الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حركة التعليم العربي أخذت تنتشر في الناحية وأن تأثير المشرق كان مستمرا رغم تحفظات الإدارة الفرنسية.
مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة
1 -
مدخل: اشتهرت قسنطينة بأنها مدينة العلم، سيما منذ أوائل هذا القرن. ورغم التجديد وحركة الإصلاح فقد حافظ علماؤها على تقاليد التعليم المسجدي منذ العهد الحفصي تقريبا. وكانت حركة العلم في عهد صالح باي ما تزال تؤتى أكلها عندما رزئت المدينة بالاحتلال الفرنسي البغيض، فتعطلت فيها الحركة العلمية وأصابها الشلل بعد معركتين ضاريتين في سنتين متتاليتين: 1836 - 1837. فقد سكت من سكت من العلماء، وهاجر من هاجر، وتعاون مع العدو آخرون تحت وطأة الحاجة. وهكذا تبدلت الخيول والسروج، وترجل البعض وركب آخرون. ومن أبرز الذين تصدوا للتدريس في المساجد ثلاثة كان لهم تأثير وجمهور: عبد القادر المجاوي (في عهده الأول)، وحمدان الونيسي، وعبد الحميد بن باديس. كما انتصب فيها للتدريس محمد الصالح بن مهنه وعاشور الخنقي.
ولكن هناك طبقة أخرى قبل هؤلاء عمرت المساجد وحافظت على الوقود العلمي في المدينة الصخرية العنيدة. وقد كانوا متفاوتين في الشهرة والتأثير. فعندما حل أبو القاسم الزياني بمدينة قسنطينة أوائل القرن التاسع عشر، وجد فيها هذا الجيل من المدرسين، وهم علي بن مسعود الونيسي (1) الذي نعته بالعلامة الصوفي، ومبارك بن عمر الصائغي خطيب وإمام الجامع العتيق (الكبير؟)، والقاضي الفقيه محمد الحفصي العلمي، والمفتي الشاعر أبو القاسم المختالي، والمفتي الآخر أحمد بن المبارك العلمي، والكاتب
= الشيخ ابن فريحة قد أخذ مختصر الشيخ خليل عن الشيخ الخلوي في غريس. ومن المفهوم أنه زاد عليه دراسته في الأزهر.
(1)
لعله أحد جدود الشيخ حمدان الونيسي الذي سنتحدث عنه. وقد توفي الشيخ علي بن مسعود الونيسي سنة 1222 هـ بقسنطينة.
المتصوف محمد المجاري، ثم الأديب لونيس البوزنياري صاحب القصائد العالية كما يقول الزياني (1).
هذا الجيل انقرض مع بداية الاحتلال وخلفه جيل آخر من علماء المساجد أبرزهم أحمد بن سعيد العباسي، الذي كون جيلا من الطلبة ظلوا أوفياء له على مر السنين والذي جمع بين التدريس والقضاء. وقد توفي قبل احتلال قسنطينة بسنتين (1251). وكان من المتخرجين من جامع الزيتونة بتونس. وقد عاصره عمار بن شريط الذي تولى الإفتاء المالكي ونظارة الأوقاف، وكان من أهل البلاغة والأدب وتوفي في 1834 (1250)، ثم عمار الغربي (أبو راشد) المعروف بالشعر والفقه وولاية الفتوى والتدريس في جامع سيدي علي بن مخلوف وكذلك جامع القصبة ومدرسة سيدي الكتاني. وقد توفي سنة 1835 (1251)(2). ومن طبقتهم أيضا محمد العربي بن عيسى، أخ علي بن عيسى قائد الدفاع عن قسنطينة. وكان محمد العربي هذا متوليا للأوقاف والقضاء ساعة احتلال المدينة، ولكن نجمه قد أفل مع الآفلين، كما أفل نجم شيخ الإسلام محمد الفكون الذي كان ساعتها يجرجر ثمانين سنة وراءه. وكان إلى تلك الساعة ينعت بكونه (العلامة الجليل والخطيب الآهيل) كما يقول محمد العنتري (3).
وعند تولي المكتب العربي في قسنطينة وانتصاب الإدارة الفرنسية ظهرت أسماء جديدة وبقيت بعض الأسماء القديمة. فقد بقيت أسماء مصطفى بن جلول، ومحمد العنابي الذي عزله الفرنسيون، فترك الإفتاء لزميله أحمد بن المبارك العطار. وبالإضافة إلى هذا ظهر اسم له وزن علمي
(1) أبو القاسم الزياني (الترجمانة الكبرى)، ط. المغرب 1967، ص 153 - 154. وكان الزياني قد جاء الجزائر لاجئا سياسيا.
(2)
الحفناوي (تعريف الخلف)، 2/ 63، 264.
(3)
محمد العنتري (الفريدة المؤنسة). جاء ذلك في وثيقة حط المغارم التي وقعها الحاج أحمد باي والعلماء سنة 1830. انظر جمال قنان (نصوص سياسية)، الجزائر، ص 42 - 43. وفي هذه الوثيقة اسم أحمد العباسي، وعمار الغربي الخ.
على رغم الظروف السيئة وهو إسم المكي البو طالبي. وكذلك محمد بن فتح الله، ومحمد بن الشيخ العباسي، والطاهر بن النقاد. وكان الفرنسيون قد أخذوا يفصلون القضاء عن مهنة التعليم، كما فصلوه عن الديانة أو الوظيف الديني، فقد كانوا حريصين على إيجاد قضاة يحلون لهم المشاكل المادية أكثر من اهتمامهم بالمدرسين في القضايا الدينية والأدبية. وهكذا لمع المكتب العربي في قسنطينة وجوها جديدة مثل محمد الشاذلي الذي ولوه وظيفة القضاء، وجعلوا معاونيه المكي بن باديس ومحمد بن عزوز قبل أن يصبح كل منهما قاضيا مستقلا. كما جلبوا محمد العنتري وأضرابه من الساخطين على حكم الحاج أحمد.
وبعد افتتاح المدرسة الشرعية - الفرنسية في قسنطينة سنة 1851 تولى إدارتها محمد الشاذلي والتدريس فيها المكي البو طالبي ومصطفى بن جلول وأحمد المبارك. فكان غرض الفرنسيين منها، كما في تلمسان والعاصمة، امتصاص التعليم المسجدي وتحويل الأنظار إلى المدرسة الرسمية، رغم أن التعليم فيها خلال هذه المرحلة لا يكاد يختلف عن دروس المساجد. وقد توفي الأول والثاني في نفس السنة وهي 1865، وتوفي مدير المدرسة (الشيخ الشاذلي) وأحمد المبارك خلال السبعينات في وقت متقارب. وقد روى شارل فيرو أن الأوساط العلمية في قسنطينة كانت تقول أن (العلم قد انطفأ عند المسلمين بموت سي مصطفى بن جلول وسي المكي البوطالبي) وحل أحمد بن جلول مكان البوطالبي في المدرسة سنة 1865 (1). ويقال أن البوطالبي قضى خمسين سنة من حياته في بث العلم.
بذلك حرمت الإدارة الفرنسية عامة الناس من نور العلم. فقد استولت على الأوقاف، كما ذكرنا في فصل آخر (2)، وصارت المساجد والمدارس
(1) شارل فيرو، مجلة (روكاي)، 1865، ص 68، هامش 2. توفي ابن جلول عن 96 سنة. والبوطالبي عن 72 سنة. وتوفي محمد الشاذلي سنة 875 1 عن 80 سنة، وأحمد المبارك سنة 1877 عن.
(2)
انظر فصل المعالم الإسلامية.
تحت نظر هذه الإدارة التي حرمت العلماء والطلبة من حقوقهم المنصوص عليها في الوقفيات، واكتفت بمن بقي منهم تحت رحمتها فخصصت لهم رواتب رسمية من ميزانية الإدارة العامة وليس من إدارة أوقاف مكة والمدينة أو أوقاف المعالم الإسلامية الأخرى. واستغنت عن تدريس المساجد بدروس المدرسة الرسمية (الشرعية - الفرنسية)، وفصلت القضاء عن الدين والتعليم. وهكذا جفت ينابيع العلم الحر وغاضت بحور الفكر. وكاد هذا الليل الطويل ألا ينجلي لولا نفحة هبت من الغرب، ونعني بذلك حلول عبد القادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة. وبعد أن قضى المجاوي في المسجد ثلاث سنوات، عين في المدرسة الشرعية - الفرنسية، ولكن إشعاعه لم يقتصر على هذه المدرسة.
وخلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي ظهر إلى جانب المجاوي (في المدرسة)، حمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة. وكلاهما كان مدرسا رسميا في أحد المساجد، ولكنهما استطاعا أن ينشرا العلم في الناس رغم العراقيل وأن يجعلا من المسجد مدرسة عليا على الطريقة القديمة. حقيقة أن السلطات الفرنسية كانت تراقب هذا التعليم ولا تريده أن يتجاوز مبادئ الفقه والتوحيد الموجهة للعامة، ولكن المدرس الماهر ذا الضمير الحر يستطيع أن يوصل رسالته إلى التلاميذ النبهاء والحاضرين المتطلعين. وهكذا كان الونيسي وابن مهنة منذ عقد الثمانينات. وقد أثر ابن مهنة أيضا بمؤلفاته (1) وسمعته كمتخرج من الأزهر الشريف، وسنعرض لحياته في فصول أخرى، وكذلك مؤلفاته. أما حمدان الونيسي فقد أفردناه
(1) اشتهر أيضا بموقفه من الأشراف وإثارة زوبعة ضده تولاها الشاعر عاشور الخنقي وآخرون. وله آراء بثها بطريقة غير مباشرة في تعاليقه على رحلة الورتلاني التي نشرها بتونس. وله مواقف أخرى سنعرض إليها. وما يؤسف له هو أن البطاقات التي جمعت حوله وحول الشيخ حمدان الونيسي قد ضاعت منا سنة 1988، ولم نعوض منها إلا القليل. وكان الشيخ عاشور الخنقي قد افتتح التدريس الحر في قسنطينة أيضا. انظر عنه فصل الشعر.
بهذه السطور، مستعينين بتقارير المفتشين عنه.
وقبل أن نتحدث عن الشيخ الونيسي نذكر أن جيل العلماء المعاصرين له في قسنطينة وإقليمها خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي هم: عبد الكريم باش تارزي المفتي الحنفي ومقدم الرحمانية، والمفتي المالكي الطيب بن وادفل، والقاضيان الشريف بن باديس (مدينة قسنطينة) وحمو بن العمري (قاضي النواحي). والمدرسان بالمدرسة الرسمية (الشرعية - الفرنسية) عبد القادر المجاوي ومحمود بن الشاذلي، والإمامان: محمد بن جلول والحاج سعيد بن باش تارزي (1).
وكان هؤلاء العلماء في طليعة الذين وقعوا عريضة بمظالم أهل البلاد سنة 1891 وقدموها إلى لجنة التحقيق الفرنسية برئاسة جول فيري. وفي سنة 1896 ظهر أيضا أحمد الحبيباتني المدرس بجامع سيدي الكتاني، ومن أعيان مدينة قسنطينة عندئذ حميدة بن باديس الذي كان من أصحاب الأملاك رغم أنه كان من أهل العلم والقضاء أيضا فترة طويلة، ومنهم مصطفى بن السادات، وهو من دعاة التقدم وكتاب الصحافة خلال الستينات (2). أما في المدن المجاورة فنجد أسماء: محمد علواش، ومفتي عنابة الحاج أحمد الأزهاري، ومفتي سطيف عبد العزيز قريشي بن محفوظ، وعالمها عندئذ الطاهر بن حلة، ومفتي قالمة محمد بن صالح الحسني. إضافة إلى عدد آخر من الأيمة والقضاة والعدول والمرابطين ومقدمي الطرق الصوفية.
2 -
حمدان الونيسي: لا ترجع أهمية الشيخ حمدان الونيسي (أو ابن الونيسي) إلى كونه أستاذ عبد الحميد بن باديس فقط، ولكن إلى كونه أستاذا
(1) أخذنا هذه المعلومات عن مدينة قسنطينة فقط، من العريضة التي قدمها أعيان هذه المدينة سنة 1891 إلى لجنة مجلس الشيوخ الفرنسية التي جاءت للتحقيق. وهناك أسماء أخرى ومنها اسم حمدان الونيسي نفسه. والعريضة مطبوعة ومترجمة.
(2)
انظر رقم 81 H 15 أرشيف إيكس (فرنسا). انظر أيضا فقرة الصحافة من فصل المنشأت الثقافية.
الشيخين العقبي والإبراهيمي أيضا. وله أهمية خاصة عندنا في هذا الفصل لكونه واصل وظيفة التدريس المسجدي المتعارف عليه بذكاء وحنكة رغم كونه موظفا رسميا ورغم القيود الإدارية الصارمة. وقد انتهى الأمر بطرده من الجامع الكبير سنة 1915 لأسباب ما تزال مجهولة. فاختار بعدها الرحلة إلى الحجاز والإقامة هناك إلى وفاته. ولكن كيف كانت سيرة حياته في قسنطينة؟.
الواقع أن معلوماتنا عنه ما تزال قليلة ولا تشفي الغليل. إن عائلة الونيسي قديمة في قسنطينة. ومنها الشيخ علي بن مسعود الونيسي الذي كان حيا عند زيارة أبي القاسم الزياني لهذه المدينة أوائل القرن التاسع عشر. وللشيخ علي. بعض التآليف وله مكانة بين علماء العهد العثماني. وفي 1856 ولد حمدان الذي نحن بصدده، وهو ابن أحمد الونيسي الذي لا نعرف عنه شيئا الآن، ولكنه كان معاصرا لاحتلال قسنطينة والأحداث التي أعقبت ذلك. ولا شك أنه روى لابنه حمدان ما شاهد وعاش فامتلأت نفس الطفل بالسخط على الفرنسيين. ولا ندري على من درس الفتى حمدان بعد حفظ القرآن في الجامع. هل تردد على الدروس الباقية التي كان يلقيها الشيوخ المكي البوطالبي ومحمد الشاذلي وأحمد المبارك، أو تردد على دروس المدرسة الشرعية - الفرنسية التي كانت بإدارة الشيخ محمد الشاذلي، وكانت دروسها عندئذ عربية - إسلامية، أو ذهب إلى بعض الزوايا المجاورة؟ ذلك كله لا نعلمه من سيرته التي بين أيدينا. ولكن بعض المصادر تذكر أنه حضر مستمعا فقط، (أي غير رسمي) لدروس الشيخ عبد القادر المجاوي (1). ولعل ذلك كان أثناء تدريس الشيخ المجاوي في المساجد وليس في المدرسة الرسمية.
وفي سنة 1880 (أو 1881)(2) عين حمدان الونيسي مدرسا بالجامع
(1) ذكر ذلك شارل سان كالبر في تقريره لسنة 907 1. أرشيف إيكس (فرنسا)، 47 H 14.
(2)
ذكر التاريخ الأول نفس المصدر، ولكن تقرير موتيلانسكي سنة 1905 يذكر يناير 1881، فهو أدق.
الكبير بقسنطينة ولا يكاد عمره عندئذ يتجاوز الخامسة والعشرين. فما الذي جعل السلطات الفرنسية ترشح هذا الشاب إلى هذا المنصب التقليدي المخصص عادة لفحول العلماء وكبار الشيوخ؟ لقد كان في قسنطينة عندئذ أسماء باقية من عائلة ابن باديس والفكون وباش تارزي وابن جلول الخ. ولكننا نعرف أن السلطات الفرنسية كانت تميل إلى إدخال العناصر الجديدة على القديمة، برفع المنخفضين أحيانا وتقريب المبعدين أحيانا أخرى ونقل علماء الغرب إلى الشرق تارة ثالثة، وهكذا. وما صعود محمد الشاذلي والمولود بن الموهوب، وما السماح للمجاوي وترقيته ولآل أبي طالب وتقديمهم إلا جزءا من هذه الظاهرة. ولكن حمدان الونيسي لم يكن فيما يبدو من المنخفضين ولا من المبعدين ولا من الغرباء، ولذلك يظل السؤال حول تعيينه في تلك السن المبكرة لهذه الوظيفة الهامة في مدينة عريقة في تقاليدها قائما.
ومهما كان الأمر فقد ملأ الشاب حمدان مكانه في الجامع الكبير وسرعان ما أصبح من الأعيان المشار إليهم بالبنان. ففي عريضة أعيان قسنطينة التي تضمنت مظالم أهل البلاد ضد السلطات الفرنسية وجدنا اسمه بين الموقعين سنة 1891. فهو حينئذ بين كبار الملاكين والنواب والمفتين والقضاة الرسميين. وقد تبنى مطالب أساسية حول الأرض والقضاء الإسلامي والتعليم العربي والضرائب والسياسة الأهلية ما يمكن أن تحاسبه عليه السلطات الفرنسية لجرأته، مع غيره. وكان ذلك في فترة حرجة من تاريخ الجزائر، وكانت بداية دروسه في عهد مظلم نسميه عهد لويس تيرمان (1882 - 1891). ومن الممكن القول إذن أن الشاب حمدان قد تعلم الكثير من السياسة الاستعمارية منذ 1881 (تاريخ تعيينه) ونشر ذلك في تعليمه للناس بالمسجد بطريقته الخاصة، كما شارك في الحياة السياسية العامة التي كانت تتحرك ببطء من حوله.
يصفه خبراء الاستعمار، وهم هؤلاء المستشرقون الذين كانوا يفتشون دروسه منذ سنة 1905، بأوصاف تدل على أنه لم يكن مدرسا عاديا. يأكل
الخبز ويمشي بين الناس، كما كان أغلب الموظفين والمدرسين عندئذ. قال عنه موتيلانسكي مدير مدرسة قسنطينة في أول تقرير عنه، أنه مكسب لمدينة قسنطينة وأنه أهل للدروس العليا وليس الابتدائية. ووصفه شارل سان كالبر، الذي خلف موتيلانسكي في إدارة المدرسة المذكورة، أنه واضح الدرس رفيع المستوى، وأن تلاميذه أغلبهم من القرى المجاورة، وفيهم من جاء من عنابة وليس منهم من يرغب في الترشح للمدرسة الرسمية، وجميعهم يجهلون الفرنسية تقريبا. ولاحظ هذا المفتش أن حمدان لم يبد أية رغبة شأن الآخرين، لا في زيادة الراتب ولا في الترقية ولا في التحويل إلى جهة أخرى (1). وفي تقرير لاحق وصفه نفس المفتش (سنة 1908) بأنه (رجل ذكي جدا، وله روح رقيقة) وأن درسه مفيد جدا، وله طريقة حية يستعمل فيها الأسئلة، وله صوت نافذ ولغة سهلة. وقد قضى إلى ذلك الحين 28 سنة في التدريس. وأوصى له بوسام أكاديمية باعتباره قضى عمرا طويلا في المهنة وباعتباره (من بين المدرسين أكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي). ومن كل ذلك نفهم أن لهذا الشيخ رسالة كان يبثها في تلاميذه وفي الناس الذين يحضرون دروسه الفقهية وغيرها. وهي الرسالة التي تلقاها عنه وفهمها بعضهم أمثال عبد الحميد بن باديس ولم يفهمها، ربما، أمثال الشيخ محمود كحول (ابن دالي) الذي كان أيضا من تلاميذه.
عاصر حمدان الونيسي عددا من الشيوخ والعلماء في قسنطينة وغيرها. عاصر المجاوي الذي تنقل من الجامع إلى المدرسة الكتانية، ثم إلى المدرسة الثعالبية في العاصمة، وقد بلغ من الشهرة والنفوذ العلمي مكانة مرموقة. وعاصر محمود بن الشاذلي، وقد خلف والده في إدارة المدرسة ثم تولاها المستشرقون الفرنسيون، وبقي هو مدرسا شرفيا فقط، ولكنه ظل يلقي الدروس الفقهية في نفس المدرسة إلى أن تقاعد ثم توفي سنة 1905.
(1) سان كالبر، مرجع سابق، تقرير سنة 1907. هل كانت للشيخ الونيسي خطة في تكوين التلاميذ لجامع الزيتونة مثلا؟ هل يأتيه المتخرجون من الزوايا والمدارس القرآنية الذين كانوا يبحثون عن شيوخ في مستواه يبل صداهم؟.
وعاصر المولود بن الموهوب، وقد سطع نجمه وخلف شيخه المجاوي في المدرسة الكتانية، وتولى الفتوى سنة 1908، وبذلك أصبحت له سلطة الإشراف على المدرسين في دائرته بمن فيهم الونيسي. ولا ندري هل كان لابن الموهوب دور فيما حدث للونيسي سنة 1915. ومن الأكيد أن السلطة الفرنسية لن تقضي أمرا بهذا الصدد دون الرجوع إلى المفتي، في الظاهر على الأقل. كما كان ابن الموهوب يساند بكل قوة مشروع حكومة جونار في نشر العلم بين الجزائريين عن طريق المدارس الفرنسية والدرس المسجدية المنظمة من قبل الإدارة. وكان (ابن الموهوب) أيضا يؤثر في غيره من منصة نادى صالح باي ونشر محاضراته في الصحف الفرنسية بالمدينة. وهناك شخصيات أخرى عاصرها حمدان الونيسي سيرد ذكرها.
لا نريد أن نربط بين أحداث الجزائر، كالتجنيد الإجباري (الذي بدأ الحديث عنه بقوة منذ 1906)، وأحداث تونس وصحفها، سيما حادثة الجلاز ولهجة صحيفة الحاضرة، وظهور نشاط النخبة التونسية، ثم أحداث المشرق ولا سيما الانقلاب العثماني وما تلاه، قلنا لا ندري ما مدى تأثر الشيخ حمدان بكل ذلك. فنحن لا نملك المراسلات ولا المقالات التي تدل على ذلك التأثر. وكل ما نعرف من آثار الشيخ حمدان هو وجود اسمه في العريضة المذكورة وبعض الكتابات المخطوطة التي ليست لها أهمية سياسية. ولا نعرف أنه كتب في الصحف الجزائرية أو التونسية عندئذ، ولا حاضر في نادي صالح باي أو غيره. ويبدو أن الرجل كان ملتزما بمهنة التعليم المسجدي مخلصا لها كل الإخلاص، وكان حريصا على تخريج التلاميذ والتأثير في الناس بالكلمة والفكرة أكثر من التأثير فيهم بالتأليف والمقالة. ومع ذلك فيجب ألا ننفي علاقته بأحداث المشرق وتونس. فقد كان للعلماء الواعين أسلاك خاصة للمناجاة والاتصال ليست دائما معروفة للجميع. وما دمنا نتحدث عن التأثير والتأثر، فإننا لا نملك دليلا على أن الشيخ كان منتميا إلى أية طريقة صوفية عندئذ، رغم أن كثيرا من العلماء الموظفين كانوا ينتمون إلى هذه الطرق في قسنطينة وغيرها. فأحمد المبارك كان شيخ الحنصالية، وباش
تارزي كان شيخ الرحمانية، وهكذا. ولكن العالم الحقيقي هو الذي يكون طريقة خاصة به، تتجاوز الأتباع وتترفع عن الانتماء، وتفرض نفسها بالفكر المستقل والتفكير الحر. فهل كان الشيخ حمدان من هذا الصنف أو ذاك؟ في غياب الدليل المادي لا يمكننا إلا أن نعتبره من العلماء المستقلين فكريا، رغم أنه كان موظفا رسميا.
وقبل أن ندخل في تفاصيل نشاطه التدريسي منذ ابتدأ الفرنسيون تفتيش دروسه نذكر أنه كان لحمدان الونيسي أخوة. من بينهم عبود الونيسي، وكان عبود هذا قاضيا في العين البيضاء سنة 1929. وقد رآه ونوه به الشيخ عبد الحميد بن باديس في السنة المذكورة عند زيارته لهذه البلدة، وربط بينه وبين أخيه (شيخه) حمدان، فقال أنه أخ شيخي وأستاذي العلامة الفقيه سيدي حمدان الونيسي دفين طيبة الطيبة (1).
ويبدو أن الشيخ حمدان كان مشتغلا بالكتب أيضا، سيما النسخ. فقد نقل الشيخ أبو القاسم الحفناوي بن الشيخ في (تعريف الخلف) من خطه سيرة بعض علماء قسنطينة، مثل (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون (2). ولحمدان بعض التآليف سنذكرها في محلها.
كانت السلطات الفرنسية قد سنت، كما ذكرنا، دروس المساجد حسب تنظيم جديد، يخضع لبرنامج محدد، وساعات أسبوعية، وذلك منذ آخر القرن الماضي، ثم تلاه إنشاء التفتيش على هذه الدروس وتقديم التقارير السنوية إلى الحاكم العام عن سير الدروس وتأثير المدرسين واتجاهاتهم، مع التوصيات والاقتراحات، وإسناد هذه المهمة إلى مدراء المدارس الشرعية -
(1) آثار الإمام ابن باديس، ج 4، ط. 1985، ص 233 طبع وزارة الشؤون الدينية، الجزائر. والمقصود أن الشيخ حمدان دفين المدينة المنورة. كان الشيخ محمد عبده قد زار قسنطينة سنة 1903 زيارة خاطفة، ولا ندري إن كان الشيخ حمدان قد لقيه. ولكن من الأكيد أنه سمع بزيارته للجزائر وأصدائها في الصحف والمجالس. انظر فصل الجزائر في المشارق والمغارب.
(2)
تعريف الخلف، 2/ 108 - 159، وهنا وهناك.
الفرنسية الثلاث في كل ولاية أو أقليم. ومن ثمة كان تفتيش الشيخ حمدان على يد مدير مدرسة قسنطينة. وكان أول من فتش الشيخ هو موتيلانسكي المستشرق الشهير الذي تخصص في الدراسات الأباضية ورافق بعض البعثات الاستكشافية الفرنسية إلى الصحراء (1). كانت للشيخ حمدان دروس إجبارية وأخرى اختيارية، حسب البرنامج الرسمي (2)، وجملتها إثنا عشر ساعة أسبوعيا.
وتشمل الدروس الإجبارية (الموجهة للتلاميذ المترشحين للمدارس الرسمية الثلاث) اللغة العربية بالرجوع إلى الألفية ولامية الأفعال وغيرها، والحساب بالرجوع إلى الأخضري والقلصادي. ثم الدروس الاختيارية (وهي الموجهة للعامة)، وتتضمن الفقه على مختصر خليل والتوحيد على السنوسية - أم البراهين. ومعدل الدروس ساعتان في اليوم، مدة ستة أيام. فماذا كان حظ الشيخ حمدان من هذا؟ وهل كان في حاجة إلى برنامج رسمي بعد ربع قرن في التدريس؟ إن الإدارة الفرنسية تقول بذلك.
حضر له المفتش موتيلانسكي درسا في النحو في ربيع 1905. فأخبر أن تلاميذه كانوا 17 فردا، من بينهم الشيخ محمود كحول الذي كان عمره عندئذ 33 سنة. وكان كحول مدرسا في مدرسة سيدي الجليس، وهي مدرسة فرنسية - عربية. ولا نجد اسم عبد الحميد بن باديس من تلاميذ حمدان هذه السنة. ويقول المفتش أن التلاميذ قد فهموا الدرس لوضوحه، وأن للشيخ تجربة طويلة وقدرة تجعله مؤهلا للدروس العليا وليس الابتدائية، ولذلك أوصى المفتش بأن تبقى للشيخ حمدان الدروس العليا في الجامع الكبير، أما الدروس المبسطة فيقوم بها المدرس المعين لجامع سيدي الكتاني. ومما جاء في تقرير المفتش أيضا أن وجود الشيخ حمدان في قسنطينة يعد مكسبا لهذه المدينة (3).
(1) انظر عنه الفصل الخاص بالاستشراق.
(2)
البيان الرسمي لهذه الدروس صدر في 5 يونيو (جوان)، 1905.
(3)
تقرير موتيلانسكي، سنة 905 1، مرجع سابق، 47 H 14 أرشيف إيكس (فرنسا).
وكان تقرير شارل سان كالبر سنة 1907 أكثر دقة وشمولا. وبعد أن ذكر عدد دروس الشيخ الأسبوعية وعناوينها، سواء منها الإجبارية أو الاختيارية، ذكر أن تلاميذ الشيخ تتراوح أعمارهم بين 18 و 32 وأن أصغرهم (18 سنة) هو عبد الحميد بن باديس، وهو أحد إثنين من عائلات قسنطينة، أما الباقون فكانوا من القرى المجاورة وحتى من عنابة. وصادف التفتيش أن كان التلاميذ قد غادروا الدرس لدخول شهر جوان (يونيو) ما عدا خمسة منهم كانوا حاضرين. كما لاحظ أن موظفي الجامع لا يحضرون الدروس، وأن سجل الحاضرين غير منتظم. أما عن المدرس نفسه، فقد كان في الواحد والخمسين من عمره، وكان قد تلقى بعض الدروس الحرة كمستمع على الشيخ المجاوي (1). أما دروسه فكلها شفوية، فهو لا يستعمل السبورة، ولكن طريقته حية ومستوى درسه هام. وهو واضح العبارة، وغالبا ما يستعمل طريقة المساءلة، وقد عود تلاميذه على أخذ المذكرات أو الإملاءات.
وقد لاحظ المفتش سان كالبر أنه لم يترشح أحد من تلاميذ الجامع الكبير ولا جامع سيدي الكتاني لدخول مدرسة قسنطينة الرسمية، وأن تلاميذ المسجدين لا يعرفون الفرنسية تقريبا. ولذلك أوصى بإدخال مادة الفرنسية إلى دروس المساجد بأن يلقيها أحد المعلمين الفرنسيين. ووعد بأنه سيحاول إقناع الشيخ حمدان بتغيير طريقته خلال السنة المقبلة لكي يستفيد تلاميذ مدرسة سيدي الجليس (الفرنسية) من دروسه. ولم يبد الشيخ أية رغبة للمفتش (2).
وفي السنة الموالية (1908) كان عدد تلاميذ الشيخ حمدان 32، من
(1) كان المجاوي عندئذ في المدرسة الثعالبية بالعاصمة - القسم العالي.
(2)
تقرير شارل سان كالبر، مرجع سابق، سنة 1907. لاحظ أن الفرنسيين قد حاولوا منذ 1843 إدخال الفرنسية إلى دروس المساجد والتعليم القرآني، ولكن المفتي عندئذ (مصطفى الكبابطي) رفض فنفوه من البلاد.
بينهم عبد الحميد بن باديس أيضا. وأخبر المفتش أن سن ابن باديس 25 سنة. ومن بين هؤلاء التلاميذ أحد عشر من مدينة قسنطينة نفسها والباقي من خارجها. والظاهر أن المفتش قد وجد الشيخ أنجز ما وعده به السنة الماضية، لأن المفتش يخبرنا هذه المرة أن درس الأحد والخميس قد خصصه الشيخ لتلاميذ مدرسة سيدي الجليس ذات المستوى الابتدائي والمتوسط. وهؤلاء التلاميذ كانوا مستعدين للترشح للمدرسة الشرعية - الرسمية ة وحتى نأخذ صورة عن دروس الشيخ حمدان ننقل من التقرير هذا الجدول البسيط:
النحو: أيام الأحد والخميس والثلاثاء، وكتبه هي الاجرومية وألفية ابن مالك.
الحساب. ليوم الخميس، وكتابه حساب الأخضري، وقد سبق ان القلصادي كان مستعملا أيضا.
الأدب العربي: ليوم الاثنين، ونصوصه تؤخذ من مروج الذهب وثمرات الأوراق والمستطرف.
الفقه: يوم السبت، من مختصر الشيخ خليل، باب الزواج (النكاح).
التوحيد: يوم الأربعاء، وكتبه هي أم البراهين للسنوسي والجوهرة (1).
أما استعمال السبورة وإدخال الطريقة الجديدة في التعليم فقد لاحظ المفتش أن الشيوخ المدرسين على العموم لا يريدون إدخال أية طريقة جديدة على دروسهم. ولكنه متفائل بالنسبة للشيخ حمدان لذكائه القوي وروحه الرقيقة، وأكد المفتش أن الشيخ حمدان لن يتردد بعد اليوم في استعمال السبورة رغم أن تلاميذه قد تعودوا على أخذ إملاءات من دروسه. وكرر القول بأنه يستعمل المساءلة وأن درسه مفيد جدا، وله صوت واضح ولغة سهلة ودقيقة. ولذلك أوصى له بوسام الأكاديمية (التعليم) بمناسبة افتتاح
(1) تقرير سان كالبر، مرجع سابق، سنة 1908. حصل التفتيش في 14 جوان من هذه السنة. والمقصود بالمدرسة الجديدة هو المكان الذي بنى في الشارع الوطني (ابن المهيدي اليوم) ليكون هو المدرسة الرسمية العربية - الفرنسية (الشرعية) بعد أن كانت في الكتانية والإشارة إلى كون سن ابن باديس سنة 25 غير دقيقة طبعا.
المدرسة في المكان الجديد (1)، لأن الشيخ حمدان يعتبر من بين المدرسين الأكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي. وكان راتبه 75 ف. فقط. وليس وحده في ذلك، بل إن كل مدرسي المساجد، كما جاء في تقرير سان كالبر لسنة 1907، كانوا يتقاضون نفس الراتب.
لكن هذا التنازل من المفتش، وهذا التقدير لدور الشيخ في التعليم والاعتراف بفضله وذكائه سرعان ما تبخرت. فما السبب؟ هناك سر ليس لدينا منه خيط. هل تضايق الشيخ حمدان نفسه من ملاحظات المفتش؟ هل ضايقته الإدارة في قضايا أخرى غير التعليم؟ هل كان للمفتي ابن الموهوب دور في ذلك؟ وهل كان للتنافس بين مدرسي المساجد ومدرسي المدرسة الشرعية الرسمية دور أيضا؟ ولو تغير المفتش لقلنا أن العلاقة مع الشيخ قد تغيرت معه أيضا. ولكن سان كالبر استمر هو المفتش بعد ذلك لفترة طويلة. فمن كان وراء طرد الشيخ حمدان من التدريس في الجامع الكبير بعد أن قضى فيه حوالي 30 سنة، وشهدت له التقارير بالنجاح في مهمته.
يبدو أن المفتش قد عجز عن إقناع الشيخ بتغيير طريقته فاوصى (الإدارة) باتخاذ اللازم نحوه، فعزلته. ولكن هل المسألة تتعلق باستعمال السبورة فقط؟ لا نرى ذلك أبدا، فقد كان شيوخ آخرون في قسنطينة وفي غيرها لم يستعملوها ولم يكن مصيرهم الطرد، سيما مع مدرس يقال عنه أنه ناجح وله تأثير. إذن هناك سر آخر. فقد جاء في تقرير سان كالبر لسنة 1909 أنه (نصح الشيخ حمدان وكرر النصيحة باستعمال السبورة فلم يذعن لذلك، فأوصى بأن تتولى الإدارة نفسها الموضوع معه. وهكذا وجدنا في تقرير 1915 الصادر عن نفس المفتش أن الشيخ حمدان بن أحمد الونيسي قد طرد Révoqué من وظيفته كمدرس، وعوض بالشيخ عبد المجيد بن عبد الله بوجمعة، مدرس اللغة العربية والأدب بالمدرسة الشرعية الرسمية، وقد تولى
(1) يبدو أنه ما عدا الفقه والتوحيد، يمكن للمدرس أن ينوع الكتب. فقد وجدنا بعضهم يستعمل أيضا ألف ليلة وليلة، ومقامات الحريري ومجاني الأدب، الخ.
بوجمعة وظيفته الجديدة في شهر مارس 1915، دون ذكر السبب في عزل الشيخ حمدان وطرده. ويذكرنا هذا الموقف بما حدث للشيخ الكبابطي سنة 1843 حين عزل من الإفتاء والتدريس في الجامع الكبير بالعاصمة ونفي إلى الخارج لمعارضته إدخال اللغة الفرنسية في المدرسة القرآنية. فهل وقف الشيخ حمدان موقفا شبيها بذلك أيضا فاستحق عليه هذا العقاب؟.
إن الغريب في الأمر هو أن المفتش قد كرر في تقرير سنة 1959 منح الوسام للشيخ حمدان. ولا ندري الآن تاريخ العزل بالضبط. ولكن يبدو أنه كان خلال 1915 ما دام الشيخ بوجمعة قد استلم عمله الجديد في مارس من هذا العام. وهكذا بدل استلام الوسام استلم الشيخ قرار الطرد. ومن المحتمل أن يكون هذا القرار راجعا إلى رفضه الوسام (1). وقد قال المفتش في تقريره لسنة 1915 أن عدد التلاميذ قد ازدادوا بعد طرد الشيخ حمدان. فقد كانوا 29 سنة 1959، فأصبحوا 62 سنة 1915.
والمتواتر بين المعاصرين أن الشيخ حمدان قد هاجر إلى الحرمين سنة 1915. والخروج من الجزائر عندئذ يحتاج إلى رخصة رسمية. فهل طلب الشيخ حمدان رخصة الحج أو رخصة أخرى فمنحت له دون تردد؟ إن حركة الهجرة نحو المشرق عندئذ كانت شائعة، وقد عرفت سطيف وقسنطينة وسيدي عقبة وغيرها حركة نشيطة نحو الشام والحجاز. ونعرف أنه خلال هذه الأثناء هاجرت أسرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أيضا من نواحي سطيف. ثم جاءت الهجرة الجماعية من تلمسان 1911. فهل تدخل هجرة الشيخ حمدان ضمن هذه الحركة الاحتجاجية على التجنيد الإجباري؟.
استقر الشيخ حمدان في المدينة المنورة. ولا ندري البلدان التي مر بها والعلماء الذين تعرف عليهم أو تعرفوا عليه. وبعد أدائه للشعائر الدينية انتصب للتدريس هناك. وقد وجدنا في أحد البحوث التي قام بها أستاذ من
(1) ابتداء من سنة 1959 لا نجد اسم عبد الحميد بن باديس في قائمة تلاميذ الشيخ حمدان، وبذلك يكون عبد الحميد قد ذهب إلى تونس للدراسة.
السعودية حول التعليم في الحجاز في هذا القرن، إسم الشيخ حمدان ضمن المدرسين. وفي ظننا أنه لو كان الشيخ حمدان منتميا إلى بعض الطرق ذات الصلة بالسلطات الفرنسية لما كان مصيره الطرد من الجامع الذي قضى فيه ثلاثين سنة من عمره، بل الطرد من بلاده بطريقة غير مباشرة. ولكنه فضل الشرف على المذلة، وجوار الرسول صلى الله عليه وسلم على جوار الاستعمار.
وكان في الحجاز مهاجرون جزائريون جدد وقدماء، ولا سيما في المدينة المنورة، التي كانت عندئذ بدون ضرع ولا زرع، ولا نفط ولا مياه محلاة. فاجتمع الشمل بأسرة العقبى وأسرة الإبراهيمي وبعض الأسر المغاربية، ثم التحق بهم عبد الحميد بن باديس حاجا، وكانت نفسه تحدثه أيضا بالهجرة. وكان القدر يخطط لكل قدره، فالشيخ الذي ذهب مراغما في الأرض نصح تلميذه بالرجوع إلى وطنه وتعمير المكان الذي شغر برحيله. وكان الشيخ حمدان يعرف مكانة أسرة ابن باديس في قسنطينة، ويعرف حدود حركة المتوظف لدى السلطات الفرنسية، فنصح تلميذه ابن باديس أيضا بأن يعمل حرا وأن لا يرتبط بوظيف إداري، مهما كان. وبعد عدة شهور استجاب التلميذ لنصيحة شيخه وشد الرحال عائدا إلى وطنه. وبعد عدة سنوات في التعليم (بطيبة الطيبة) توفي الشيخ حمدان راضيا مرضيا، فقد سمع عن البذور التي كان يبذرها تلميذه في الجزائر، ولم يبق إلا انتظار الحصاد (1).
ولنبق في قسنطينة لنواصل الحديث عن بقية المدرسين فيها مستفيدين من تقارير المفتشين حولهم. لقد خضع مدرسو إقليم قسنطينة لنفس الإجراءات والبرنامج والمقاييس التي خضع لها مدرسو إقليم الجزائر ووهران. فصدر الأمر عن الحاكم العام بإجراء التفتيش على المدرسين في 6
(1) روى الشيخ الإبراهيمي ما دار بينه وبين ابن باديس في الحجاز وما اتفقوا عليه عندئذ. انظره في سجل جمعية العلماء، 1935، وفي (أنا) المنشور في كتاب (في قلب المعركة) الجزائر 1994. وعن الشيخ حمدان الونيسي، انظر أيضا المهدي بن شغيب (أم الحواضر في الماضي والحاضر)، قسنطينة 1980، ص 318. وكذلك رسالة الباحث أحمد مريوش عن (الشيخ الطيب العقبي) الخ.
مايو 1905. وكانت المراكز المعنية عشرة فقط رغم اتساع المنطقة. مركزان منها في مدينة قسنطينة نفسها، كما عرفنا، والمراكز الباقية هي: عنابة وسطيف وبجاية وميلة وبسكرة، والعين البيضاء ووادي الزناتي والمسيلة. ولم يفتش مدير مدرسة قسنطينة (موتيلانسكي Motylinski) سنة 1905 سوى المراكز الآتية: مسجدا قسنطينة، ومساجد عنابة ووادي الزناتي، وسطيف. ولم يقدم حول بعض المدرسين في هذه المراكز أية معلومات وأحيانا مجرد أسماء. ولم يزر بسكرة والعين البيضاء والمسيلة هذا العام، ووعد بزيارتها السنة الموالية، ربما لضيق الوقت منذ إنشاء التفتيش (1). والمعروف أن موتيلانسكي كان في هذه السنة منشغلا برحلته إلى غدامس ومشاركته في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد بالجزائر. وقد توفي فجأة سنة 1906، ولذلك لم ينجز ما وعد به.
3 -
عبد المجيد بوجمعة: بالنسبة للشيخ عبد المجيد بوجمعة فقد حل مدرسا في الجامع الكبير محل الشيخ حمدان الونيسي، كما ذكرنا. وقد واصل مهمته فوجدناه في تقرير 1913 له حوالي 63 تلميذا بأعمار مختلفة. ولا شك أن هؤلاء من التلاميذ الابتدائيين والذين سيترشحون للمدرسة الشرعية الرسمية. أما الحضور في المسجد نفسه للدرس الاختياري (الفقه والتوحيد) فلا ندري عدد الحضور فيه. ولاحظ المفتش أن حوالي عشرين فقط (من 63) من مدينة قسنطينة. أما الباقون فكانوا من خارجها، كما أن أكثرهم كانوا من التعليم الابتدائي. والمدن التي جاؤوا منها هي باتنة والمسيلة وسطيف وبجاية، الخ. وذلك ما كانت تريده الإدارة، أي تحضير تلاميذ المدارس الابتدائية لدخول المدرسة الشرعية - الفرنسية، وسواء ترشحوا أم لم يترشحوا فالهدف محقق وهو إلغاء التدريس المسجدي (التقليدي) وجعل هذه الدروس الجديدة حلقة للربط بين مدرستين فرنسيتين في الواقع. ولذلك أشاد المفتش بنشاط الشيخ بوجمعة وبطريقته في التدريس وبعدد الحضور عنده. وكان الفرنسيون يفضلون بالطبع المعلمين الذين
(1) تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، رقم 47 H 14، أرشيف إيكس (فرنسا).
تخرجوا من مدارسهم على الشيوخ الذين تخرجوا من الزوايا أو من المشرق أو المغرب أو تونس. وعندما ألجأهم الحال إلى تعيين نماذج من المتعلمين الأحرار سرعان ما أخذوا يتخلصون منهم بالتدريج وتعويضهم بزملائهم، كما رأينا مع بعض مدرسي وهران والجزائر أيضا.
وقد استمر الشيخ بوجمعة فترة الحرب العالمية الأولى يقوم بنفس المهمة. وكان يجمع بين التدريس في المدرسة والتدريس في الجامع الكبير. ولا ندري إن كان ذلك فوق إرادة المفتي ابن الموهوب أو بإرادته. وفي سنة 1923 وجدنا المفتش الجديد، السيد دورنون Dournon، وهو في نفس الوقت مدير مدرسة قسنطينة الشرعية، ينتقد الشيخ بوجمعة لجمعه بين المنصبين من جهة ولكونه يقدم تلاميذه على غيرهم أثناء امتحان الدخول إلى المدرسة الشرعية باعتباره عضوا في لجنة الامتحان (1).
4 -
ابن مرزوق: هذا عن مدرس الجامع الكبير بقسنطينة، أما مدرس جامع سيدي الكتاني (صالح باي)، فقد ظل هو أحمد بن سعيد بن مرزوق فترة طويلة، تقارب ربع القرن. ولا ندري ثقافة هذا الشيخ المعاصر أيضا لأحداث وشخصيات هامة عرفتها قسنطينة، ويبدو أنه ليس من خريجي المدرسة الفرنسية، كما يظهر من ملاحظات المفتشين الفرنسيين. وقد فتشه موتيلانسكي سنة 1905 ولكننا لا نجد له ملاحظات عليه، كما فعل مع الشيخ حمدان. أما المفتش التالي، وهو سان كالبر Saint-Calbre فيقول عنه سنة 1907 إن ابن مرزوق كان من تلاميذ الشيخ المجاوي، مستمعا حرا، أي أن تعليمه سماعي، عن طريق الإجازة وغيرها. ولم يتخرج من المدرسة الفرنسية، وكان عمره أربعين سنة 1907، وأنه عين للتدريس سنة 1894 في
(1) تقرير دورنون، سنة 1923، أرشيف إيكلس (فرنسا)، 47 H 14. ضاعت منا البطاقات المتعلقة بالتفتيش بعد 1923، ولا ندري إن كان الشيخ بوجمعة قد استمر في الوظيفتين أو تفرغ للجامع فقط. وكان مالك بن نبي من تلاميذ الشيخ بوجمعة في مدرسة قسنطينة، وقد نوه به في مذكراته، فانظرها. وكان ابن نبي كثير النقد، مع ذلك، لمدير المدرسة درونون ويعتبره أحد أساطين الاستعمار.