المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المسألة 116: ب- التوكيد 1: التوكيد قسمان: معنوي ولفظي2: القسم الأول؛ المعني3: إذا سمعنا - النحو الوافي - جـ ٣

[عباس حسن]

الفصل: ‌ ‌المسألة 116: ب- التوكيد 1: التوكيد قسمان: معنوي ولفظي2: القسم الأول؛ المعني3: إذا سمعنا

‌المسألة 116:

ب- التوكيد 1:

التوكيد قسمان: معنوي ولفظي2:

القسم الأول؛ المعني3:

إذا سمعنا من يقول: "وصل أحد العلماء إلى القمر"، خطر بالبال عدة احتمالات؛ منها: أنه وصل إلى قرب القمر، دون الوصول إلى جِرْمه وذاته الحقيقية، أو: أنه وصل إلى مَداره، أو إلى أسراره العلمية والفلكية

ونتوهم أن المتكلم أراد أن يقول: -مثلًا– وصل أحد العلماء إلى قرب القمر، أو إلى مدار القمر. أو إلى مدار القمر. أو إلى أسرار القمر

فحذف المضاف سهْوًا، أو خطًا، أو لأن حذفه هنا يؤدي إلى المبالغة أو المجاز4، وكلاهما أبلغ وأقوى في تأدية المعنى من الحقيقة. هذا بعض ما يخطر بالبال عند سماع تلك العبارة

فلو أنه قال: وصل أحد العلماء إلى القمر نفسه، لزالت –في الأغلب5– تلك الاحتمالات وغيرها، ولم يبق مجال لتوهم المبالغة، أو المجاز بالحذف، أو السهّو

1 ويسمى أيضًا: التأكيد. والأول أشهر في استعمال النحاة. "كما سيجيء في ص504". وسنعرض هنا للتوكيد "الإصطلاحي" الذي يقتصر عليه النحاة، دون الأنواع الأخرى التي قد تفيد التوكيد؛ "مثل إنّ، والحرف الزائد، وكالقسم وغيره". ولكنها لا تسمى توكيدًا نحويًا اصطلاحيًا.

2 مدلول التوكيد اللفظي، وكذا مدلول التوكيد المعنوي بالنفس والعين، هو ذات المؤكِّد. أي: أن التابع هو عين المتبوع وذاته، وليس أمرًا عرضيًا مما يطرأ على المتبوع. أما التوكيد المعنوي بلفظ:"كل وجميع" فإن المراد منهما هو إفادة الشمول

و

"راجع الإشارة الخاصة بها في هامش ص438، بعنوان: "ملاحظة هامة".

3 سيجيء القسم الثاني اللفظي في ص525.

4 مجاز بالحذف، أو مجاز مرسل.

5 قلنا: في "الأغلب"

لأن الأمر قد يحتاج في إزالة كل الاحتمال إلى تعدد التوكيد المعنوي.

ص: 501

أو غيره؛ ولتَركَّزَ الفهم في معنى حقيقي واحد: هو الوصول إلى جِرْم القمر ذاته، بسبب كلمة:"نفس" التي منعت أن يكون هناك لفظ محذوف كالمضاف –مثلًا– تنشأ عن ملاحظته وتخيله احتمالات مختلفة.

كذلك إذا سمعنا من يقول: حفِظتُ ديوان "المتَنبيّ" فقد يخطر على البال سريعًا أنه حَفِظ أكثرَةُ، أو أحسنه، أو حِكَمه

وأنه لم يقصد الشمول الحقيقي حين قال: "حفِظت ديوان المتَنبيّ"؛ وإنما قصد: حفظت أكثر ديوان المتنَبيّ، أو أحسن ديوان المتنبيّ، أو أحكم ديوان المتنبيّ

فحذف المضاف سهوًا، أو: خطأ، أولما في حذفه هنا من مبالغة، أو مجاز، وكل منهما في تأدية المعنى أبلَغُ وأقدرُ. فلو أنه قال:"حفظت ديوان المتنبيّ كلَّه" ما ترك –في الأغلب– حول الشمول الكامل مجالًا لشيء من تلك الاحتمالات، ولا لِتَخَيّلِ شيء محذوف؛ حفظ الديوان كاملًا غير منقوص. وقد نشأ هذا التركيز والاقتصار على الفهم على المعنى الواحد من كل:"كلّ".

فكلمة: "نفس" في المثال وما شابهه، وكلمة:"كلّ" في الثاني وما شابهه، -تسمى:"توكيدًا معنويًّا"؛ فهو:

"تابع1 يزيل عن متبوعه ما لا يراد من احتمالات معنوية تتجه إلى ذاته2

1 سبق –في ص434– بيان معنى التابع. وأحكامه العامة، وترتيبه مع نظرائه، وكل ما يتصل به. ومن أهم أحكامه: أنه مثل متبوعه في حركات لإعراب، وجواز الفصل بينه وبين المتبوع على لو المشروح هناك، بشرط ألا يكون المتبوع موصولًا؛ فإنه لا يصح الفصل بتابع بين الموصول وصلته مطلقًا.... "طبقًا لبيان التفصيل في ج1 م27 ص342: الموصول" وأن النعت يجوز قطعه "كما تقدم في بابه ص486" كذا عطف البيان؛ كما سيجيء عند الكلام عليه في بابه ص542 وكذلك عطف الشق في الرأي الصحيح –وسيجيء في ص555– أما التوكيد بنوعيه فلا يجوز القطع فيه مطلقًا؛ حتى كلمة: "كل" حيث تصير نعتًا في بعض حالاتها التي تجيء في ص514 وقد أشار الصبان في "باب البدل" إلى رأي يجيز في التوكيد القطع وهو رأي جدير بالإهمال. وأما البدل فيصبح فيه القطع على الوجه الذي يأتي في بابه "ص677 "هـ".

2 المراد بالذات هنا: حقيقة الشيء الأصلية، وجملته كاملة؛ فتشمل الذات الحسية؛ كالجسم، وباقي المحسوسات، كما تشمل الحقائق المعنوية المحضة؛ كذات العلم، وذات الفهم، وذات الأدب

–انظر ما يتصل بهذا في رقم 4 من هذا الهامش–.

ص: 502

مباشرة، أو إلى إفادته العموم والشمول المناسبين لمدلولة"1

وإن شئت فقل: تابع يدلّ على أن معنى متبوعه حقيقي، لا دخْل للمبالغة فيه، ولا للمجاز، ولا للسَّهو، أو النسيان، ونحوهما

فالغرض من التوكيدّ المعنويّ هو إبعاد ذلك الاحتمال وإزالته؛ إما عن ذات المتبوع، وإما عن إفادته التعميم الشامل المناسب1 لمدلوله، فإن لم يوجد الاحتمال لم يكن من البلاغة التوكيد.

ألفاظ التوكيد المعنوي:

ألفاظ الأصلية سبعة، وقد تلحق بها –أحيانًا– ألفاظ فرعية أخرى سنعرفها1. والسبعة الأصلية ثلاث أنواع:

الأول:

نوع يراد منه إزالة الاحتمال عن الذات في صميمها3، وإبعاد الشك المعنوي عنها. وأشهر ألفاظه الأصلية: نفْس4، وعْين4. ومن الأمثلة قول أحد الرَّحالين: "

رأيت الساحرَ الهنديّ نفسَه –وهو المعروف بألاعيبه وحِيَله– يقبض على الجمرة عينِها بأصابعه العاريَة، ويظل كذلك دقائق كثيرة

"، فكلمة: "نفس" أزالت –في الأغلب– الشك والمجاز عن ذات الساحر، فلم

"1، 1" المراد من العموم المناسب للمدلول هنا: يشمل إزالة الاحتمال عن التثنية المقصودة حقيقة، لا مجازًا، كما يشمل إزالة الاحتمال عن الجمع المقصود حقيقة، لا مجازًا. "انظر "ب" من ص507".

2 في ص517.

3 أي: في حقيقتها المادية "وهي المحسوسة –غالبًا-" لا في أمر عرضي مما يطرأ عليها.

"4، 4" ليس المقصود هنا من "نفس" الشيء أو: "عين" الشيء مقصورًا على حقيقته المادية المحسوسة "أي: التي تدركها بإحدى الحواس" مثل: العلم –الفهم- الصدق.

ويزيد بعض النحاة توضيح هذا –كما جاء في الخضري عند الكلام على التوكيد بالنفس أو العين- بقوله: "مراد بها جملة الشيء وحقيقته، وإن لم يكن له نفس ولا عين حقيقة. فإن أريد بالنفس: "الدم"، وبالعين: "الجارحة، كسفكت زيدًا نفسه، وفقأت زيدًا عينه، لم يكون توكيدًا؛ فهما في المثال بدل بعض

" ا. هـ.

انظر ما يتصل بهذا في رقم 2 من هامش الصفحة السابقة.

ص: 503

تترك مجالًا لتوهم أن المقصود شيء سواها. وكذلك كلمة: "عين" فإنها أفادت النص على الذات، وأبعدت عنها -في الأغلب– كل احتمال يقوم على تلك المبالغة، أو المجاز، أو إرادة معنى لا يتصل بصميمها مباشرة. وهذا معنى لا يتصل بصميمها مباشرة. وهذا معنى قولهم: إن التوكيد بالنفس أو بالعين يَقْصِر المعنى الحقيقي على الذات وحدها، ويُرَكزه فيها، ويزيل –في الأغلب– كل احتمال عنها آخَر.

وإذا وقعت كلمة: "عين، أو نفس" تابعة على هذا الوجه، سميت اصطلاح النحاة "توكيدًا". أو:"مؤكَّدة" –بكسر الكاف– والأول هو الأشهر، سمي متبوعها: مؤكَّدًا –بفتح الكاف– وهذا هو الشأن في جميع ألفاظ التوكيد.

حكمهما:

إذا كانتا للتوكيد وجب أن يسبقهما المؤكَّد، وأن تكونا مثله في الضبط الإعرابي، وأن تضاف كل واحدة منهما إلى ضمير مذكور –حتمًا– يطابق هذا المؤكًّد في التذكير والإفراد وفروعهما؛ ليربط بين التابع والمتبوع. تقول: صافحت الواليّ نفسه –صافحت الواليينِ أنفسَهما– صافحت الولاة أنفسهم –صافحت الوالية َ عينَها– صافحت الواليتين أعينَهما –صافحت الواليات أعينَهن. وهذا الضمير لا يجوز حذفه ولا تقديره1

فإن لم يتقدم المتبوع، أو لم يوجد الضمير المضاف إليه، المطابق لم يصح إعرابهما توكيدًا، بل يجب إعرابهما شيئًا آخر على حسب الجملة، "مبتدأ، أو خبر، أو بدلًا، أو عطف بيان، أو مفعولًا به، أو غيره2....." ومن أمثله المفعول به:

من عاتبَ الجهال أَتعبَ نفسه

ومن لام من لا يعرفُ اللومَ أفْسَدا

1 في توكيد الاسم بالنفس أو بالعين مع اشتمالها على ضمير مطابق للمؤكَّد يقول ابن مالك:

مع ضَمِيرٍ طَابقَ المؤكَّدا

بالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعَيْن الاِسْمُ أُكِّدا

وهذا الضمير لابد من ذكره هنا وفي كل نوع من أنواع التوكيد المعنوي الآتية. ولا يصح حذفه مطلقًا في حالة هذا التوكيد.

2 انظر ما يتصل بحكم "النفس والعين" عند فقد المؤكَّد في ص515.

ص: 504

ومما يلاحظ أن المطابقة، حين يكونُ المؤكَّد بهما جمعًا تقتضي أن يُجمعا جمع تكسير للقلة على وزن:"أفْعُل"، فقط، ومنع أكثر النجاة الجموع الأخرى التي للقلة والكثرة، فلا يصح: جاء الولاة نفوسهم، ولا عيونهم

وبناء على هذا الرأي لابد أن تكون صيغتهما على وزن "أَفْعُل" مع إضافتهما لضمير الجمع1.

أما إذا كان المؤكَّد مثنى فالأفصح جمعهما على وزن القلة السابق وهو: "أفْعُل" فيقال أنفسُهما، أعيُنهما. لكن يصح إفرادهما وتثنيهما؛ فيقال: نفسُهما، عينُهما، أو: نفساهما، عيناهما2. ومهما كان وزن الصيغة في التثنية فلابد من إضافتهما إلى ضمير المثنى؛ ليطابق المؤكَّد3

1 وفريق من النجاة يجيز في كلمة: "عين" المستعملة في التوكيد جمعها للقلة على "أعيان" لكن الكثير الفصيح هو وزن: "أُفعُل" ويحسن الاقتصار عليه؛ متابعة المطرد في كلام العرب.

2 يفهم مما سبق صحة الإفراد، والتثنية، والجمع، في كلمتي:"النفس والعين" إذا وقعت إحداهما توكيدًا للشيء ولابد من إضافتهما لضمير....

وبهذه المناسبة نذكر ضابطًا لغويًا مفيدًا " سبق تسجيله في جـ1 م9 بهامش ص110 " مضمونه: أن كل شيء في المعنى، مضاف إلى مُتَضَمِّنه "بكسر الميم الثانية المشددة، وصيغة اسم الفاعل، أي: إلى ما اشتمل على المضاف " يجوز فيه الإفراد، والتثنية، والجمع؛ نحو: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: من الآية4] . ونقول: تصدقت برأس الكثبين –أو: رأس الكبثين– أو رءوسهما. وإنما فضل الجمع على التثنية لأن المتضايفين كالشيء الواحد؛ فكرهوا الجمع بين تثنيتهما، ولأن المثنى جمع في المعنى. وفضل الجمع على الإفراد لأن المثنى جمع في المعنى، والإفراد ليس كذلك، فهو أقل منه دلالة على المثنى.

هذا ما نقله بعض النحاة -كالصبان، ج3 والخضري ج3، في أول باب التوكيد منهما وينطبق ما تقدم على:"النفس والعين" المستعملتين في التوكيد؛ خضوعًا للسماع الوارد فيهما، لا تطبيقًا للضابط السالف؛ فقد قال الصبان في الموضع المشار إليه: إن إضافتهما ليست لمضمنَّها، بل إلى ما هو بمعناهما؛ لأن المراد منهما "الذات". وفي ص145 م11 من الجزء الأول أيضًا ضابط آخر لشارح المفصل فيه بعض المخالفة لما هنا.

3 وفي هذا يقول ابن مالك:

واجْمعْهُما "بِأَفْعُل" إِنْ تَبِعا

ما لَيْس واحِدًا تَكُنْ مُتَّبِعًا

أي: إن كانا تابعين "مؤكَّدين" لغير والواحد؛ وهو المثنى والجمع فجيء بهما مجموعين على صيغة: "أفعل" لتكون متبعًا للنهج الصحيح.

ص: 505

هذا، ويصح التوكيد بالنفس والعين معًا، ولكن بغير حرف عطف1، ويجري عليهما مجتمعَينِ من حكم الإضافة للضمير المطابق، وتقدم المتبوع، ومسايرته في الضبط الإعرابي، وباقي أحكام التابع ما يجري على إحدهما منفردة؛ نحو: قابلت الواليَ نفسَه، قبض الساحر على الجمرة نفسِها عينِها. ويجب –في الرأي الأقوى– عند اجتماعهما تقديم النفس على العين2

1 لا يصح وجود حرف عطف قبل التوكيد المعنوي. لأن وجوده يستلزم معنى غير المقصود من التوكيد، ويزيل عما بعده اسم التوكيد. "كما سيجيء في رقم 3 من ص520".

2 وقيل إن تقديم النفس على العين ليس بلازم ولكنه حسن.

ص: 506

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- تنفرد كلمتا: "نفس" و"عين" دون بقية ألفاظ التوكيد المعنوي1، بجواز جرهما بالباء الزائدة؛ تقول "ذهب الوالي نفسُه، أو بنفسه، لمحاربة الخوارج" -"أبصرت الواليَ نفسَه، أو بنفسه، وهو في الميدان"

فكلمة؛ "نفس" توكيد وجرور بالباء الزائدة في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب حالة المتبوع. ويصح في الأمثلة السالفة وضع كلمة:"عين" مكان: "نفس" فلا يتغير الحكم، وتعرف مع حرف الجر مثلها؛ توكيدًا مجرورًا في المحل تابع المؤكًّد "أي: للمتبوع"2.

ب– إذا كان المتبوع " المؤكَّد " كنية لوحظ في معنى التوكيد وإعرابه ما سبقت الإشارة إليه "في: "أ" من ص444" سواء أكان بلفظ: "نفس، أو عين أو غيرهما، مما يصلح من ألفاظ التوكيد المعنوي".

1 سبقت الإشارة لهذا في ج2 م90 ص456، باب:"حروف الجر" وسيجيء "في ص521" عند الكلام على ألفاظ الشمول دخول هذه الباء على "أجمع" ولكنها هناك الباء الزائدة وجوبًا، اللازمة؛ كالداخلة على "أَفْعِل" في التعجب من جهة وجوب زيادتها، وعدم مفارقتها. أما "الباء" الزائدة هنا فدخولها جائز، وبقاؤها غير لازم.

وفي ص512 بعض أحكام عامة تنطبق على النفس والعين.

2 سبقت الإشارة لهذا عند الكلام على زيادة "الباء" الجارة "جـ2 ص458 م90 باب حروف الجر". كما سبق بيان بعض المراجع لهذا، ومنها:"المعنى""- جـ1 عند الكلام على "أبناء" المفردة" و"الصبان" عند الكلام عليها في باب "حروف الجر".

ص: 507

الثاني:

نوع يراد به إزالة الاحتمال والمجاز عن التثنية، وإثبات أنها هي –وحدها– المقصودة حقيقة. وله لفظان:"كِلَا" للمثنى المؤنث، نحو: أفاد الخبيران كلاهما، ونفعتْ الخبيرتان كلتاهما. فلو لم تُذْكَر "كلا" و"كلتا" لكان من المحتمل اعتبار التثنية غير حقيقية، وأن المقصود بالخبيرين أحدهما، وبالخبيرتين إحداهما

فمجيء "كِلَا" بعد المثنى المذكر، و"كلتا" بعد المثنى المؤنث يكاد يقطع في أصالة التثنية بفهم لا شك فيه ولا احتمال، ويدل –في الأغلب– على أن المراد هو الدلالة على التثنية الحقيقية التي تنصَبّ على اثنين معًا، أو اثنين معًا1.

حكمهما:

لابد عند استعمالها في التوكيد أن يسبقهما "المؤكَّد"، وأن يكون ضبطهما كضبطه، وان تُضاف كل واحدة منهما على ضمير مذكور يطابقه في التثنية ليربط بينهما –كما في الأمثلة السالفة- وهذا الضمير لا يصح حذفه ولا تقديره. فإذا تحققت الشروط، وصارتا للتوكيد وجب إعرابها إعراب المثنى2، فيرفعان بالألف، ويُنصبان ويجران بالياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها؛ نحو: أفادني الوالدان كلاهما، أحببت الوالدَينِ كليهما، دعوت الله للوالدَينِ كليهما. نفعتني الجَدَّتان كلتاهما، أطعت الجَدَّتينِ كلتيهما، استمعت إلى نصح الجَدتينِ كلتيهما.

ولما كان الغرض من التوكيد بكلا وكلتا هو ما سلف، كان من المستقبح بلاغة3 أن يقال: تخاصم الرجلان كلاهما، والمرأتان كلتاهما، حيث لا مجال

1 ولا فرق بين أن تكون التثنية على سبيل التفريق –وهذه لا تسمى تثنية اصطلاحًا– أو غير سبيله؛ نحو: فاز الأول والثاني كلاهما، وفازت الأولى والثانية كلتاهما وفاز السابقان كلاهما وفازت السابقتان كلتاهما.

2 هما من الألفاظ الملازمة للإضافة، الملحقة في إعرابها بالمثنى. وقد سبق تفصيل شامل في إعرابهما. ومن المفيد الرجوع عليه"في ص98 وما بعدها، وفي الجزء الأول ص97 م9 عند الكلام على المثنى وملحقاته".

من ذلك التفصيل تتبين أمور هامة؛ في مقدمتها: انه لا يصح إعرابهما توكيدًا إلا بعد تحقق الشروط الخاصة بها. لكن لا يلزم من تحقق الشروط إعرابهما توكيدًا؛ فقد يعربان توكيدًا أو لا يعربان على حسب ما تقضي به الدواعي الخزي.

3 يقال بعض النحاة فلا يجيزه مطلقًا.

ص: 508

لاحتمال التخاصم من أحدهما دون الآخر؛ لأن التخاصم لا يتحقق معناه إلا بوقوعه من اثنين حتمًا؛ فلا فائدة من صيغة التوكيد هنا، ومثله: تَقَاتل اللصان، وتحارَب العدوانِ، وأشباه هذا من كل يخْلو من الاحتمال، ويدل على "المفاعلة" الحقيقية، أي: المشاركة الحتميَّة بين شيئين

الثالث:

نوع يراد منه إفادة التعميم الحقيقي المناسب لمداولة المقصود، وإزالة الاحتمال عن الشمول الكامل. وأشهر ألفاظه ثلاثة:"كُلِّ، جميع، عامَّة ". وأقواها في التوكيد، وأكثرها أصالة، هو: كُلَّ، ثم جميع، ثم عامة نحو: قرأت ديوان المتنبي كلَّه، واستوعَب قصائدَه كلَّها. فلو لم نأت بكلمة:"كُلِّ" لكان من المحتمل أن المراد من المقروء ومن المستوعَب، هو: الأكثر، أو الأقل، أو النصف، أو غير ذلك؛ إذ ليس في الكلام ما يدل على الإحاطة الكاملة، والشمول الوافي. فمجيء لفظ:"كلّ"1 منع –في الأغلب– الاحتمالات، وأفاد الإحاطة والشمول بغير مبالغة ولا مجاز2

ومثل هذا: غردت العصافير جميعُها لاستقبال الصبح. فلو لم تُذكَر كلمة: "جميع" لكان من المحتمل أن المراد هو تغريد أكثرها، أو بعض منها

إذ ليس قي الكلام ما يقطع بالدلالة على الإحاطة والشمول، فلما جاءت كلمة:"جميع" أزالت –في الأغلب– الاحتمال، وأفادت العموم القاطع.

ومثلها كلمة: "عامة""والتاء في أخرها زائدة لازمة لا تفارقها في إفراد، ولا في تذكير. ولا في فروعهما. وهي للمبالغة، وليست للتأنيث"، تقول: حضر الجيش عامَّتُه، حضر الجيشان عامَّتُهما، حضر الجيوش عامَّتُهم، حضرت الفرقة عامَّتُها، حضرت الفرْقتان عامَّتُهما، حضرت الفرَق عامَّتهُن

حكمها: لابد في استعمال كل لفظ من هذه الثلاثة في التوكيد أن يسبقه المؤكَّد، وأن

1 "كل" المستعملة في التوكيد قد تفيد الدلالة على "الكل المجموعي" أو: "الكل الجميعي" طبقًا للبيان الآتي في رقم 6 من هامش ص512 وهي في الحالتين تختلف في معناها وحكمها في كلمة: "كل" المستعملة نعتًا. والتي سبق الكلام عليها في رقم 4 ص466.

2 انظر "الملاحظة" التي في ص515 بشأن المراد من "الشمول" وأحواله في الألفاظ الدالة عليه؛ مثل: كل، جميع، عامة

ص: 509

يكون المؤكِّد مماثلًا له في ضبطه، ومضافًا إلى ضمير مذكور حتمًا، يطابقه في الإفراد والتذكير وفروعهما؛ ليربط بينهما، وان يكون المؤكد، إما جَمْعًا له أفراد1، وإما مفردًا يتجزأ بنفسه، أو يعامله2. فمثال الجمع المؤكَّد: حضر الزملاء كلهم، أو: جميعُهم، أو عامتُهم، كرّمت الزميلات كلَّهن، أو جميعهنّ، أو عامتهنّ، ومنه قول الشاعر:

الجود يُفقر، والإقدامًُ قَتَّالُ

لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ

ومثال المفرد الذي يتجزأ بنفسه: قرأت الكتاب كلَّه، أو: جميعَه، أو: عامَّتَه. ومثال المفرد الذي يتجزأ بعامله اشتريت الحصان كله، أو: جميعه، أو: عامته.

لما سبق كان من المستقبح أن يقال: جاء الأخ كله –مثلًا– لعدم لفائدة من التوكيد؛ إذ يستحيل نسبة المجيء إلى جزء منه دون آخر3.... ومال أكثر النجاة إلى منع هذا وأمثاله، ولم يكتفوا باستقباحه.

1 ما الحكم في فاعل "نعم وبئس" ونظائرهما إذا كان مقترنًا بالأداة التي تفيده "العموم"، وهي:"أل الجنسية، أو العهدية"؟ أيجوز توكيده بأحد تلك الألفاظ الدالة على الشمول الكامل والعموم الحقيقي؟ الإجابة عن هذا السؤال الهام في "أ" ص369 ثم ص374 وهامشيهما.

2 المراد بما يتجرأ بنفسه: ما يتكون من جملة أجزاى يمكن أن يستقل كل جزء منها وحده بتحقيق الفائدة منه من غير توقف على انضمامه إلى المجموع؛ كالفضة –مثلًا– فإنها تتكون من أجزاء كل جزء منها ينفع -بنفسه– في شيء مطلوب، وكذلك أمال، فإنه يتكون من دراهم ودنانير، كل درهم أو دينار يؤدى منفعته من غير حاجة إلى انضمامه لنظير له. أما الذي يتجرأ بعامله فهو الذي له أجزاء لا ينفع الواحد في أداء الأساسية إلا بتصاله بجزء آخر؛ لأن أجزاءه متماسكة متصلة، لا يصلح واحد منها لتحقيق الفائدة الأصلية إلا حين يكون متصلًا بباقي نظرائه. لكنه يتجرأ باعتبار آخر خارج عن ذاته الأصلية، وذلك الاعتبار حين يقع عليه أثر عامل نحوي ومعناه، ويكون هذا المعنى مما يتجزأ –مثلًا– الحصان؛ فإنه لا يمكن أن يتجزأ أجزاء يؤدى كل منها عمله الأصلي بعد التجزيء، فإذا قلت: اشتريت الحصان، أو بعت الحصان

فإن الحصان معمول للفعل: اشترى، أو: باع، وكل من الشراء والبيع يتجزأ؛ إذ يمكن شراء نصف الحصان، أو ربعه، أو ثلثه.... و..... وكذلك بيعه، فالعامل –كما نرى– يتجزأ؛ لهذا يصح أن يقال: اشتريت الحصان كله، واستأجرت الخادم كله. والساقية كلها، والسيارة كلها

3 وفي ألفاظ الشمول الخمسة الأصلية يقول ابن مالك:

"كِلْتَا"، "جمِيعًا" بالضَّمير مُوصَلا

و"كُلَاّ" اذْكُرْ في الشُّمُولِ و"كِلَا"

مِنْ: دعمَّ في التوكيد. مثلُ: النَّافِلَهْ

واسْتَعْملُوا أَيضًا: "فاعِلَهْ"

يريد: اذكر عند إرادة الشمول لفظة التوكيد الدالة على الشمول، وهي "كل" و"كلا" و"كلتا" وهذان لإفادة الشمول في المثنى" و"جميعًا" ولابد من وصل لفظ التوكيد بالضمير المطابق. ثم قال بعد ذلك إن العرب استعملت في الدلالة على الشمول لفظًا آخر يفيد ما يفيده لفظ "كل"؛ وهذا اللفظ الآخر على وزن:"فاعلة" من الفعل: عَمْ، وهو: عامة" لأنها من غير ملاحظة الإدغام على وزن: فاعلة"، وأراد بقوله:"مثل الفاعلة"؛ أنها على مثال: "نافلة" في الوزن، وفي ثبات التاء في جميع الأحوال، تذكيرًا، وتأنيثًا، وإفرادًا، وغير التاء لازمة لا تتغير مجاله.

ص: 510

وكل واحد من الألفاظ الثلاثة لا يفيد اتحاد الوقت عند وقوع المعنى على أفراده1؛ ففي مثل: حضرت الوفود كلها يصح أن يكون حضورها في وقت واحد، أو في أوقات متباينة، ومثل: غاب الجنود كلهم

، يصح أن يكون الغياب في وقت واحد، أو في أوقات متعددة. وهكذا، فهي في معناها تفيد العموم المطلق من غير زيادة محتومة عليه، أما ما زاد عليه فلا يفهم إلا بقرينة أخرى.

ويلحق بهذا النوع: ألفاظ العدد التي تفيد العموم2 تأويلًا، لا صراحة؛ وهي الأعداد المفردة "وتتركز في 3و 10 وما بينهما" فهذه الأعداد قد تضاف أحيانًا إلى ضمير المعدود، نحو: مررت بالإخوان ثلاثَتَهم، أو خمستَهم أو سبعتَهم أو....، بالنصب في كل ذلك على الحال3؛ بتأويل: مثلَّثًا إياهم، أو: مخَمَّسًا، أو مسبعًا

ويصح إتْباع اسم العدد لما قبله فلا يعرب حالًا، وإنما يعرب توكيدًا معنويًّا؛ بمعنى: جميعهم، ويضبط لفظ العدد بما يضبط به التوكيد المعنوي، والصحيح أن هذا ليس مقصورًا على العدد المفرد "كما يقول كثير من النحاة"،بل يسري على العدد المركب أيضًا؛ نحو: جاء القوم خمسةَ عشْرَهم3 بالبناء على فتح الجزأين في محل نصب. على الحال، أو في محل آخر يطابق فيه المتبوع4.

1 وله في هذا نظائر ستجيء في ص517.

2 ما سنذكره سبق تدوينه في باب الحال ج2 ص297 م84 –عند الكلام على الحال المعرفة– ويجيء كذلك في ج4 ص297.

"3، 3" وهي من المواضع التي تقع فيها الحال معرفة.

4 انظر ما يتصل بهذا ويوضحه ويبين مواقعه في رقم 6 من هامش ص512 بعنوان "ملاحظة".

ص: 511

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- في مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، تعرب كلمة:"جميعًا" حالًا، ولا يصح إعرابها توكيدًا لعدم وجود الضمير الرابط.

وفي قارة من قرأ قوله تعالى: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} ، ولا يصح إعراب:"كُلاّ" توكيدًا، لعدم وجود الضمير، وإنما تعرب بَدَلًا من الضمير "نا" اسم:"إنّ" بدل كل من كل. وهذا هو الإعراب الأحسن؛ إذ لا ضعف فيه، ولا مانع يمنع من إبدال الاسم الظاهر من الضمير الحاضر1 بدل كل من كل.... "كما سيجيء في باب البدل2 منه: قمتُم ثلاثَتُكُمْ". وبدل الكل من الكل لا يحتاج لرابط من ضمير أو غيره.

ب- إذا اجتمع أكثر من مؤكد معنويّ –بشرط وجود داع بلاغيّ3، يقتضي هذا الاجتماع– تقدمت4 النفس على العين، ويستحسن تأخير كلمة:"كل" عنهما، ويليها كلمة:"جميع" ثم كلمة: "عامة" وإذا تعددت ألفاظ التوكيد فهي للمتبوع وحده5، ولا يصح –في الرأي الأنسب– اعتبار واحد منها توكيدًا للتوكيد. وهذا حكم عامّ في جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة بها.

ج- قد تقع ألفاظ التوكيد المعنوي السبعة "وهي: نفس، عين، كِلَا، كلتا، كلّ5، جميع، عامة" معمولة لبعض العوامل، ولا تعرب توكيدًا لعدم وجود المؤكَّد؛ فتعرب على حسب حاجة ذلك العامل، فاعلًا، أو مفعولًا، أو مبتدأ، أو خبرًا

و

وبالرغم من امتناع إعرابها توكيدًا

1 أي: ضمير المتكلم أو المخاطب.

2 ص682.

3 هذا الداعي هو إزالة الاحتمالات إزالة لا تتم إلا بهذه الكثرة. فإن كانت تتم بغيرها فلا داعي لتعدد التوكيد.

4 وجوبًا أو استحسانًا: تبعًا للخلاف الذي سبق في رقم 2 من هامش ص506.

5 كما سيجيء في رقم 4 من ص503 وما قبلها مباشرة. ومنها نعلم أيضًا عدم صحة مجيء حرف عطف قبل التوكيد ما دام توكيدًا، وإلا صار معطوفًا.

6 "ملاحظة": قد تكون كلمة "كل" التوكيد من غير أن تفيد الشمول والعموم الحقيقي كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} ، فإن الله لم يطلعه على جميع آياته. وهذا لأن كلمة "كل" –كما يذكرون– قد يراد منها الكل المجموعي كالآية، وقد يراد منها الكل الجميعي الذي يشمل الأفراد، فردًا فردًا. "كما سيجيء في رقم 2 من هامش 517".

ص: 512

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تظل في حالتها الجديدة تؤدي معنى التوكيد كما كانت تؤديه من قبل، مع أنها في حالتها الجديدة لا تسمى في اصطلاح النحاة توكيدًا، ولا تعرب توكيدًا. وهذا كثير في:"جميع"، و"عامة"؛ نحو: الزائرون انصرف جميعهم، أو: عامتهم الزائرون رأيت جميعَهم، أو: عامَّتَهم الزائرون مررت بجميعهم، أو بعامَّتهم..

أما: "كُلّ" فيكثر وقوعها –عند فقْد المؤكَّدبعد عامل الابتداء، فتكون مبتدأ، ويقل وقوعها بعد غيره؛ فمثال الأول: الحاضرون كلُّهم نابه. ومثال الثاني قول الشاعر:

يَميدُ1 إذا والت عليه دِلاؤُهم

فيصدُرُ عنه كلُّها، وهْوَ ناهلُ

وهذا من القليل الذي لا يجسن محاكاته، لوقوعها فاعلًا مع إضافتها للضمير2. ومن

الأمثلة للثاني: الحاضرون تكلمَ كلُّهم الحاضرون سمعتُ ملَّهم، وأعجبتُ بكلهم

وكلمة: "كُلّ" في لفظها مفردة مذكرة دائمًا3، وإذا وقعت مبتدأ، وأضيفت إلى نكرة وجب في الأغلب عند المطابقة مراعاة معنى النكرة في خبر: المبتدأ: "كَلّ"؛ كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وقوله تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقول جرير:

وكل قوم لهم رأْيٌ ومختبرٌ

وليس في تغْلبِ رأيٌ ولا خبرٌ

1 يميد، أي يضطرب: والضمير عائد على ماء البئر.

2 وهنا سبب آخر؛ هو أنه قد يحدث لبسًا في بعض الصور التي يحذف فيها المؤكَّد الضمير "وسياتي في ص522" مثل: الأسرة أكرمت كلها: أي: أكرمتها.

3 ولهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص71 حيث تفصيل الكلام على إضافة "كل وما يترتب على هذا من تعريفها أو عدم تعريفها، وحالة النعت بعد المضاف إليه، أيكون للمضاف أم للمضاف إليه؟

ص: 513

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فإن أضيفت لمعرفة لم يلزم اعتبار المعنى، وإنما يصح اعتباره أو اعتبار لفظ "كلّ" المفرد المذكر؛ كقوله تعالى:{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . وقوله عليه السلام: "كلكُم راع، وكلكُم مسؤول عن رعيته" ونحو: كلكُم هداةٌ للخير، وكلكم داعون إليه. وقول الشاعر:

كلّ العداوات قد تُرجَى إزالتُها

إلا عداوة مَن عاداك من حَسَدِ

وقول الآخر:

كل المصائب قد تمر على الفتى

وتهون غير شماتة الحساد

وقد تقع لدلًا كالتي في الآية السابقة، في ص512 على قراءة من قرأها {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} . وقد سبق أن قلنا1 ما نصّه:

"إنها تقع نعتًا بشرط إضافتها إلى اسم الظاهر، مماثل للمنعوت في لفظه، وفي معناه معًا –وهو الأغلب– أو مماثل لشيء له صلة معنوية قوية به، فمثال الأول قول الشاعر:

كم قد ذكَرتكِ لو أَجزَى بذكرِ كُمُو

يا أَشبهَ الناسِ كلِّ الناس بالقمرِ

فكلمة: "كل" نعت للناس. ومثال الثاني قول الآخر:

وإن كان ذنْبي كلَّ ذنب فإِنه

محا الذنبَ كلَّ المحوِ من جاءَ تائبا

فكلمة: "كلّ" –في الشطر الثاني– نعت للذنب، وهي مضافة إلى ما له صلة معنوية بالمعنوت.

"وإذا وقعت كلمة: "كل" نعتًا صارت من الجامد المؤول بالمشتق، وصار معناها: "الكامل" في كذا2.. وهو معنى يختلف عن معناها في التوكيد" ا. هـ.

ولا يجوز فيها القطع في حالتي استعمالها نعتًا أو توكيدًا كما سبقت الإشارة

1 في ص467.

2 راجع ماله صلة بهذا في ص464 و467.

ص: 514

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لهذا1 ولا داعي للأخذ بالرأي الذي يبيح استعمالها توكيدًا في الصورة السالفة التي تضاف فيها لاسم ظاهر مماثل لما قبلها على الوجه الذي شرحناه2؛ لأن في الأخذ به خروجًا على الكثير الفصيح من كلام العرب الذي يضيفها عند التوكيد على ضمير مطابق للمؤكَّد "المتبوع" أما المضافة للظاهر فلها معنى آخر، وتأويل مغاير، كما رأينا.

"ملاحظة": يقول الصبان في هذا الموضع من باب: "التوكيد" ما نصّه: "اعلم أنّ "كُلَاّ" وشبهها في إفادة شمول كل فرد، إن كانت داخلة في حَيِّز النفي بأن أُخِّرت عن أداته لفظًا؛ "نحو: "ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه

"، وما جاء كل القوم، وما جاء القوم كلّهم، ولم آخُذْ كلّ الدراهم، ولم آخذ الدراهم كلَّها

" أو رتبة؛ "نحو: كلَّ الدراهم لم آخذ، والدراهم كلها لم آخُذ

" توجَّهَ النفي إلى الشمول خاصة، وأفاد سلب العموم. وإلا بأن قُدّمت على أداته لفظًا ورتبه توجَّه النفي إلى كل فرد، وأفاد عموم السَّلب؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: ".. مل ذلك لم يكن

". وكالنفي النهي. قال التفتازاني: "والحقّ أن الشق الأول أكثريّ لا كليّ؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} . ا. هـ. كلام الصبان.

وأما "كلا" و"كلتا" فيكثر –عند فقد المؤكَّد– وقوعهما بعد عامل الابتداء، ويقل بعد غيره "فهما من هذه الناحية مثل:"كُل"؛ فمثال الأول: حاضران كلاهما3 نابه الحضرتَان كلتاهما نابهة

ومثال الثاني ما قاله بعض الأعراب وقد خُير بين شيئين: "كليْهما وتَمْرًا". يريد: أعطني كليهما وتمرًا4. وفي هذه الصور وأشباهها يفيدان معنى التوكيد، لكن لا يصح إعرابهما توكيدًا.

وأما "نفس" و"عين" فالصحيح عند فقد المؤكَّد وقوعهما معمولين

1 في رقم 1 من هامش ص463 وقد تقدم في باب النعت "ص486 و487" شرح القطع بيان أحكامه.

2 في هامش ص502.

3 كلا: مبتدأ، مضاف

4 كما جاء في معجم: "لسان العرب".

ص: 515

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

–أحيانًا– لبعض العوامل1، وإفادتهما التوكيد المعنوي مع امتناع إعرابهما توكيدًا2، ومن الأمثلة قوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 3، ونحو: جاءني عين الكتاب.... والعرب تقول: نزلت بنفس الجبل، ونفسُ الجبل مقابلي4.

د- في جميع أنواع التوكيد المعنوي لا يصح اتحاد توكيد المتعاطفين إلا إذا اتحد عاملاهما معنى، فلا يقال غاب المسافر، وحضر الغائب كلاهما فإن اتحد معنى العاملين صح اتحاد توكيد المتعاطفين، ولو كان لفظ العاملين مختلفًا؛ نحو: ذهب المسافر، وانطلق الصانع كلاهما.

هـ- يجوز الفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد بغير أجنبي محض من العامل؛ طبقًا للبيان الشامل الذي سلف5 ومنه قوله تعالى: {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، وقد أختلفت النحاة في الفصل بالحرف:"إمَّا"، والأحسن الأخ بالرأي الذي يبيحه فيقول: سأسعَد بالقوم إمَّا كلَّهم، وإما بعضهم

و سبقت الإشارة6 إلى أنه لا يجوز –في أصح الآراء– قطع التوكيد مطلقًا7 حتى كلمة: "كل" إذا صارت نعتًا وجب إتْباعها، وعدم قطعها.

1 كما جاء في معجم: "لسان العرب".

2 انظر ما سبق –في ص 504 متصلًا بهذا الحكم الخاص بفقد المؤكَّد.

3 وكذلك باقي السبعة، كما أسلفنا في ص512.

4 انظر الزيادة في "أ" في ص507 لنوع من المناسبة..

5 في ص435.

6 في رقم 1 من هامش ص502.

7 المعنوي وغير المعنوي.

ص: 516

ألفاظ التوكيد الملحقة1 بالثلاثة:

هناك ألفاظ ملحقة بالثلاثة السالفة الدالة على الإحاطة والشمول، وهذه الملحقة هي: أجمع، جمعاء، أجمعون، جُمع.

وإنما سميت ملحقة لأن الكثير الفصيح في استعمالها أن تقع مسبوقة بلفظة: "كلّ" التي للتوكيد أيضًا، ومطابقة لها، ومقوّية لمعناها2؛ وذلك بأن تقع:"أجمع" بعد: "كُلَ"، و"جمعاء" بعد:"كلها"، و"أجمعون" بعد:"كلهم"، و"جُمع" بعد:"كلهن"، مثل: حصدت الحقل كلَّه أجمعْ، سافرت الأسرةُ كلها جمعاءُ، أقبل الضيوف كلهم أجمعون، أقبلت الفتياتُ كلُّهن جُمَعُ3

ومن الجائز –مع قلته4 وفصاحته– أن تستقل كل واحدة من هذه الألفاظ الملحقة، فنقع توكيدًا غير مسبوقة بكلمة:"كل" التي أوضحناها. نحو: استوعبت النصحَ أجمعَ، استظهرت القصيدةَ جمعاءَ، صافحت الزائرين أجمعين5، أكرمت الزائرات جُمَعَ.

ولا تدل كلمة: "أجمعين" وأخواتها على اتحاد الوقت عند وقوع

1 وهي التي أشير لها في ص503 والثلاثة السالفة موضحة في ص509.

2 وقد تزيل عنها احتمال عدم الشمول الكامل، لأن لفظة:"كل" قد يراد منها: "الكل المجموعي" وليس "الكل الجميعي" على الوجه السابق لهما، في رقم 6 من هامش ص512.

3 وفيما سبق يقول ابن مالك:

وبَعْدَ كُلِّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعا

جَمُعَاءَ. أَجْمَعِينَ، ثُمَّ جُمَعَا

أي: بعد لفظة: "كل" التي للتوكيد استعمل العرب الألفاظ التي تجيء بعدها لتقوية التوكيد بها، وسرد تلك الألفاظ. علمًا بأن كل واحد منها يستعمل مع مؤكَّد "متبوع" يخالف ما يستعمل مع الآخر

4 قلة نسبية، وليست قلة ذاتية تمنع القياس، فهي قلة بالنسبة للصورة الأخرى التي لا لاستقلال فيها. "راجع رقم 2 من هامس ص79 حيث إيضاح القلة بنوعيها".

5 من الجائز إعراب: "أجمعين" جالًا، ولكن المعنى يختلف عن إعرابها توكيدًا، فعلى إعرابها حالًا يكون المعنى "مجتمعين" أي: في حالة اجتماعهم، وعدم تفرقهم. وعلى إعرابها توكيدا يكون المعنى على الشمول والإحاطة، وأن الإكرام شملهم فردًا فردًا. فبين المعنيين فرق واضح، ومن الواجب عند الإعراب ملاحظة المعنى المراد دائمًا، لأن الإعراب لا بد أن يجازي المعنى المقصود.

ص: 517

المعنى على الأفراد؛ فهي مثل: "كل" وأخواتها. في إفادة العموم المطلق دون زيادة عليه1. فإذا قلنا: قابلت الزائرين أجمعين فقد تكون المقابلة في وقت واحد أو في أوقات مختلفة.

والفصيح الذي يحسن الاقتصار عليه عدم تثنية: "أجمع" و"جمعاء"، فلا يقال:"أفادني الكتابان أجمعان، ولا أنشدت القصيدين جمعاوين؛ لأن أكثر العرب استغنوا "بكلا" و"كلتا" عن تثنية أجمع وجمعاء2....

وهناك ألفاظ أخرى للتوكيد، تجيء –مجتمعة أو غير مجتمعة– مرتبة وجوبًا بعد "أجمع" وفروعها، وهي بمعناها، وتُعد من الملحقات أيضًا مثلها، وتفيد فائدتها في تقوية معنى:"كلّ" وإن وُجد في الكلام لفظ: "كل"3 وإزالة الاحتمال عن شمولها؛ فيجيء بعد "أجمع" لفظ بمعناه وفائدته؛ هو: "أكْتع"، وإن شئنا الزيادة جئنا بعد "أكْتع"، بلفظ:"أبْصع"، ثم إن شئنا الزيادة جئنا لفظ:"أبْتع" أخيرًا. ونأتي بعد: "جمعاء"، بلفظ:"كتْعاء، ثم بصْعاء، ثم بتْعاء، ونأتي بعد: أجمعين، بلفظ: "أكتعين، ثم أبصعين، ثم أبتعين" –مجموعة جمع مذكر سالمًا– وبعد:"جُمعَ" بلفظ: "كُتَع، بُتَع، بُصَع.." مجموعة على وزن: "فُعَل"4 فالمثال الذي يجمع لفظ التوكيد الأصلي هو: "كُلّ" ويليه ملحقاته المختلفة –كاملة أو غير كاملة– مرتبة على الترتيب السالف وجوبًا، وهو: سافر الوفد كله، أجمعُ أكتعُ، أبصعُ أبتع، سافرت

1 على الوجه المشروح في ص510.

2 وفي هذا يقول ابن مالك مبينًا أن ألفاظ التوكيد الفرعية قد تستقل بنفسها، فلا تجيء بعد لفظة:"كل":

وَدُونَ كُلٍّ قدْ يَجيءُ أَجْمَعُ

جَمْعَاءُ، أَجْمَعُونَ، ثمَّ جُمَعُ

ثم يذكر –بعد بيت آخر– الحكم بمنع تثنية "أجمع"، وجمعاء، استغناء عن تثنيتهما بكلا وكلتا:

وأغْنَ بكِلْتَا فِي مُثَنَّى، وكِلَا

عَنْ وزْن "فَعْلَاءَ" وَوَزنِ "أَفَلا"

"اغن بمعنى: استغن". وسيجيء هذا البيت لمناسبة أخرى في ص522.

3 لصحة التوكيد بهذه الألفاظ، وإن لم توجد كلمة:"كل"، طبقًا لما تقدم.

4 وهذا هو الحكم الغالب –كما سيجيء في باب الممنوع من الصرف ج4 ص194 م147-.

ص: 518

الكتيبة كلها جمْعاء، كتْعاء، بضْعاء، بتْعاء، حضر المدعوون كلهم، أجمعون، أكتعون، أبضعون، وحضرت المدعوات كلهن جُمَعُ، كُتَعُ، بُضَعُ، بُتَعُ. ويقاس على هذا غيرها من الصور التي تستعمل في الإفراد والتذكير وفروعهما.

ويجب ملاحظة ما يأتي:

1-

أن جميع ألفاظ التوكيد الملحقة بالثلاثة الأصلية لا تضاف مطلقًا "لضمير ولا لغير ضمير1" بخلاف ألفاظ التوكيد المعنوي الأصلية مثل: "كُلّ" وسواها؛ فلا بد من إضافتها لضمير مطابق للمؤكَّد، كما عرفنا.

2-

أنّ جميع ألفاظ التوكيد المعنوي الأصلية والملحقة معارف، فأما الأصلية فإنها معارف بسبب إضافتها إلى الضمير الرابط؛ فهي تكتسب منه التعريف. وأما الملحقة فإنها معارف بالعلمية؛ لأن كل لفظ منها هو "عَلم جنس، يدل على الإحاطة والشمول؛ ولهذا لا يجوز نصبه على الحال –في الرأي الصحيح2– ويجب منع الصرف في: "أجمع" و"جمعاء" و"جُمع"، وكل ما كان من تلك الملحقات على وزن: فُعَل3.

3-

أن ألفاظ التوكيد الملحقة إذا اجتمعت وجب ترتيبها على الوجه السابق، وقبلها –في الغالب– لفظة:"كلّ"، ويجب إعراب لفظة:"كلّ" توكيدًا للمؤكد الذي قبلها وكذلك بَقية ما بعدها من الملحقات التي تجيء لتقويتها، وإزالة الاحتمال عن شمولها؛ فتُعرب كل واحدة منها توكيد معنويًّا للمؤكَّد "المتبوع" وليس التالي توكيدًا للتوكيد الذي سبقه –في الرأي الأنسب4–

1 إلا كلمة: "أجمع المسبوقة بالباء الجارة الزائدة لزومًا "في مثل: حضر الضيوف بأجمعهم" كما سيجيء في ص521.

2 إلا على رأي يجيز تأويله بالمشتق، وليس بين الأعلام الجنسية ما يصح جمعه جمع مذكر طالما إلا ما كان منها دالًا على الشمول التوكيدي، نحو:"أجمع" وملحقاته، فيقال؛ "أجمعون وأجمعين"

لأنه في أصل مشتق "صفة" فهو في أصله أفعل تفضيل أصالة "كما جاء في الصبان، ج1 باب المعرب والمبني عند الكلام على جمع المذكر".

3 كما سيجيء في باب الممنوع من الصرف ج4 ص194 م147.

4 راجع الأشموني، وانظر ما يتصل بهذا في "ب" من ص512.

وهناك رأي يجعل لفظ التوكيد بعد كلمة: "كل" تأكيدًا لها، وتقوية لإفادتها الإحاطة والشمول. وقد أشار إليه بعض الباحثين "منهم صاحب مجمع البيان في علوم القرآن ج1 ص399" لكن الرأي الأول أحسن وأنسب.

ص: 519

ولا يصح عطف هذه الملحقات بعضها على بعض. أو على شيء قبلها ما دامت مستعملة في التوكيد؛ لأن جميع ألفاظ التوكيد المعنوي –الأصيلة والملحقة– لا يَصح أن يسبقها عاطف؛ -كما سلف1-.

وكذلك لا يصح –في الرأي الأصح– الفصل بين كلمة: "كل" وما يليها من هذه الألفاظ الملحقة المستعملة في التوكيد –كما تقدم2-.

4-

عرفنا3 أن جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة إذا تعددت كانت توكيدًا للمتبوع وحده ولا يصح أن يكون أحدها توكيدًا للتوكيد.

1 في ص506.

2 في هامش ص436.

3 في "ب" من ص512 وفي رقم 3 من الصفحة السابقة.

ص: 520

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

أ- من الأساليب الصحيحة –كما سبقت الإشارة1– جاء القوم بأجمَعُهم "بفتح الميم، أو ضمها". فكلمة: "أجمع" هذه من الألفاظ التوكيد القليلة، ولا بد أن تضاف إلى ضمير المؤكَّد، وأن تسبقها الباء الزائدة الجارة. وهي زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب كلمة:"أجمع" توكيدًا مجرور اللفظ بالباء الزائدة اللازمة، في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب حالة المؤكَّد "المتبوع". وهذا الإعراب أوضح وأيْسر من إعرابها بدلًا من المتبوع، مجرورة اللفظ بالباء في محل رفع، أو: نصب، أو: جر؛ لأن صاحب هذا الإعراب لا يجعل "أجمع" هنا من ألفاظ التوكيد، برغم أنها –عنده– تؤدي معناه وتضاف إلى ضمير مطابق للمؤكَّد.

ب- تتلخص أهم الأحكام السابقة الخاصة بألفاظ التوكيد المعنوي فيما يأتي:

1-

وجوب تقدم المؤكَّد "المتبوع". ومماثَلة التوكيد له في الضبط.

2-

وجوب إضافة لفظ التوكيد إلى ضمير مطابق للمؤكَّد إذا كان لفظ التوكيد أساسيًا، لا ملحقًا. وهذا الضمير لا يصح خذفه ولا تقديره.

3-

وجوب تطبيق أحكام التابع التي سبق بيانها، "في ص435". على ألفاظ التوكيد.

4-

امتناع وجود عاطف يدخل على لفظ التوكيد إذا أريد بقاؤه للتوكيد.

5-

عدم قطعه.

6-

إذا تعددت ألفاظ التوكيد كانت لتوكيد المتبوع وحده وروعي في تقديم بعضها عن بعض ترتيب خاصّ.

7-

جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة معارف.

1 في هامش، ص507 ورقم 1 من هامش ص519 وفي الجزء الثاني –باب "حروف الجر" م90 ص456-.

ص: 521

توكيد النكرة:

ألفاظ التوكيد المعنوي معارف1 بذاتها، أو بإضافتها إلى الضمير المطابق للمؤكَّد. "المتبوع". والنكرة تدل على الإبهام والشيوع؛ فهما متعارضان تعريفًا وتنكيرًا.

لكن يجوز –في الرأي الأصح– توكيد النكرة إذا أفادها التوكيد شيئًا من التحديد والتخصيص؛ يقربها من التعريف نوعًا. وإلا لا يجوز لأنه لا فائدة منه.

وتحقق استفادتها من التوكيد إذا اجتمع فيها أمران:

أولهما: دلالتها على زمن محدود بابتداء وانتهاء معينين معروفين، كيوم وأسبوع، وشهر

،أو على شيء معلوم المقدار؛ كدرهم، ودينار

وثانيهما: أن يكون لفظ التوكيد من ألفاظ الإحاطة والشمول التي عرفناها؛ تقول عملت يومًا كلَّه، وسافرت أسبوعًا جميعَه، وتنقلت شهرًا عامَّتَهُ

وتبرعت بدينار كلّه

وكقول الشاعر2:

لكنهُ شاقهُ أنْ قيل ذا رجَبُ

يا ليت عِدَّةَ حَوْل كُلِّهِ رجَبُ

وعلى أساس ما تقدم لا يصخ: عملت زمنًا كله، ولا أنتقت مالاّ كله؛ لأن النكرة غير محدودة الوقت، ولا معلومة المقدار. كما لا يصح؛ عملت يومًا نفسِه، أو عينه؛ لأن لفظ التوكيد ليس من ألفاظ الإحاطة والشمول3..

حذف المؤكَّد "المتبوع" توكيدًا معنويًا:

منعت جمهرة النحاة حذف المؤكَّد "المتبوع" بحجة أن الحذف مناف

1 سبق البيان في رقم 2 من ص519.

2 في بعض الروايات.

3 وفي جواز توكيد النكرة التي يفيدها التوكيد يقول ابن مالك مبينًا أنه جائز إن أفاد، وأن البصريين لا يبيحون مطلقا.

وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدْ مَنْكور قُبِلْ

وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ المَنْعُ شَمِلْ

ثم سرد بعد هذا بيتًا سبق تسجيله وشرحه في مكانه الأنسب "ص518" هو:

واغْنَ بِكِلْتَا في مُثَنَّى، وكِلا

عَنْ وزْنِ: "فَعْلَاءِ" ووَزْنِ: "أَفْعَلَا"

ص: 522

للغرض من توكيده توكيدًا معنويًا. وأجاز آخرون الحذف، بشرط أن يكون المؤكَّد "المتبوع" ضميرًا رابطًا في جملة الصلة، أو: الصفة، أو: الخبر؛ نحو: جاء الذي أكرمتُ نفسَه، أي: أكرمتُه نفسَه، جاء قوم أكرمتُ كلَّهم، أجمعين، أي: أكرمتهم كلهم أجمعين، الأسْرَةُ أكرمت1 كلَّها أجمعين، أي: أكرمتها كلها أجمعين، وحذفه –عند هؤلاء– في الصلة أكثر من الصفة، وفي الصفة أكثر من الخبر.

والأحسن الاقتصار على الرأي الذي يمنع الحذف جهد الاستطاعة؛ لأن حجتهم أقرب إلى العقل والسّماع، ورأيهم أبعد من اللبس والشك، ولم يستند الموافقون على الحذف إلى الأدلة والأمثلة المأثورة التي تكفي لتأييدهم رأيهم.

توكيد الضمير المرفوع المتصل والمنفصل توكيدًا معنويًا

أ- إذا أريد توكيد الضمير المتصل، المرفوع، "المستتر أو البارز" توكيدًا معنويًا يزيل الاحتمال عن الذات، جيء بلفظ التوكيد الذي يحقق هذا الغرض؛ وهو:"نفس" أو "عين"، بشرط أن يَفْصِل بينه وبين المؤكَّد إما ضمير منفصل مرفوع يُعربُ توكيدًا2 لفظيًا مناسبًا للضمير السَّالف، "أي: للمؤكَّد"، وإما فاصل آخر ليس ضميرًا، نحو: أسرعْ أنت نفسُك للصارخ. ونحو: رغبتَ أنت نفسُك في الخبر رغبتما أنتما أنفسُكما لي الخير، رغبتم أنتم أنفسُكم في الخير، رغبتن أنتن أنفسُكن في الخير. ويجوز: "رغبتَ، حقًّا، نفُسك في الخبر"، "رغبتَ يوم الجمعة نفسُك أن تسافر"،"رغبتما، حقًا، أنفسكما في الخير"

وهكذا. فالفصل واجب، ولكن الفصل بالضمير المنفصل أحسن وأفصح3

1 راجع ما سبق خاصًّا بهذا المثال في رقم 2 من هامش ص513 ومن المراجعة يتبين أن هذا الأسلوب صحيح، وجود كلمة "أجمعين" بعده الدالة على الكل "الجميعي" لا المجموعي، وقد أوضحنا نوعي "الكل" في رقم 6 من هامش ص512.

2 انظر إعرابه في ص530.

3 وقد يكون من فائدة الفصل على الوجه السالف منع احتمالات معنوية غير مقصودة في بعض الصور، ففي مثل: خرجت البقرة، عينها، أو نفسها قد يخطر بالبال أن المراد هو خروج عينها التي تبصر بها، وخروج نفسها التي بها حياتها، وهي: الروح، فإذا جاء الفصل منع هذا الاحتمال، أو أضعف شأنه –وهذا صحيح- ويقولون: حملت الصور الأخرى التي لا احتمال فيها على هذه!! والحق أن السبب هو استعمال العرب ليس غير.

ص: 523

وعلى أساس ما سبق لا يصح: "تكلم المحمدون أنفسهم" على اعتبار الضمير: "هم" توكيدًا؛ لأن المؤكَّد "المحمدون" ليس ضميرًا متصلًا مرفوعًا، وإنما هو اسم ظاهر لا يؤكده الضمير توكيدًا معنويًّا1 والاسم الظاهر أقوى في الدلالة من الضمير؛ إذ لا يحتاج إلى مرجع يفسره، بخلاف الضمير.

أما في نحو: "المحمدون أكرمتهم هي أنفسَهم" فالفصل جائز لا واجب؛ لأن المؤكَّد ضمير متصل، ولكنه ليس مرفوعًا؛ فيؤكَّد الضمير بالضمير، ويجوز: المحمدون أكرمتهم أنفسَهم بغير توكيد بالضمير. وأما في نحو: المحمدون قاموا كلَّهم، فالفصل جائز أيضًا لا واجب؛ لأن لفظ التوكيد وهو:"كل" ليس: "النفس" أو "العين"2

ب- وإذا أريد توكيد الضمير المرفوع المنفصل، أو بالنفس" أو:"بالعّيْن"، فحكمه حكم توكيد الاسم الظاهر بهما؛ كلاهما لا يحتاج إلى

1 في ص528 صورة تدل على صحة التوكيد اللفظي –لا المعنوي- بالضمير.

2 فيما سبق يقول ابن مالك.

وإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المتَّصِلْ

بِالنَّفْسِ والعَين فبَعْدَ الممنْفَصِلْ

عَنَيْتُ ذا الرَّفْعِ، وَأَكَّدُوا بمَا

سِوَاهُمَا، والقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَما

يقول: إذا أردت أن تؤكد الضمير المتصل بواحد من لفظي التوكيد: "النفس" أو العين" صح التوكيد بأخدهما بعد أن يسبقه التوكيد اللفظي بضمير منفصل يفصل بين التابع والمتبوع. ولما كان البيت السابق لا يبين نوع الضمير المتصل الذي يراد توكيده، أهو مرفوع، أم غير مرفوع تدارك الأمر في البيت الذي يليه فقال: "عنيت ذا الرفع"، أي: قصدت بالضمير المتصل صاحب الرفع، أي الضمير المتصل المرفوع.

وأضح بعد ذلك جواز التوكيد المعنوي بلفظ آخر مناسب، غير لفظي "نفس" و"عين"، وبفاصل غير ذلك الضمير المنفصل

و

أو بلا فاصل، فالتقييد بالنفس والعين لازم عند توكيد الضمير، وكذا التقييد بالفاصل غير لازم ما دام المتبوع ليس ضمير رفع متصل.

ص: 524

فاصل؛ تقول: أنت نفسك سَافرت، أنتما أنفسكما سافرتما، أنتم أنفسكم سافرتم

وهكذا

القسم الثاني التوكيد اللفظي1:

هو تكرار اللفظ السابق بنَصّه2، أو بلفظ آخر مرادف3 له.

والمؤكَّد "المتبوع"، قد يكون اسمًا، نحو: الشمسُ الشمسُ أُمُّ الأرض. وقد يكون فعلًا؛ نحو: تتحرك تتحرك الأجرام السماوية، وقد يكون حرفًا؛ نحو: نَعَمْ نَعَمْ أيها الداعي إلى الهدى. وقد يكون جملة فعلية، أو: اسمية؛ نحو: "الخير محمودُ المَغَبَّة تواتيك عواقَبه".

"الخير محمو، المَغَبَّة تواتيك عواقبه". وقد يكون اسم فعل؛ نحو:

1 تقدم القسم الأول "المعنوي" في ص501 وفي رقم 2 من هامش تلك الصفحة بيان المدلول الحقيقي للتوكيد اللفظي.

2 ولا يضر أن يدخل على نصه بعض تغيير يسير، كقوله تعالى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} . فكلمة: "أمهلْ" توكيد لفظي للفعل السابق. والضمير: "هم" عائد على الكافرين لا محل له من الإعراب "انظر أمن الأحكام التي في ص527" ومن هذه الآية يفهم أيضًا أنه يجوز في التوكيد اللفظي الفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد.

وشيء آخر قاله النحاة في ج4: "باب تابع المنادى" عند بيت ابن مالك

في نحو: سعْدُ سعد الأَوْسِ ينتَصِبْ

ثانٍ وضُمَّ وافتح أَوَّلًا تُصبْ

إن ضُمّيت. كلمة: "سعد" الأولى كانت الثانية منصوبة، على اعتبارها توكيدًا لفظيًا، أو مفعولًا به لفعل محذوف، أو بلًا، أو عطف بيان، أو منادى

ثم قالوا: كيف تعرب توكيدًا لفظيًا مع اتصالها بما بم يتصل به المتبوع "وتقدم مثل هذا الاعتراض في رقم 1 من هامش ص456" ومع اختلاف جهتي التعرف بينهما؟ إذ تعريف المتبوع هنا بالعلمية، أو بالنداء –على الخلاف في ذلك– وتعريف التابع بالإضافة، لأنه ايضاف حتى يجرد من العلمية

؟

أأجبوا: قد يكتفي في التوكيد اللفظي بظاهر التعريف، وإن اختلفت جهته، وتباين المعرف، أو اتصل به شيء "راجع حاشية الخضري عند البيت السالف. وستجيء الإشارة لهذا أيضًا في ج4 رقم 2 من هامش ص40" والبحث صلة بما سيجيء في القسم الأول من أحكام البدل –ص676 وبالقاعدة الهامة التي في ص679 وتختص بعدم اتصال البدل بعامله.

3 المرادف هو: لفظ يؤدي معنى لفظ آخر تمامًا، ويخالفه في حروفه، فمن الأسماء الفضة واللجين –الذهب والتبر-

ومن الأفعال قعد وجلس..، ومن الحروف: نعم وجير

، ومن المرادف قولهم: أنت حقيق قَمِنٌ

ومعنى كل من الكلمتي: جدير.

ومن هذا النوع –عند الفراء- الحرفان: ما، وأنَّ المصدريتان: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ

} .

ص: 525

هي الدتيا تقول بِمْلءْ فيها

حَذَارِ حَذارِ منْ بطشي وغَدْري

ومثال التوكد اللفظي بالمرادف: الذهبُ التبرُ مختبئ في صحارينا

هذا، وفي جميع صوَر التوكيد اللفظي وحالاته لا يصح تكرار اللفظ السابق "وهو: المؤكَّد"، أكثر من ثلاث مرات؛ كقول الشاعر:

أَلَا حَبّذّا حَبّذا، حَبّذا

صديق تحملْتُ منه الأَذى

وقول الآخر:

أَلا، يا اسْلَمِي، ثُمْ1 ثُمَّتَ1 اسْلَمِي

ثلاثَ تَحيَّات، وإِنْ لَمْ تَكَلَّمي2

الغرض منه:

الغرض من التوكيد اللفظي3؛ أمور؛ أهمها: تمكين السامع من تدارك لفظ لم يسمعْه، أو سمعه ولكن لم يتنبه. وقد يكون الغرض التهديد؛ كقوله تعالى في خطاب المعاندين بالباطل:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

وقد يكون التهويل: كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ 4 مَا يَوْمُ الدِّينِ 5 ? ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ?} .

وقد يكون التلذّذ بترديد لفظ مدلولُه محبوب مرغوب فيه، نحو:"الصحة، الصحة!! هي السعادة الحقَّة الحقَّة" الجنة الجنة!! ما أسعدَ من يفوز بها" "الأمّ، الأمّ!! أعذب لفظ ينطق به الفم6"

"1، 1" إذا كان التوكيد اللفظي جملة مكررة جاز أن تكون مسبوقة بحرف العطف "ثم" أو "الفاء" وعندئذ لا يكونان حرفي عطف، وإنما يخضعان للحكم الخاص بهذه الصورة، وهو مدون في "هـ" من ص536 وبهامشها هذا البيت لمناسبة هناك.

2 أي: وإن لم تتكلمي.

3 الفرق بينه وبين النعت موضح في الملاحظة الهامة "رقم 2 من هامش ص438".

4 ما أعلمك؟ وما أخبرك؟ أدري: فعل ماض، في هذا البيت وهي في الآيتين بعد توكيد لفظي لبعض الحروف والأسماء والأفعال والجمل، فراجع الحكم في ص527 وص537 وما بعدهما.

5 يوم الجزاء والحساب، وهو يوم القيامة.

6 وقد اقتصر ابن مالك فيما سبق على تعريف التوكيد بقوله:

ومَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيّ يَجِي

مُكَرَّرًا: كَقَوْلِكَ: أدْرُجِي ادْرُجِي

أي: والذي هو لفظي من التوكيد يجيء مكررًا

فالتوكيد اللفظي عنده هو ما يجيء مكررًا سواء أكان تكراره باللفظ والمعنى معًا أم بالمعنى مع اختلاف اللفظ.

ص: 526

هذا، والأغراض السالفة هي أهم ما يميز التوكيد اللفظي بالمرادف من عطف البيان كما سيجيء في بابه1....

أحكامه:

للتوكيد اللفظي أحكام تختلف باختلاف نوع الموكَّد "المتبوع" من ناحية أنه اسم، أو فعل، أو حرف، أو جملة، أو اسم فعل، وتتلخص هذه الأحكام فيما يأتي، "والأول منها عام ينطبق على جميع أنواع التوكيد اللفظي، ولا تختلف فيه نوع عن نوع".

أ- اللفظ الذي يقع توكيدًا لفظيًا، ممنوع من التأثر والتأثير، "أي: لا تؤثر فيه العوامل؛ فلا يكون مبتدأ، ولا خبرًا، ولا فاعلًا، ولا مفعولًا به، ولا غيره

؛ فليس له موضع، ولا محل من الإعراب، مطلقًا وكذلك ليس له تأثير في غيره مطلقًا؛ فلا يحتاج لفاعل، أو مفعول، أو مجرور، أو غيره2

" وإنما يقال في إعرابه: "إنه توكيد لفظي لكذا"؛ فهو تابع له في ضبطه الإعرابيّ، من غير أن يكون كالمتبوع فاعلًا، أو مفعولًا، أو مبتدأ، أو غير ذلك

ومن غير أن يكون له محلّ من الإعراب، أو معمول

ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون لفظ التوكيد اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا، أو جملة، أو اسم فعل؛ ففي مثل: إن الشمس إن الشمس قاتلة للجراثيم، تُعرب:"إنّ" الثانية "توكيدًا لفظيًا"، وليس لها عمل ولا محلّ. كما تعرب "الشمس" الثانية "توكيدًا لفظيًا" وليس لها عمل ولا محلّ، وليست معمولة. و"قاتلة" خبر "إن" الأولى، التي لها العمل وحدها، وهي التي تحتاج إلى الاسم والخبر، دون الثانية.

1 إيضاح الفرق بينهما في ص542. وسيجيء في رقم 1 و2 من هامش ص667 ما يفيد التشابه الظاهري –أحيانًا– بين ألفاظ بدل الكل، وعطف البيان، والتوكيد اللفظي، وطريقة التفريق بين كل منهما.

2 سبق هذا الحكم لمناسبة أخرى في باب: "التنازع""ج2 ص179 "د" م73" ويعارضه رأي آخر مدون هناك، ثم بيان الفيصل في الأمر –وله إشارة أيضًا في ج2 م66 ص70-.

ص: 527

ويصح أن يقال –كما سيجيء1: إن الشمس إنها قاتلة للجراثيم. فكلمة "إن" الثانية توكيد لفظي لا عمل لها، ولا محلّ، و"ها" ضمير عائد على الشمس، مبني على السّكون، لا محل له من الإعراب؛ فليس اسمًا ل "إنّ"، ولا غيرعا، ولا عاملًا، ولا معمولًا لشيء مطلقًا؛ وإنما هو مجرد رمز يحاكى2 اسم "إنّ" الأولى، ويعرب توكيدًا لفظيًا له3

وهكذا كل رمز آخر يشبهه. ومن الواجب مراعاة ما سبقت4 الإشارة إليه، وهو: أن المؤكَّد "المتبوع" لا يصح تكراره أكثر من ثلاث مرات.

1-

فإن كان اسمًا ظاهرًا "ومثله: اسم الفعل". فتوكيده اللفظيّ يكون بمجرد التكرار، نحو: النجومُ النجومُ معلقة في الفضاء، والشمسُ واحدة منها، والأرض الأرضُ كالحصاة الصغيرة بين آلاف من الكواكب الأخرى. فكلمة:"النجوم" الثانية، وكذلك كلمة:"الأرض" الثانية توكيد لفظيّ، وكلتاهما تضبط كالأولى؛ لأنها تابعة لها في الضبط فقط، من غير أن يقال عن الثانية إنها مبتدأ، أو خبر؛ أو فاعل، أو غيره مما له موقع إعرابي

ويستثنى من هذا الحكم الأسماء الموصولة، فإنها لا تؤكَّد توكيدًا لفظيًا إلا بإعادة لفظها وصلته معه، فلا يجوز تكرار الاسم الموصول وحده دون تكرار صلته. نحو: الذي سمَك السماء، الذي سمك السماء قادر على دَكّ عروش الظالمين

هذا، والأغلب أن الاسم الظاهر لا يكون توكيده اللفظي ضميرًا –لما سبق بيانه5-.

1 في رقم 3 من ص532.

2 يقولون في إعراب هذا إنه جاء بقصد محاكاة الاسم السابق، فما المراد بالمحاكاة من الناحية الإعرابية؟ أهي الباب –وغيره– ص524" من أن الضمير لا يؤكد الاسم الظاهر، إذ الاسم الظاهر أوضح منه، لعدم حاجته إلى مرجع يفسره؟ أهذه الحالة مستثناة، والقاعدة السالفة اغلبية؟ نعم هذا الذي يفهم من كلام في حاشية ياسين على شرح التصريح في أول بحث: "التوكيد اللفظي".

3 ومثله الضمير: "هم" في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} انظر رقم 2 من هامش ص525.

4 في ص526.

5 في ص524 وانظر رقم 2 من هذا الهامش.

ص: 528

2-

وإن كان المؤكَّد "وهو المتبوع" ضميرًا متصلًا -مرفوعًا، أو غير مرفوع– فمن الممكن توكيده توكيدًا لفظيًّا بضمير يماثله في معناه لا في لفظه؛ فيكون توكيده بالضمير المنفصل المرفوع المناسب له في الإفراد والتذكير وفروعهما؛ نحو: أرأيت أنت1 الخير وافى خاملًا –يُفْرِحك أنت وصول الحق إلى صاحبه، هل أنت في عمل الخير فتؤجرَ؟. ونحو: أرأيتما أنتما

أرأيتم أنتم

أرأيتن أنتن..2 ففي الأمثلة السالفة وقع الضمير المنفصل المرفوع "أنت وفروعه"، توكيدًا لفظيًّا لضمير قبله متصل، مرفوع، أو: منصوب، أو مجرور؛ وفي كل من الثلاث يعرب الضمير "أنت" وفروعه توكيدًا لفظيًا مبنيًا على الفتح أو غيره، ولا يقال فيه أنه مبني في محلّ رفع، أو: نصب، أو: جر، إذ ليس للتوكيد اللفظيّ محل إعرابيّ؛ لأن المحل الإعرابي لا يكون إلا للمبتدأ، أو الخبر، أو الفاعل، أو غيرها مما له موضع إعرابي لا يقوم على التوكيد اللفظيّ.

ومن الضمير المرفوع المتصل ما هو بارز كالأمثلة السابقة، وما هو مستتر كالفاعل لك من الأفعال الآتية في قوله عليه السلام:"كُلْ واشربْ، والْبَسْ في غير مَخِيلة3 ولا كِبْر"

فكل فعل من هذه الأفعال له فاعل ضمير مستتر مرفوع، تقديره: أنت. فإذا أريد توكيد هذا الفاعل المستتر توكيدًا لفظيًّا فتوكيده بالضمير المرفوع البارز "أنت"، وهو غير الفاعل المستتر. فنقول: كُلْ أنت، واشربْ أنت والبسْ أنت، "فأنت" الضمير الظاهر هو توكيد لفظي للمستتر، ومثله قول الشاعر:

إذا ما بدتْ من صاحب لك زَلَّهٌ

فكنْ أَنتَ محتالًا لزَلَّته عُذْرًا

فالضمير: "أنت" البارز توكيد لاسم: "كان" المستتر، وتقديره: أنت، أيضًا، والضمير:"أنت" المؤكَّد، هو في أصلة أحد ضمائر الرفع البارزة فحقه أن يؤكَّد الضمير المرفوع فقط، لكنه –على الرغم من هذا– يكون أحيانًا

1 وهذا كقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} حيث وقع الضمير المنفصل المرفوع: "هو" توكيدًا لفظيًا للضمير المتصل المنصوب، وهو الهاء في آخر الفعل "تجدوه".

2 ومثل "هم" المؤكدة لواو الجماعة في قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} .

3 اختيال، كبر.

ص: 529

كثيرة توكيدًا لفظيًا لضمير غير مرفوع كما علمنا، فيخالف بهذا ما يناسب أصله الأول، ولكن هذه المخالفة مقبولة، وقياسية قوية.

3-

وإن كان المؤكد "وهو: المتبوع" ضميرًا متَّصلًا مرفوعًا، أو غير مرفوع وأريد توكيده بضمير يماثله في اللفظ والمعنى معًا، وفي الاتصال، وفي النوع الإعرابيّ1 فلا بد أن يعاد مع التوكيد اللفظُ الذي يتصل –مباشرة– بالمؤكَّد "المتبوع"، أي: أنه لا بد من تماثل الضميرين "التابع والمتبوع" في اللفظ، وفي المعنى، وفي الاتصال، وفي أن يسبق كل ضمير منهما –مباشرة– لفظ يماثل الذي يسبق الآخر في نصَه ومعناه، ونحو:"انساب حولي صوت غنائي ساحر؛ فجعلت أسمعه أسمعه، وأصغي إليه إليه؛ فامتلأت النفس سرورًا". ولا يصح إعادة المؤكَّد "المتبوع" وحده لأن هذا يخرجه عن الاتصال.

ففي الأمثلة المذكورة أريد توكيد الضمير المتصل المرفوع، وهو:"التاء" التي في آخر الفعل الأول: "جَعَلْ" فأكدنا هذا الضمير بمثله في كل ما أوضحناه، وهو "التاء" الثانية التي هي كالأولى في لفظها، وفي أنها ضمير، متصل، للرفع، مسبوق بفعل كالفعل الذي سبق المؤكَّد "المتبوع". وكذلك أريد توكيد الضمير المتصل المنصوب؛ وهو:"الهاء" في آخر الفعل الأول: "أسمع" فأكدناه "بالهاء" الثانية التي تماثله في لفظه، ومعناه، واتصاله، ووقوعه بعد فعل كالفعل الذي سبق المؤكَّد "المتبوع". وكذلك أريدَ توكيد الضمير المجرور، وهو:"الهاء" التي بعد "إلى" الأولى، فأكّدناه بالهاء الثانية التي تماثله في لفظه ومعناه، واتصاله، ووقوعه بعد حرف جو يماثل الحرف كالذي قبلي المؤكَّد "المتبوع" تمام المماثلة

"هذا، وكل لفظ تكرر –بعد الأول– لا يكون له محل إعرابي كما سبق"2....

1 المراد: أن يكونا معًا من نوع واحد، كأن يكون من ضمائر الرفع التي للمتكلم، أو التي للمخاطب، أو الغائب، مع ملاحظة أن الضمير الذي للتوكيد اللفظي لا يعرب شيئًا، ولا محل له، -كما شرحناه-.

2 في "أ" ص527 وما بعدها، وفي توكيد الضمير المتصل توكيدًا لفظيًا. ووجوب أن يعاد معه عند توكيده الاسم الظاهر المتصل به يقول ابن مالك:

ولَا تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ

إِلَاّ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي بهِ وُصِلْ

ثم يقول في آخر الباب:

وَمُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ

أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضَمِير اتَّصَلْ

ولم يذكر ابن مالك بقية التفاصيل:

ص: 530

4-

وإن كان المؤكَّد "المتبوع" ضميرًا منفصلًا مرفوعًا أو منصوبًا1 فتوكيده اللفظي يكون بتكرار بغير مشروط. "أي: أن توكيده بضمير يماثله لفظًا ومعنى" فمثال المرفوع: أنت أنت مفطور على حب الخير. ومثال المنصوب قول الشاعر:

وإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ2، فإِنه

إِلى الشَّر دعَّاء، وللشَّرِّ جالبُ

ويتضح من هذا أن المنفصل المنصوب لا يصح توكيده بالمنفصل المرفوع، فلا يقال إياك أنت أكرمت، ولا ما أكرمت إلا إياك أنت، على اعتبار كلمة:"أنت" للتوكيد في الصورتين.

ج- إن كان المؤكد فعلًا -ماضيًا أو مضارعًا3- فإن توكيده اللفظي يكون بتكراره وحده دون تكرار فاعله4 ولا يكون للفاعل المؤكِّد "التابع" فاعل؛ إنما الفاعل للأول "المتبوع" كقول أعرابي، وقد سئل: أتقول الحق؟ فأجاب: "وهل يقول غيري الحق؟ وأنا من معشر وُلد وُلد الحق معهم، ولم يفارقهم". فلفظة "يقول" الثانية، ومثلها:"وُلد" الثانية لا محل لها من الإعراب.

د- وإن كان المؤكد حرفًا:

1-

فإن كان حرف جواب5 يفيد الإثبات أو النفي فتوكيده اللفظي يكون بتكراره فقط؛ كقول أعرابي لأخيه الحزين: "فيم الأسف ما فات

1 ولا وجود لضمير منفصل مختص بالجر.

2 المجادلة الباطلة.

3 أما فعل الأمر فلا يمكن توكيده وحده بغير فاعله –في الأصلح-

4 إذ لو تكرر الفاعل مع فعله لخرج الأمر من توكيد الفعل وحده توكيدًا لفظيًا إلى توكيده مع فاعله، فتدخل المسألة في توكيد الجملة الفعلية كلها بجملة فعلية كاملة. ومن آثار هذا الفرق أن المضارع المنصوب أو المجزوم إذا أريد توكيدًا لفظيًا وجب أن يكون المضارع الذي يؤكده منصوبًا أو مجزومًا مثله، ففي مثل: لم يتهاون الحازم، ولن يهملَ

نقول: لم يتهاون يتهاون الحازم، ولن يهمل يهمل، بجزم المضارع:"يتهاون" الثاني، تبعًا للأول، وينصب المضارع الثاني:"يهمل" تبعًا للأول أيضًا. أما عند اعتبار الثاني مع فاعله هما جملة مؤكَّدة فلا يصح متابعته للأول في الجزم والنصب، ومما يوضح هذا ما سيجيء "في ص645" من بيان الفرق بين عطف الفعل على الفعل وعطف الجملة الفعلية على الفعلية.

5 سيجيء في الزيادة والتفصيل "ص535" بيان يفيد أن هذا الحكم ليس مقصورًا على حروف الجواب وحدها، وإنما يشمل بعض حروف أخرى.

وحروف الجواب نوعان: ما يجاب به للموافقة على الشيء المسؤول عنه وأنه ثابت واقع ومحقق، مثل نعم، أجل، جَيْرِ، إي

، وما يجاب به لبيان عدم الموافقة عليه، وأنه غير واقع، مثل: لا، بلى.

ص: 531

وليس على الأرض باق؟ نَعَم نعم. ليس في طول الحزن إلا إطالة الشقاء، واستدامة العذاب"

وقول الآخر، وقد سئل: لِمَ تُحاذر فلانًا وهو يصادقك؟ فأجاب: "لا. لا؛ فليس المنافق بالصديق. ورب صداقة ظاهرة، باطنُها عداوة كامنة، وهي أشد ضررًا، وأعمق خطرًا من العداوة السافرة".

2-

وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابيّ وقد اتصل به ضمير فتوكيد هذا الحرف لا يكون بتكراره وحده، وإنما يكون بتكراره ومعه الضمير المتصل به. ويجب الفصل بين المؤكد بفاصل نماَّ؛ لك1 لك منزلة الشقيق البارّ؛ وبك بعْد الله أستعين

وكقول الشاعر:

أَيَا مَنْ لَسْتُ أَقْلاهُ2

ولا في البُعْد أنساهُ

لك اللَّهُ عَلَى ذاكا

لك اللَّهُ لكَ اللَّهُ

3-

وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابيّ –أيضًا– وقد اتصل باسم ظاهر فتوكيده اللفظي يكون بتكراره ومعه الاسم الظاهر، أو ضمير هذا الاسم الظاهر، -وإعادة الضمير أفصح، وفي الحالتين يجب الفصل بين الحرفين؛ المؤكَّد والمؤكِّد. ويصح في الفصل الاكتفاء بذلك الاسم الظاهر، نحو:"إن العاقل الكريم، إن العاقل الكريم، أحرص على إماتة الحقد من تنمية أسبابه" أو: "إن العاقل، إن العاقل أحرى على إماته الحقد

"، أو: "إن العاقل إنه أحرص على إماته الحقد

" ومثل: "آفة النصح أن يكون جهارًا، فليت الناصح الحكيم ليت الناصح الحكيم لا يعلنه"، أو: "ليت الناصح لا يعلنه"، أو: "ليت الناصح ليته لا يعلنه" ومن أمثلة الفصل بالاسم الظاهر وحده قول الشاعر:

فتلك ولاةُ السوءِ قَدْ طالَ ملكُهُم

فحتَّام3 حتام العناء المطول الْمُطَولَّ؟

1 قد فصلت الكاف الأولى بين اللامين. والأحسن أن يكون الفاصل لفاظًا غير داخل فيما تكرر.

2 أكرهه وأبغضه "قَلَى، يَقلي كرمى يرمي وقَلِي يَقْلَى كتَعِبَ يَتعَبُ، لغة، بمعنى: كره يكره".

3 أي: إلى متى

؟ والفاصل هو: "ما" الاستفهامية المجرورة، التي حذفت "ألفها" وصلًا.

ص: 532

ولو كان الحرف المؤكَّد داخلًا على مضاف فالحكم السابق أيضًا فيتكرر المؤكَّد "المتبوع" ومعه الاسم المضاف والمضاف إليه أو ضمير المضاف إليه: والأحسن إعادة الضمير مع الفصل بينهما في الحالتين. نحو: الكريم يود الكريم، واللئيم يودّ الناس على رجاء الفائدة. على رجاء الفائدة، أو: على رجاء الفائدة على رجائها1.

4-

وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابي –أيضًا– وقد دخل على حرف آخر فالتوكيد اللفظي يكون بتكرار الأول مع ما دخل2 عليه. ومن أمثلة هذا دخول "يا" على "ليت" وفي قول الشاعر3:

ويا ليتني ثم4 يا ليتني

شهدتُّ وإن كنت لم أَشهدِ

هذا، وتوكيد الحروف توكيدًا لفظيًا على غير الوجه السالف ضعيف، بل شاذ، لا يصح القياس عليه، كقول القائل

إنّ إنّ الكريم يحلُمُ ما لم

يَريَنْ من أَجَاره قَد أُضيمَا

فقد تكرر الحرف: "إنّ" بغير فصل ولا إعادة شيء. ومثل قول الآخر:

حتى تراها5 وكأَنَّ وكأَنْ6

أَعناقَها مشدداتٌ بقَرنْ7

1 في توكيد الحروف يقول ابن مالك:

كَذَا الحُرُوفُ غيْرَ ما تَحَصَّلا

بِهِ جَوَابٌ، كَنَعَمْ، وَكَبَلى

يشير بقوله: "كذا" إلى ما سبق في بيت قبل هذا من أن توكيد الضمير المتصل لا يكون إلا بإعادته وإعادة الاسم الذي اتصل به. وكذا الحروف لا يعاد لفظها –إن كانت لغير الجواب– إلا بإعادة الاسم الظاهر المتصل ما بها –أو الضمير-، أما حروف الجواب فتعاد وحدها. ثم ختم الباب ببيت سبق تسجيله وشرحه في مكانه الأنسب "ص530" وهو قوله:

ومُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ

أَكَّدْ بهِ كُلَّ ضَمِيرٍ اتَصَلْ

2 إلا في مسألة يجيء بيانها في باب "البدل" –ص679 –حيث يصح إعادة حرف الجر، وعدم إعادته؛ طبقًا للتفصيل المدون هنا.

3 هو مالك بن أعين الحجازي، المتوفى سنة 248هـ -كما في معجم الشعراء للمرزباني حرف العين، ص268 -.

4 انظر ما يختص بالعطف في "هـ" ص536.

5 الضمير: المطايا.

6 أصلها: "أن" المشددة النون، ثم خففت نونها.

7 بحبل.

ص: 533

فقد تكرر الحرف "كأَنَّ" من غير إعادة شيء معه، ولكن وجد فاصل بين الحرفين. وهو:"واو" العطف، فكان الضعف هنا أخف منه في البيت السابق1. ومثل قول الآخر يشكو حاله وحال أتباعه:

فلا واللهِ لا يُلْفَى2 لما بي

ولا لِلِما بهم أبدًا دواءُ

فقد تكرر الحرف اللام "لِلِمَا" بغير فصل ولا إعادة شيء. والتوكيد هنا واضح الثقل؛ لأن الحرف فَرْدِيّ؛ فتكراره مباشرة يزيد ثقله ويوضحه3.

وأخف منه في الثقل لاختلاف الحرفين مع منعهم إياه إلا في المسموع، قول الشاعر:

فأَصبحْنَ لا يسأَلْنَهُ عن بِمَا بِهِ

أصَعَّدَ في عُلْو الهوى أم تَصَوَّبا

فقد أتى "بالباء" بعد، "عَن" وهما يستعملان في معنى واحد، إذ يقال سألت به، وسألت عنه4.

والحق أن الأمثلة ثقيلة، فوق أن الدافع إلى أكثرها قد يكون الضرورة الشعرية. فاستبعادها أفضل.

1 سيجيء في الزيادة –ص535– أن حرف العطف يعتبر من الفواصل المبيحة للتكرار مباشرة. لكن حرف العطف الفردي –كالواو والفاء– يعتبر مسوغًا مشوبًا بالضعف. وإذا وقع حرف العطف فاصلًا في التوكيد صار مهملًا لا يعطف، ولا أثر لوجوده غير الفصل –طبقًا للبيان الآتي في "هـ" من ص536.

2 لا يلقَى: لا يوجَد.

3 وفي كتاب معاني القرآن للفراء أمثلة متعددة لتكرار الحرف الفردي وغير الفردي ج1 ص67.

4 ومن المسموع اجتماع: "كي" و"أنْ" المصدرية وقبلهما "اللام" في مثل: عاونت الضعيف لكي أن تشيع المودة بين الناس، فقد أجازوا أن تكون اللام جارة و"كي" جارة، توكيدًا لها. كما أجازوا أن تكون "كي" مصدرية، و"أن" مصدرية توكيدًا لها. وما سبق بالرغم من إباحته غير مستحسن. وسيجيء التفصيل في ج4 باب إعراب الفعل.

ص: 534

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

زيادة وتفصيل:

عرفنا أن توكيد الحروف الجوابية توكيدًا لفظيًا لا يتطلب أكثر من تكرار الحرف، وأشرنا1 إلى أن الحكم ينطبق على بعض حروف أخرى؛ فقد قالوا2: لا يشترط شيء عند توكيد الحرف توكيدًا لفظيًا إن كان الحرف للجواب كقول الشاعر:

لا –لا –أبوحُ بحُبّ بَثْنَةَ إنها

أّخذت عليَّ مواثقًا وعهودًا

وكذلك إنْ كان مفصولًا من المؤكَّد بسكته3؛ كقول الشاعر:

لَا يُنْسِكَ الأسى تأَسِّيًا؛ فَمَا

ما مِنْ حِمَامٍ أَحدٌ مُعْتَصِما4

أو: كان مفصولًا بجملة اعتراضية؛ نحو: إنّ –وأنت تعرف ما أقول– إن شر الإخوان من يحذف أخاه عند الشدائد. أو: كان مفصولًا بعاطف5 كقول الشاعر:

ليتّ شعري!!! هل، ثُم هَلْ آتِيَنْهُمْ

أَم يَحولَنَّ دُون ذَاكَ حِمَامُ؟

1 في رقم 5 من هامش ص531.

2 راجع حاشية ياسين على شرح التصريح في هذا الموضع.

3 ترك الكلام.

4 تحققت السكتة في هذا البيت بالسكوت المؤقت الذي حصل بعد قراءة الشطر الأول، وقبل البدء في قراءة الشطر الثاني.

5 انظر رقم 1 من هامش ص534.

ص: 535

هـ- وإن كان المؤكَّدُ جملة اسمية أو فعلية جاز تكرارها بعطف صُورِيّ أو بغير عطف. والأكثر أن يكون بالعطف الصَّورِيّ، وأن يكون العاطف المهمل هو الحرف "ثمَّ"1 –غالبًا- ومن الأمثلة قوله تعالى:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} 2

وقولهم للتَّقيّ: "الثواب عظيم، الثواب عظيم". وللشقيّ: "الحساب عسير، الحساب عسير".

ومما تجب ملاحظته أن العاطف هنا مهم لا يعطف مطلقًا، فهو صوريّ، أيْ: في صورة العاطف وشكله الظاهر، دون حقيقته3

ويجب ترك العطف بين الجملتين إذا أوقع في لبس، نحو: عاقب الحاكم اللصوص، عاقب الحاكم اللصوص، فلو قلنا؛ عاقب الحاكم اللصوص ثم عاقب الحاكمُ اللصوص لوقع في الوهم أن العقاب تكرر، وأنه مرتان؛ إحداهما بعد الأخرى. مع أن المراد: مرة واحدة.

و نعيد هنا ما قلناه في مناسبة سابقة4، وهو أن توكيد المصدر لعامله نوع من التوكيد اللفظيّ، فيؤكد نفس عامله إن كان مصدرًا مثله، ويؤكد مصدر عامله الذي ليس بمصدر، ليتحد المؤكَّد والمؤكِّد معًا في نوع الصيغة؛ تطبيقًا لشرط التوكيد اللفظي –ومنه التوكيد بالمصدر الذي نحن فيه– فمعنى

1 الأكثر أن العاطف هو "ثم" وليس بالواجب المتعين في رأي "الرضي" الذي يبيح مجيء "الفاء" مكان "ثم"؛ مستدلًا بقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى

} إذ التقدير عنده: "أولى لك فأولى لك"؛ فكلمة: "أولى" الثانية مبتدأ حذف خبره، والجملة الاسمية من هذا المبتدأ وخبره المحذوف توكيد لفظي للجملة الاسمية التي قبل الفاء المهملة. أما غير الرضي فيوجب الاقتصار على الحرف:"ثم" ويقول في إن الآية السابقة كاملة هي: "أوْلَى لك فأولىَ، ثم أولى لك فأولى" ما بعد الفاء جملة اسمية معطوفة عطفًا حقيقيًا على الجملة الاسمية قبلها، والجملة بعد الحرف "ثم" المهمل توكيد لفظي للجملة قبلها. رأى الرضي أحسن.

2 ومثل قول الشاعر –وقد سبق في ص526-.

ألا يا أسلمي، ثم أسلمي، ثمت أسلمي

3 كما سيجيء في بابه، عند الكلام على:"الفاء"، وكذا في ص578 و.... عند الكلام على:"ثم".

4 في باب "المفعول المطلق ج2 ص169 م74" عند الكلام على تقسيم المصدر بسحب فائدته المعنوية.

ص: 536

قولك: عبرت النهر عبرا

هو: عبرت النهر، أوجدت عبرا عبرا. وهذا رأي كثرة النحاة1.

حذف المؤكد "المتبوع" في التوكيد اللفظي3.

لا يكاد يوجد خلاف في منع حذف المؤكَّد توكيدًا لفظيًّا؛ لأن حذفه منافٍ –حقًا- لتكراره.

1 لكن سيترتب على الأخذ بقولهم هذا صحة حذف المؤكَّد في التوكيد اللفظي، وهذا الحذف ينافي الغرض من التوكيد اللفظي. وفوق هذا فعامله محذوف أيضًا؛ ففي الكلام حذف كثير. فهل يجاب بأنه مع حذفه ملاحظ يدل عليه العامل المذكور الذي يشاركه في الاشتقاق، وهو:"عبرت" فهو محذوف كالمذكور –كما قالوا-؟

2 هناك مسائل يحذف فيها عامل المصدر الذي يجيء المصدر لتوكيده. وقد انعقد للحذف مستفيض، عنوانه: حذف عامل المصدر

في المكان المناسب له، وهو باب:"المفعول المطلق" ج2 ص178 م176.

ص: 537