الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّالث المجاز في القرآن
من المعلوم أن الأصل في الكلام الحقيقة، وقد يصار إلى المجاز لنكتة بلاغية، ولا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن، وهي: كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم ولا تأخير فيه، وهذا أكثر الكلام «1» .
وأما المجاز فالجمهور على وقوعه في القرآن، وقد اتّفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة «1» ، وهو قسمان:
الأول- المجاز العقلي، وعلاقته المشابهة، وهو واقع في التركيب، وذلك:
أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لمشابهته له.
وأمثلة هذا القسم كثيرة في القرآن، منها:
قوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: 9] فتسمية الأم ب (الهاوية) مجاز، أي: كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع؛ وهذا فهم سديد، خصوصا إذا وقفنا عند هذا التركيب وحده، ولم ننظر إلى ما قبله من الآيات.
فإذا نظرنا ما قبله وقرأنا الآيات كلها: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 8 - 11].
تجلّى لنا منها معنى آخر لطيف، فالأعمال المعنوية جسّمت ووزنت بموازين
(1) انظر الإتقان (2/ 753).
حسية، فإذا هي خفاف ترتفع بها كفة الموازين، فلا يقابل خفتها وارتفاعها إلا هاوية سحيقة منخفضة في الدرك الأسفل من النار الحامية، التي لا يكون للمجرم في ذلك الهول أم سواها يلجأ إليها ويعتصم بها، وساءت ملجأ ومعتصما.
ومنها قوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2].
نسبت الزيادة وهي (فعل الله) إلى الآيات لكونها سببا لها.
وقوله تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] نسب البناء إليه، وهو فعل العمّال، لكونه آمرا به.
وقوله تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه.
الثاني- المجاز اللغوي، وهو واقع في المفرد.
وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا. وهو أنواع كثيرة:
1 -
إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 19] أي: يجعلون أناملهم في آذانهم، ونكتة التعبير عن الأنامل بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة في الفرار، وفي ذلك تصوير لحالتهم النفسية وما أصابهم من الذعر والهلع وهم يولون هاربين.
2 -
إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27] أي ذاته. وقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150] أي: ذواتكم، إذ الاستقبال يجب أن يكون بالصدر.
3 -
إطلاق اسم الخاص على العام، نحو قوله تعالى: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] أي: رسله.
4 -
إطلاق العام على الخاص، نحو قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] أي: المؤمنين.
5 -
إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] أي: أنزلنا برهانا يستدلّون به وهو يدلّهم، سمّى الدلالة كلاما، لأنها من لوازم الكلام.
6 -
إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كقوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة: 112] أي: هل يفعل، أطلق الاستطاعة على الفعل؛ لأنها لازمة له.
7 -
إطلاق المسبب على السبب، مثل قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً [غافر: 13] أي مطرا يتسبب عنه الرزق.
8 -
إطلاق السبب على المسبب، مثل قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود: 20] أي: لا يستطيعون القبول والعمل به؛ لأنه مسبب عن السمع.
9 -
تسمية الشيء باسم ما كان عليه، قال تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: 2] أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يتم بعد البلوغ.
10 -
تسميته باسم ما يؤول إليه، كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] أي: عنبا يؤول إلى خمر.
11 -
إطلاق اسم الحالّ على المحلّ، نحو: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 107] أي في الجنة.
12 -
إطلاق اسم المحل على الحالّ، نحو: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: 17] أي أهل ناديه.
13 -
تسمية الشيء باسم آلته، كقوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] أي ثناء حسنا، لأن اللسان آلته.
14 -
تسمية الشيء باسم ضده، قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] والبشارة حقيقة في الخبر السار.
15 -
إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيها، مثل: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الكهف: 77] وصفه بالإرادة، وهي من صفات الحيّ، تشبيها للوقوع بإرادته.
16 -
إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته، قال تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطلاق: 2] أي قاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده.
17 -
القلب؛ إما قلب إسناد؛ كقوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [القصص: 76] أي لتنوأ العصبة بها. أو قلب عطف، كقوله تعالى:
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ [النمل: 28] أي: فانظر ثم تولّ.
18 -
إقامة صيغة مقام أخرى، وهو أنواع كثيرة «1» ، منها إطلاق المصدر على الفاعل؛ كقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] ولهذا أفرده.
(1) انظر تتمة هذه الأنواع في كتاب الإتقان للسيوطي (2/ 761 - 772).