الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
لمحة تاريخية عن التدوين في علم الرجال:
فلقد اصطفى الله تعالى هذه الأمة، إذ شرفها بأن اختار لها هذا الدين القويم، وجعل أساسها المشيد وركنها الركين "كتابه العزيز"، وهيَّأ هذه الأمة لتضطلع بللك المهمة، ألا وهي حفظ هذا الكتاب الذي تعهد الله تبارك وتعالى سلفًا بحفظه، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فرزقها جودة الفهم وقوة الحافظة، ووفور الذهن، فلم يتمكن أحد -بحمد الله- من أن يجرأ فيزيد أو ينقص حرفًا أو حركةً من القرآن الكريم.
ولما تعهد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، كان مما احتواه هذا العهد ضمنًا حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حفظ أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بأسانيدها فكان الإسناد أحد الخصائص التى اختص الله تعالى بها أمة صفيِّه صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدرك الصدر الأول أهمية ذلك، فروى الإمام مسلم
(1)
وغيره عن محمد بن سيرين أنه قال: ((إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمن تاخذون دينكم)) وروى أيضًا
(2)
عنه أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)).
(1)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 14 طبعة عبد الباقى).
(2)
المصدر نفسه (1/ 15).
ومن ثم افتقر الأمر إلى معرفة ضبط الراوي وصدقه، فكانت الحاجة ماسة إلى استكمال هذا الأمر، فكان نشوء ((علم الجرح والتعديل)) أو ((علم الرجال)).
وعلى الرغم من أن هذا العلم لم يكن فجائي الظهور، إلا أنه لا مناص من القول بأنه كان مبكر الظهور جدًا، وبنجلي ذلك مما نقلناه سلفًا عن ابن سيرين، ولقد كان المسلمون مطمئنين إلى أن الله تعالى يهيئ لهذا الأمر من يقوم به ويتحمل أعباء هذه المهمة الجسيمة، فلقد أسند ابن عدي في مقدمة الكامل
(1)
، وابن الجوزي في مقدمة الموضوعات
(2)
أنه قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(3)
.
ولم يخلُ عصر من العصور من إمام يقوم بواجب هذه الصنعة، إلا أن المنهج -وكما يعرفه المختصون- اختلاف من المتقدمين إلى المتأخرين. فبعد أنْ كان عند المتقدمين قائمًا على الاجتهاد والأصالة والسبر والاستقراء، أصبح عند المتأخرين قائمًا على الترتيب والجمع والتصنيف، ومن خلال التطور الزمني للتصنيف في علم الجرح والتعديل، كان "الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني المقدسي أحد حلقات تطوره، والذى نال من الاهتمام ما لا ينكره متعقل، ومن ثم تكاثرت فروعه، فكان أحد تلك الفروع كتاب:"تقريب التهذيب" لحافظ عصره بلا مدافع، وإمام وقته بلا منازع أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-.
(1)
(1/ 192).
(2)
(1/ 46).
(3)
الحِجر:9.
ولقد برزت في هذا الكتاب -كما في غيره من كتبه- شخصية الحافظ الناقد الخبير البصير بمواضع الكلام، ومراتب الرواة، وعلل أحاديثهم، فكان خير تعبير عن علم جمٍّ وافر، وذوق ناقد ماهر، فلقي من القبول ما لم يكد يلقه كتاب آخر في موضوعه، ولم يجرأ أحد من الناس على رد أحكام الحافظ -بل: غاية ما كان استدراكات لا يخلو عمل بشري من العوز لها- منذ تأليفه في النصف الأول من القرن التاسع الهجري حتى وقت قريب.
ثم ليس أمر الكلام في الرواة شيئًا يسيرًا أو هينًا، لذا اشترطت في المجرح والمعدل: العدالة، والدين المتين، والورع، لذا قال الإمام السبكي- رحمه الله وهو يتحدث عن صنوف العلماء:((ومنهم المؤرخون وهم على شفا جرفٍ هارٍ، لأنم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغم من صادقٍ أو كاذبٍ، فلا بد أن يكون المؤرخ عالمًا عادلًا، عارفًا بحال من يترجمه ليس بينه وبينه من الصداقة ما قد يحمل على التعصب ولا من العداوة ما قد يحمله على الغض منه))
(1)
.
اهتم العلماء منذ وقت مبكر بتأليف الكتب التي تتكلم عن الرواة، وتحكم عليهم، وتبين مراتبهم من التوثيق والتضعيف وغير ذلك، وفائدة هذا: التوصل إلى معرفة صحة الحديث من سُقْمِه؛ لذا زخرت المكتبة الإسلامية بلجم الغفير من الكتب منذ نهاية عصر التدوين حتى يوم العاد هذا، وكانت من الكثرة بحيث أصبحت عملية عدها مستعصية على العادِّ ويكاد يكون أمرًا غير ممكن، إلا أن هناك بعضًا من المصنفات نالت حضوة لدى الباحثين وقيمة عليا عند المحققين منها: تاريخ يحيى بن معين (برواياته المختلفة)
(1)
معيد النعم ومبيد النقم، ص (74)، وانظر: أربع رسائل في علوم الحديث تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة ص (71).
وكتب السؤالات التي وجهت للإمام أحمد، وتواريخ البخاري، ومصنفات ابن أبي حاتم، وثقات ابن حبان وابن شاهين، ومؤلفات الدارقطني وغيرها الكثير الكثير.
ولما كان كلام أئمة الجرح والتعديل متناثرًا في كتبهم تلفُهُ طويات صفحاتها كان أمر جمع أقوال النقاد في كل راوٍ على حدة حلمًا ساور الكثير من المصنفين إلى أن جاء الحافظ الكبير عبد الغني ابن عبد الواحد الجماعيلي المقدسي الحنبلي (544 - 600 هـ) فصنف سفره العظيم: "الكمال في أسماء الرجال" فكان بحق كتابًا نافعًا ماتعًا، ويكفيك للدلالة على علو كعب هذا الكتاب إقدام المزي على تهذيبه.
وقد تناول الحافظ عبد الغني في كتابه هذا رجال الكتب الستة من خلال بيان أسمائهم وما قيل فيها من اختلاف وبيان شيوخهم وتلامذتهم، وما قيل في كلٍ منهم من جرح وتعديل، وما عرف من وفيات أكثرهم. ومع حرصه الشديد على الشمول والاستقصاء، فقد فاته بعض الرواة الذين لم يقص عليهم، فشاب -وما شأن- كتابه شيء من النقص، كان بحاجة إلى إكمال.
فقيض الله تعالى لهذا العمل العظيم رجله بحق الإمام الحافظ أبا الحجاج المزي (654 - 742 هـ) فعمل على تهذيب كتاب الكمال طلبًا لاختصاره وأضاف تراجم كثير من الرواة الذين فات الحافظ عبد الغني ذكرهم طلبًا للاستيفاء، وحذف منه وأضاف له، وسمّاه: تهذيب الكمال في أسماء الرجال" فكان بحق كمالًا للكمال، ومكملًا لفوائد اقتضاها الحال.
ومن الناس من يظن أن عمل الحافظ المزي إنما هو اختصار للكمال، وهو خطأ لطالما سمعناه من كثير من المشايخ، والذي يظهر أن التهذيب هنا بمعنى: التصحيح والاستدراك.
ولقد تجمع من جهد هذين الحافظين عمل فذ كان الذروة في بابه، إلا أن الكتاب طال جدًا، وصعبت على الناس مراجعته، مع بعد الزمان وتقاصر الهمم، الأمر الذي حدا بكثير من العلماء إلى اختصاره طلبًا للتيسير ودفعًا للمشقة المتوقعة، فكان أحد هؤلاء الحافظ ابن حجر، حيث اختصره في كتابه "تهذيب التهذيب" فكان كتابًا عظيمًا نافعًا.
ويتلخص تهذيب الحافظ ابن حجر فيما يأتي:
1 -
لم يحذف من رجال "تهذيب الكمال" أحدًا، وإنما زاد فيهم من هو على شرطه.
2 -
أعاد التراجم التي حدفها المزي من أصل "الكمال" وكان الحافظ عبد الغنى قد ذكرها بناءً على أن بعض الستة أخرج لم، وكان المزي قد حذفهم بسبب عدم وقوفه على روايتهم في شيء من الكتب الستة.
3 -
حذف من الترجمة الأحاديث التي خرجها المزي من مروياته العالية الموافقات والابدال، وغير ذلك من أنواع العلو.
4 -
لم يستوعب شيوخ وتلاميذ المترجم بل اقتصر على المشهورين منهم وحذف الباقين.
5 -
لم يلتزم نهج المزي في ترتيب شيوخ صاحب الترجمة والرواة عنه على حروف المعجم، بل قدم المشهورين على غيرهم.
6 -
حذف من الترجمة أغلب الأخبار التي لا تدل على توثيق ولا تخريج.
7 -
حذف كثيرًا من الاختلافات المذكورة في وفاة المترجم.
8 -
ميز ما أضافه إلى الترجمة بـ (قلت)
(1)
ثم يسوق قوله.
(1)
وقد أشار الحافظ نفسه في مقدمة تهذيبه (1/ 2 - 5 و 8) إلى هذه الأمور.
ومن فوائد هذا الكتاب العظيم أنه جمع ما استدرك على المزي فوضعه في محاله وقد ذكر الحافظ استفادته من زوائد الذهبي في "تذهيب تهذيب الكمال" ثم قال: (وقد انتفعت في هذا الكتاب المختصر بالكتاب الذى جمعه الإمام العلامة علاء الدين مغلطاى على تهذيب الكمال مع عدم تقليدى له في شيء مما ينقله وإنما استعنت به في العاجل، وكشفت الأصول التي عزا النقل إليها في الآجل فما وافق أثبته، وما باين أهملته، فلو لم يكن في هذا الكتاب المختصر إلا الجمع بين هذين الكتابين الكبيرين في حجم لطيف لكان معنى مقصودًا هذا مع الزيادات التي لم تقع لهما، والعلم مواهب، والله الموفق)
(1)
.
ولما كان الكتاب يمتاز بهذه الزيادات النافعة الماتعة، أصبح على نفاسته مَدْرَسَ الناس ومرجعهم، ينهلون منه العلم والمعرفة في تفحص أحوال الرجال التي إليها المرجع في معرفة صحيح الحديث من ضعيفه، ثم أراد الحافظ ابن حجر أن يقرب فوائد هذا الكتاب إلى الناس فاختصر تهذيب التهذيب في كتابه "تقريب التهذيب" راعى فيه الفائدة والاختصار بحيث تكون الترجمة تشمل اسم الرجل واسم أبيه وجده، ونسبه، ونسبته، وكنيته، ولقبه، مع ضبط المشكل بالحروف، ثم الحكم على كل راوٍ من المترجمين بحكم وجيز، ثم التعريف بعصر كل راو حيث قسَّمهم على طبقات، جعلها اثنتي عشرة طبقة ثم ذكر الرموز لكل راو والتي تنبئ عن مكان وجود أحاديث المترجم في الكتب
(2)
.
وقد بين الحافظ نفسه سبب اختصاره للتهذيب بالتقريب فقال: ((فإني لما فرغت من تهذيب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" الذي جمعت فيه مقصود التهذيب لحافظ عصره أبي الحجاج المزي، من تمييز أحوال الرواة
(1)
تهذيب التهذيب: 1/ 8 - 9.
(2)
التحرير: 1/ 13 - 14.
المذكورين فيه وضَمَمْتُ إليه مقصود إكماله، للعلامة علاء الدين مغلطاي، مقتصرًا منه على ما اعتبرته، وصحَّحته من مظانه من بيان أحوالهم أيضًا وزدت عليهما في كثير من التراجم ما يُتَعَجَّبُ من كثرته لديهما، ويستغرب خفاؤه عليهما، وقع الكتاب المذكور من طلبة الفن موقعًا حسنًا، عند المميز البصير، إلا أنه طال إلى أن جاوز ثلث الأصل والثلث كثير، فالتمس مني بعض الأخوان أن أجرد له الأسماء خاصة، فلم أوثر ذلك لقلة جدواه على طالبي هذا الفن، ثم رأيت أن أجيبه إلى مسألته، وأسعفه بطلبته على وجه يحصل مقصوده بالإفادة ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة، وهي: أنني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة وأخلص إشارة بحيث لا تزيد كل ترجمة على سطر واحد غالبًا يجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهر نسبته ونسبه، وكنيته، ولقبه، مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل ثم التعريف بعصر كل راوٍ منهم، بحيث يكون قائمًا مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه، إلا من لا يؤمن لبسه))
(1)
.
وهذا ملخص جيد عن المنهج الذي سار عليه الحافظ ابن حجر في كتابه "التقريب". ثم ان كتاب تقريب التهذيب هو خلاصة جهود الحافظ ابن حجر في علم الجرح والتعديل، وآخر اجتهاداته، وقد فرغ من تأليفه عام (827 هـ) فظلَّ يحرر فيه، وينقح فيه، ويضيف إليه وينقص حتى عام (850 هـ) أي قبيل وفاته بعامين، قال الشيخ الفاضل محمد عوامة:((إذا كان الحافظ- رحمه الله قد أنهى شرحه "فتح الباري" عام (842 هـ)، فإنه ظلَّ يشتغل
(1)
التقريب: 1/ 23 - 24، طبعة مصطفى.
ويصقل كتابه "التقريب" ويعمل يده فيه إلى عام (850 هـ)، كما هو واضح من تواريخ الإلحاقات، والإضافات على النسخة التي بين يدي، وقد أرخ عشرين إلحاقًا منها مؤرخة سنة (848 هـ)، وإحالة واحدة مؤرخة سنة (850 هـ)، ثم قال:((فلا مجال لاحتمال زيادة إطلاع الحافظ على زيادة في الجرح والتعديل، أهمل خلاصتها فلم يلحقها في "التقريب" خلال هذه السنوات الطويلة من عام (827 - 850 هـ) وعلى احتمال إطلاعه على أشياء جديدة، فإنها ألوال لا تغيِّر من أحكامه))
(1)
.
(1)
مقدمته للتقريب: 36.