الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54 - 55].
تلك آيات من المتشابه من جهة المعاني في القرآن الكريم، ولا سبيل إلى معرفة حقيقة المراد بها.
موقف العلماء منها:
وللعلماء في تلك الآيات وأمثالها: موقف واحد من حيث الابتداء، ثم يختلفون بعد ذلك:
1 -
الموقف الواحد: يتمثل في حمل المتشابه من الآيات على المحكم منها، أي: حمل الآيات التي تشير إلى تعيين جهة لله تعالى، أو مكان له سبحانه، أو تعيين معية حقيقية منه للعباد، أو إثبات النقلة والمجيء الحسّي لله تعالى، على المحكم من الآيات، من مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. كما يحمل على قوله سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4].
فيقولون: ليس ظواهر هذه الآيات مرادة لله تعالى، بل يجب تنزيهه سبحانه عن تلك الظواهر المستحيلة عليه.
2 -
موضع الاختلاف بعد ذلك:
أ- من كان في خير القرون الثلاثة ومن بعدهم بقليل، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى يومنا هذا، ويسمّون السلف أو (المفوّضة): يقولون: نفوّض معاني هذه المتشابهات إلى الله تعالى، فيقولون في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ننزه الله تعالى عن الجلوس واتخاذ حيّز ومكان. ثم نفوّض المراد بذلك إلى الله تعالى.
ب- من كان في أواخر القرن الرابع وما بعد، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى
يومنا هذا، ويسمّون الخلف أو (المؤوّلة)، يقولون: نؤوّل معاني هذه المتشابهات بالاستعانة بآيات أخرى وأساليب البيان، فيقولون في قوله تعالى:
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ننزّه الله تعالى عن الجلوس واتّخاذ حيّز ومكان، ثم نرى أن المراد بها إثبات الملك والسلطان التام لله تعالى، فإذا ملك أكبر المخلوقات- العرش- ملك ما دونه.
والذي دفع الخلف إلى هذا التأويل وأمثاله هو اختلاط فكرة اليهود المجسّمة لله تعالى بأفكار بعض الزائغين من المسلمين، وتعلّق بعض آخر بظواهر النصوص، وفهمها فهما مستقلا عن غيرها، علما أنها تمثّل جميعها وحدة كاملة.
قال الله تعالى في حق اليهود وأمثالهم: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67].
ج- وذكر الإمام السيوطي مذهبا ثالثا سوى مذهبي السلف والخلف، وهو مذهب المتوسطين، فقال: وتوسّط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، أو بعيدا توقّفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:
56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له «1» .
قلت: وعلى هذا يتفق السلف والخلف والمتوسطون على مرادات واحدة في بعض الآيات المتشابهات، ففي قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26 - 27] يبقى ذاته سبحانه. وفي قوله تعالى:
فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل: 26] يقولون: أتى عذاب الله تعالى المستحقين له.
(1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 651).
وفي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] يقولون: هو إله معبود بحق من أهل السماء والأرض.
وفي قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
…
[الواقعة: 85] يقولون:
ملائكة الله تعالى
…
وأمثالها.
3 -
الفرق بين السلف والخلف:
تبيّن أن السلف والخلف متّفقون على التأويل الإجمالي في آيات الصفات المتشابهة، ثم يفوّض السلف معانيها إلى الله تعالى.
أما الخلف فيعمدون إلى تأويلها تفصيلا، اعتمادا على النصوص الأخرى وبيان لغة العرب.
4 -
الرأي الراجح:
الرأي الراجح هو رأي السلف، لأدلة منها:
1 -
إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم، وقفوا عند الآيات المتشابهات، ولم يؤوّلوها بأيّ تأويل قريب أو بعيد.
2 -
إن المتشابه هو ما لا يوقف على المراد منه، فيكون التفويض هو الحقّ، قال الله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7].
والواو في (والراسخون) لابتداء الكلام واستئنافه.
3 -
قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «
…
فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم
…
» «1» .
(1) رواه البخاري في التفسير (4274).
4 -
أخرج الدارمي عن سليمان بن يسار: أن رجلا يقال له ابن صبيغ «1» قدم المدينة المنوّرة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمّى رأسه. وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك في ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له أن يعود إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين «2» .
والدّبرة بفتحات ثلاث هي قرحة الدابة، والمراد هنا أنّه صيّر في ظهره من الضرب جرحا داميا كأنه قرحة في دابة.
ورضي الله تعالى عن عمر فإن هذا الأثر يدلّ على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن، يكثر الكلام فيها، ويسأل الناس عنها، فأغلقه رضي الله عنه بتأديبه.
5 -
سئل مالك- وقبله أم سلمة رضي الله عنها عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]. فغضب واحمرّ وجهه ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني «3» .
فأخرجوه من المسجد. قال الزرقاني: يريد رحمه الله تعالى أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدلّ عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا، لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله تعالى بالدليل القاطع، مثل قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]
(1) حقق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن اسمه صبيغ بن شريك. والله أعلم.
(2)
رواه الدارمي في المقدمة (1/ 58).
(3)
رواه الإمام أحمد (4/ 12) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 150) وانظر الدر المنثور (3/ 91) تفسير سورة الأعراف، الآية 54، والإتقان (1/ 650).