الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
كيفية تعامل الموسوعة مع الأحاديث (تصحيحًا أو تضعيفًا) وبيان أنها الحكم الفيصل بين الفقهاء
.
معلومٌ أن الاشتغال بالعلوم الشرعيةِ هوَ منْ أعظمْ القرباتِ إلى الله لمنْ صلحتْ نيتهُ وخلصَ عملهُ للهِ، وأهمُ هذهِ العلوم بعدَ علوم القرآنِ الكريم، علومُ السنةُ النبويةِ المطهرةِ، المصدرِ الثاني للتشريع بعدَ كتابِ الله.
يقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .
ويقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ}.
والآيات في هذا البابِ كثيرةٌ وقدْ حثَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمتهُ لحفظِ حديثهِ وتبليغهِ فيما رواهُ زيد بن ثابت رضي الله عنه عنهُ.
يقول: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِنَقِيهٍ"
(1)
، ولهُ شواهدُ أخرى عندَ بعضِ الصحابةِ بنحوهِ. وعنْ عبد الله بنِ
(1)
أخرجه: وأحمد 35/ 467، وابن ماجه (230)، و ابن حبان (680).
عمرو بنِ العاصِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: "بلغوا عنّي ولو آية
…
". رواهُ ابنُ حبان في صحيحهِ. وأحاديثُ أخرى كثيرة تحلث على حفظِ السنةِ النبويةِ، وتحملها وأدائها.
إذن لا يخفى ما لهذا العملِ منْ عظيم الأجرِ وكبيرِ العطاءِ، فأسألُ اللهَ جلَّ في عليائهِ خلوصَ النيةِ، وصحةِ السبيلِ، وقبولُ العملِ، وما ذلكَ على اللهِ بعزيز.
بدءًا أود أنْ أقسمَ الكلامَ في هذا المحورِ إلى قسمينِ أساسيينِ:
لقسم الأول: منهجنا الذي سرنا عليهِ في الحكم على الأحاديثِ تصحيحًا أو تحسينًا أو تضعيفًا أو ردًا.
فأقولُ وبالله التوفيقُ: كانَ ولا يزالُ منهجنا في التصحيحع والتضعيفِ، منهجًا علميًا رصينًا، توخينا فيه تتبّع القواعد العلميّة في الحكم على الأحاديثِ معَ الاستفادة منْ نقلِ المهم منْ تعليقاتِ أهلِ العلم الخاصةِ بتعليلِ الأحاديثِ أو تصحيحها، فنحنُ نذكرُ ما قيلَ في الحديثِ من تصحيح أو تضعيفٍ ثمَّ نذكرُ القولَ المختارَ إنْ كانَ هناك اختلافٌ بينَ أهلِ العلم، وما لا نجدُ لأهلِ العلم تصحيحًا ولا تضعيفًا، فنحن نحكم على الأحاديثِ وفقًا للقواعدِ الحديثيةِ التي قعّدها أئمةُ هذا الفنِ الجليل.
ومنهاجنا في الحكم على الأحاديثِ يتلخصُ وبأبسطِ صورةٍ بالآتي:-
إسنادهُ صحيحٌ: إذا كانَ السندُ متصلًا بالرواةِ الثقاتِ أو فيهِ منْ هوَ صدوقٌ حسنُ الحديثِ وقدْ توبعَ، فهوَ يشملُ الصحيحَ لذاتهِ، والسندَ الصحيحَ لغيرهِ.
إسنادهُ حسنٌ: إذا كانَ في السندِ منْ هو أدنى رتبةً منَ الثقةِ، وهوَ الصدوقُ الحسنُ الحديثِ ولم يتابعْ أو كانَ فيهِ (الضعيفُ المعتبرُ بهِ) أو (المقبولُ) أو (اللينُ الحديثِ) أو (السيءُ الحفظِ) منْ وصفَ بأنهُ (ليسَ بالقويّ)
أو يعتبر حديثهُ وإن كان فيهِ ضعفٌ إذا تابعة منْ هوَ بدرجتهِ أو أعلى منزلةً منهُ. فهو يشملُ السندَ الحسنَ لذاتهِ والحسنَ لغيرهِ.
إسنادهُ ضعيفٌ: إذا كانَ في السندِ من وصفَ بالضعفِ أو نحوهِ، ويدخلُ فيهِ المنقطعُ، والمعضلُ، والمرسلُ، وعنعنةُ المدلسِ.
إسناده ضعيفٌ جدًا: إذا كانَ في السندِ أحد المتروكينَ أو منِ اتهمَ بالكذب.
وهنا لا بدَّ من الإشارةِ إلى أمرٍ مهمٍ جدًا وهو أن مسألةَ الحكم على الأسانيدِ، هي من أهمّ المراحلِ، وأخطرها في أركانِ هذا العملِ.
ولا يخفى خطورةُ إصدارِ الأحكام على الأحاديثِ النبويةِ الشريفةِ، وما فيها منْ أمانة علمية، وخاصة بالنسبةِ لعملٍ أو لكتابٍ قد حوى بينَ دفيهِ أحاديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فالخطأُ في الحكم إما ردًا لحديثٍ صحيح، وبالنتيجةِ فهوَ تكذيبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حاشاهُ، ومنْ ناحيةٍ أخرى حرمانًا لهذهِ الأمةِ منَ الانتفاع بهذا الحديثِ والعملِ بهِ. وإما تصحيحًا لحديثٍ موضوع أو مردودٍ، وبالنتيجةِ فهوَ كذبٌ عليه صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المتواترِ:"منْ كذبَ علىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعدهُ منَ النارِ" وقال: "منْ حدثَ عني بحديثٍ يرى أنه كذبٌ فهوَ أَحدُ الكذابين". رواه مسلم
إذن: فالأمر جدُّ خطيرٌ وكما أسلفنا هيَ أمانةٌ علميةٌ بأعناقنا، لذا يجبُ أنْ تصدرَ هذهِ الأحكامُ على أساسٍ علميٍ متينٍ، ومعرفةٍ كبيرةٍ بعلم الرجالِ، وعلم الجرحِ والتعديلِ، وعلم الاصطلاح برمتهِ، ومعلومٌ أنَّ هذهِ الصفاتِ لا تتوفرُ بسهولةٍ في زمننا هذا بلْ تكادُ أنْ تكونَ نادرةً لا يدركها إلا منْ حباهُ اللهُ سعةَ الروايةِ واتقادَ الذهنِ ودقةَ النظرِ قالَ ابنُ رجبٍ: (وقد ذكرنا فيما تقدمَ في كتاب العلم شرفَ علم العللِ وعزتهُ، وإن أهله المحققين أفرادٌ يسيرةٌ منْ بينِ
الحفاظِ وأهلِ الحديثِ، وقدْ قال أبو عبد الله ابن منده الحافظ: إنما خصَّ اللهُ بمعرفةِ هذهِ الأخبار نفرًا يسيرًا منْ كثيرٍ ممن يدعي علم الحديثِ)
(1)
.
القسم الثاني: الصلةُ الجامعةُ بين مسألةِ الحكم على الأحاديث والمسائلِ الفقهيةِ وأثرِ الموسوعةِ في هذا المجالِ.
إنَّ لعلمِ الحديثِ ارتباطًا وثيقًا بالفقهِ الإسلامي، إذ إنَّا نجدُ جزءًا كبيرًا منَ الفقهِ هوَ في الأصلِ ثمرةٌ للحديثِ النبويِ الشريفِ، فعلى هذا فإنَّ الحديثَ أحدُ المراجع الرئيسيةِ للفقهِ الإسلامي، ومعلومٌ أنهُ قدْ حصلت اختلافاتٌ كثيرةٌ في الحديثِ، من هذهِ الاختلافاتُ منها ما هوَ في السندِ، ومنها ما هوَ في المتنِ، ومنها ما هوَ مشتركٌ في المتنِ والسندِ، ومنها ما يؤثرُ في صحةِ الحديثِ، ومنها ما لا يؤثرُ، ومرجعُ ذلك إلى نظرِ النقادِ وصيارفةِ الحديثِ. وقد كانَ لهذهِ الاختلافات دورٌ كبيرٌ في اختلافِ الفقهاءِ، وتعددِ فروعهم واختلافها كذلكَ، وتباينِ وجهاتِ نظرهم وآرائهم الفقهيةِ.
من هنا جاءَ الربطُ بينَ علم الحديثِ، وعلم الفقهِ.
ومنَ البديهيِّ أنْ يخلتفَ الرواةُ سندًا ومتنًا فيما يؤدونهُ منَ الأحاديثِ النبوية الشريفةِ، وذاك لأنَّ مواهبَ الرواةِ في حفظِ الأحاديثِ تخللتُ اختلافًا جذريًا بينَ راوٍ آخرَ، فمنِ الرواةِ منْ بلغَ أعلى مراتبِ الحفظِ والضبطِ والإتقانِ، ومنهمْ أدنى وأدنى.
قالَ الإمامُ الترمذي: (لمْ يسلمْ من الخطأ والغلطِ كبيرُ أحد منَ الأئمةِ معَ حفظهمْ).
هذا معَ اختلافِ الرواةِ في عنايتهم في ضبطِ ما يتحملونهُ منَ الأحاديثِ، فمنهمْ منْ يتعاهدُ حفظهُ، ومنهمْ منْ لا يتعاهدُ، ومنهمْ لا يحدِّثُ إلا بصفاءِ
(1)
شرح العلل للترمذي 1/ 339 - 340.
الذهنِ، ومراجعةِ الأصولِ، ومنهمْ دونَ ذلكَ، زيادةً على الآفاتِ التي تصيبُ الإنسانَ، والتي تؤدي إلى اختكلِ مروياتهِ ودخولِ بعضِ الوهم في حديثهِ.
زيادةً على وجودِ الأحاديثِ المكذوبةِ والموضوعةِ والضعيفةِ، فهذا كلهُ يعذ منَ الأسبابِ الرئيسةِ في الاختلافاتِ بينَ الفقهاءِ في الكثيرِ منَ المسائلِ الفقهيةِ، وذلكَ في اختلافهمْ في تناولِ الدليلِ فما صحَّ عند هذا قد لا يصحُّ عندَ غيرهِ وهكذا وفي خضم هذا الأمرِ يأتي دورُ علماءِ الجرحِ والتعديلِ وأهلِ النقدِ الحديثيِّ، دورًا بارزًا ضروريًا لتوضيحِ ما أبهمَ منَ الرواةِ، وتبيانِ حالهمْ، كذلكَ الحكمُ على الأسانيدِ والمتونِ إيضاحًا لحالِ هذا الدليلِ، وهذا مما يعدُّ ترجيحًا لأداء بعض الفقهاءِ دونَ بعضٍ، وردًا لَاراءِ آخرينَ. ومنَ الأمثلةِ على ذلكَ (حكمُ التطهرِ بالماءِ المستعملِ في رفع الحدثِ) فقدِ اختلفَ الفقهاءُ في ذلكَ. فذهب الأوزاعي ومالك في روايةٍ عنهُ وهوَ قولٌ قديمٌ للشافعي وروايةٌ عنْ أحمد إلى أنهُ مطهرٌ
(1)
واحتجوا بما رويَ عنِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: (منْ نسيَ مسحَ الرأسِ، فذكرَ وهو يصلي فوجدَ في لحيتهِ بللًا فلياخذَ منهُ وليمسحْ بهِ رأسهُ، فإنَ ذلكَ يجزئهُ، وإن لم يجدْ بللًا فليعدِ الوضوءَ والصلاةَ).
قالَ الهيثميُّ: (ورواهُ الطبراني في الأوسط وفيه نهشلُ بنُ سعيد وهوَ كذابُ)
(2)
.
(1)
المجموع 1/ 207، والمغني 1/ 18 - 20، وكشاف القناع 1/ 32، ومغني المحتاج 1/ 61 - 62.
(2)
مجمع الزوائد 1/ 240 وهو في المعجم الوسيط 8/ 282 (7569). انظر: ترجمة نهشل في التقريب 2/ 307، والتهذيب 10/ 479، والميزان 4/ 275، والعلل 95 - 96.
وذهبَ الكثيرُ منَ الفقهاءُ إلى أنهُ طاهرٌ غيرُ مطهرٍ فلا يرفعُ حدثًا ولا يزيلُ نجسًا وبهِ قالَ أبو حنيفةِ في المشهورِ عنهُ والشافعي في روايةٍ عنْ أحمد
(1)
وقد لاحظَ الجمهور: أنَّ الحديثَ المذكورَ لا يوجب الاحتجاج بهِ لطعنٍ في عالةِ الراوي لذلكَ فالحجةُ لهمْ: ما صحّ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يبولنَّ أحدكمْ فى الماءِ الدائمِ الذي لا يجري ثمّ يغتسلُ منهُ"
(2)
وفي لفظ لمسلم
(3)
: "لا يغتسلُ احدكمْ فى الماءِ الدامِ وهوَ جنبٌ"، من هنا يتضحُ معيارُ الصلةِ بينَ الحكم على الأحاديثِ، وبينَ المسائلَ الفقهيةِ، فمنْ خلال الحكم على الأحاديثِ يمكنْ الدخولُ إلى مقارنةٍ بينَ أدلةِ الفقهاءِ ومنْ ثمَّ ترجيحُ أدلةِ بعضهمْ على بعضٍ، ولا يخفى ما لهذا الأمرِ من أهميةٍ جليلةٍ في معظم مسائلِ الفقهِ وفروعهِ.
وهذا الترجيحُ لا يعدُّ قادحًا في علم وفقهِ الأئمة الإعلام يرحمهمُ اللهُ بلْ جميع الأئمةِ يذهبونَ إلى أنَّ الحديثَ متى صحَّ فهو مذهبهمْ، فهذا الإمامُ الشافعيُّ يقولُ:(إذا صحَّ الحديثُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرضَ الحائطِ)
(1)
الحاوي 1/ 297، و المغني 1/ 118، والاستذكار 1/ 253، والهداية 1/ 19، ومغنى المحتاج 1/ 20، وبداية المجتهد 1/ 21، والقوانين الفقهية: 45 والخرشي 1/ 74 - 75.
(2)
أخرجه: الحميد (970)، وأحمد 2/ 265، والدارمي (736)، ومسلم 1/ 162 (282)، وأبو داود (69)، والنسائي 1/ 49، وابن خزيمة (66) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة.
(3)
1/ 162 (283).
ويقول: (إذا صحَّ الحديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلتُ أنا قولًا فأنا راجعٌ عن قولي وقائلٌ بذلكَ الحديثِ).
ومن هذا القبيل كثيرٌ قدْ أثرَ عنْ جميع أئمةِ المذاهبِ رضي الله عنه وهو مبسوطٌ في كتبِ الفقهِ والأصولِ.
كذلكَ أودُ أنْ أعرجَ ومنْ بابِ التمثيلِ لا الحصرِ على سببٍ آخرَ منْ أسبابِ اختلاف الفقهاء، وهوَ كونُ الدليلِ أي الحديثِ النبويِ الشريفِ قدْ وصلَ إلى بعضهمْ دونَ بعضٍ، وأسبابهُ معروفةٌ إما مثلًا لضعفِ عمليةِ التدوينِ أو النسخ أو لغيرهِ منَ الأسباب التي ليستْ مجالَ البحثِ هنا. أقولُ لما تقدمَ يبرزُ هنا دورُ الموسوعةِ جليًا ظاهرًا، فجمعُ السنةِ النبوبةِ الشريفةِ المطهرةِ بل جمعُ كلِ الأحاديثِ المسندةِ بغضِ النظرِ عن درجةِ صحتها، يعدُّ جمعًا لكلِ أدلةِ الفقهاءِ الحديئيةِ، وتدوينًا وإحياءً لتراثِ هذهِ الأمةِ الزاخرِ متمثلًا بقول خيرها وسيدها وتاجٍ فخرها والمرسلِ إليها من اللهِ الموحى إليهِ بالنبوةِ سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ الحكمُ على تلكَ الأدلةِ هوَ حكمٌ وترجيحٌ أو ردٌّ لها، ووفقًا لما تقدمَ من المعاييرِ في الحكم على الحديث والنقدِ الحديثي.