به البلد من ذلك جميعه، وتتبع الزعّار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد، فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك، وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته، حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة، ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء، صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم، ورد علينا وإلينا، يعنون الخازن، فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال: يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة، إلّا ظالما مثل هذا، ما يخاف الله تعالى، وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له: لا تشاور في أمر المفسدين، فلم يغترّ بذلك، ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير، وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر، واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم، فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر، فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر، أهانه وقال: إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات، وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فعل ذلك من الفساد الكبير، وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور، وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت، فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية، فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس، ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يسمر هناك، وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، وأقام عنه نائبا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة، منه في كل يوم بثلاثمائة درهم، وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعا لكثرة ما هتك أستارهم، وخرق بكثير من المستورين، وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس، وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه» إليه، فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان، فلم يلتفت لما يقال فيه، والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان، فخلا الجوّ لقدادار، وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه، والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسوما لسائر عماله وولاته إن أحدا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره، ما خلا قدادار مستولي القاهرة
فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس، فدهى الناس منه بعظائم، وشرع في كبس بيوت السعداء، ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد، فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به، وتعنت على الباعة، ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة، فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة، واستجدّ على كل حارة دربا، وألزم الناس بعمل ذلك، فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة، وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط، فظفر بإنسان قد سرق شيئا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء، فسمّره على باب زويلة، وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة، فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ، فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف، فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة.
قنطرة الكتبة: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ بخط بركة قرموط، عرفت بذلك لكثرة من كان يسكن هناك من الكتاب، أنشأها القاضي شمس الدين عبد الله بن أبي سعيد بن أبي السرور الشهير بغبريال بن سعيد ناظر الدولة، وولي تظر الدواوين بدمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، إليها من نظر البيوت بديار مصر، ثم استدعي من دمشق وقرر في وظيفة ناظر النظار شريكا للقاضي شهاب الدين الأفقهسيّ، واستقرّ كريم الدين الصغير مكانه ناظرا بدمشق، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ثم صرف غبريال من النظر بديار مصر وسفر إلى دمشق في ثامن عشر صفر سنة ست وعشرين، وطلب كريم الدين الصغير من دمشق، ثم قرّر في مكان غبريال في وظيفة النظر بديار مصر الخطير، كاتب أرغون أخو الموفق وأعيد غبريال إلى نظر دمشق ومات بدمشق بعد ما صودر وأخذ منه نحو ألفي درهم، في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وادركنا الأملاك منتظمة بجانبي هذا الخليج من أوّله بموردة البلاط إلى هذه القنطرة، ومن هذه القنطرة إلى حيث يصب في الخليج الكبير، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، شرع الناس في هدم ما على هذا الخليج من المناظر البهجة والمساكن الجليلة، وبيع أنقاضها، حتى ذهب ما كان على هذا الخليج من المنازل ما بين قنطرة الفخر التي تقدّم ذكرها، وآخر خط بركة قرموط، وأصبحت موحشة قفراء، بعد ما كانت مواطن أفراح ومغنى صبابات، لا يأويها إلّا الغربان والبوم، سنة الله في الذين خلوا من قبل.
قنطرة المقسيّ: هذه القنطرة على خليج فم الخور، وهو الذي يخرج من بحر النيل ويلتقي مع الخليج الناصريّ عند الدكة، فيصيران خليجا واحدا يصب في الخليج الكبير، كان موضعها جسرا يستند عليه الماء إذا بدت الزيادة إلى أن تكمل أربعة عشر ذراعا، فيفتح ويمرّ الماء فيه إلى الخليج الناصريّ وبركة الرطليّ، ويتأخر فتح الخليج الكبير حتى يرقي الماء ستة عشر ذراعا، فلما انطرد ماء النيل عن البرّ الشرقيّ، بقي تاجه هذا الخليج في أيام
احتراق النيل رملة لا يصل إليها الماء إلّا عند الزيادة، وصار يتأخر دخول الماء في الخليج مدّة، وإذا كسر سدّ الخليج الكبير عند الوفاء، مرّ الماء هذا الخليج مرورا قليلا، وما زال موضع هذه القنطرة سدّا إلى أن كانت وزارة الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد الله المقسيّ، في أيام السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين، فأنشأ بهذا المكان القنطرة فعرفت به، واتصلت العمائر أيضا بجانبي هذا الخليج من حيث يبتدئ إلى أن يلتقي مع الخليج الناصريّ، ثم خرب أكثر ما عليه من العمائر والمساكن بعد سنة ست وثمانمائة، وكان للناس بهذا الخليج مع الخليج الناصريّ في أيام النيل مرور في المراكب للنزهة، يخرجون فيه عن الجدّ بكثرة التهتك والتمتع بكل ما يلهي، إلى أن ولي أمر الدولة بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين، الأميران برقوق وبركة، فقام الشيخ محمد المعروف بصائم الدهر في منع المراكب من المرور بالمتفرّجين في الخليج، واستفتى شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، فكتب له بوجوب منعهم لكثرة ما ينتهك في المراكب من الحرمات ويتجاهر به من الفواحش والمنكرات، فبرز مرسوم الأميرين المذكورين بمنع المراكب من الدخول إلى الخليج، وركّبت سلسلة على قنطرة المقسيّ هذه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فامتنعت المراكب بأسرها من عبور هذا الخليج إلّا أن يكون فيها غلة أو متاع، فقلق الناس لذلك وشق عليهم وقال الشهاب أحمد بن العطار الدنيسريّ في ذلك:
حديث فم الخور المسلسل ماؤه
…
بقنطرة المقسيّ قد سار في الخلق
ألا فاعجبوا من مطلق ومسلسل
…
يقول لقد أوقفتم الماء في حلقي
وقال:
تسلسلت قنطرة المقسيّ مم
…
اقد جرى والمنع أضحى شاملا
وقال أهل طبنة في مجنهم
…
قوموا بنا نقطع السلاسلا
ولم تزل مراكب الفرجة ممتنعة من عبور الخليج إلى أن زالت دولة الظاهر برقوق، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فأذن في دخولها وهي مستمرّة إلى وقتنا هذا.
قنطرة باب البحر: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من باب البحر ويمرّ الناس من فوقها إلى بولاق وغيره، وهي مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد كان موضعها في القديم غامرا بالماء عند ما كان جامع المقس مطلا على النيل، فلما انحسر الماء عن برّ القاهرة صار ما قدّام باب البحر رملة، فإذا وقف الإنسان عند باب البحر رأى البرّ الغربيّ، لا يحول بينه وبين رؤيته بنيان ولا غيره، فإذا كان أوان زيادة ماء النيل صار الماء إلى باب
البحر، وربما جلفط في بعض السنين خوفا من غرق المقس، ثم لما طال المدى غرق خارج باب البحر بأرض باطن اللوق، وغرس فيه الأشجار فصار بساتين ومزارع، وبقي موضع هذه القنطرة جرفا، ورمى الناس عليه التراب فصار كوما يشنق عليه أرباب الجرائم، ثم نقل ما هنالك من التراب وأنشئت هذه القنطرة ونودي في الناس بالعمارة، فأوّل ما بني في غربيّ هذه القنطرة مسجد المهاميزيّ وبستانه، ثم تتابع الناس في العمارة حتى انتظم ما بين شاطيء النيل ببولاق وباب البحر عرضا، وما بين منشأة المهراني ومنية الشيرج طولا، وصار ما بجانبي الخليج معمورا بالدور ومن ورائها البساتين والأسواق والحمّامات والمساجد، وتقسمت الطرق وتعدّدت الشوارع وصار خارج القاهرة من الجهة الغربية عدّة مدائن.
قنطرة الحاجب: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من أرض الطبالة، ويسير الناس عليها إلى منية الشيرج وغيرها، أنشأها الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة ست وعشرين وسبعمائة، وذلك أنه كانت أرض الطبالة بيده، فلما شرع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في حفر الخليج الناصريّ، التمس بكتمر من المهندسين إذا وصلوا بالحفر إلى حيث الجرف أن يمرّوا به على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الرطليّ، وينتهوا من هناك إلى الخليج الكبير، ففعلوا ذلك وكان قصدهم أولا أنه إذا انتهى الحفر إلى الجرف مرّوا فيه إلى الخليج الكبير من طرف البعل، فلما تهيأ لبكتمر ذلك عمرت له أراضي الطبالة كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر البرك، فعمرت هذه القنطرة في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأسند إليها جسرا عمله حاجزا بين بركة الحاجب المعروفة ببركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور، ولما عمرت هذه القنطرة اتصلت العمائر فيما بينها وبين كوم الريش، وعمر قبالتها ربع عرف بربع الزيتيّ، وكان على ظهر القنطرة صفان من حوانيت، وعليها سقيفة تقي حرّ الشمس وغيره، فلما غرق كوم الريش في سنة بضع وستين وسبعمائة صار هذا الكوم الذي خارج القنطرة، ومن تحت هذه القنطرة يصب الخليج الناصريّ في الخليج الكبير، ويمرّ إلى حيث القنطرة الجديدة وقناطر الأوز وغيرها، كما تقدّم ذكره.
قنطرة الدكة: هذه القنطرة كانت تعرف بقنطرة الدكة، ثم عرفت بقنطرة التركمانيّ من أجل أن الأمير بدر الدين التركمانيّ عمرها، وهذه القنطرة كانت على خليج الذكر، وقد انطم ما تحتها وصارت معقودة على التراب لتلاف خليج الذكر، ولله در ابراهيم المعمار حيث يقول:
يا طالب الدّكّة نلت المنى
…
وفزت منها ببلوغ الوطر
قنطرة من فوقها دكّة
…
من تحتها تلقى خليج الذكر
قناطر بحر أبي المنجا: هذه القناطر من أعظم قناطر مصر وأكبرها، أنشأها السلطان