الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكذلك: هو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.
1 - مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله:
أ- مظاهره:
إن المتتبع لنصوص كتاب الله تعالى، والممارس لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، ليلمس التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة، وهي:
1 -
إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى الذهني المجرد إلى الصورة المحسوسة والمتخيلة: فهو يعبر عن المعنى الذهني بالصورة المحسوسة المتخيلة، فيكون الخطاب أوقع في النفس، وأقوى في التأثير، وأدعى إلى القبول؛ إذ يجعل الحس يتأثر عن طريق الخيال بالصورة ما شاء له التأثر؛ فيستقر المعنى في النهاية في أعماق النفس.
وخذ مثالا على ذلك: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وانظر كيف ترسم في الخيال صورة لتفتح أبواب السماء، وأخرى لولوج الجمل- وهو ذكر الجمل أو الحبل الغليظ- في سم الخياط، ويترك الحس يتأثر- عن طريق الخيال- بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤلاء المكذبين المستكبرين عن آيات الله تعالى.
ويدخل في هذا المظهر تصوير الحالات النفسية والمعنوية:
فالتصوير القرآني كما أنه يخرج المعاني الذهنية بصورة حسية، كذلك يخرج الحالات النفسية والمعنوية صورا شاخصة أو متحركة، ويعدل بها عن التعبير
المجرد إلى الرسم المصور.
ومثال ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] إذ تصور لنا ذلك التردد- الذي يحار فيه ويتبلبل ذلك الإنسان الذي لم ترسخ العقيدة في قلبه؛ ولم تتضح صورة الإيمان في نفسه- بصورة إنسان يقوم ليؤدي عبادة على أرض لا تستقر عليها أقدامه، وإلى جنبه واد عميق يخشى السقوط فيه، فهو قلق مضطرب.
2 -
التخييل الحسي:
وهو تلك الحركة التي يضفيها التصوير القرآني على اللوحة الصامتة فيبث فيها الحياة، ويحولها إلى منظر حي متحرك، فهو لا يكاد يعبر بالصورة المحسة والمتخيلة- عن المعنى الذهني أو الحالة النفسية- حتى يرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة النابضة، والحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني حركة يرتفع بها نبض الحياة، وإذا الحالة النفسية لوحة متحركة أو مشهد حي.
ومن أمثلة ذلك:
أ- قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. فانظر كيف استحالت الأرض الجامدة كائنا حيا، بلمسة واحدة، في لفظة واحدة (اهتزت) وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه، حتى إذا مس الماء أحشاءه عادت إليه الحياة وانبعث فيه النشاط.
ب- قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] فالحياة تخلع- في هذه الآية- على الصبح وكأنه أصبح كائنا حيا يتنفس، فتتنفس معه الحياة، وتشرق بإشراقة من ثغره، ويدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض والسماء.