الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد ظهر أثر ذلك عند ما اختلفوا في كيفية رسم كلمة (التابوت) في قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248] فقد قال زيد (التابوة) بالتاء المربوطة وقالوا (التابوت) بالمبسوطة، فترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا (التابوت) - أي بالمبسوطة- فإنما أنزل القرآن على لسان قريش.
الصفة الثانية: أن هذه المصاحف كان رسمها مجرّدا عن الشكل الذي يوضح إعرابه، وعن النقط الذي يميز الأحرف المعجمة (كالزاي، والذال، والغين، والجيم، والخاء) عن المهملة (كالراء، والدال، والحاء) وغيرها.
ولقد كان المسلمون يهتدون إلى النطق السليم بالقرآن في ذاك الوقت بوسيلتين:
الأولى: سليقة اللسان العربي الأصيل الذي كانوا يتمتعون به، فلم يكن اللحن ليعرف سبيلا إلى لسانهم، كما لم يكن المعنى ليستعجم على أذهانهم.
الثانية: التلقّي والمشافهة، وقد علمنا أن المسلمين كانوا يعتمدون في أخذ القرآن وحفظه وضبطه على الكتابة والتلقي مشافهة من أفواه الرجال، وكانوا لا يكتفون بأحد الطريقين عن الآخر، فكان التلقي والمشافهة وسيلة لوضوح الكتابة، وعاصما من اللبس في الكلمات التي تحتمل برسمها عددا من وجوه القراءة والأداء.
وبهاتين الوسيلتين- السليقة والمشافهة- لم يكن عدم شكل رسم القرآن ونقطه عائقا في طريق قراءته قراءة سليمة، وفهم مضمونه ومعناه فهما صحيحا.
2 - المراحل التحسينية التي تدرج فيها الرسم:
لقد طرأ على الرسم العثماني تحسينات اقتضتها ظروف وملابسات، وكانت هذه التحسينات على مراحل تدريجية، حسب الضرورة وإلحاح المقتضيات، وإليك بيان ذلك:
1 -
التحسين الذي يبيّن إعراب الكلمات ويمنع اللحن فيها: فقد علمنا أن الرسم القرآني كان خاليا عن الشكل الذي يبيّن إعراب الكلمات نصبا أو رفعا، وجرا أو جزما، وأن العربيّ كان بسليقته يهتدي إلى قراءتها على وجه الصواب، لأنه لا يمكن- وهو فطريّ اللسان- أن يرفع المفعول وينصب الفاعل، وغير ذلك.
ولكن لما اتّسعت الفتوحات، وأقبل المسلمون غير العرب على تعلم القرآن وقراءته واختلط العرب بغيرهم وكاد لسانهم أن يستعجم، وفشا اللحن في اللغة العربية على الألسنة وكاد أن يصل إلى القرآن، فخشي المسلمون أن ينتشر ذلك ويكثر ويمتد إلى كتاب الله تعالى، فيقع التحريف في أدائه ومعناه، فأسرعوا إلى تدارك الأمر قبل أن يستفحل، ووضعوا علامات يعرف بها إعراب كلماته.
وكان السابق لهذا الفضل، والمباشر لهذا التحسين لأول مرة هو أبو الأسود الدؤلي الذي وضع قواعد النحو بإشارة من عليّ رضي الله عنه.
والذي فعله أبو الأسود: هو أنه جعل علامات الإعراب نقطا على أواخر الحروف فقد جعل علامة النصب نقطة فوق الحرف، وعلامة الرفع نقطة وسطه، وعلامة الجر نقطة تحته، وعلامة السكون نقطتين. وكان السبب المباشر لقيامه بهذا العمل، هو أنه سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بكسر اللام من (رسوله) فقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، وقال:
ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا. وكان زياد بن أبيه، قد طلب منه أن يعمل شيئا يكون إماما، ويعرف به كتاب الله عز وجل فاستعفاه من ذلك، ولكن لما سمع ما سمع، رجع إلى زياد وأخبره أنه عازم على فعل ما طلب منه، واستعانه بكاتب يفعل ما يقوله له، وقال للكاتب لما بدأ العمل: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت، ففعل ذلك «1» .
(1) كتاب النقط؛ لأبي عمرو الداني (ص 124 - 125).
2 -
التحسين الذي يميز الحروف: قد علمنا أن القرآن، كما أنه لم يكن رسمه يبيّن إعرابه، كذلك لم يكن ليميّز حروفه المعجمة من المهملة. ولم يكن العرب ليخطئوا في قراءته بحكم فطرتهم وسليقتهم، إذ لم يكن من المعقول أن يقرأ العربي قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ باستبدال ذال بدل الدال في لفظ (الحمد) أو استبدال غين بدل العين في لفظ (العالمين) لأن كلّا من الكلمتين لا يصبح لها معنى بهذه الحالة في اللغة العربية. وكذلك لا يعقل أن يستبدل حرف الدال في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالذال، لأنها لا تناسب سياق الكلام في تلك الحالة أيضا.
ولكن ما ذكرنا من دخول الأعاجم في الإسلام، وإقبالهم على تعلّم القرآن، كان له أثر في خطأ الناس في القراءة؛ لأن هؤلاء لا يعرفون ما هو من العربية وما هو ليس منها، كما أنهم قد لا يدركون المعنى ومناسبته للسياق لأول وهلة. ولذا سارع المسلمون كما ذكرنا إلى إدخال التحسين على الرسم القرآني، وقد علمنا أن التحسين الذي طرأ إنما اقتصر فقط على بيان إعراب الكلمات، وبقيت الحروف غير مميزة بعضها عن بعض، فربما التبس على القارئ الحرف المعجم كالذال وغيره، بالحرف المهمل كالدال وغيره، ولذلك وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى تحسين جديد، يجرونه على الرسم القرآني، غير ما قام به أبو الأسود يميزون به بين الحرف، ليحصنوا كتاب الله تعالى من عجمة اللسان.
ولقد قام بهذا العمل لأول مرة نصر بن عاصم تلميذ أبي الأسود الدؤلي، بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، فوضع علامات تميّز الحروف المشتبهة بعضها عن بعض. وكانت هذه العلامات نقطا على الحرف، التزم فيها ألّا تزيد عن ثلاث نقط في أي حرف «1» .
(1) كتاب النقط؛ لأبي عمرو الداني (ص 125).
وعندها اضطر لأن يستبدل النقط السابق، الذي كان علامة الإعراب، بعلامات أخرى، حتى لا تلتبس الكلمات، فكان الشكل المعروف الآن والمتداول، والذي جعل علامات الإعراب الفتحة والكسرة والضمة والسكون.
3 -
تحسينات متعددة ومتلاحقة: إن تحسين الرسم القرآني أخذ يتدرج في أطوار متلاحقة، لا يمكن ضبط كل منها بتاريخ دقيق، أو نسبته إلى شخص معين، وعلى كل حال فالمتفق عليه: أن التحسين قد سار بخطوات متقاربة وسريعة، حتى قارب الكمال على أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام. وما زالت الخطوات التحسينية مطّردة على مر الأزمان إلى يومنا هذا، ابتغاء تحقيق المزيد من ضبط رسم القرآن وتسهيل قراءته، فوضعت أسماء السور، وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآية، وعلامات الوقف، وغير ذلك «1» .
4 -
التحسين في الإملاء: من خلال ما سبق تبيّن لك: أن التحسينات التي طرأت على الرسم العثماني، إنما كانت أمورا تتعلّق بكيفية أداء القرآن وتلاوته، على النهج الذي نزل به، وقرأه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أصحابه من بعده رضوان الله عليهم، حتى سلم القرآن من أي تحريف أو تبديل، يمكن أن يتناول لفظه أو معناه. وعليه فالتحسينات إنما تناولت الصفة الثانية من صفات الرسم العثماني، وهي كونه بدون شكل أو نقط، وما أشبه ذلك.
وأما ما يتعلّق بالصفة الأولى، وهي الإملاء الخاص بكتابة الكلمات والحروف، فهذا مما بقي على حاله، ولم يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل أو تحسين أو تحوير، وظلّت
المصاحف تكتب على الرسم الذي كتبت به الصحف الأولى، والمصحف العثماني الإمام. وهو المتبع في طباعة المصاحف بدءا بالطبعة الأولى في البندقية سنة
(1) انظر مناهل العرفان؛ للزرقاني (1/ 400 - 402).