الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقال والله أعلم، أنّ بلهيت الذي يعرف اليوم بأبي الهول، طلسم وضعه القدماء لقلب الرمل عن برّ مصر الغربيّ الذي يعرف اليوم ببرّ الجيزة، وأنه كان في البرّ الشرقيّ بجوار قصر الشمع صنم من حجارة على مسامتة أبي الهول، بحيث لو امتدّ خيط من رأس أبي الهول وخرج على استواء، لسقط على رأس هذا الصنم، وكان مستقبل المشرق، وأنه وضع أيضا لقلب الرمل عن البرّ الشرقيّ، فقدّر الله سبحانه وتعالى أن كسر هذا الصنم على يد بعض أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون، في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وحفر تحته حتى بلغ الحفر إلى الماء، ظنا أنه يكون هناك كنز، فلم يوجد شيء، وكان هذا الصنم يعرف عند أهل مصر بسريّة أبي الهول، فكان عقيب ذلك غلبة النيل على البرّ الشرقيّ، وصارت هذه الجزائر الموجودة اليوم، وكذلك قام شخص من صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر في تغيير المنكر أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فشوّه وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة، وشوّه وجه أبي الهول، فغلب الرمل على أراضي الجيزة، ولا ينكر ذلك، فلله في خليقته أسرار يطلع عليها من يشاء من عباده، والكلّ بخلقه وتقديره.
وقد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر، في خبر الواحات الداخلة، أن في تلك الصحارى كانت أكثر مدن ملوك مصر العجيبة وكنوزهم، إلا أن الرمال غلبت عليها. قال: ولم يبق بمصر ملك إلّا وقد عمل للرمال طلسما لدفعها، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان.
وذكر ابن يونس عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر، قال ابن سالم: فقلت له ما يخرجنا منها يا أبا محمد أعدوّ؟ قال:
لا ولكنكم يخرجكم منها نيلكم، هذا يغور فلا تبقى منه قطرة، حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه.
وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير قال: إنّ الصحابيّ حدّثه أنه سمع كعبا يقول: ستعرك العراق عرك الأديم، وتفت مصر فت البعرة. قال الليث: وحدّثني رجل عن وهب المعافريّ أنه قال: وتشق الشام شق الشعرة، وسأذكر من خبر هذه الجزائر المشهورة ما وصلت إلى معرفته إن شاء الله تعالى.
ذكر الروضة
اعلم أنّ الروضة تطلق في زماننا هذا على الجزيرة التي بين مدينة مصر ومدينة الجيزة، وعرفت في أوّل الإسلام بالجزيرة، وبجزيرة مصر، ثم قيل لها جزيرة الحصن، وعرفت إلى اليوم بالروضة، وإلى هذه الجزيرة انتقل المقوقس لما فتح الله تعالى على المسلمين القصر
وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط، وبها أيضا بنى أحمد بن طولون الحصن، وبها كانت الصناعة، يعني صناعة السفن الحربية، أي كانت بها دار الصناعة، وبها كان الجنان والمختار، وبها كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية، وبها بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب القلعة الصالحية، وبها إلى اليوم مقياس النيل، وسأورد من أخبار الروضة هنا ما لا تجده مجتمعا في غير هذا الكتاب.
قال ابن عبد الحكم وقد ذكر محاصرة المسلمين للحصن: فلما رأى القوم الجدّ من المسلمين على فتح الحصن والحرص، ورأوا صبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل، وتخلف في الحصن بعد المقوقس الأعرج، فلما خاف فتح باب الحصن خرج هو وأهل القوّة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
قال: وكان بالجزيرة يعني بعد فتح مصر في أيام عبد العزيز بن مروان أمير مصر، خمسمائة فاعل معدّة لحريق يكون في البلد أو هدم.
وقال القضاعيّ جزيرة فسطاط مصر. قال الكنديّ: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع وخمسين، وحصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ليحرز فيه حرمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا العراقيّ من العراق واليا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله. فلما بلغ أحمد بن طولون مسيرة، استعدّ لحربه ومنعه من دخول أعماله، فلما بلغ موسى بن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوّته، ثم عرضت لموسى علة طالت به وكان بها موته، وثاوره الغلمان وطلبوا منه الأرزاق، وكان ذلك سبب تركه المسير، فلم يلبث موسى بن بغا أن مات وكفى ابن طولون أمره، ولم يزل هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذه النيل شيئا بعد شيء، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن، وقد اختصر القاضي القضاعيّ رحمه الله في ذكر سبب بناء ابن طولون حصن الجزيرة.
وقد ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، واستعجل أمره، أنفذ إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى، أبو العباس أحمد ابن أمير المؤمنين، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد رسولا، في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق بن المعتصم نفاه إليها، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوّض، وبعد المفوّض تكون الخلافة للموفق طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوّض،
وشرقها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده، شق ذلك عليه وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذّ نفسه من الصيد واللعب والتفرّد بجواريه، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال وفاز كلّ من كان متقلدا عملا بما تقلده، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوّض والموفق، أنه ما حدث في عمل كلّ واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابنه المفوّض موسى بن بغا، فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدّم إلى كلّ منهما أن لا ينظر في عمل الآخر، وخلد كتاب الشروط بالكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش، فلما كبر أمره وطالت محاربته أياه، وانقطعت موادّ خراج المشرق عن الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كلّ عام، واحتجوا بأشياء، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون، وهو يومئذ أمير مصر، في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوّض، لأنها من الممالك الغربية، إلّا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال، فما هو إلّا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه، يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة، من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السرّ، أنّ الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه واحمل المال إلينا وعجل إنفاذه، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، ومنعه من الركوب ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وأرسل إلى ماخور متولي الشام، فقدم عليه بالعريش، وسلّمه إليه هو والمال وأشهد عليه بتسليم ذلك ورجع إلى مصر، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير، فإذا هي إلى جماعة من قوّاده باستمالتهم إلى الموفق، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال، كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول: إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت، وبسط لسانه بالقول، والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه، لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة.
فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأيّ حساب بيني وبينه، أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره، وكتب إليه بعد البسملة: وصل كتاب الأمير أيده الله تعالى وفهمته، وكان، أسعده الله، حقيقا بحسن التخير لمثلي وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحدّه، لأني دائب في ذلك وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كلّ منعوت بغنى وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات، والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوّفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة، فهو حريّ أن يعرف له حقه ويوفر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظه ومنزلته، فعو ملت بضدّ ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن أستدعي ما استدعاه الأمير من طاعته، أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيده الله تعالى، ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة، لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله، فإنه والأمير جعفر المفوّض أيده الله تعالى، قد اقتسما الأعمال وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنه من نقض عهده أو أخفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن بيعته، وفي حلّ وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرّة وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسد لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحرّ من الجمر، وأمرّ من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر. والأمير أيده الله تعالى أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف وكف الأذى والمضرّة، وأن لا يضطرّني إلى ما يعلم الله عز وجل كرهي له، أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة التي قد ضرّست رجالها من الحروب وجرت عليهم محن الخطوب مصر وفا إلى نقضها، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم، فضلا عن أن يعثروا مني على ميل، أو قيام بنصرتهم، لاشتدّت شوكتهم ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كلّ جيش أنهضه إليه، على أنه لا ناصر له إلّا لفيف البصرة وأوباش عامّتها، فكيف من يجدر كنا منيعا وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدّة له، فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع
إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلّا رجوت من الله عز وجل كفاية أمره وحسم مادّة شرّه، وأجراءنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، وأحضر موسى بن بغا وكان عون الدولة وأشدّ أهلها بأسا وإقداما، فتقدّم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور، فامتثل ذلك وكتب إلى ماخور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته، وخرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدّرا أنه يدور عمل المفوّض ليحمل الأموال منه، وكتب إلى ماخور أمير الشام، وإلى أحمد بن طولون أمير مصر، لما بلغه من توقف ما خور عن مناهضته يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر والإيقاع بابن طولون واستخلاف ماخور عليها، فسار إلى الرقة وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه وغمه، لا لأنه يقصر عن موسى بن بغا، لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه، إلّا أنه لم يجد بدّا من المحاربة ليدفع عن نفسه، وتأمّل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلّا من جهة النيل، فأراد لكبر همته وكثرة فكره في عواقب الأمور، أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلا لحرمه وذخائره. ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر، وقد زاد فذكره فيمن يقدم من النيل، فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك وقوارب الخدمة، وعمد إلى سدّ وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر الملح إلى النيل، بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير، خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس، كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده، كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض بمنع من يحمل الغلال إلى البلاد، ليمنع من يأتي من البرّ الميرة، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة، بحيث استتر منهم كاتبه عبيد الله بن سليمان لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع، فعاد إلى الحضرة ولم يقم بها سوى شهرين ومات من علة، في صفر سنة أربع وستين ومائتين، هذا وأحمد بن طولون يجدّ في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قوّاده وثقاته أمر الحصن، وفرّقه عليهم قطعا، قام كلّ واحد بما لزمه من ذلك، وكدّ نفسه فيه، وكان يتعاهدهم بنفسه في كلّ يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله تعالى له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في هذا العمل، قدّر أنّ كلّ طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدّق بمال كثير شكرا لله تعالى على ما منّ به عليه من صيانته عما يقبح فيه عنه إلّا حدوثة، وما رأى الناس
شيئا كان أعظم من عظيم الجدّ في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كان يخرجون إليه من منازلهم في كلّ بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث، لكثرة ما سخا به من بذل المال، فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صبّ عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغ مصروف هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا.
وكان مما حمل أحمد بن طولون على بناء الحصن، أن الموفق أراد أن يشغل قلبه، فسرقت نعله من بيت حظية لا يدخله إلّا ثقاته، وبعث الموفق إليه. فقال له الرسول: من قدر على أخذ هذه النعل من الموضع الذي تعرفه، أليس هو بقادر على أخذ روحك، فو الله أيها الأمير لقد قام عليه أخذ هذه النعل بخمسين ألف دينار، فعند ذلك أمر ببناء الحصن.
وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور التركيّ، فكتب موسى بن بغا بذلك إلى ماخور وهو والي دمشق يومئذ، فتوقف لعجزه عن مقاومة أحمد بن طولون، فخرج موسى بن بغا فنزل الرقة، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه، ولم يجد بدّا من محاربته، فأخذ أحمد بن طولون في الحذر منه وابتدأ في ابتناء الحصن الذي بالجزيرة التي بين الجسرين، ورأى أن يجعله معقلا لماله وحرمه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائتين، واجتهد أحمد بن طولون في بناء المراكب الحربية، وأطافها بالجزيرة، وأظهر الامتناع من موسى بن بغا بكل ما قدر عليه، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وأحمد بن طولون في إحكام أموره، واضطربت أصحاب موسى بن بغا عليه وضاق بهم منزلهم، وطالبوا موسى بالمسير أو الرجوع إلى العراق، فبينا هو كذلك توفي موسى بن بغا في سنة أربع وستين ومائتين. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون وفين تحامل:
لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا
…
ساقيه زرقا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنا يستجن به
…
بالعسف والضرب والصناع في تعب
وراقب الجيزة القصوى فخندقها
…
وكاد يصعق من خوف ومن رعب
له مراكب فوق النيل راكدة
…
فما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت
…
بالشطّ ممنوعة من عزّة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبا
…
لكن بناها غداة الروع والعطب
وقال سعيد بن القاضي من أبيات:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا
…
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه
…
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها
…
ومجد يؤدّي وارثيه إلى الفخر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامرا أيام بني طولون، وعملت فيه صناعة مصر التي تنشأ فيها المراكب الحربية، فاستمرّ صناعة إلى أن تقلد الأمير محمد بن طفج الإخشيد إمارة مصر من قبل أمير المؤمنين الراضي بالله، وسير مراكب من الشأم، عليها صاعد بن الكلكم، فدخل تنيس وسارت مقدّمته في البر، ودخل صاعد دمياط وسار فهزم جيش مصر الذي جهزه أحمد بن كيغلغ إليه، بتدبير محمد بن عليّ الماردانيّ على بحيرة نوسا، وأقبل في مراكبه إلى الفسطاط، فكان بالجزيرة، وقدم محمد بن طفج وتسلم البلد لست بقين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وفرّ منه جماعة إلى الفيوم، فخرج إليهم صاعد بن الكلكم في مراكبه وواقعهم بالفيوم، فقتل في عدّة من أصحابه، وقدمت الجماعة في مراكب ابن كلكم فأرسوا بجزيرة الصناعة وحرّقوها، ثم مضوا إلى الإسكندرية وساروا إلى برقة فقال محمد بن طفج الصناعة هنا خطأ وأمر بعمل صناعة في برّ مصر.
وحكى ابن زولاق في سيرة محمد بن طفج أنه قال: اذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين أمير مصر، وجرى ذكر الصناعة فقال تكين: صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ، فأشارت الجماعة بنقلها فقال: إلى أيّ موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، ثم سكت وقلت أدع هذا الرأي لنفي إذا ملكت مصر، فبلغت ذلك والحمد لله وحده. ولما أخذ محمد بن طفج دار خديجة كان يتردّد إليها حتى عملت، فلما ابتدءوا بإنشاء المراكب فيها صاحت به امرأة فقال: خذوها، فساروا بها إلى داره، فأحضرها مسار واستخبرها عن أمرها فقالت: ابعث معي من يحمل المال، فأرسل معها جماعة إلى دار خديجة هذه، فدلتهم على مكان استخرجوا منه عينا وورقا وحليا وثيابا وعدّة ذخائر لم ير مثلها، وصاروا بها إلى محمد بن طفج، فطلب المرأة ليكافئها على ما كان منها فلم توجد، فكان هذا أوّل مال وصل إلى محمد بن طفج بمصر. قال: واستدعى محمد بن طفج الإخشيد صالح بن نافع وقال له: كان في نفسي إذا ملكت مصر أن أجعل صناعة العمارة في دار ابنة الفتح، وأجعل موضع الصناعة من الجزيرة بستانا أسميه المختار، فاركب وخط لي بستانا ودارا، وقدّر لي النفقة عليهما، فركب صالح بجماعة وخطوا بستانا فيه دار للغلمان ودار للنوبة وخزائن للكسوة وخزائن للطعام، وصوّروه وأتوا به فاستحسنه وقال: كم قدّرتم النفقة؟ قالوا ثلاثين ألف دينار. فاستكثرها، فلم يزالوا يضعون من التقدير حتى صار خمسة آلاف دينار، فأذن في عمله.
ولما شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم، فقسّط على جماعة، وفرغ من بنائه، فاتخذه الإخشيد منتزها له وصار يفاخر به أهل العراق، وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل النيل بمصر في شعبان خمس وعشرين وثلاثمائة، فلم يزل البستان المختار منتزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معدّ، وابنه العزيز بالله نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، لها وال وقاض، وكان يقال القاهرة ومصر والجزيرة، فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدرا الجمالي، وحجره على الخلفاء، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة، وتردّد إليها تردّدا كثيرا، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك التي كانت سكنه بمصر، إلى الروضة. ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة، فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكانا لمحبوبته العالية البدوية، سماه الهودج.
الهودج: قال ابن سعيد في كتاب المحلّى بالأشعار عن تاريخ القرطبيّ: قد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال أنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلى بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم، شاعرة جميلة، فيقال أنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هناك في ضائفة، وتحيل حتى عاينها، فما ملك صبره، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه، فلما صارت إلى القصور صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّج طرفها في الفضاء ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان على شاطيء النيل في شكل غريب، وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد، قد استولى على أمورها وصار قاضيها وناظرها، ولم يبق لأحد معه فيها كلام، وضمن أموالها بحملة يحملها، وكان ذا مروءة عظيمة يحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه مدائح كثيرة، وممن مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وجماعة، وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا، فيغنيه بكثرة عطائه، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة، ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النعم، ويباهي به أهل عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الخليفة، فطلبته من الخليفة، فأنفذ في الحال بإحضاره، فلم يسع ابن حديد إلّا أن قلعه من مكانه
وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه، وخدم البدوية وخدم جميع من يلوذ بها، حتى قالت: هذا الرجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما بلغه ذلك عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها، غير ردّ الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه، فلما سمعت هذا عنه تعجبت منه وأمرت بردّ الجرن إليه، فقيل له قد وصلت إلى حدّ أن خيرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر. فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وبقيت البدوية متعلقة الخاطر بابن عمّ لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر:
يا ابن ميّاح إليك المشتكى
…
مالك من بعدكم قد ملك
كنت في حيى مرأ مطلقا
…
نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر مؤصد
…
لا أرى إلّا حبيسا ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا
…
حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا بر ملات الحمى
…
حيثما شاء طليق سلكا
فأجابها:
بنت عمي والتي غذيتها
…
بالهوى حتّى علا واحتنكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها
…
لو غدا ينفع منها المشتكى
ما لك الأمر إليه يشتكى
…
هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا
…
مبديا بالتيه ما قد ملكا
فبلغت الآمر فقال: لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوّجتها به.
قال القرطبيّ وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطور، وكان من عرب طيء في عصر الخليفة الآمر طراد بن مهلهل، فلما بلغه قضية الآمر مع العالية البدوية قال:
ألا أبلغوا الآمر المصطفى
…
مقال طراد ونعم المقال
قطعت الأليفين عن إلفة
…
بها سمر الحيّ بين الرجال
كذا كان آباؤك الأقدمون
…
سألت فقل لي جواب السؤال
فلما بلغ الآمر شعره قال: جواب السؤال قطع لسانه على فضوله، وأمر بطلبه في أحياء العرب ففرّ ولم يقدر علي، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، ولم يزل الآمر يتردّد إلى الهودج بالروضة للنزهة فيه، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فلما