الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول حقيقة التفسير ونشأته وتطوره
أ- حقيقته:
التفسير لغة: الإيضاح والتبيين، مأخوذ من الفسر وهو الإبانة، تقول: فسّرت الحديث أي بينته وأوضحته، ومنه قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] أي أفضل بيانا وإيضاحا.
واصطلاحا: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. وقيل: علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه وألفاظه ومعانيه المتعلقة بالألفاظ والمتعلقة بالأحكام.
وقيل: علم يفهم به كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه.
ب- نشأته وتطوره:
1 -
نشأ هذا العلم مع نزول القرآن الكريم، فلقد كان القرآن الكريم ينزل فتكون منه آيات مفصلة، أو كلمات مجملة تفسرها كلمات مفسّرة، قال الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ
…
[المائدة: 1] ثم قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
…
[المائدة: 3]. وقال الله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ثم قال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 1 - 4].
وبيان القرآن الكريم بعضه بعضا هو أولى طرق التفسير، ونماذجه كثيرة في كتاب الله تعالى.
2 -
كان القرآن الكريم ينزل وفيه إجمال أحيانا فيفسره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من البيان. قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [النساء: 77] لقد تكرر ذكر الصلاة في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرة، ومع ذلك التكرار لا يكتمل عدد الصلوات المفروضة وركعاتها فضلا عن كيفية أدائها، فجاء بيان الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا عدد الصلوات المفروضة وركعاتها وكيفية أدائها، فقد صلّى أمام الصحابة يوما ثم
قال لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «1» .
وقال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:
11] الآية عامة في كل أب له أولاد يموت فيترك لهم مالا، فإن الأولاد يقتسمون إرثهم من أبيهم للذكر مثل نصيب أختيه. وجاءت السّنة تخصص من عموم هذه الآية الأنبياء؛ فلا يحق لهم جمع المال وإخلافه أهليهم، خشية التهمة في دعواتهم أنها لجمع حطام الدنيا معاذ الله، وبيانا لكونهم ربّانيين، حياتهم لله تعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «2» .
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما احتاج أصحابه إلى بيانه من القرآن الكريم، سوى ما استأثر الله تعالى بعلمه. وقد نزل القرآن بلغتهم، فما كانوا يحتاجون إلى كثير بيان عند كل آية وسورة، اللهم إلا ما يكون فيها من الأحكام.
وبيان السنة الشريفة للقرآن الكريم هو ثاني طرق التفسير، ونماذجه كثيرة في كتاب الله تعالى.
3 -
وحين دخل الناس في دين الله أفواجا آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعدها، وفي هؤلاء الداخلين عرب وعجم، علماء ببيان العرب وغير علماء به، وحاجتهم ظاهرة
(1) رواه مسلم في المساجد (672) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2)
رواه النسائي في الكبرى (6309) ولفظه «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
إلى معرفة أحكام القرآن الكريم ومعانيه، وحكمه ومراميه، وألفاظه وجمله، قام بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسّرون من القرآن الكريم ما يحتاج إليه المسلم: بالقرآن الكريم، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ببيان أسباب نزول الآيات والسور، وبما بلغهم، وإذا احتاج الأمر فسّروه بما يوفقهم الله تعالى إليه من اجتهاد وفهم «1» ، وما يعرفونه من بيان العرب.
أخرج غير واحد عن أبي عمران «2» قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه، وكثر ناصروه، وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟
فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]«3» .
استعمل عمر رضي الله تعالى عنه قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك، قال: والله لو شربت- كما يقول- ما كان لك أن تجلدني، قال عمر:
ولم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة: 93].
(1) لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رتبة واحدة في العلم وفهم القرآن والفتوى.
(2)
هو أسلم بن يزيد التّجيبي المصري: ثقة. (تقريب التهذيب رقم 404).
(3)
روح المعاني للآلوسي (2: 77).
فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على الباقين، لأن الله تعالى يقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90].
قال عمر: صدقت «1» .
وبيان أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وفهومهم للقرآن الكريم، هو ثالث طرق تفسير القرآن الكريم، ونماذجه كثيرة في تفسير كتاب الله تعالى.
4 -
وجاء بعد أيام الصحابة التابعون رضوان الله عليهم جميعا، وقد تشعّبت ديار المسلمين وبعدت أوطانهم، وفيهم العرب والعجم، وأخذ اللحن يغزو خلسة وجهرة لغة العرب وبيانهم، وحاجة المسلمين في هذا العهد أشد من حاجة الصحابة إلى معرفة أحكام القرآن الكريم وحكمه، ومراميه وأغراضه، وألفاظه وجمله، فقام بعض التابعين يفسرون من القرآن ما يحتاج إليه المسلمون: بالقرآن الكريم، ثم بالسّنة، وببيان أسباب النزول، وبيان العرب، وفهم الصحابة، وإذا احتاج الأمر فسّروه بما يوفقهم الله إليه من اجتهاد وفهم.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] قال سعيد بن جبير التابعي رحمه الله تعالى: أي ألحق الله تعالى الذرية بآبائهم في الدرجات، مع استحقاقهم دون درجات الآباء في الجنة، تكريما للآباء وفضلا منه سبحانه «2» .
(1) التفسير والمفسرون للشيخ محمد حسين الذهبي (1/ 60).
(2)
وهذا الفهم استفاده مما رواه عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا في معنى هذه الآية، وانظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 285).
وبيان أقوال التابعين وفهومهم للقرآن الكريم هو رابع طرق تفسير القرآن الكريم، ونماذجه كثيرة في تفسير كتاب الله تعالى.
5 -
ثم جاء بعدهم من جاء من العلماء، وقد ازدادت حاجة المسلمين إلى معرفة أحكام القرآن الكريم وحكمه، ومراميه وأغراضه، وتراكيبه، فقاموا يفسّرون كتاب الله تعالى من خلال القرآن والسّنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن خلال اللغة ومعانيها، ومن خلال الرأي والنظر، بل ومن خلال بعض الإسرائيليات والنصرانيات أحيانا.
والتفسير في كل ذلك علم يلقى على الناس شفاها، ويتلقاه الناس آذانا، وتبلغه إلى من سواه، حتى جاء دور التدوين، ودوّنت فيه العلوم، فدوّن علم تفسير كتاب الله تعالى على المذاهب والطرق التي سيأتي بيانها عند بحث مذاهب التفسير إن شاء الله تعالى.
تلك هي نشأة علم التفسير وتطوره حتى جاء دور التدوين، والله أعلم.