الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غوتييه E.F.Gautier وألفريد بيل (1)، يكادون يتميزون غيظا وهم يتحدثون عن نجاح العرب والمسلمين في تعريب وأسلمة المعرب العربي في ظرف قصير بينما فشل الفرنسيون في النفاذ إلى قلب (الأهالي) وإلى عقولهم رغم قوة الوسائل التي يملكونها وبراعة الدعاية التي ينشرونها، ورغم التبجح بالرسالة الحضارية.
آراء حول تعليم الجزائريين
جاء في التقرير الرسمي الذي نشر سنة 1851 بعد دراسة مستفيضة دامت حوالي خمس سنوات من متخصصين فرنسيين أن انشغال الحكومة الفرنسية بالحرب في الجزائر منعها من الاهتمام بقضية تعليم الجزائريين. وبناء على هذا الرأي الرسمي فإن المبرر واضح لإهمال التعليم وهو تكريس كل الاهتمام للاحتلال والاستعمار دون المبالاة بمصلحة (المغلوبين). والمعروف أن الحرب ضد المقاومة بقيادة الأمير دامت إلى نهاية 1847 وأن الحاج أحمد باي قسنطينة قد استسلم في وسط 1848، ولكن (الحرب) لم تنته سنة 1851، فما تزال منطقة زواوة غير محتلة وسيوجه إليها الفرنسيون حملات عسكرية رهيبة في عهد راندون. كما أن الجنوب (الأغواط، ميزاب، وادي ريغ وادي سوف، وكذلك الجنوب الغربي) كان ما يزال غير محتل. ثم إن الحرب التي يتحدث عنها التقرير الرسمي لم تمنع الفرنسيين من مصادرة أملاك الوقف كلها والتصرف في العقارات والمساجد والزوايا والمدارس وحتى الأضرحة والقباب والجبانات، بالهدم والإلغاء، أو إنشاء الساحات والطرقات مكانها، أو تحويلها إلى كنائس وثكنات ومخازن، وإدخال أموالها في ميزانية الدولة الفرنسية لإنفاقها على جهود الحرب ضد المقاومة أو إعطائها إلى المستوطنين الفرنسيين وحرمان الفقراء والوكلاء والمعلمين منها. ولقد كانت
(1) غوتييه هو مؤلف كتاب (العهود الغامضة) وهو عن تاريخ المغرب العربي في العصر الإسلامي. وأما ألفريد بيل فمن بين مؤلفاته (الفرق الإسلامية في شمال إفريقية). انظر عنه فصل الاستشراق.
المدارس، كما سنرى، من ضحايا هذه السياسة. ومع ذلك يتهم التقرير الرسمي الجزائريين بأنهم كانوا متعصبين وخرافيين لأنهم رفضوا الترحيب بالفرنسيين.
يقول التقرير إن التعليم الإسلامي (أي تعليم الجزائريين) من بين المسائل الملحة التي تنتظر إيجاد حل لأهمية مستقبلها على الاحتلال والاستعمار. لكن الحرب منعت الحكومة من إيجاد حل لقضايا المجتمع الإسلامي ومنها التعليم العمومي. ويرى أصحاب التقرير أنه بقدر ما يسرع الفرنسيون في إيجاد حل لهذا الموضوع بقدر ما يضمنون وضع جيل تحت طاعتهم، وهو جيل سيكون مغايرا للجيل السابق، خاليا من التعصب والخرافة. لقد كان على الحكومة انتظار اليوم الذي تهدأ فيه الأوضاع لكي تعالج مشروع التعليم، لأنه يحتاج إلى كثير من الصبر والمهارة، نظرا إلى الحكم المسبق لدى الأهالي وإلى التعصب الإسلامي (1). واضح إذن أنه بعد القضاء على المقاومة، أو بعبارة أخرى بعد عشرين سنة من الاحتلال ظن الفرنسيون أن الوقت كاف لهزيمة الجيل الذي عاصر الاحتلال وحان وقت كسب جيل جديد يخضع لهم عن طريق المدرسة والتأثير المعنوي، كما يقولون. فالهدف ليس خدمة المجتمع الإسلامي عن طريق ترك أهله يتعلمون من ميزانية الدولة المحتلة أو تركهم يعلمون أنفسهم من ميزانية أوقافهم، وإنما الهدف هو إنشاء جيل خاضع وتابع لفرنسا يحل محل الجيل الذي قاومها وانهزم. فهل كان ذلك صحيحا حقا؟ لو كان صحيحا لرأينا تقدما كبيرا في مجال التعليم الفرنسي بالجزائر، ولرأينا جيلا متعلما في إطار الرسالة الحضارية التي أعلنت عنها فرنسا. ولكن ذلك كان بعيدا جدا، فقد أطفئت الشموع من حول الجزائريين، كما قال الكسيس دي طوكفيل A.de Tocqueville سنة 1848 (2)، فلا هم بالتعليم العربي - الإسلامي الأصلي ولا هم بالتعليم الفرنسي، لماذا إذن؟
(1) السجل (طابلو)، 1851 - 1852، ص 198.
(2)
انظر لاحقا.
إن المدافعين عن موقف الحكومة الفرنسية يجدون لها مبررات. يقول جان ميرانت الذي تولى إدارة الشؤون الأهلية في الجزائر خلال العشرينات من هذا القرن والذي كان ضابطا متخصصا في شؤون الجزائر والعرب والمسلمين: إن الاحتلال نفسه قد مر بمراحل (وقد أشرنا إلى ذلك)، وأن هناك مرحلة الحرب العوان، ومرحلة التهدئة والمناوشات، ومرحلة التوسع والانتشار من الجزائر إلى الصحراء حتى أن ميزاب احتلت فقط سنة 1882 وجنوب وهران 1883، وتوات وعين صالح بين 1899 - 1904. ومن جهة أخرى فإن فرنسا لم تقرر إلحاق الجزائر إلا سنة 1834، ولم ترم بكل ثقلها في الحرب ضد المقاومة إلا بعد تعيين بوجو سنة 1841، ولم تعتبر الجزائر جزءا لا يتجزأ منها إلا سنة 1848. ثم إن التعليم في فرنسا نفسها قد خضع إلى مراحل. ولم يكن للحكومات الفرنسية المتعاقبة نفس الرؤية حول التعليم في الجزائر، لأن للتعليم دائما هدفا وبرامج مختلفة، فهو عند الملكيين ليس هو هو عند الجمهوريين، وهو عند هؤلاء ليس هو تماما عند أتباع الامبراطورية، وهكذا (1). وكل هذه الاعتبارات تبدو سليمة. ومن يقول بغير ذلك؟ ولكن هل بقي المستوطنون الفرنسيون في الجزائر بدون تعليم أثناء هذه المراحل والترددات التي يوحي كلام ميرانت أن الفرنسيين قد خضعوا لها؟ أبدا. لقد كان فرنسيو الجزائر يتلقون تعليمهم العادي، كما هو الحال في فرنسا. وقد بنيت لهم المدارس وجيء لهم بالمعلمين ورصدت لهم الميزانية، فلم يبق سوى الجزائريين بدون تعليم أصلا، لأن وسائلهم المادية المرصودة للتعليم قد استولى عليها الفرنسيون ولأن المعلمين المسلمين هاجروا أو افتقروا، ولأن المدارس والمساجد قد هدمت أو ألغيت. ومن جهتها لم تتحمل الحكومة الفرنسية مسؤوليتها كدولة محتلة إزاء شعب محتل، له حق العيش والتعلم والبقاء.
وإن الملفت للنظر حقا هو الطابع التمييزي - العنصري في تشريعات
(1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 74.
التعليم الفرنسية. فبعد إهمال مطلق للتعليم بين 1830 - 1836 أنشئت في هذه السنة أول مدرسة موجهة للأهالي وسميت بالمدرسة الحضرية - الفرنسية في مدينة الجزائر. أنها (حضرية) لأنها موجهة إلى سكان المدينة فقط، بينما سكان الجزائر الآخرون مسكوت عنهم تماما. وهي (فرنسية) لأنها كانت تستهدف دمج المسلمين في الفرنسيين عن طريق اللغة الفرنسية التي كان يعلمها فرنسي. وهل تظن أن السلطات الفرنسية قد بنت فعلا هذه المدرسة من حر مالها للجزائريين؟ لا، أبدا، إنها فقط بناية صادرتها هذه السلطات من الأوقاف الإسلامية. فهي مدرسة أو زاوية إسلامية أصبحت موطنا لأقدام الفرنسيين يعلمون فيها أبناء المسلمين في دعواهم ويؤثرون فيهم. هذا جانب من التمييز العنصري. أما الجانب الآخر فهو أن الفرنسيين قد تركوا الخواص الأوروبيين يفتحون المدارس الابتدائية للنصارى واليهود بين 1830 - 1832. وفي السنة الموالية (1833) تدخلت السلطة وأنشأت مدرسة سميت بمدرسة التعليم المشترك mutuel، وهي طبعا موجهة لأبناء النصارى واليهود ولمن أراد من المسلمين. وتذهب المصادر إلى أن بعض التلاميذ المسلمين قد دخلوها، ثم تناقص عددهم خوفا من التحول الديني. وقد رفص هؤلاء الأطفال أن يتوسموا بوسام المدرسة حتى لا يتهموا بأنهم نصارى (فرنسيون). ولكن ما هذا الوسام؟ لقد كان على أولياء التلاميذ في مدينة الجزائر أن يقبلوا بالدخول إلى هذه المدرسة (المشتركة) تحت الرعاية الفرنسية وبالبرنامج الفرنسي أو يبقى أبناؤهم في جهل تام (1).
وفي سنة 1848 حل النظام الجمهوري محل النظام الملكي في فرنسا، وكان لذلك أثره على التعليم في الجزائر. لقد جاءت الجمهورية الثانية الليبرالية جدا بشعار دمج الجزائر في فرنسا، والمقصود هنا دمج المصالح الإدارية والتشريعية والمالية في مثيلاتها في فرنسا. وهذه الفلسفة (الاندماج) جاءت نتيجة تغييرات دستورية وهي أن الجزائر قد أصبحت في نظر
(1) سنذكر أن تجربة مدرسة التعليم المشتركة للمسيحيين واليهود قد أنشئت أيضا في وهران وعنابة في نفس الفترة.
الجمهوريين ودستورهم، جزءا لا يتجزأ من فرنسا. ولذلك أعلنت حكومة الجمهورية أن التعليم الأوروبي في الجزائر قد أصبح تابعا لوزارة المعارف العمومية في فرنسا وليس من اختصاصات وزارة الحربية ولا الحاكم العام الفرنسي في الجزائر. وقد أنشأت الوزارة المذكورة في الجزائر (أكاديمية) تشرف على نظام التعليم الأوروبي، كما هو الحال في الولايات الفرنسية الأخرى. أما التعليم (الأهلي) أو الإسلامي فقد بقي كما كان، أي تحت إشراف وزارة الحربية والإدارة المباشرة للحاكم العام العسكري (1). وليس هناك أكاديمية له، كما لا تهتم به الأكاديمية المذكورة. هذا من الناحية الإدارية المحضة، أما عمليا فقد ظل تعليم المسلمين مهملا تماما، كما لاحظنا ذلك في التقرير الرسمي، لأن السلطات الفرنسية كانت منشغلة في دعواها بالحرب وردع المقاومة.
وحين أنشئت مدارس ابتدائية فرنسية موجهة للجزائريين سميت باسم خاص، وهو المدارس العربية - الفرنسية، وكان عددها قليلا جدا، ومحتوى برامجها لا يتجاوز غسل المخ وتوجيه جيل من الجزائريين نحو الفرنسية وقطعه عن جذوره، وذبذبة الأسرة والمجتمع من ورائه. وسنرى أن عدد هذه المدارس سنة 1870 لم يصل في يوم من الأيام إلى الأربعين في الجزائر كلها، وكان يشرف عليه ضباط المكاتب العربية بعنجهيتهم وتعاليهم. وإلى جانب هذا المظهر من مظاهر التمييز، فإن هذه المدارس قصد بها فئة واحدة من الجزائريين وهم أبناء الموظفين لدى الإدارة الفرنسية - من قياد وباشغوات وقضاة الخ. ولم تكن المدارس مفتوحة لكل الجزائريين.
ويمكننا أن نستمر في إبراز هذا الطابع التمييزي للتعليم، على ضعفه وذبذبته، بذكر أمثلة أخرى. فمن ذلك أن التعليم قد جعل إجباريا في فرنسا سنة 1872، وعلى أبناء الأوروبيين في الجزائر سنة 1873. أما بالنسبة للجزائريين فالإلزام لم يكن واردا، رغم اعتبار الجزائر جزءا من فرنسا،
(1) صدر القانون بذلك في 7 غشت و 8 سبتمبر، 1848.
ودخولها تحت مظلة السيادة الفرنسية. والغريب أن أحد الباحثين ذكر أن الفرنسيين كانوا يبررون ذلك التمييز بقولهم إن الجزائريين رعايا والفرنسيين مواطنون (1). والرعية ليس سواء مع المواطن. مع أن الفرنسيين يزعمون أنهم ألغوا الرق وحملوا شعار المساواة. وبهذا الصدد (التمييز) كتب البعض بأن يترك التعليم للفرنسيين والفأس والمحراث للجزائريين، لأن ذلك أجدى لهؤلاء وأنفع من تعلم التاريخ (2). وسنرى أن عملية التمييز هذه ستكون أبرز بعد إنشاء فرعين (فرنسي وجزائري) في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال).
وبالإمكان الاستمرار في سرد هذه الآراء حول إهمال تعليم الجزائريين لنصل إلى حكم موضوعي يجيب على السؤال: ما كان وراء هذا الإهمال بين 1830 - 1900؟ هل هو التعصب الديني والخوف من التنصر وعدم الرغبة في التعلم والمقاطعة الثقافية عموما أو هو حرمان التعليم الإسلامي من موارده وبعثرة رجاله والتدخل في شؤونه بفرض اللغة الفرنسية والمعلم الفرنسي وهدم مدارسه ومساجده؟ ومن يا ترى ظهر بلباس التعصب والعدوانية: هل ذلك الذي صب حقده على المساجد منذ 1830 فهدمها وحول بعضها إلى كنائس وأنشأ أسقفية في أملاك الأوقاف وفرض اللغة الفرنسية والمعلم الفرنسي في المدارس القرآنية التابعة للجامع؟ أو هو الذي قاوم كل ذلك بما أمكنه، بينما ظل يطالب بحقه في التعلم وفي احترام اتفاقية 1830؟.
إن الجزائريين قد استمروا طيلة السبعين سنة ينادون بالتعلم، ولكن بلغتهم وفي مدارسهم. فالذي يتحدث عن (التعليم) مطلقا سيكون غير منصف. لأن التحفظ الذي أبداه الجزائريون إنما كان حسب المعطيات الاجتماعية والتاريخية، حول التعليم الذي ثبت أن أهله لم يحترموا العهود
(1) ذكر ذلك جورج مارسيه G.MARCAIS في بحثه في مؤتمر إفريقية الشمالية، باريس، 1908، مجلد 2، ص 186.
(2)
من رسالة نشرتها جريدة (الطان) بتوقيع (جزائري قديم)، وأعادت نشرها (إفريقية الفرنسية) A.F.، ملحقها، يناير 1895، ص 13.
ولا الدين الإسلامي ولا الأوقاف ولا رجال العلم ولا اللغة العربية. أما التعليم الذي طالب به الجزائريون فهو الذي يتماشى مع تقاليدهم ويحفظ لهم تراثهم ومعالمهم. لندرس بهذا الصدد العرائض الجماعية التي تقدم بها أهل المدن منذ السبعينات، فإننا سنلاحظ أنها تطالب بالتعليم العربي واحترام الإسلام والشريعة. وقد ظهر ذلك على لسان الأفراد أيضا ابتداء من رسالة المجاوي (إرشاد المتعلمين) سنة 1877. وكان تمسك المرابطين في زواياهم الريفية بالتعليم العربي خير دليل على ما يرغب به الجزائريون من أنواع التعليم رغم تخلفه قياسا على المناهج الحديثة. ولكن الفرنسيين سخروا بعض الجزائريين ليحثوا أخوانهم على التعلم بالفرنسية وتلقي الحضارة الفرنسية، وذلك في المقالات التي نشرها مصطفى بن السادات، ومحمود بن الشيخ علي وغيرهما في جريدة (المبشر) الرسمية خلال الستينات.
ثم إن الجزائريين لم يروا خلال الفترة المشار إليها (1830 - 1900) فائدة حقيقية مباشرة للتعلم بالفرنسية. ولو رأوها لتغيرت نظرتهم إليه. والدليل على ذلك هو ما حدث بعد ذلك من الإقبال على هذا التعليم والتنافس من أجله، لأن الفائدة المباشرة منه أصبحت جلية. لقد كان هدف التعليم الفرنسي الموجه للجزائريين من البداية متصفا بطابع التحدي الديني واللغوي والحضاري. كان الفرنسيون يشعرون ويعملون على أنهم ما داموا قد نجحوا في احتلال مدينة الجزائر وفرض سيطرتهم المادية على الحصون والقلاع ورفع العلم، فإن ذلك يبيح لهم انتهاك كل الحرمات والدوس على جميع المقدسات والتدخل في كل الشؤون حتى العائلية والمدرسية والدينية. ولكنهم كانوا واهمين، فالمقاومة لم تتوقف وكان الناس مؤمنين بأن النصر سيتحقق لا محالة ضد العدو، غير أن هذا النصر قد طال انتظاره، فتمسكوا بالجانب الآخر من المقاومة وهو الجانب الحضاري فلم يتنازلوا للفرنسيين عن مقاليدهم الحضارية بالسهولة التي توقعها هؤلاء. وهنا تظهر في الواقع عبقرية الشعب الجزائري وعبقرية الإسلام في المقاومة. وقد تفطن لذلك بعض المفكرين الفرنسيين أنفسهم، وهم أولئك الذين ظلوا ينبهون قومهم بأنه
من الغلط الاعتقاد بأن الجزائريين قد انهزموا، فأسلوب المقاومة قد اختلف والأشخاص قد تغيروا ولكن روح المقاومة ظلت هي هي (1):
كان التعليم في الجزائر واجبا دينيا واجتماعيا. والآيات والأحاديث التي تأمر بالتعلم وتحث عليه من أجل إثبات الإيمان والعقيدة كثيرة حتى أن المرء يخرج منها بينما إيمانه وإسلامه غير كاملين إذا لم يتعلم الحد الأدنى مما يعرفه بالله وبمخلوقاته والتزاماته الشرعية. ولسنا بصدد إثبات الأدلة على ذلك لأن مجاله في غير هذا الكتاب. غير إننا نقول إن التعليم السائد سنة 1830 كان قائما على الدين ولخدمة الدين في المجال الواسع، باعتبار الإسلام دينا ودولة. وما دام مفهوم التعلم قد اتبع مفهوم السيادة ومفهوم الجهاد ومفهوم التقدم، فإن النتيجة كانت تخالف هذه المفاهيم جميعا، بما في ذلك المقصود الشرعي من التعلم. وإذا كان هذا المفهوم في القديم منطلقا من إدراك حقيقة الله وكنه الأشياء فقد ضعف هذا المفهوم سنة 1830 حتى أصبح التعليم كأنه تعبد وممارسات طقوسية فقط. فحفظ القرآن كان للبركة ونيل الوظيفة أكثر منه لفهم الدين والعمل به في مجال السياسة والمجتمع والاقتصاد. وقس على ذلك العلوم المتصلة بالقرآن.
هذا عن الجانب الديني من التعليم، أما الجانب الاجتماعي منه والسائد سنة 1830، فإن الجزائريين كغيرهم من المسلمين كانوا يعتقدون أن المتعلم خير من الجاهل، وأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات على غيرهم، وأن وظيفة العالم مضمونة، وأن احترامه واجب، وأن حب العلم من الإيمان. وقد كانت بعض العائلات تورث العلم والوظائف لأبنائها. والذي يدرس الحياة الاجتماعية، حتى الجانب الفولكلوري منها، سيجد أن الجزائريين كانوا يحتفلون بالعلم منذ دخول الطفل المدرسة الابتدائية إلى تخرجه من الثانوية والدراسات العالية. لأن العلم والدين مترابطان. وصاحب العلم
(1) من أبرز من تنبه إلى هذا هو جوزيف ديبارمي J.Desparmet، وقبله تنبه إليه الدكتور فيتال Dr.Vital وإسماعيل عربان (توماس أوربان T.Urbain). وسنعرف عن عربان في فصل لاحق. انظر أيضا الحركة الوطنية، ج 1.
محترم عند الله والناس وعند الحكام. فهناك الإعفاء من الضرائب، وهناك الخدمات الاجتماعية التي لا حصر لها، وتحبيس الكتب وغيرها على الطلبة والمتعلمين. بالإضافة إلى أن هناك جانبا عمليا من التعليم وهو الوظائف القضائية والتوثيقية والإدارية والتعليمية، وحتى الترجمة. أما قرض الشعر وكتابة الرسائل، وحل مشاكل التركات، والاطلاع على ما عند الآخرين وعلى التراث العلمي، فذلك موضوع آخر له أهميته في هذا المجال. ولكن روح التخلف والجمود قد سرت هنا أيضا. فالتعلم رغم الأبهة والسمعة الطيبة لصاحبه، لم يكن هو الوسيلة المثلى للرزق والسلطة، فالحكام كانوا جهالا إلا من رزقهم الله حظا من الذكاء الفطري أحيانا. والمناصب الأخرى غير مقصورة على ذوي العلم. والتجارة غير قائمة على دراسة قوانينها وإنما هي الظروف و (الشطارة) وبعض الأعراف. والمبادلات مع أوروبا كان يحتكرها التجار اليهود بترخيص وتواطؤ من الحكام، أما البنوك فقد كانت منعدمة. ورغم وفرة المال في الخزينة فإن مجال تصريفه وإنعاشه كان محدودا.
من هنا بقي للتعلم فضيلتان: فضيلة الدين وفضيلة الرزق والمباهاة لفئة معينة في المجتمع. ويهمنا هنا الجانب الأول لأن الجانب الثاني (فضيلة الرزق) في الواقع هو نتيجة للأول. إذ أن من تفقه في الدين بوسائل الكتابة والقراءة وحفظ القرآن وإدراك بعض العلوم، حصل على المنصب والرزق ونال الحظوة بين الناس. ومن هنا نأتي إلى نقطة أخرى حول هذا التعلم الذي ساد سنة 1830 وهو أنه كان تعلما خاصا لا ترعاه وزارة ولا حكومة. ولكن ترعاه مؤسسات وقفية وجهود فردية، ويساهم فيها المجتمع بكل فئاته ومواقعه، من المدينة إلى الريف. وهذه ظاهرة ما تزال في حاجة إلى بيان وتعمق حين يتحدث الناس عن (الخوصصة) في التعليم والاقتصاد وغيرهما. إن مجتمعنا القديم كان يقوم بنفسه وتلقائيا في هذا المجال. فالتعليم، كما قلنا واجب ديني واجتماعي، وليس واجبا سياسيا. ليس هناك تشريعات حكومية ولا برامج واجبة التطبيق للوصول إلى هدف معين بعد المدرسة. وإنما هناك العرف وهناك شروط الأوقاف، وهناك أيضا أوامر ونواهي الدين.