الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبسة على عهد عباس بن حمانة. ثم شقت طريقها منذ الحرب العالمية الأولى. والمدارس الحرة هي تلك التي حاول أصحابها أن يطوروا بها المدارس القرآنية (الكتاتيب) القديمة، فبدل المسيد أو الكتاب الملحق بالجامع والذي بقي مقتصرا على تحفيظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة، ولدت المدرسة العصرية ذات الأقسام والإدارة والبرنامج المدرسي المتكامل في مراحله والتي تخرج تلاميذ بشهادات تسمح لهم بممارسة بعض المهن أو متابعة الدراسة الثانوية والعالية. ورغم المحاولات الرائدة في هذا المجال على يد رواد مثل ابن حمانة ومصطفى حافظ ورجال مدرسة الشبيبة، فإن التجربة قد نجحت على يد ابن باديس وجمعية العلماء التي وسعت من دائرة هذا التعليم الحر أو الحديث وتبنته باسم الشعب الذي ساهم فيه بحماس كبير بعد أن رأى النتائج الإيجابية التي نافست نتائج المدرسة الفرنسية، بل فاقتها في التكوين الوطني والإسلامي.
وبالإضافة إلى ذلك تحدثنا في هذا الفصل عن معاهد أخرى مثل معهد ابن باديس ومعهد ابن الحملاوي ومعهد الحياة. وكذلك عن نقد برامج تعليم الزوايا وتعاليق لبعض الفرنسيين عن برنامج المدارس الحرة.
التعليم في الزوايا
تناولنا تعريف الزاوية في فصل الطرق الصوفية. وقد عرفنا أنها أصلا كانت رباطا للجهاد، ثم تطورت إلى مركز للتعليم والعبادة، وأخيرا أصبحت مقاما ثم ضريحا ومزارا لأحد المرابطين (من الرباط للجهاد إلى الرباط للعلم والعبادة). ولكن هذا المفهوم تطور أيضا حتى أصبح يدل في الزمن القريب منا على مقر الشيخ حامل البركة والمتصوف الذي ليس له علاقة بالجهاد ولا بالتعليم والعبادة، وإنما له علاقة بإعطاء الأوراد والإجازات واستقبال المريدين والمقدمين والإخوان وحاملي (الزيارات) أو التبرعات. وقد لصق بهذا المفهوم للزاوية ممارسة الحضرة والدروشة واستغلال جهل العامة. ثم أصبحت الزاوية علما على الخرافة والتجهيل والظلامية والاستغلال. وقد
لخص بعضهم نسبة الزوايا فقال أنها قد تنسب إلى مكان معين أو إلى مرابط أو إلى طريقة صوفية (1).
وفي الفترة التي ندرسها عرفت الجزائر المرحتلين الأخيرتين من تطور الزاوية: فهي إما مركز لأحد مشاهير المرابطين مثل الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي والشيخ محمد الموسوم، وفي هذه الحالة كانت الزاوية مركزا للتعليم والعبادة، وإما مركز للحضرة والزردات وممارسات البدع، مثل زوايا بعض شيوخ العيساوية والحنصالية والعمارية. ويهمنا في هذه الفقرة النوع الذي اهتم بالتعليم والعبادة. وقد صدق من عرف الزاوية بأنها مؤسسة شاملة، فهي مسجد للعبادة ومدرسة للتعليم، وملجأ للهاربين، ومأوى للغرباء، ومركز للفقراء.
ومن جهة أخرى قلنا أن هناك فرقا بين تطور الزاوية في المدن وتطورها في الأرياف أو البادية. ففي المدن فقدت الزوايا تأثيرها بعد الاحتلال لوضع المحتلين أيديهم على المصادر المالية كالأوقاف، وهدم العديد من الزوايا وتعطيل غيرها بالبيع والاستغلال كجعلها ثكنة أو مخزنا. وقد ذكرنا في فصل المعالم الإسلامية نماذج للزوايا التي آل أمرها إلى الهدم والتحويل عن المقصود. ومن ذلك زاوية القشاش، وزاوية الجامع الكبير، وزاوية الشرفة، وزاوية الأندلس، الخ. وهي زوايا كانت للتعليم وإقامة الطلبة الغرباء والعلماء، وكانت تضم الكتب لفائدة المتعلمين.
أما زوايا الأرياف والبادية فقد عرفت عدة مراحل في العهد الذي ندرسه. كانت في المرحلة الأولى قد عادت إلى تاريخها القديم، رباطات للجهاد وتجنيد المجاهدين ضد العدو. وكان ذلك في عدة نواح من الوطن، سيما الناحية الغربية، إلى حوالي 1850. ثم قامت زوايا أخرى بنفس الدور في الجنوب وفي زواوة خلال الخمسينات والسبعينات. وفي
(1) حول تعريف الزاوية بشيء من التفصيل انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 206.
الستينات كانت منطقة الأوراس أيضا تشهد الانتفاضات المتواصلة. أما منذ 1880 فقد عرفت الصحراء الجنوبية انتفاضات أخرى في الشعانبة. سيما حركة المدقانات، ثم الهقار. فالزوايا من هذه الناحية قامت بدور جعلها تسترد قيمتها التاريخية. وإلى جانب هذه الزوايا النافخة في روح الجهاد كانت أخرى تواصل رسالة التعليم بالوسائل التي عندها بعد أن أصبحت محاصرة. كما ظهرت زوايا جديدة للتعليم فقط في طولقة، وزواوة والهامل وقصر البخاري وأولاد جلال، وأولاد الأكراد والوادي.
ونريد أن نذكر هنا أيضا أن الزوايا التعليمية القريبة من العاصمة وغيرها من المدن قد تأثرت بالاحتلال مبكرا. ومن ذلك زاوية قرومة بالأخضرية، وزاوية البراكنة في شرشال، وزاوية القيطنة في معسكر، وزاوية مجاجة في الشلف.
هذا أثناء المرحلة الأولى، أما خلال المرحلة الثانية (منذ الخمسينات تقريبا) فقد تأثرت زوايا الأرياف أيضا عندما تدخلت السلطات الفرنسية لمحاولة فرض رقابتها على التعليم والنشاط السياسي والاجتماعي في الزوايا. ومن ذلك زاوية شلاطة (زواوة) وزاوية علي بن عمر (طولقة) الخ. وفي المرحلة الثالثة وقعت السيطرة التامة على الزوايا التقليدية، وكان ذلك منذ الثمانينات تقريبا. فدجن عدد من المرابطين بالزواج المختلط والتوظيف في القضاء والإدارة، وهوجمت بعض الطرق الصوفية كالرحمانية والسنوسية، وحدد لبعضها مجال نشاطها، وهو ممارسات البدع والخرافات فقط وترك التعليم كالعيساوية والعمارية، وأصبح من يرغب في إعطاء درس عليه أن يستأذن السلطة الفرنسية التي لا تسمح له، إذا سمحت، إلا بعد تحقيق وتدقيق مكثفين.
كما أن تعليم الزوايا على العموم حورب وحوصر بالمدرسة الفرنسية. منذ الاحتلال حاول الفرنسيون جر الجزائريين إلى إدخال أبنائهم في مدارس فرنسية في المدن أولا. وفي المرحلة الثانية أنشاوا ثلاث مدارس إقليمية (هي
التي أسميناها الشرعية - الفرنسية)، لتمتص التلاميذ الذين كانوا من قبل يتوجهون إلى الزوايا الريفية وإلى المرابطين للتعلم، أو يقصدون المعاهد الإسلامية خارج الجزائر. أما خلال المرحلة الثالثة فإن الفرنسيين، قد أنشأوا المدرسة الابتدائية الفرنسية بجوار الزوايا، وضيقوا - كما قلنا - على هذه الزوايا مجال النشاط، وفتحوا مع قادتها باب التدجين والتوظيف. وهكذا حوربت الزوايا على عدة جبهات:
1 -
الأولى هدم بعضها ومصادرة أملاكها وأملاك الباقيات منها، وضم مداخيلها إلى أملاك الدولة الفرنسية، في المدن أولا ثم في الأرياف لاحقا.
2 -
الثانية إنشاء المدارس الفرنسية الابتدائية في المدن ثم الأرياف لسحب التلاميذ من الزوايا ونشر التأثير الفرنسي آزاءها.
3 -
الثالثة محاربة كبار المرابطين واستدراجهم بالوظائف والزواج المختلط، وتشجيع الدروشة والتدجيل بدل التعليم.
4 -
وأخيرا منع الزوايا من نشر التعليم العام وفرض برنامج ضيق عليها لا يتعدى تحفيظ القرآن الكريم دون تفسيره أو تعليم قواعد اللغة وأصول الدين دون فهم.
وفي إحصاء يرجع إلى سنة 1851 جاء أن عدد تلاميذ الزوايا في الأرياف كان 8.347 متعلما، وعدد الزوايا 593 زاوية (1). وكان برنامجها هو تعليم الفقه والنحو والتاريخ الإسلامي والأدب، الخ. ويدخلها التلاميذ الذين أنهوا المرحلة الأولى فحفظوا القرآن الكريم، وتعلموا القراءة والكتابة وبعض الحساب والمتون.
ويتحدث تقرير آخر يرجع إلى سنة 1840 عن الزوايا الريفية فيقول: في كل قبيلة أماكن مخصصة للتعليم وتكوين الطلبة، وهذه الأماكن مبنية دائما تقريبا قرب زاوية أحد المرابطين الذي اشتهر بورعه وتقاه، سواء كان
(1) ب. دي بوليري Boulery المجلة الشرقية والجزائرية، عدد 3، 1853، ص 60.
حيا أو بإشراف أولاده وحفدته. ومدة الدراسة في الزاوية غير محددة، والدروس مجانية، ويعيش الطلبة والمدرسون من تبرعات القبائل المجاورة، وأحيانا يعيشون من مداخيل خاصة بالزاوية (أحباس) ترجع إلى عهود قديمة قدمها إليها أعيان الأهالي الأتقياء والمحسنون. ولا يحمل طلبة الزوايا ولا شيوخها السلاح أو يشاركوا في الحروب بين القبائل. إن دورهم هو التهدئة والإصلاح، والزاوية مكان مقدس للجميع (1).
ويقوم بالتعليم عادة أحد ورثة المرابط من عائلته. وهو يقوم بوظيفة مدرس، دون أن يكون مسمى من الحكومة مثل مدرس المسجد في المدينة (2). وكانت عائلات المرابطين حريصة على عدم ترك التعليم والتدريس يتدهور لأن ذلك يضر بسمعتها فتفقد المال الذي يتبرع به المحسنون إليها، كما تفقد تأثيرها. وكان حكام الأقاليم في الماضي يطلبون دعم المرابطين في مشاريعهم في مقابل الإعفاء من الضرائب، وقد لجأ الفرنسيون إلى هذه الوسيلة أيضا في عهود مختلفة.
وقد شعر الفرنسيون بالخطر الذي أحدثه هدم زوايا المدن وتعطيلها، فقرروا تعويضها بإنشاء المدارس الإقليمية الثلاث. كما ذكرنا. يقول أحد التقارير: يجب العمل على ملء الفراغ الذي تركه (تهديم الزوايا تهديما يكاد يكون كاملا. لقد أدى ذلك إلى تعطيل كبير في الدراسات الفقهية) حتى أننا لم نجد من أين نوظف القضاة. وإذا لم نملأ نحن هذا الفراغ فسيأتي غيرنا ويقوم به كالدول المجاورة، فيأتي حينئذ من ينشر الفوضى والتعصب خارج رقابتنا،
(1) السجل (طابلو)، سنة 1840، ص 377.
(2)
في 6 كتوبر 1852 نشر الحاكم العام (راندودن) منشورا حول شروط تولي المؤدب تحفيظ القرآن في الزاوية بهدف التخلص من المؤدبين الذين جاؤوا من تونس أو مراكش، فاشترط شهادة المجلس البلدي أو المكتب العربي، باعتبار أولئك المؤدبين خطرا على سياسة فرنسا في الأعراش. وقد وافق على ذلك وزير الحربية أيضا. ولم تعدل الشروط إلا بتاريخ 22/ 5/ 1877 (عهد شأنزي). انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية
…
) مرجع سابق ص 208.
مستغلا جهل الناس). وقد رأى صاحب التقرير أنه من الأفضل إعادة تنظيم الزوايا بما يخدم المصلحة الفرنسية، وإعطاء التعليم العربي في المدن إلى معلمين مسلمين برهنوا على ولائهم. والمهم أن صاحب التقرير يعترف بأن الحكومة الفرنسية إنما أنشأت المدارس الشرعية الثلاث لملء ذلك الفراغ وتفادي الخطر الأجنبي ومحاصرة تعليم الزوايا. وبناء عليه فأنه يوجد بالبادية 8.092 متعلما في المرحلة المتوسطة والثانوية، و 427 مركزا أو زاوية (1). وقد ذكرنا أن هدف مرسوم 30 سبتمبر 1850 كان جعل الزوايا الريفية التي كان يسيطر عليها في نظر الفرنسيين، (معلمون متطرفون ومتعصبون، تحت تصرفنا بالتدرج)(2).
وحين نتحدث عن الزوايا في منطقة زواوة سنعرف أن هناك نموذجا آخر للمؤسسة التعليمية، فقد كانت للزوايا هناك أراضي خاصة يحرثها الأهالي وتذهب محاصيلها إلى طلبة الزاوية، كما يدفع الأهالي عشر المحاصيل للزاوية. فالتعليم هناك مجاني، والطلبة كانوا يتناولون فيها طعامهم أيضا. وقد لاحظ البعض أن هذا النمط من الحياة هو الذي جعل العرب يهتمون بالحياة الفكرية أكثر من اهتمامهم بالأعمال اليدوية (3).
ويذهب لوروي بوليو أن الزوايا توازي المدارس الثانوية في فرنسا في وقته. وقال أنها تدرس القرآن والتفسير والفقه والحديث، وأن القضاة المسلمين كانوا يتخرجون منها، ولكن الآن (الثمانينات) أصبحوا يتخرجون من المدارس الشرعية - الفرنسية في العاصمة وتلمسان وقسنطينة، التي أصبحت مهمتها تحضير الشبان العرب لوظائف القضاء الإسلامي (4).
(1) السجل (طابلو)، سنة 1851 - 1852، ص 201.
(2)
زوزو، (نصوص)، مرجع سابق، ص 218. قارن ذلك بما جاء في مقالة بوليري، مرجع سابق.
(3)
زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 205 عن تقرير يرجع إلى حوالي 1846.
(4)
بوليو BEAULIEU 1886، مرجع سابق، ص 151. يتحدث بوليو عن سبع زوايا (مدارس قرآنية؟) في العاصمة على عهده. وكانت تضم حوالي 390 تلميذا، ويدفع =
وفي المرحلة الثالثة حاول الفرنسيون أن يضعوا الزوايا تحت أنظارهم، كما أشرنا. فصدر مرسوم 18 أكتوبر 1892 فأدمج تعليم الزوايا في المدارس الابتدائية الفرنسية. وأخضعها للمراقبة وتفتيش السلطات الأكاديمية المدنية أو المحلية (العسكرية) مثلها في ذلك مثل المدارس الإقليمية الثلاث (الشرعية). وقد اشترط المرسوم أن يكون لكل زاوية سجل تسجل فيه أسماء التلاميذ وعائلاتهم ومحل إقامتهم وتاريخ ميلادهم ألخ. بنفس ما تفعل المدارس الفرنسية. ويعترف الفرنسيون أن الزاوية عند المسلمين عندئذ تعني المكان الذي تدرس فيه اللغة العربية والقراءة والكتابة ويحفظ فيه القرآن، ويتعلم فيه التاريخ والجغرافية والفقه والفلسفة والتوحيد. وإلى جانب كونها مدرسة فهي مأوى وملجأ ومستوصف، وهي ضريح المرابط أو شيخ الطريقة ودار الضياف ومجمع الأخوان (1).
ورغم ما قد يبدو من مرسوم 18 أكتوبر 1892 من تسامح نحو الزوايا الباقية (وهو تسامح مقصود يدخل في سياسة كامبون نحن رجال الدين من جهة وسياسة فرنسا الإسلامية من جهة أخرى)، فإن كل الدلاثل تدل على أن الفرنسيين قد خططوا لعرقلة التعليم في الزوايا ومنافسته ووضع الشروط المضادة له وسحب التلاميذ منه وعدم التوظيف من خريجي الزوايا. وقد كانت النتيجة أن أعلن ألفريد بيل سنة 1908 قوله (يجب ألا ننزعج من تناقص التعليم في الزوايا، ذلك أن المدرسين الرسميين بالمساجد (التنظيم الجديد) قد حلوا محل معلميها كما حلت المدارس الابتدائية والتحضيرية الفرنسية
= الأولياء بين فرنك وفرنك ونصف شهريا للمؤدب أو الشيخ. كما يتقاضى الشيخ 300 فرنك من الأحباس (الأوقاف)، ص 260. ولعل هذا الوصف يصدق على الكتاتيب وليس على الزوايا التي نحن بصدد الحديث عنها.
(1)
ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 206. ويقول المؤلفان أن القيود التي وضعها الحاكم العام شأنزي قد رفعها جول كامبون (1892) فاصبح لأصحاب الزوايا حرية التعليم بالشروط الجديدة فقط، وهي السجل وحفظ الصحة، والرخصة، الخ. انظر ص 209. والمقصود بالإخوان (اتباع) الزاوية والطريقة الصوفية.
محل المكاتب (المدارس القرآنية). إن الزوايا مآلها أن تصبح للعبادة فقط ولزيارة الغرباء والإخوان، وستختفي منها المدرسة الملحقة بها بحكم انقطاع التلاميذ عنها (1).
وقد انتقد بيل تعليم الزوايا نقدا مرا، وكان على حق في بعض ما جاء به، ولكنه قد بالغ في ذلك لدرجة أنه خلط بين ربطه هذا التعليم بفكر المسلمين عامة، ونظام المدرسة الفرنسية. وهو يعلم أن ذلك كان مقصودا من مقنني النظام التربوي في الجزائر منذ الأربعينات من القرن الماضي. لقد انتقد بيل تعليم الزوايا بكونه تعليما دينيا غامضا، وتعليما صوفيا يعمل على الدمج في الله كما تدعو كتب التصوف، وهو يعني الحلول، وليس كل كتب التصوف ولا كل الطرق الصوفية تدعو إلى ذلك. وانتقد طريقة تدريس مختصر الشيخ خليل القائمة على الحفظ دون الفهم، كما يحفظ القرآن، واعتبر مختصر خليل نصا غامضا، وان المعلم نفسه لا يفهمه حتى بعد الرجوع إلى شراحه، وهو يقرأه مكسورا وملحونا لأن تعليمه في النحو لم يؤهله إلى فهم النصوص وإنما حفظ القواعد فقط. وحكم بيل بأن الدراسات النحوية تسقط تدريجيا في الجزائر لأن معرفة النحو أصبحت معرفة ضحلة. فأنت يمكن أن تكون أستاذا كبيرا، ولا تعرف تطبيق النحو. وذكر أن هناك فقهاء مشاهير وهم يلحنون عندما يقرأون نصا فقهيا، والفقيه يحفظ عدة كتب في الفقه ويفهمها فهما غامضا، ويكفيه ذلك أن يكون أستاذا في الفقه بالطريقة التي أخذه هو بها. وبيل هنا يعرض بدون شك بطبقة المدرسين الذين كان يفتشهم وبطبقة المفتين الذين عينتهم فرنسا. وقال إن دراسة النحو لا تخرج عن شرح متون الآجرومية والألفية. وعلى التلميذ أن يحفظ هذه المتون عن ظهر قلب، واعتبر بيل الأستاذ مسؤولا عن ذلك لأنه لا يمرنه ولا يطبق له الدرس (2).
(1) ألفريد بيل، (مؤتمر)، مرجع سابق، 1908، ص 230.
(2)
نفس المصدر، ص 211. انظر أيضا مقالتنا عن المولود الزريبي. فآراؤه تكاد تكون متطابقة مع آراء بيل حول هذه النقطة (الثقافة النحوية للمعلمين).
والواقع أن المسؤول على ذلك هو نظام التعليم نفسه، وكان نظاما مقصودا كما عرفنا، لكي تصل الدراسات العربية - الإسلامية عامة إلى هذا المستوى في فاتح هذا القرن.
والغريب أنه رغم هذا النقد اللاذع، والموضوعي في بعض وجوهه، دعا بيل حكومته إلى عدم التخلص من هذا النوع من التعليم، لأن الوقت لم يحن بعد للتخلص منه في رأيه. فهو يقول أن الحكومة متسامحة مع هذا التعليم الذي تعرف أنه لا يؤدي إلى اليقظة العقلية للجزائريين. فهو تعليم ليس في صالح المجتمع المسلم. واعتبر التعليم الإسلامي كله في الجزائر (من المسيد، إلى الشريعة، إلى الزاوية، إلى المسجد) تعليما دينيا (طقوسيا Confessionnelle، وهو بهذه الصفة لا يمكن أن يطور الأفكار وحرية الرأي عند التلميذ. فالتعليم في الزوايا (والجوامع) لا يعدو، في نظر بيل، أن يكون حفظا واستظهارا، وأن الدين فيه ليس سوى طقوس وأشكال بدون قيم (1). ومع ذلك، فإن ألفريد بيل لم يكن يعرف أسرار كل هذا التعليم الذي بقي يشكل أسلوبا من أساليب المقاومة في نظرنا أمام المحاصرة التي ذكرناها. فلم يكن أمام المعلمين ولا التلاميذ من طرق أخرى سوى الاستسلام للجهل أو الفرنسة. وقد أفلت بعضهم فأكمل تعليمه في البلدان المجاورة أو في مصر. ولم يكن بعض خريجي المدارس الشرعية الفرنسية ومدرسي المساجد الرسمية بأحسن حظا في التفكير والذكاء من زملائهم في الزوايا رغم تلقيهم العلم على أمثال ألفريد بيل من المستشرقين المهرة في أسلوب التعليم الحديث! ولماذا يا ترى لم يدع بيل إلى تطوير التعليم الإسلامي بدل الدعوة للقضاء عليه وإحلال التعليم الفرنسي مكانه؟!.
وفي بداية هذا القرن كثر الحديث عن (إصلاح الزوايا) وجعل تعليمها يتماشى مع التطور المنهجي والنفسي. وشارك في ذلك الحديث الجزائريون والفرنسيون. كان المطالبون بإصلاحها يريدون المحافظة على اللغة العربية والتراث الإسلامي، وأما الذين لا يطالبون بإصلاحها فهم يريدون أن تبقى
(1) ألفريد بيل (مؤتمر)، مرجع سابق، ص 211.
كذلك إلى أن تموت تلقائيا أو يعرض الناس عن التوجه إليها استغناء عنها بالمدرسة الفرنسية. وأثناء انعقاد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905 رجع الحديث عن إصلاح الزوايا، فألقى المختار بن الحاج سعيد بحثا حول الموضوع وتمنى على الإدارة الفرنسية أن تنظمها تنظيما جديدا. وقد ساند الزعيم المصري محمد فريد الذي حضر المؤتمر دعوة زميله الجزائري للأصلاح وأخبر أن مصر قد أصلحت الكتاب (الزاوية) بعد تردد طويل، وأن التعليم فيه أصبح أوربيا تقريبا وأنه أعطى نتائج ممتازة. وتمنى أيضا على الإدارة الفرنسية في الجزائر أن تتبع طريقة مصر في هذا الإصلاح.
ولكن الوفد الفرنسي في المؤتمر لم يرقه هذا الكلام. فتحدث السيد فوليه Vollers، وانتقد القرآن واللغة العربية بطريقة جرحت مشاعر المسلمين الحاضرين مما استوجب الرد عليه من طرف المختار بن الحاج سعيد ومن عبد العزيز جاويش عضو الوفد المصري. وقد تدخل السيد برودو Brudo من الوفد الفرنسي وانتقد رأي محمد فريد (في غيابه) وقال أن الأهالي (الجزائريين) لا يحتاجون اللغة العربية لأنهم يتكلمونها منذ طفولتهم، ولكنهم يحتاجون اللغة الفرنسية التي يجهلونها، وهي أكثر فائدة لهم (1). ومعنى ذلك هو الدعوة إلى إبقاء تعليم الزوايا على ما هو عليه وعدم إصلاحه لأن في إصلاحه تطويرا للغة العربية وبرنامجها.
واستمرت الدعوة لإصلاح التعليم في الزوايا أو بالأحرى نقد تعليمها إلى أن ظهرت المدارس الحرة الحديثة على يد بعض الرواد الذين سنذكرهم. وهذا الشيخ أبو يعلي قد كتب في ذلك وهو في المشرق - خلال الحرب العالمية الأولى - وقارن بين المدة التي يقضيها الطفل في زاوية وفي مدرسة فرنسية فوجد أن التلميذ يخرج جاهلا من الأولى ومتعلما من الثانية، وأنه قد
(1) انظر تفاصيل ذلك في ابن أبي شنب (المجلة الإفريقية)، 1905، ص 321. والسيد رودو كان الكاتب العام للرابطة الفرنسية في عنابة (Alliance Francaise). ولعلها منظمة ماسونية. ومن الذين ساهموا في هذا الموضوع محمد السعيد بن زكري في كتابه (أوضح الدلائل)، 1903. انظر لاحقا.
ضيع وقته في الأولى ولكنه استفاد من الثانية. واقترح مراحل للتعليم بين 7 - 12 سنة وبين هذه و 18 سنة. كما اقترح مجموعة من الكتب والبرامج، ولكن معظم الكتب المقترحة كانت هي المعروفة في المدارس التقليدية. أما المواد فهي لا تخرج عن التقليدية أيضا (نحو وصرف وفقه وتوحيد وبلاغة) ولكنه أضاف إليها مادة السياسة والجغرافية والتاريخ والإنشاء، وكذلك طالب الشيخ أبو يعلى بحسن إدارة التعليم في الزاوية على غرار إدارة المدرسة الفرنسية، وإدخال التفتيش والمراقبة التربوية (1). وسنجد اقتراح أبي يعلى في مدارس جمعية العلماء بعد حوالي عقدين.
ولنتتبع الآن الزوايا التي لم تهدم ومواد تعليمها وأسلوبها، وسنعالج ذلك منطقة منطقة، حسب توفر المادة، مع ملاحظة أن الباقي من زوايا المدن لم يعد يؤدي دوره، ولذلك فاهتمامنا سيكون بزوايا الريف أو البادية، وهي غالبا قد انحصرت في منطقة زواوة ومنطقة الجنوب وبعض المراكز في النواحي الغربية والشرقية.
- زوايا زواوة:
اشتهرت هذه المنطقة بكثرة الزوايا التعليمية حتى وصلت عند البعض إلى 42 زاوية (2). وانتشرت الزوايا بالخصوص في سهل وادي بو مسعود (الصومام) وفي النواحي المجاورة. ولم يقتصر إنشاء الزوايا التعليمية على أهل الطرق الصوفية أو على المرابطين، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل أن بعض الأعيان من الفئات الاجتماعية الأخرى أنشأت الزوايا أيضا لنشر العلم والمحافظة على الدين والقرآن. وقد لاحظ البعض أن الطريقة الرحمانية قد
(1) أبو يعلى الزواوي (تاريخ الزواوة)، دمشق، 1924، ص 95 - 92.
(2)
من مراسلة مع الشيخ علي امقران السحنوني، 19/ 4/ 1980. وقد أرسل إلي ملفا فيه قوائم هذه الزوايا. وكذلك فعل الشيخ محمد الحسن عليلي الجنادي الذي زودني بدراسة وقوائم لزوايا منطقة زواوة، وقد رجعنا أيضا إلى هانوتو ولوترنو، وغير ذلك من المصادر. وأغتنم هذه الفرصة لأشكر الشيخين السحنوني والجنادي على مساعدتهما الثمينة.
نشرت بدورها هناك هذه الظاهرة، بعد الاحتلال الفرنسي، وكلما تقدم العدو نحو زواوة كلما كثر الأخوان وأقيمت الزوايا كحصون للعلم والجهاد. وهذا يذكرنا بدور الزوايا في الزمن القديم، والرباط هو أصلها، كما عرفنا.
إن بعض الجاهلين قد اعتقدوا أن الزوايا في زواوة قد أنشأها المرابطون وهم من العرب. وأخذوا يوسعون في هذا القول ويبنون عليه استنتاجات باطلة، منها التبعيد بين المواطنين والمرابطين من جهة، وبين تعليم الزوايا وتعليم المدارس الفرنسية من جهة أخرى، ولو كان النقد بريئا لقبلناه لأن كل المجتمعات فيها ظاهرة الطبقية وتحديد العلاقات على أسس اقتصادية واجتماعية، وقد عرفت فرنسا نفسها هذه الطبقية حتى غصت بها، وعرفتها الشعوب المتحضرة كالإغريق والمصريين والرومان والهنود والصينيين. والجزائريون (ومنهم أهل زواوة) ليسوا بدعا في ذلك. وعلاقات المرابطين مع المواطنين كانت نمطا من العيش تقبله الجميع وعاش في ظله الجميع يكملون بعضهم البعض ولم يفرض بحروب ولا بطغيان واستبداد. وعندما أذن داعي التغيير استجاب له الجميع أيضا دون مقاومات ولا ثورات كالتي عرفتها الشعوب (المتحضرة).
ومع ذلك فقد أثبت الباحثون الفرنسيون أنفسهم أن المرابطين لم يكونوا كلهم من (العرب)، بل كان أغلبهم من المستعربين البربر الذين أخذتهم الغيرة على الدين الإسلامي ولغة القرآن فانشأوا لذلك الزوايا ونظاما تعليميا دقيقا تعجز عنه في وقته بعض الوزارات في البلدان الأخرى. وهو نظام لم يكن فوق النقد طبعا في عصرنا الحاضر، كما سنرى. فهذا هانوتو ولوترنو توصلا إلى أن المرابطين كانوا من كل (الأعراق)، وتوصلا كذلك إلى أن منهم من كان تركي الأصل ومن كان زنجيا، ومن كان غير ذلك. وقد نفيا ما ادعاه الجنرال دوماس E.Dumas من أن أصل المرابطين في زواوة أندلسي، وكذلك ما ادعاه بعضهم من أن أصلهم من الأشراف، ونحن لا يهمنا الآن هذا كثيرا، لأن المواطنين الصالحين يعرفون الحقيقة دون الرجوع إلى الباحثين الفرنسيين ليدلوهم عن المرابطين ودورهم الإيجابي أو السلبي في
المنطقة. وسواء قلنا أنهم أصلا من الجزائر أو من الأندلس (وضمن الأندلسيين جزائريون كثيرون أيضا) أو من افريقية أو من الساقية الحمراء، فإن ذلك لا يجعلهم أجانب حلوا بين قوم آخرين في عصر الوحدة الإسلامية والاندماج الحضاري والعرقي.
فالزوايا التعليمية حينئذ يجب النظر إليها على أنها مشروع اجتماعي جماعي اشترك فيه كل السكان وافتخروا به وساهموا في تمويله والسهر عليه، ثم وزعوا بينهم الأدوار، فكان هناك دور للجماعة (بالمعنى الإداري القديم) ودور لأهل القرية، ودور للمرابط وآخر للمعلم، ودور للأسرة، وهكذا. إنه مشروع حضاري بمعنى الكلمة. وقد شهد الباحثون الأجانب على أن سكان كل قرية كانوا يتنافسون على أن تكون زاويتهم أجمل الزوايا وأنظفها وأكثرها بياضا واتساعا، وكانوا يكرمون الضيوف ويطعمون الطلبة الغرباء بدون من ولا أذى، ويتبرعون للزوايا بسخاء دون جبر أو سلطة أو وعيد (1).
تسمى الزاوية (معمرة) في منطقة زواوة. وهناك معمرات القرآن ومعمرات الفقه، كما سنذكر. ويرجع بعضها إلى تواريخ قديمة مثل زاوية اليلولي وزاوية ابن إدريس، وزاوية شلاطة وزاوية تيزي راشد. ويرجع بعضها إلى العهد الفرنسي فقط. ونحن هنا إنما نتكلم على الزوايا (المعمرات) التي اهتمت بالتعليم وليس بالتصوف وحده.
زاوية شلاطة (آقبو):
زاوية (معمرة) شلاطة اشتهرت أيضا باسم زاوية ابن علي الشريف، وزاوية آقبو. وهي من أقدم وأشهر الزوايا العلمية في المنطقة. وقد تحدثنا عنها في جزء سابق. ونشير فقط إلى أنها فقدت بالتدرج مكانتها العلمية في العهد الفرنسي، نظرا لقبول رئيسها عندئذ، محمد السعيد بن علي الشريف، الوظيف الرسمي من الفرنسيين، فقد قلده بوجو منصب باشاغا، وكان ما يزال شابا فوقع في غرام فرنسا، إذا صح التعبير. ونسي حقوق الزاوية وتاريخ أبيه
(1) هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، مرجع سابق، 18.
وجده، وكان وبالا على سمعة الزاوية والعلم، مهما قيل بأنه قد خدمها بقبوله الوظيف. وقد لعب أثناء عهده الطويل أدوارا مزدوجة، سيما أثناء ثورة 1871. وكان يمكنه أن يظل بعيدا عن السياسة، كما فعل بعض المرابطين المعاصرين له. كان ابن علي الشريف من رجال الزوايا الأوائل الذين تقلدوا الوظائف الرسمية مضحين بالدين والعلم. وقد أصبح مثلا لمن جاء بعده.
ومع ذلك بقيت الزاوية تؤدي مهمة التعليم في العهد الفرنسي، وقد يقال أن وظيفة صاحبها قد حمت معلميها وطلابها من شر الإدارة الفرنسية، أحيانا. وقد درس فيها عدد من العلماء وعلى رأسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قبل هجرته إلى المشرق. وهناك مصادر عديدة تتحدث عن هذه الزاوية ومؤسسيها، من ذلك كتاب (طراز الخياطة) لمحمد العربي بن مصباح (1)، ودائرة معارف البستاني وتقويم الشيخ كحول، وتعريف الخلف لأبي القاسم الحفناوي، وفهرس الفهارس للكتاني، ومرابطون وإخوان للويس رين، وهانوتو ولوتورنو، وغير هؤلاء. وكان لها تأثير كبير في كل وادي الساحل (2)، ولا سيما أعراش ايلولا أوسامر، وشلاطة، وايغرام، وازلاقن، ثم عرش بني عيدل، وصدوق وعمالو، وبو حمزة وتموقرة، الخ. لم يستطع صاحب تعريف الخلف أن يكتب ترجمة وافية لابن علي الشريف رغم طلبه معلومات عنه من الزاوية نفسها، فاكتفى بما يعلم عنها من الناس ومن مراسلات والده مع الباشاغا محمد السعيد بن علي الشريف. فقال أن هذا من مواليد 1820 (1238) فيكون عمره عندما ولاه بوجو هذا المنصب (1844) حوالي 24 سنة. وقد استغل هذا الداهية الفرنسي سمعة الزاوية رغم أن الشاب في حد ذاته لم يقنعه منظره، على ما يبدو، وينسب الحفناوي هذه العائلة إلى الشرف، ومع ذلك يذكر الفرنسيون أن ابن علي
(1) تحدثنا عن هذا الكتاب في الجزء الثاني من تاريخ الجزائر الثقافي. ويقول الشيخ علي امقران أن هذا الكتاب يوجد عند عائلة البشاغا ابن تونس القاطنة بسور الغزلان.
(2)
انظر لويس رين (المملكة الجزائرية في عهد آخر الدايات).
الشريف لم يستطع أن يثبت ذلك أثناء عملية تتعلق بالميراث (1)، ونحن لا يهمنا ذلك هنا، ولكنه يدل أيضا على أن المرابطين ليسوا كلهم دائما من الأشراف الذين يمكنهم إثبات النسب الحقيقي. استطونت عائلة ابن علي الشريف يلولة، وكان جده الأعلى هو الشريف سيدي موسى، ويقول الحفناوي أنه ينتهي إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش الحسني، شيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. وبعد أن تزوج الشيخ الشريف سيدي موسى أسس زاوية بشلاطة وهي التي نتحدث عنها. وإذا كان لكل زاوية مادة علمية أو تخصص تشتهر به بين الناس، فإن زاوية شلاطة قد عرفت بالقرآن حفظا وقراءة وتفسيرا.
توفي الشيخ (الباشاغا) ابن علي الشريف، سنة 1314 (1896) وخلفه في الوظيف الرسمي وفي الزاوية ابنه الشريف بن علي الشريف، ويستعمل الحفناوي عبارة الظاهر والباطن في ميراث ابن علي الشريف. وهو يعني بذلك الوظيفة الرسمية والبركة الصوفية. ولكننا لا نعتقد أن هناك (بركة) فيمن تولى للفرنسيين حركة، إنما هي الدنيا وما فيها والطموح وما يؤدي إليه، والجهل أنواع وطبقات. ويخبرنا الحفناوي أن الوريث (ابن علي الشريف) كان محترما عند الدولة الفرنسية وأنه كانت له محبة في العلماء والطلبة، وكان مهتما بعمارة زاوية آبائه، وهذا هو الذي يعنينا هنا، لأن الحفناوي كان يكتب أوائل هذا القرن (2).
أما عبد الحي الكتاني فيقول عن زاوية شلاطة أنها كانت (أم الزوايا العلمية) وكانت مدرسة لعلوم الدين والفلك والحساب والنحو في زواوة
(1) عن عائلة ابن علي الشريف انظر قوفيون (أعيان المغاربة، قسم الجزائر)، واعتاد قوفيون على إبراز الشخصيات التي خدمت فرنسا. انظر أيضا دراسة الزبير سيف الإسلام عن الصحافة فقد تعرض في كتابه (تاريخ الصحافة) إلى حياة ابن علي الشريف وإلى رحلته إلى فرنسا. وكذلك أحمد ساحي في كتابه عن علماء وأعيان زواوة.
(2)
الحفناوي (تعريف
…
)، 2/ 544.
وغيرها. وعن مشائخ هذه الزاوية أخذ الكتاني بعض الأسانيد في الحديث وغيره، ومنهم محمد السعيد الزواوي المتوفى سنة 246 1 (1830) الذي يروى الكتاني عنه غالبا، بواسطة المكي بن عزوز ومحمد بن عبد الرحمن الديسي اللذين يرويان عن محمد بن بلقاسم الهاملي (زاوية الهامل). ومن شيوخ الديسي دحمان بن السنوسي بن الفضيل الديسي، الذي أخذ عن محمد بن السعيد الزواوي السند الفقهي، وكان الشيخ دحمان رجلا معمرا وكان مدرس زاوية الديس وعالمها، وعنه أخذ الشيخ محمد بن عبد الرحمن. وهكذا يتصل الشيخ الكتاني بعلماء زاوية شلاطة بطرق مختلفة (1).
زوايا ثيزي راشد وابن إدريس واليلولي:
ومن الزوايا القديمة التي كان لها دور رئيسي ثم انتهى بفعل التسلط الأجنبي، زاوية ثيزي راشد، وتسمى أيضا زاوية الشيخ الحسين بن أعراب. ولكن هذه الزاوية الهامة هدمت أثناء ثورة 1871، وبذلك فقدت أهميتها. وكانت من الزوايا التعليمية الشهيرة خلال العهد العئماني والعهد الفرنسي الأول. وقد تعرضنا إليها في غير هذا الجزء. وكان الشيخ ابن أعراب قد أسسها في قرية ايشرعيون (مكان الأربعاء بني راثن الحالي) من قبل، وهي من الزوايا التي ذكرها الشيخ الحسين الورتلاني في رحلته.
والشيخ الحسين بن اعراب من أهل القرن الثاني عشر الهجري (18). وكان قد أخذ العلم في مسقط رأسه ثم رحل من أجله إلى مصر، فدرس على مشائخ منهم الخرشي شارح مختصر الشيخ خليل. ولذلك قيل أن الشيخ اعراب هو أول من أدخل شرح الخرشي إلى الجزائر واهتم بالدراسة الفقهية. وكان التلاميذ هناك يقرأون ويحفظون متن الشيخ خليل في السنة الأولى ثم المتن والشرح في السنة الثانية، ثم إعادة المتن والشرح في السنة الثالثة، ويسمى التلميذ في هذه السنة (معاود). وفي السنة الرابعة (مسبق) لأنه أصبح يدرس بدوره للطلبة. وهناك طقوس وممارسات خاصة بالزاوية لكي يتخرج
(1) الكتاني، فهرس الفهارس، 2/ 1002.
منها التلميذ في هذا التخصص (1). وقد أخذ بطريقة الشيخ أعراب في تدريس الفقه محمد بن بلقاسم البوجليلي الذي سيرد الحديث عنه، ولكنه خالفها بعد ذلك اجتهادا منه. وممن أخذ عن ابن اعراب، محمد بن عبد الرحمن الأزهري، مؤسس الطريقة الرحمانية. وقيل أنه هو الذي وجهه للدراسة بمصر حيث أخذ (الأزهري) الطريقة الخلوتية. ومن تلاميذ الشيخ اعراب أيضا السيعد بن أبي داود مؤسس الزاوية المعروفة باسمه في تاسلنت (آقبو)، وقد بقيت زاوية ابن أبي داود هذه محافظة على طريقة ابن اعراب. ومن تلاميذه أيضا عمر السحنوني الذي نال منه إجازة في التوحيد، وقيل أن عمر السحنوني قد استشهد في ثورة 1871. ولا شك أن لابن اعراب تلاميذ آخرين. وكانت له شهرة واسعة في عهده، سيما في منطقة زواوة. ومن حسن الحظ أن زاويته ومقامه قد أعيد بناؤهما بثيزي راشد في عهد الاستقلال. وقد زرت هذا المكان لسنوات خلت.
وكذلك عانت زاوية الشيخ محمد (امحند) الحاج التي كانت تقع في قرية (باجو) ببني وغليس، وكانت من أولى الزوايا التي تعرضت للضرر البالغ. وزاوية سيدي الحاج احساين (حسين) بسمعون بني وغليس قد تعرضت أيضا للأذى. ويرجع الشيخ صالح السمعوني إلى هذه العائلة. وهو الذي هاجر إلى المشرق هروبا من الاحتلال الفرنسي قبل منتصف القرن الماضي. وفي دمشق ولد له ولده الشيخ طاهر السمعوني المعروف بالجزائري. وقيل أن الفرنسيين سألوا عن عائلة الشيخ طاهر بعد انتشار شهرته في المشرق فوجدوا أنه من فرع (آل الشيخ) الذي انقرض الآن من الجزائر حسب بعض المصادر (2).
ونحن الآن لا ندرس الزوايا التعليمية حسب الترتيب الزمني. ولو كان
(1) من أوراق علي امقران السحنوني، 17 مارس، 1980.
(2)
أوراق الشيخ علي امقران السحنوني، 17 مارس 1980. وكذلك جواب الشيخ محمد الحسن فضلاء حول أصول عائلة الشيخ طاهر الجزائري السمعوني الذي نشرته بواسطتي (مجلة المجمع العلمي العربي) بدمشق، حوالي 1989 (؟).
الأمر كذلك لكان من أوائلها ربما زاوية أحمد بن إدريس. وزاوية عبد الرحمن اليلولي. فقد كانت شهرتهما واسعة في المنطقة ولكن لكل منهما دوره الخاص. ولنتحدث عن الأولى منهما بعض الحديث. يصف أهل زواوة طلبة زاوية ابن ادريس (1) بالصعاليك أو الأعراب لخشونتهم وخوف الناس منهم. ويعتبرهم البعض من الأشقياء والظلمة الذين تجاوزوا الحدود الشرعية في التعدي والمصادمات. ويبدو أن هناك بعض المبالغات التي تولدت عن عهد الاحتلال. وزاوية أحمد بن إدريس اليوم تقع في دائرة عزازقة ولاية تيزي وزو. وقد ذكرها الرحالة، ووصفوا طبيعتها وطبيعة تلاميذها. ومن الذين فصلوا القول في ذلك هانوتو ولوتورنو اللذان رويا عن أهل المنطقة وشيوخها.
ومما جاء عنهما في ذلك أن هذه الزاوية اشتهرت في كل الجزائر بعادات تلاميذها الغريبة. وهي من الزوايا المستقلة تماما عن كل الزوايا الأخرى. والعادة المشار إليها قديمة قدم مؤسسها الشيخ أحمد بن إدريس الذي كان من العلماء، وهي جعل التلاميذ فرقا من الصعاليك يجلبون المال وغيره من السكان لفائدة الزاوية ولو باستعمال العنف. وكان الشيخ بالطبع يستفيد هو شخصيا من ذلك. وهي تقع في يلولة، قرب قرية آيت علي أو محمد. وتنتسب إلى عائلة زواوية (قبائلية) هي عائلة آل أواقوان، وهي العائلة التي أورثها الشيخ أحمد بن إدريس نفسه اعترافا بخدماتها له. ويتساءل هانوتو ولوتورنو ما إذا كان للأصل غير الديني لهذه الوراثة أثر على ظهور المستغلين، في دعواهما. رغم أن هؤلاء هم أيضا من المرابطين، إذ لا يقبل أي تلميذ في زاوية ابن ادريس ما لم يكن ينتمي إلى أهل الدين.
وتلاميذ زاوية ابن ادريس صنفان: طلبة اللوحة وطلبة الدبوز. أما طلبة اللوحة فهم كغيرهم من تلاميذ الزوايا أو المعمرات في المنطقة، وأما غيرهم فيسمون طلبه الدبوز أو الهراوة، وهؤلاء لا يهتمون بالكتب والدراسة، وإنما
(1) انظر ما كتبه عنه أحمد ساحي حديثا.
هم فرق من المشاغبين والصعاليك الذين يعملون على جلب الموارد للزاوية. وإاذا وقع سوء تفاهم بينهم تتدخل عائلة أواقوان للإصلاح.
أما تسيير شؤون الزاوية - زاوية ابن إدريس - فكان كغيره من الزوايا. فهناك المقدم، والوكيل، والشيخ، وكان لفرقة الصعاليك مقدمهم ووكيلهم الخاص أيضا. وهم لا يمارسون هذه الإدارة والانضباط إلا خارج الزاوية. والمطبخ في الزاوية واحد للجميع. وكل التلاميذ كانوا يتناولون الطعام في الزاوية، غير أن المتزوجين منهم لا يبيتون فيها. كما أن فرقة الصعاليك لا تنام أيضا في الزاوية إلا نادرا، بل كان لها مكانها الخاص في المبيت. وكان رسم الدخول للزاوية واحدا للجميع أيضا، وهو ما يعادل 25 فرنك، في الستينات من القرن الماضي. ويقول هانوتو ولوتورنو أنه منذ الاحتلال سنة 1857 اختفى الصعاليك من زاوية أحمد بن إدريس وبقي فقط الطلبة العاديون، مثل كل الزوايا الأخرى (1). ونحن نعلم من جهة أخرى أن فرقة الصعاليك المذكورة لعبت دورا رئيسيا في مقاومة الغزو الفرنسي للمنطقة باعتبارها من الفرق المسلحة المتدربة على القتال ولها خبرة في الميدان.
وقد ألحق المؤلفان المذكوران زواية الأحد (ثيزي طلبة الأحد) بزاوية أحمد بن إدريس في الممارسات غير المعروفة للزوايا الأخرى، وهي الصعلكة. وكانت تقع في بني راثن، ولها فرقة من طلبة الدبوز، حسب التعبير المحلي، بالإضافة إلى طلبة اللوح. ويزعم المؤلفان الفرنسيان أن هذا النشاط غير العادي قد توقف بعد هدم الزاوية ومطاردة الصعاليك من آل ايراثن وحلفائهم آل أومالو لتعرض الصعاليك لعناية قبيلة آل فراوسن (2).
وكانت زاوية ابن إدريس متخصصة في القرآن الكريم، كما كانت زاوية عبد الرحمن اليلولي القريبة منها. وسنذكر نوعية الدراسة في هذه الزوايا القرآنية. واليلولي هو عبد الرحمن بن يسعد المصباحي. روى عن شيخه
(1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل)، مرجع سابق، ب 2، ط 2، ص 126 - 131.
(2)
نفس المصدر، 132.
محمد السعدي البهلولي المدفون بزاويته خارج مدينة دلس. ولم تكن للشيخ اليلولي ذرية. وتوفي سنة 1105 (1691). وكان مشهورا في وقته بالقراءات السبع والعشر. وقد رسخ هذا النوع من الدراسات حتى كان من لم يقرأ القرآن في زاويته وبطريقته لا يعد عالما بالقراءات والرسم القرآني. وبناء عليه بعض الباحثين والعارفين أمثال محمد السعيد بن زكري الذي درس في زاوية طيلولي، أن هذه الزاوية قد بقيت إلى 1263 (1847) متخصصة في علم القراءات، ثم أدخل المسؤولون عنها علوما أخرى. أما الفقه الذي تخصصت فيه بعض الزوايا الأخرى، فكان على الطالب أن يحصل عليه بإجازة أو نحوها قبل دخول زاوية اليلولي (1).
وما دام الشيخ اليلولي قد توفي بدون عقب ولا وارث فإن زاويته قد بقيت ملكا للتلاميذ يسيرونها جيلا بعد جيل في نظام إداري اجتماعي دقيق، فهي حسب تعبير البعض (جمهورية الطلبة)، فهم الذين يختارون رؤساء الزاوية وأساتذتها، وهم الذين يديرون أملاكها، ويحكمونها بدون رقابة ولا وصاية عليهم من أحد. وكان هذا النوع من التسيير قد ساهم في ازدهار الزاوية وجعل الناس يرغبون في التبرع لها ودعمها، فقد كانت مثلا أعلى في الإدارة والانضباط والغيرة على أداء الواجب. وقد أثارت إعجاب من لم يتعودوا على هذه الظاهرة. وحين زارها هانوتو ولوتورنو سنة 1862، أي بعد احتلال الناحية بخمس سنوات، وجدا فيها بين 70 و 80 تلميذا يتلقون العلم. وكان يسودها النظام التام، حسب تعبيرهما. ولم يكن من السهل على التلاميذ الدخول إليها إذ كانت (الجماعة) المسؤولة عنها تتصعب في قبول التلاميذ وتضع شروطا صارمة (2). وباعتبارها معمرة (زاوية) قرآن، فإن
(1) كان الشيخ محمد أبو القاسم البوجليلي قد أخذ الفقه على الشيخ محمد امزيان الحداد في صدوق قبل دخوله زاوية اليلولي. انظر عنه زاوية اليلولي أوراق علي أمقران السحنوني، وكذلك (أوضح الدلائل) لمحمد السعيد بن زكري، وكتابات الشيخ أبي يعلي الزواوي، الخ. وعن البوجليلي انظر فصل الطرق الصوفية - الرحمانية.
(2)
هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 126.
برنامجها هو برنامج كل الزوايا المتخصصة في ذلك. ولعلها كانت هي النموذج المحتذى، وقد كسفت زاوية اليلولي بعد ثورة 1871 وعطلت كما عطلت زوايا أخرى عديدة. ثم عادت إليها الحياة بعد الاستقلال فأصبحت معهدا دينيا معتبرا، وقد زرتها كما زرت زاوية أحمد بن إدريس.
وبقرية إيمولا، بلدية صدوق، كانت زاوية سيدي الشيخ الموهوب المسماة زاوية شريف ايمولا، وهي أيضا من الزوايا التعليمية في المنطقة. وكان الشيخ المولود بن الموهوب متخرجا من هذه الزاوية، ولكنه من الفرع الذي سكن جبال البابور، ثم انتقل إلى قسنطينة. وكانت زاوية سيدي الموهوب هذه قد عارضت كما قيل، دعوة الجهاد التي دعا بها الشيخ محمد امزيان الحداد سنة 1871 (1).
ومن الزوايا الشهيرة في المنطقة، زاوية (معمرة) سيدي منصور. وهي تقع في بلدية بني منصور عندئذ، دائرة عزازقة. ويشرف على الزاوية بنو جناد. وسيدي منصور هذا رجل يظن أنه من المرابطين جاء إلى زواوة ونزل قرية (آيت حيالي) الواقعة قرب شلاطة، ثم انتقل إلى ايعكورن. وهناك بنوا له مقاما ما يزال موجودا. ولم يستقر به الحال هناك أيضا فانتقل لأسباب مجهولة إلى بني جناد ونزل عند آل الهامل، وهم قبيلة كبيرة. فاشتهر أمره وبنى زاوية تيميزار، وتوفي فيها دون عقب. ويقوم بنو منيع القاطنون في وطن حمزة (البويرة) بشؤون هذه الزاوية، وبنو جناد، ومنهم آل الهامل الذين ساندوا سيدي منصور هم الذين ظلوا يشرفون على زاويته. وقد وقع الخلاف حول من يقوم بأمر الزاوية، فتدخل الشيخ محمد وعلي السحنوني فعين تلميذه محمد السعيد آيت يوسف الجنادي لهذه المهقة ودعمه بتزويجه من أسرة (أوقاسي) أمراء عمراوة، وهم من بني حماد. ولا ندري ما كان موقف بني منيع من ذلك. وقد ترك الجنادي المذكور ولدا اسمه أحمد، درس في
(1) أوراق علي امقران السحنوني. وكذلك لويس رين، (المملكة
…
)، مرجع سابق، ويقول عنها لويس رين أنها (زاوية إقطاعي) لعائلة سيدي الشريف الموهوب.
زاوية اليلولي ثم بزاوية البوجليلي.
ومن بني جناد ظهر الشيخ الشريف محمد الطاهر الجنادي، الذي انتقل من بني منصور إلى زاوية اليلولي لدراسة القرآن والقراءات. وقد اعتبرت زاوية سيدي منصور من صنف زاوية اليلولي في الاهتمام بالقرآن الكريم. ومن زاوية سيدي اليلولي انتقل الجنادي إلى تونس حيث أصبح من المعلمين الخاصين لأحد أولاد الأمراء، ثم توظف في الحكومة التونسية. وقال عنه الشيخ محمد السعيد بن زكري أنه بذل جهذه في اتقان العلوم العربية والرواية وصناعة التدريس بأساليب جيدة وحديثة. وقد أثر في تلاميذه بزاوية اليلولي أيضا حتى كان منهم من يرث طريقته جيلا بعد جيل. وكانت هجرة الجنادي إلى تونس حوالي 1282 (1866) ولا ندري متى توفي بها (1). وقد لعبت الزاوية والقائمون عليها وأصهارهم آل أوقاسي، دورا هاما في ثورة 1871.
وقد أصبحت بلدية بني منصور نفسها عبارة عن خلية من الزوايا والقباب إلى بداية هذا القرن. ويذهب أحد الفرنسيين الذين عملوا طويلا في هذه البلدية إلى أن المرابطين والمرابطات لهم قداسة خاصة في الناحية، تبنى لهم زوايا وقباب أثناء حياتهم أو بعيد وفاتهم، وتصبح مزارات ومدارس مخصصة للدين والتعليم. وذكر من النسوة الشهيرات لاله خديجة التي يحترمها النساء والرجال على السواء. وفي كل قرية من قرى بني منصور دار للجماعة، يشترك فيها الجميع وتستعمل مركزا للدين ومدرسة للتعليم. ويقوم (الطلبة) والأيمة بتعليم القرآن وأداء الصلوات مقابل أجور متواضعة من السكان. وفي كل دوار زاوية للطلبة وتعليم للأطفال. وفي بني حمدان (بنو ماني) يتعلم التلاميذ القرآن والفقه والتوحيد. وفي بوايلفان زاوية يتردد عليها التلاميذ. وفي قرية الشرفة (من نسل سيدي عمر الشريف من نواحي يسر) حوالي 50 طالبا يتعلمون القرآن. وزاوية أولاد سيدي الهادي التي كان بها حوالي 15 تلميذا. ولكن الكثير من التلاميذ أخذوا يختفون، وتحولت الدراسات في
(1) أوراق علي امقران السحنوني، نقلا عن (أوضح الدلايل)، ص 55.
الزوايا إلى حفظ القرآن فقط. كما تحولت القباب إلى مزارات للزردات والاحتقال.
ففي هذه الناحية (بنو منصور) قبة سيدي حمو عبد الرحمن، وهو من أولاد سيدي إبراهيم بو بكر. وقبة سيدي عمر الشريف بالشرفة، وكان يعلم القرآن في سلولا - أومالو، وله تأثير على أهل بجاية. ولمشاركة الشرفة في ثورة بو بغلة 1851 وثورة المقراني 1871 أصبحت الزاوية مهملة ولم يبق النشاط إلا للقبة. ثم قبة سيدي علي بن التومي بقرية أولاد إبراهيم في مشدالة. وقبة أخرى للاله خديجة، وهي واقعة في تراب بلبازة، وقيل بأنها كانت تذهب شتاء للتعبد في قمة جرجرة، ثم تأتي إلى مشدالة لتعيش اجتماعيا. وهناك أساطير كثيرة عن هذه السيدة.
وإضافة إلى ذلك هناك قبة سيدي عيسى بن رحمون التي يشرف عليها أهل السبخة الرحمانيون. وهي قبة قديمة يأتيها الزوار من البرج وسطيف والسور، الخ. وكان زوارها يقدرون بالآلاف. ولا يعني هذا العناية بالتعليم والقرآن ولكن بالولاية والدروشة. وقد قدر الفرنسيون أن عدد زوارها سنة 1892 قد بلغ 4.950، ومصاريفهم 50 ك! أفرنك. وفي سنة 1893 بلغ الزوار 4.800 والمصروف 800 ف. وفي أهل القصر قبة سيدي أحمد بن سليمان بو خروبة. وكان أهل القصر قد حاربوا مع الأمير عبد القادر. وعاش سيدي علي بوناب في ذراع الميزان وأسس زاوية في بني كوفي. وقد بنى أهل اقوني قبة لسيدي محمد بن الحاج وهم يذهبون إلى أنهم من نسل هذا المرابط.
ومعظم أهل بني منصور من أتباع الطريقة الرحمانية. وقد حاول الفرنسيون القضاء على نفوذ هذه الطريقة، كما عرفنا. وهم بالطبع لا يعترفون إلا بمن ربط مصيره بمصيرهم، ولم يعد له نفوذ في المنطقة، حتى أن المؤلف الذي أخذنا منه هذه الأفكار يذهب إلى أنه لم يعد هناك شخصية دينية أو سياسية ملحوظة في بني منصور. وذكر لنا اثنين قال أنهما من
الأشراف، أحدهما سي محمد صالح بن شيبان الذي قال إنه حارب مع قومه في صفوف الفرنسيين سنة 1871، والثاني سي علي بن الهادي حفيد مؤسس زاوية بني كاني KANI. وكان سي علي هذا قد عمل في فرقة الفرسان تحت الضابط بوبريطر من 1849 - 1860، ثم عمل شاوشا في المكتب العربي ببني منصور، وحارب في صفوف الفرنسيين سنوات 1850 - 1852، ثم 1857، ضد بو بغلة وفاطمة نسومر. وعانى سي علي بن الهادي سنة 1871 من حصار الرحمانيين لبني منصور، ولهذه الخدمات حصل على ميدالية ذهبية سنة 1886، ثم سمى (عونا أهليا) في البلدية، ونال على هذه الوظيفة صليب الفروسية. ولعل موقف هذا المرابط المتعاون يكذب المقولة التي تقول أن كل المرابطين أعداء لفرنسا (1).
زاوية ابن أبي داود:
مؤسسها الأول هو سليمان بن داود بن موسى بن عبد الله. أسس سليمان الزاوية في جبل بني سلام (آقبو) وظل هناك إلى أن توفي. ويبدو أن ذلك كان في نهاية القرن الثامن الهجري. ونزح بعض أولاده الذين عرفوا باسم أولاد أبي داود، إلى عوينة الشيخ حيث أسسوا أيضا زاوية، وبنوا قربها قرية باسمها (أولاد أبي داود)، ثم نقلوا الزاوية إلى (أقلميم). وسلسلة نسبهم الشريف محفوظة عندهم (2). واشتهرت هذه الزاوية في عهد الشيخ السعيد بن عبد الرحمن بن أبي داود في القرن 12 هـ. وهو الذي أخذ الفقه عن الشيخ الحسين بن أعراب المتقدم. وقد عاش السعيد يتيما، فتولاه تلامذة والده، كما تولاه محمد بن عبد الرحمن الأزهري فعلمه الطريقة الرحمانية. وقد تمهر الشيخ السعيد بالإضافة إلى الفقه، في علم النحو حتى ألف فيه، ربما لتلاميذه، وكان يقرض الشعر، وله مدائح نبوية باللغة البربرية
(1) إيمانويل بوجيجا (مونوغراف عن بلدية بني منصور المختلطة)، في SGAAN (1921)، ص 44 - 45، 60 - 64، 72 وهنا وهناك.
(2)
أوراق الشيخ علي امقران السحنونى.
أيضا. ولا يذكر المترجمون تاريخ ميلاده، ولذلك يمكن القول أنه كان ما يزال حيا عند الاحتلال. ويذهب صاحب (تعريف الخلف) إلى أن الشيخ السعيد قد توفي سنة 1256 (1840). وأنه بقي نحو 50 سنة في التدريس، كما تخرج على يديه طلبة كثيرون (حوالي 600).
وكان حفيده محمد الطيب (المولود سنة 1248/ 1832) من الذين ازدهرت في عهدهم الزاوية رغم ما عرفته المنطقة من تطورات أثناء الغزو الفرنسي. وقيل أن عمه أحمد بن أبي داود بدأ التدريس وعمره عشرون سنة، وظل فيه 25 سنة، وتخرج عليه حوالي 353 طالبا. ومن تلاميذ هذه الزاوية، الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي، وأبو القاسم الحفناوي، صاحب (تعريف الخلف). وقد نوه الحفناوي بزاوية ابن أبي داود واعتبرها (أم الزوايا العلمية) مدى ثلاثة قرون. منها انتشر الفقه والنحو والفلك والحساب في بلاد زواوة - إلى قسنطينة شرقا والأغواط جنوبا والمدية غربا (1).
كان للزاوية فرعان: فرع سيدي أبي التقى ببرج بوعريريج. وهو الذي درس فيه الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي. والفرع الثاني في الدريعات بالمسيلة. أما الزاوية الأصلية فكانت في تاسلنت (آقبو). وكانت قد اشتهرت في دراسة الفقه، كما اشتهرت زاوية شلاطة بالقرآن. وقد أصبح شائعا بين طلبة العلم في القرن الماضي أن من لم يدرس القرآن في زاوية شلاطة والفقه في زاوية تاسلنت فليس بعالم. وقيل إن زواية ابن أبي داود ظلت محافظة على طريقة ابن اعراب في تدريس الفقه، سيما مختصر الشيخ خليل بشرح الخرشي، إلى 1957 حين خرب الفرنسيون هذه الزاوية (2).
ولكن الزاوية وفرعيها كانت تدرس أيضا فنونا أخرى بالإضافة إلى الفقه. فهي تدرس أصول الدين والتفسير والحديث والتوحيد والمنطق، والنحو والبيان، والفلك والحساب، وتجويد القرآن ورسمه. وتنتهي الدراسة
(1) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف)، 2/ 452.
(2)
أوراق الشيخ علي امقران السحنوني.
فيها بمنح الإجازة. أما الوظائف الأخرى للزاوية فمعروفة إذ لا تكاد تختلف عن الزوايا الأخرى في ذلك، ومنها فض الخصومات، وإصدار الأحكام في النوازل والفتاوى، وتوضيح تعاليم الدين للعامة. ولا يعرف أن أهل هذه الزاوية قد تولوا الوظائف الرسمية للإدارة الفرنسية (1).
تبدأ الدراسة في الزاوية في فصل الخريف وتنتهي في آخر الربيع. وكان طلبتها ينقسمون إما إلى متخصصين في علوم القرآن وإما في العلوم الأخرى كالفقه بشرح الخرشي والعلوم العربية. وهم يهتمون بدراسة الفقه كثيرا لدرجة التعبد، إذ يحتفلون بيوم تدريسه ويجرى ذلك صباحا في الجامع العتيق، أما في المساء فيدرسون العلوم في جامع آخر. فالزاوية إذن مصنفة في زوايا الفقه، والدراسة فيها كانت بالطريقة القديمة فلا سبورة ولا دفاتر للحضور ولا محاورات. وإنما هي الحلقات والتدريس الشفوي، وربما كانت تسجل فيها إملاءات (2).
من حيث الوظائف، لا يوجد في الزاوية منصب وكيل، ولكن لها مقدم يعينه رئيس الزاوية، وهو لا ينتخب كشأن بعض الزوايا الأخرى. وكل الطلبة كانوا يتحملون مسؤوليات في الزاوية. ولها نائب للرئيس متخصصا في شؤون الطلبة. والمسؤولية ليس لها مدة معينة. والدراسة فيها محروسة، وهناك طرق لإيقاظ التلاميذ، وللصلاة، والطعام، وقراءة الحزب وغيرها من السلوكات والطقوس. كما أن هناك اجتماعات دورية، وعند الضرورة ينادي المنادي (القداش) في ساحة الزاوية فيهب التلاميذ عن بكرة أبيهم.
وهناك أيضا اجتماعات سنوية للزاوية في مناسبات معينة. وتقام خلالها حفلات للثقافة والفروسية تتماشى مع الدين والتقاليد. وهي حفلات تدوم أسبوعا، وهدفها تنشيط الحياة لعامة الناس وكذلك الحياة الخاصة للتلاميذ.
(1) يقال أن بعض أفراد الزاوية تولى أيضا نقابة الأشراف في بلاد زواوة في العهد العثماني، وكان مقره برج منايل.
(2)
مراسله الشيخ علي امقران السحنوني، 18/ 5/ 1981.
وأثناء ذلك كان يقع نوع من سوق عكاظ الأدبي، فيتناظر المدرسون، ويتبارى الشعراء، ويتناقش الأدباء والفقهاء في المسائل العلمية والنظرية، ويتبادلون المعلومات عن الكتب ونحوها. وهناك أيضا زيارات إلى شيخ الزاوية في الأعياد يقوم بها الطلبة والأتباع. وخلال الثلاثينات من هذا القرن ابتدأت زاوية ابن أبي داود تقليدا جديدا لتنشيط العلم، وهو إرسال بعثات طلابية إلى البلدان العربية لمتابعة دراستهم التي لا يجدونها في بلادهم. وهو تقليد مارسه الجزائريون قديما، ونشط فيه بنو ميزاب ثم حركة ابن باديس.
وتتغذى الزاوية من الأملاك التي لها (أوقاف) في كل من آقبو وتاسلنت، وبالإضافة إلى ذلك يخرج المسؤولون عنها كل سنة في مواسم معينة - أوآخر الصيف وأوائل الخريف - إلى المناطق المخصصة لهم ليجمعوا (العشر) من أتباعهم وأنصارهم، فيذهب أحد أبناء الزاوية (أولاد ابن أبي داود) إلى بعض طلابه في بلدة ما فينزل عنده، وهناك يأتيه ما جمع له من العشور عن طريق طلبة الزاوية القدماء والأنصار، وبذلك يجمعون الحبوب والقطاني والسمن وغيرها. ويعود بما جمع إلى زاوية تاسلنت، وهو نوع من الضرائب العرفية. وقد تدوم الجولة شهرا أو أكثر، وأثناء هذه الزيارة يجري الاتصال أيضا بالأعيان وعامة الناس (1). وكان الفرنسيون يتتبعون حركات الشيوخ أو المرابطين، كما يسمونهم، ويمنعون البعض من جمع هذه الضرائب ويرخصون إلى آخرين بها، كما عرفنا في فصل الطرق الصوفية.
الزاوية السحنونية:
وتعتبر زاوية حديثة نسبيا، إذ ظهرت في العهد الفرنسي فقط. وأصل الزاوية موجود في القرية السحنونية (ايسحنونن) بالقرب من أربعاء بني ايراثن، ولاية تيزي وزو. ومؤسسها هو الشيخ عمرو الشريف. أما الفرع فيوجد في
(1) نفس المصدر. ونلاحظ أن هانوتو ولوتورنو لم يذكرا زاوية ابن أبي داود ضمن معمرات الفقه. عن الجانب المادي انظر أيضا فصلي الطرق الصوفية.
تاغراست، ببني وغليس، دائرة سيدي عيش، ولاية بجاية حاليا. وقد أسس هذا الفرع الشيخ محمد السعيد السحنوني. وكانت - أصلا وفرعا - رحمانية الطريقة وعلى صلة بالشيخ محمد امزيان الحداد بصدوق والزوايا الرحمانية الأخرى.
من أبرز رجال هذه الزاوية الشيخ محمد السعيد السحنوني الذي ولد سنة 1839. وكان والده السعيد امقران، قد التحق بجيش الأمير عبد القادر واستشهد في المقاومة، حسب مصادر الأسرة، وقد ترك ابنه محمد السعيد جنينا في بطن أمه. وأثناء طفولته وصباه تولى تربيته ابن عمه الشيخ محمد وعلي السحنوني الذي سنذكره. وقد علمه القراءات والبلاغة والنحو والفلك والفقه والحديث الخ. ودرس محمد السعيد كذلك على شيوخ آخرين في الناحية، مثل الشيخ الحداد والبوجليلي. وبعد أن شب في العلم انتصب هو للتدريس في زاوية الحاج احساين بسمعون، ثم بزاوية عمرو والحاج جهة عزازقة. كما درس بزاوية أحمد زروق في بني وغليس، وزاوية سيدي موسى قرب سيدي عيش. وبعد تجربة في التدريس أسس زاوية خاصة به في تاغراست، كما ذكرنا، أوآخر القرن الماضي، لتكون فرعا لزاوية سيدي عمرو الشريف بالأربعاء (بني ايراثن). وأبرز المواد التي كانت تدرس في الزاوية هي التفسير والحديث والقراءات ثم العلوم العربية كالنحو والصرف وكذلك الفلك.
ومن ثمة يظهر أن هذه الزاوية قد ظهرت أيام ضعف التعليم العربي الإسلامي في الجزائر وأيام توغل الإدارة الفرنسية في فواحي البلاد، سيما منذ ثورة 1871. فاهتمام الزاوية بالعلم والتعليم في وقت سيادة التصوف الغامض واللجوء إلى الروحانيات يعد بركة على البلاد. ويبدو أن جهودها قد تضافرت مع جهود زوايا أخرى في الجنوب ومع جهود بعض المدرسين الرسميين أمثال المجاوي والونيسي. وقد ضاعف الشيخ محمد السعيد جهوده في التعليم فكان يتردد أيضا على الزاوية الأصلية. واستعان ببعض طلابه في التدريس أيضا، شأن البوجليلي وغيره. وتوفي الشيخ محمد
السعيد سنة 1814 تاركا أبناء غير راشدين فتولى شؤون الزاوية تلاميذه (في الأصل والفرع) ومن أبرزهم الشيخ أبو القاسم بن طعيوج (1).
وقبل أن نتحدث عن بعض شيوخ هذه الزاوية نذكر أنها تطورت في القرن العشرين حتى أصبحت تستقبل بعض التلاميذ من البلدان المجاورة. كما أنها وجهت بعثات إلى تونس للتعلم، وأسست لهم هناك دارا استقبال، وكان ذلك منذ أوآخر الثلاثينات من هذا القرن. وهذه الظاهرة - إرسال البعثات - سبقت بها مناطق ومنظمات أخرى كما أشرنا. كما أن بعض زوايا الطرق الصوفية كانت ترسل أبناءها أو أقاربها إلى معاهد العلم، ومنها الزاوية التجانية في قمار وتماسين، والزاوية القادرية في عميش (الوادي). وكذلك فعلت بعض الزوايا في الجهة الغربية بالنسبة للمغرب الأقصى. فإرسال البعثات على يد الزاوية السحنونية، وهي رحمانية، يدخل في هذا الإطار، وهو تشجيع الحصول على العلوم الإسلامية خاصة، باللغة العربية من البلدان المجاورة. ولم تكتف الزاوية بإرسال التلاميذ بل أنها جلبت إليها بعض الشيوخ من تونس للتدريس فيها مثل الشيخ إبراهيم صمادح.
ومن الذين سلكوا هذه السياسة في التعليم محمد الشريف السحنوني بن الشيخ محمد السعيد. فقد تركه والده ابن عشر سنوات (ولد سنة 1905) ولذلك تولاه، كما تولى شؤون الزاوية، الشيخ طعيوج، كما ذكرنا. وبعد أن حفظ محمد الشريف القرآن وتتلمذ على ابن باديس، وحصل على نصيب في العلوم قصد تونس بنصيحة ابن باديس ونال من جامع الزيتونة شهادة التحصيل سنة 1931. وكان ذلك هو تاريخ تأسيس جمعية العلماء وصحوة التعليم العربي الحر في الجزائر. ولذلك كثر الطلبة بالزاوية حتى بلغ نحو 300.
(1) هذه المعلومات وافانا بها حفيد الشيخ محمد السعيد، وهو علي امقران السحنوني، في عدة مناسبات، منها واحدة، ابريل 1979، عندما كنا نعد الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب، ومنها 23 فبراير 1981 و 18 مايو 1981 الخ. فله الشكر. وقد توفي الشيخ علي امقران سنة 1995 أثناء تحرير هذا الكتاب، رحمه الله وأجزل أجره.
وبالإضافة إلى نشر العلوم الإسلامية، كانت الزاوية لا تتوقف عن تحفيظ القرآن الكريم حتى في الصيف.
ويبدو أن الزاوية قد نشطت في عهد الشيخ محمد السعيد وعهد محمد الشريف الأول. فقد كان لها تأثير في نواحي سطيف والبرج وثنية بني عائشة وسكيكدة. وكان الشيخ محمد السعيد من التلاميذ الأوفياء للشيخ الحداد، وللشيخ المجاوي الذي كان يجالسه، وللشيخ حمدان الونيسي الذي ربما حضر بعض دروسه. وكان محمد السعيد يحذق النساخة. ومن الذين أثروا فيه ابن عمه محمد وعلي الذي رباه وعلمه إلى أن نفته (أي محمد وعلي) السلطات الفرنسية إلى (كايان) بعد ثورة 1871، فكان الشيخ محمد السعيد هو الوصي على عائلته بعد نفيه، وظل على صلة دائمة به حتى بعد أن لجأ (محمد وعلي) إلى المدينة المنورة. وكان لمحمد السعيد تلاميذ ذكرنا منهم ابن طعيوج، ونضيف إليهم محمد امزيان بودريوه الذي أسس زاوية بقرية الشرفة بأكفادو.
أما الشيخ محمد الشريف الذي يبدو أنه تأثر بحركة ابن باديس منذ البداية فمن تلاميذه الشيخان البارزان في جمعية العلماء أحمد حسين وعبد الرحمن شيبان. ولا ندري هل انضم الشيخ محمد الشريف إلى جمعية العلماء أو ظل مستقلا عنها، وإذا لم يفعل، فلماذا؟ أما بالنسبة لحركة التعليم فنعتقد أنها كانت تصب أيضا في اتجاه المحافظة على التراث الوطني. ولعل طابع الطرقية لم ينتزع تماما من نشاط الشيخ محمد الشريف، رغم أن العصر والعلم الذي أخذه لم يجعلاه يعتقد في الطريقة الرحمانية بنفس عقيدة مؤسسها الشيخ الأزهري مثلا.
أشرنا إلى اسم محمد وعلي السحنوني، ولا نعرف الآن تاريخ ميلاده ولا تاريخ وفاته، ولكن نعرف أن له دورا في ثورة 1871 وأنه قد توفي في المدينة المنورة بعد رحلة طويلة من النفي والمتابعة. درس في زاوية العائلة الأصلية، ثم في زاوية ابن اعراب بتيزي راشد، ثم درس على الشيخ محمد
امزيان الحداد بصدوق وأعطاه أيضا ورد الرحمانية. وأصبح الشيخ محمد وعلي من مقدمي الطريقة في أربعاء بني ايراثن. وقد تولى أيضا التدريس في الزاوية السحنونية إلى ثورة 1871. فكان الشيخ من المحاربين الشجعان، وتولى قيادة سهل عمراوة (سباو) وشارك في معركة ايشريضن الشهيرة، وتزعم المسبلين. وكان محمد وعلي مع أحمد بومزراق المقراني حين قبضت عليهم السلطات الفرنسية في الرويسات، ناحية ورقلة في العشرين من يناير 1872، حين كانوا في طريقهم إلى تونس عبر سوف، فأخطأوا الطريق. وبعد المحاكمة في قسنطينة نفي محمد وعلي إلى كايان، كما ذكرنا. ثم سمح له بالإقامة في غير الجزائر، فاختار المدينة المنورة. وقد دخل الحجاز عن طريق اليمن حيث ظل فترة مدرسا هناك، ومن اليمن دخل مكة عند موسم الحج. وفي المدينة أقام ودرس وتزوج امرأة من آل القاضي أرسلت إليه من الجزائر. وظل يراسل بني قومه، ومنهم الشيخ محمد السعيد السحنوني، إلى وفاته التي ربما تكون وقعت في نهاية القرن الماضي، ولكنه على كل حال كان حيا سنة 1891 حسب بعض رسائله (1).
أما الشيخ الآخر الذي جاء ذكره بصدد الحديث عن الزاوية السحنونية، فهو أبو القاسم بن طعيوج. قلنا أنه من تلاميذ محمد السعيد وأنه تولى بعده (1914) شؤون الزاوية وتربية وتعليم أبنائه الذين منهم محمد الشريف. وكان الشيخ طعيوج من نواحي جيجل، وسكن السيلات قرب وادي الزناتي وعين عبيد، وما يزال أحفاده هناك. وفي السيلات توفي سنة 1932، ولكنهم نقلوه إلى زاوية تاغراست، حيث دفن في مسجده القديم. ومما قام به الشيخ طعيوج أيضا أنه تولى زاوية معطى الله الحركاتي بالعين البيضاء. وأثناء وجوده بها تعرف على الشيخين المكي بن عزوز وحمدان الونيسي وحصل منهما على الإجازة (2).
(1) أوراق الشيخ علي امقران، 18 مايو، 1981.
(2)
يقول الشيخ علي امقران أن الإجازتين موجودتان في أرشيف الزاوية. وعن الشيخ طعيوج انظر لاحقا.
ولبعض شيوخ الزاوية السحنونية تآليف في التصوف وغيره، سنعرض إليها في الجزء المخصص لذلك. وتعتبر زاوية سيدي أحمد زروق من أقدم الزوايا في منطقة زواوة. وهي تقع في بني وغليس أيضا. وتنسب إلى الزاهد أحمد زروق البرنوسي دفين مسراته (ليبيا)(1). وكان الشيخ زروق قد أقام في بجاية وتزوج منها وأنجب ولدا اسمه محمد السعيد وهو الذي يقال إنه أسس هذه الزاوية، وقد ذكره أبو سالم العياشي والورتلاني. وكانت هذه الزاوية تنشر العلم أيضا. ولكنها تعرضت إلى ما تعرضت إليه مدينة بجاية بعد الاحتلال من التخريب والتعطيل. ويبدو أن الزاوية قد انتعشت في الفترة الحديثة. ومن أبناء العائلة الزروقية الشيخ الهادي الزروقي الذي استعاد شهرة الأسرة بعد أن درس في الأزهر الشريف، وتغرب طويلا ثم رجع وأسس المدرسة الخلدونية ببجاية، وكان من رجال الإصلاح وجمعية العلماء (2). ولنتذكر أن الشيخ أحمد زروق نفسه كان غير متصوف بالمعنى الذي فهمه المتأخرون، وإنما كان زاهدا ورعا وعالما عاملا. ومن تلاميذه محمد بن علي الخروبي وعبد الرحمن الأخضري، وكلاهما سار على نهجه.
زوايا القرآن وزوايا الفقه في زواوة:
حين درس هانوتو ولوتورنو الزوايا (المعمرات) في منطقة القبائل وجدا على الأقل تسع عشرة زاوية متخصصة في الدراسات القرآنية. وهذه الدراسات تشمل تفسير القرآن، والقراءات السبع، والرسم، والتوحيد، وكذلك علوم اللغة العربية من نحو وصرف، وبالأخص الآجرومية لمحمد بن داود الصنهاجي، والألفية لابن مالك، والعروض. بالإضافة إلى علوم الآلة مثل الحساب والفلك، والفرائض (قسمة التركات). والكتب المستعملة في هذا المجال هي مؤلفات علي القلصادي ومحمد بن يوسف السنوسي. أما
(1) انظر عنه الجزء الأول من هذا الكتاب، وكتاب (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون، من تحقيقنا.
(2)
عن الهادي الزروقي انظر لاحقا.
المدرسون فهم عادة أستاذ رئيسي ومعه مساعدوه من طلبته القدماء الذين تقدموا في دراستهم على يديه. وساعات التدريس والراحة الأسبوعية والعطلات السنوية هي نفسها المطبقة على تلاميذ التعليم الابتدائي في المدارس القرآنية. وخلال الشتاء تضاف حصة رابعة على الضوء يسمونها (النوضة) من النهوض، أو السهرة.
وظاهرة الحفظ هي التي كانت تميز التعليم في هذه الزوايا. فالمطلوب من التلاميذ حفظ النصوص والمتون التي يكلفون بها وحتى تلك التي لا يكلفون بها، لأن التلميذ الجيد هو الذي يحفظ أكثر من غيره ويتفوق على زملائه في ذلك. وليس مطلوبا من التلميذ أن يفهم أو يعلل المعلومات التي أخذها. وقد لاحظ النقاد لهذا النوع من التعليم أن دور المعلم كان يتمثل في الإشراف على حفظ التلاميذ حفظا دقيقا دون الغلط في حرف أو جزئية. ومن ثمة فإن حشو الأدمغة بالمعلومات غير المفهومة هو ما كان يتميز به هذا النوع من التعليم في نظر النقاد، كما أشرنا.
ويدخل الزوايا التلاميذ الذين انتهوا من مدارسهم القرآنية، مدارس القرية. وهذه الزوايا على نوعين في المنطقة: زوايا أو معمرات القرآن وزوايا أو معمرات الفقه. وإليك الآن أشهر زوايا القرآن في حدود سنة 1868، أي بعد عشر سنوات من احتلال منطقة زواوة:
1 -
زاوية أحمد بن إدريس - وقد ذكرناها. وهي في يلولا أو مالو.
2 -
زاوية عبد الرحمن اليلولي، وهي كالسابقة، وقد ذكرنا وجه الخلاف بينهما.
3 -
زاوية ابن علي الشريف بشلاطة، بيلولا أو سامر.
4 -
زاوية سيدي محمد بن مالك، تقع بتفريت (1).
(1) لعله هو محمد بن علي بن مالك التقابي شيخ أبي القاسم البوجليلي ووالد الشيخ أبي يعلى الزواوي. فقد ذكر أبو يعلى أنهما أخذا عنه الفقه والقراءات والنحو =
5 -
زاوية سيدي عمر بن الحاج، بآيت ايجر.
6 -
زاوية سيدي موسى تنبدار، ببني وغليس.
7 -
زاوية سيدي علي ترلات، بتيزي تفريس.
8 -
زاوية آيت منصور، بآيت اتسوراغ.
9 -
زاوية سيدي علي أوطالب، بكوكو - آيت يحيى.
10 -
زاوية شرفة البهلولي، بآيت غوبري.
11 -
زاوية ايسلمونن، بجمعة الصهريج، في بني فراوسن.
12 -
زاوية عروس، في بني ايراثن.
13 -
زاوية عدني، في بني ايراثن أيضا.
14 -
زاوية سيدي منصور، بتيميزار، وقد تعرضنا لها.
15 -
زاوية ايعشوبة، في بني جناد.
16 -
زاوية سيدي علي أو موسى، في بني بو خالفة.
17 -
زاوية الشرفة، في بني بوخالفة أيضا.
18 -
زاوية سيدي محمد أمزيان، أيضا في بني بوخالفة.
19 -
زاوية الشرفة، في بني واقنون (1).
أما زوايا الفقه فكانت تدرس بالخصوص مختصر الشيخ خليل بن اسحاق وشروحه الرئيسية كالخرشي وسيدي عبد الباقي والشيخ سالم، والتتائي والشيخ بهرام الخ. كما كانت تدرس التوحيد، وغيره كما سبق في الزوايا المتخصصة في تعليم القرآن، مثل النحو والصرف على الآجرومية والألفية، والحساب على القلصادي، وكذلك الحساب والفلك على محمد السوسي، بالإضافة إلى الإنشاء والعروض والتوثيق. وقد ذكرنا من هذه الزوايا زاوية الشيخ الحسين بن أعراب (ثيزي راشد) الذي قيل إنه أول من أدخل شرح شيخه الخرشي إلى الجزائر. وكذلك الزوايا المتأثرة مثل زاوية
انظر مجلة (صوت المسجد)، عدد 7 (31 مايو، 1949)، وسنتحدث عن الشيخ البوجليلي لاحقا، انظر أيضا فصلي الطرق الصوفية.
(1)
هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 159 - 115.
ابن أبي داود وزاوية آل سحنون اللتين سبق الحديث عنهما. والمدرس الأساسي واحد هنا أيضا. وهو يلقي درسه صباحا ثم يتولى تلاميذه التدريس في نظام محكم موزع عليهم بدقة حسب المستويات، وهو نوع من التعليم المشترك أو المتشارك. وهذه هي طبقاتهم أو مستوياتهم:
1 -
المبتدئون المحجر عليهم (ايحجارن).
2 -
المعيدون المسائيون (المعاودون).
3 -
المعيدون الصباحيون.
4 -
المحضرون أو المسبقون.
وفي صباح كل يوم يقوم الشيخ المدرس بتعيين درس الغد للمحضرين. ثم يقوم هؤلاء بتقسيم الطلبة ويدرسون لهم ذلك الدرس في حصة المساء. وفي الغد يقوم المعيدون الصباحيون بتدريس الدرس للمبتدئين وللمعيدين المسائيين، وذلك مباشرة بعد درس الشيخ الرئيسي. أما في المساء فيحل المعيدون المسائيون محل الآخرين بالنسبة للمبتدئين فقط. وهكذا يكون الدرس قد تكرر أربع مرات متوالية خلال 24 ساعة.
وكان للمعلمين، وهو الشيخ والمعيدون الصباحيون والمسائيون وكذلك المحضرون أو المسبقون، مساعد يسمى العدوال، وهو المسمع الذي يرفع صوته بالجملة عندما ينطق بها الشيخ المعلم أو مساعدوه. فالعدوال يكرر الجملة من فقه الشيخ خليل بصوت واضح ليفهمها التلاميذ الجالسون بعيدا، ثم يشرح الشيخ تلك الجملة شرحا مناسبا لفهم التلاميذ مستعينا بمختلف الشروح، كما ذكرنا. والشيخ الرئيسي هو الذي يختار لوظيفة العدوال (المسمع) من يناسب في صوته وذكائه من بين التلاميذ النجباء. ويحصل العدوال على حوالي 50 فرنك في السنة. أما الآخرون فيدفع لهم بين 4 و 5 فرنك فقط. وروى هانوتو ولوتورنو أن الأماكن تباع مرتين في السنة، والدراهم المحصلة من ذلك البيع تدخل في فائدة الطلبة الذين يشترون بها اللحم في العادة.
وفي نهاية العام الدراسي تقام حفلة التخريج. والشيخ الرئيسي هو وحده الذي يختار من ينجح ومن يعيد السنة ومن ينتقل إلى مستوى آخر. وهو يأتي معه بقرطاس (ورقة) مستطيل طوله حوالي 50 سنتم. ويضرب به رأس التلميذ الناجح. وتدوم الحفلة طول النهار وجزءا من الليل، وتقرأ الفاتحة قبل وبعد توزيع شهادات النجاح. وكل تلميذ يحتفظ بهذه الشهادة مدى الحياة. والشيخ الرئيسي أيضا هو الذي يعين المعيدين والمحضرين والمبتدئين للسنة الموالية. ويقضي التلاميذ مع أهاليهم شهرا أو شهرين، وهي العطلة السنوية. وعند افتتاح السنة الجديدة يعطى للتلاميذ الناجحين، سواء كانوا من زوايا القرآن أو من زوايا الفقه، نفقة أو كمية من الدراهم لشراء اللحم للطلبة الذين سيعلمونهم.
وأبرز زوايا (معمرات) الفقه هي:
1 -
زاوية آيت الحاج.
2 -
زاوية آيت سيدي محمد أو الحاج، في آيت محمود.
3 -
زاوية آيت عمر، في تمازيرت ببني ايراثن.
4 -
زاوية الشرفة.
5 -
زاوية القواضي.
6 -
زاوية جمعة الصهريج، في آيت فراوسن.
وسواء كانت زوايا القرآن أو زوايا الفقه، فليس هناك سن معينة لدخول الزوايا، وهي حوالي 14. أما مدة الدراسة فتتراوح بين 5 و 10 سنوات. وتكون عادة أطول في زوايا القرآن منها في زوايا الفقه. وإذا لم يكن للتلميذ عائلة قريبة منه، فإنه يقضي بالزاوية شطرا طويلا من حياته. وهناك من تتقدم به السن حتى يصل إلى الهرم ثم يموت، ومع ذلك يظل اسم (الطالب) لاصقا به ما دام في الزاوية (1).
لم يسلم تعليم الزوايا كلها من النقد سواء من حيث سعة البرنامج
(1) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 112 - 113.
وصعوبة المواد بالنسبة لسن التلاميذ أو من حيث المنهج المتبع في توصيل المعارف. وهذا النقد ليس خاصا بزوايا أو معمرات زواوة، بل هو شامل لكل الزوايا حيث يسود هذا النوع من التعليم المقاوم، كما قلنا، رغم كل المثبطات. ولكن ما دمنا في زواوة فلنستمر في ذكر بعض وجهات النظر حول نقد التعليم فيها. روى الشيخ أبو يعلي الزواوي أن شيخه محمد السعيد بن زكري قال أنه قضى عشر سنوات في زاوية اليلولي دون أن يستفيد شيئا، دخلها حافظا للقرآن وخرج منها حافظا للقرآن. وهذا بدون شك حكم صحيح وقاس في نفس الوقت. ولكن الشيخ يقصد أن معارفه لم تستثمر وأن مواهبه لم تكتشف كما كان يجب. أما إضافة المعارف الأخرى على حفظ القرآن فالزاوية كانت تقدمها لتلاميذها الذين بلغوا حوالي 80 تلميذا في عقد الستينات من القرن الماضي حين كان الشيخ ابن زكري تلميذا فيها تقريبا. وقد درس الشيخ أبو يعلى بنفس الزاوية أيضا. والظاهر أنه يؤيد شيخه في حكمه على نوعية التدريس فيها. وقد انتقدنا نحن طريقة التعليم في جامع الزيتونة وفي دار العلوم بمصر، ولكن هذا لا يعني عدم الفائدة كما يوحي كلام الشيخين، إنما بالمقارنة إلى التعليم الحديث فقط الذي يفيد التلميذ كثيرا وفي مدة قصيرة إذا توفرت شروط أخرى كالحوافز والمنافسة والفوائد المادية. وكلا الشيخين كان يعلن للفرنسيين أن تعليمهم أكثر فائدة وتقدما من تعليم الزوايا، وكلاهما أيضا انتقد ابن الحداد وثورته سنة 1871. ولا ندري ما وراء هذا الموقف منهما.
وقد اعترف كل من ابن زكري وأبي يعلى أيضا بمكانة ودور الشيخ البوجليلي في وقته. وكان هذا الشيخ من شيوخ زاوية اليلولي، ثم أسس زاوية خاصة به في بني عباس. وقد درس عليه الشيخ ابن زكري ووالد أبي يعلى. فكيف يخرج ابن زكري من عنده كما دخل؟ ويقول أبو يعلى أن الشيخ ابن زكري كان كشيخه البوجليلي ذكاء وشهرة. وأنه أوعز إلى تلميذه هذا بأن يبطل الصلاة المبتدعة في آخر جمعة من رمضان (1). وهذا الرأي إنما يؤكد ما
(1) أبو يعلى الزواوي، البصائر، 9 سبتمبر، 1938.
ذهبنا إليه من أن الشيخين - ابن زكري وأبي يعلى - إنما يبالغان عن قصد في نقد تعليم الزوايا، لأن الأول تولى الفتوى والتدريس للفرنسيين، والثاني توظف عندهم سنوات طويلة في الجزائر وخارجها قبل أن يلقي عصاه في جامع سيدي رمضان. هذا إلى أن الشيخ أبا يعلى كتب ما كتب زمن الحركة الاصلاحية التي جددت في الأساليب التعليمية وتخلصت من الطريقة السائدة في الزوايا.
أما نقد هانوتو ولوتورنو لتعليم الزوايا ففيه الحق والباطل. إنه حق ما دام يبين جمود الطريقة التي كان يقوم بها المعلم للتلاميذ والاستمرار في تكريس الحفظ دون الفهم والتوضيح، والاقتصار من التعليم على ما يفيد عند الله فقط، وعدم مراعاة قدرة التلميذ العقلية في إعطائه المعلومات. ولكنه نقد باطل لأن القوانين الفرنسية نفسها حاربت التعليم العربي الإسلامي. وجمدته وأبقته هي أيضا في حفظ القرآن دون الفهم. والسلطات الفرنسية نفسها كانت تراقب هذا التعليم بدقة، ولو وجدت شيوخه ينشرون أفكارا لا تريدها أو يفسرون القرآن كما يجب لاعتبرت ذلك سياسة وتعصبا وعودة إلى الماضي. وهو ما كان ممنوعا بتاتا، والأمثلة متوفرة على ذلك. ثم أنه نقد باطل لأن المؤلفين يريدان أن يصلا إلى أن التعليم الإسلامي كله هو أسوأ أنواع التعليم الموجود على الأرض. ومن خلال ذلك الوصول إلى الحكم على تخلف الجزائريين وضرورة استسلامهم لرسالة فرنسا الحضارية. ومع ذلك نذكر ما قدماه (نعني هانوتو ولوتورنو) ليستفيد منه الجيل الحاضر فيأخذ بالحق ويتجنب الباطل من هذا النقد.
إن البرنامج الدراسي في الزوايا محدود جدا، حسب رأيهما، إذا قارناه بمجموع المعارف عند الشعوب المتحضرة. فهو برنامج يفرض جهدا عظيما من أجل فائدة ضئيلة، إذ لا نتيجة تجنى من حشو رؤوس التلاميذ في المعمرات (الزوايا) القرآنية. خذ مثلا تلميذا قضى عشر سنوات في الزاوية، وحفظ القرآن وشروحه، ودقق معلوماته فلم يترك صوتا ولا حرفا إلا تعلمه، ثم اسأله عن أي معنى من المعاني فإنه سيعجز، لأنه لم يوجه إلى ذلك أبدا.
ونفس الشيء يقال عن المواد الأخرى، كالنحو والصرف. فالتلميذ يقرأ النص جيدا وينطقه نطقا سليما، لكنه يقلب المعنى بطريقة تثير ابتسامة الغريب عن الموضوع ويجعله يفهم أنه لم يدرك العناصر الأولية للنحو (1). أما عن الحساب فإنه لا يوجد في المنطقة كلها من اشتهر بمعرفة العمليات الأربع، وكذلك معارف الطلبة في علم الفلك. وفي ميدان الفقه تلعب الذاكرة دورا كبيرا ولكن لا وجود للذكاء والتعليل. ذلك أن الشيخ يكتفي بترديد أقوال الشراح الذين ينقل عنهم ولا يضيف رأيه إلى ما يقول لتلاميذه. فهو لا يبين لهم لماذا شرع التشريع، أو لماذا توقف المشرع عند هذه النقطة أو تلك. ذلك أن معرفة النصوص وحفظها هي علم الفقه عنده وعند غيره. وفي هذا الرأي كثير من الصواب، فطريقة التعليم كانت على الجملة عقيمة. وذلك هو ما أدى بالمجتمع الإسلامي كله إلى التدهور الفكري طيلة قرون.
وقد عرف أحد الفقهاء أكثر شهرة في الجزائر ذات يوم فئات المتعلمين التعريف الآتي: العالم هو من إذا طرح عليه مشكل فقهي استحضر له على الفور نصوص المؤلفين السابقين. والطالب هو الذي لا يستطيع استحضار النصوص كالعالم، ولكنه يعرف أين توجد صفحاتها في الكتب بدون تردد. وبعد ذلك تأتي أصناف (الطلبة) حسب طبقاتهم العلمية، وكذلك حسب أهمية الموضوع، وقدرتهم على استحضار الصفحات في المؤلفات الخ.
ومن النقد أيضا أن الزوايا لا تدرس علوما أخرى مثل الأدب والتاريخ والجغرافية والرياضيات والعلوم الطبيعية. والقليل من الناس فقط هم الذين سمعوا بهذه العلوم في المنطقة (2).
وإلى جانب هذا النقد الصارم للبرنامج يوجد أيضا إعجاب واهتمام
(1) قارن ذلك برأي ألفريد بيل أيضا في حكمه على تعليم المدرسين بالمساجد، أوائل هذا القرن (حوالي 1908).
(2)
هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 113 - 114.
بنظام الزوايا في تسييرها وتمويلها. فهي جميعا تقريبا تحت إدارة التلاميذ أنفسهم، مثل زاوية اليلولي. وقد تكون الإدارة تحت يد المالك للزاوية، وذلك بالتعاون والتفاهم مع الشيخ المدرس. ويكون ذلك بتنظيم التلاميذ في مجموعات مسؤولة. وهؤلاء هم الذين ينتخبون من بينهم (المقدم)، وهو بالطبع غير مقدم الطرق الصوفية، وإنما هو شخص كالمدير. وهو الذي يشرف على أموال الزاوية. وهم ينتخبون أيضا الوكيل الذي يقوم بدور المحاسب. والمقدم والوكيل يعملان تحت إشراف مالك الزاوية. وقد يكون المالك أحد الورثة. وفي هذه الحالة لا تدخل الزيارات (التبرعات) في حساب الزاوية لأن الزاوية (المعمرة) إنما هي ملك للقرية كلها. أما الزيارات فتأتي للورثة المالكين. ومن حقوق المالك الاستفادة من أعمال التلاميذ لشؤون الزاوية وخدمتها. والتلاميذ يتقاسمون العمل فيما بينهم كالتحطيب وتوفير الماء ونحو ذلك. ولهم الحق في جمع التبرعات من الأسواق. ويقدم السكان إلى الزاوية زكاتهم (العشر) من الحبوب، وكذلك الحيوانات والدراهم إذا احتاجت منهم المساعدة. وللزاوية أملاك هي أحباس لفائدتها. ويدفع التلاميذ عند الدخول بين 15 و 50 فرنك إذا كان لهم مال. ومن شروط الدخول أن التلميذ يخضع لأسئلة كثيرة من المقدم والمالك. فيسألونه عن منبته وأهله ودراسته، ثم يؤجل النظر فيه، وبعد ذلك يصدر قرار بقبوله من المقدم والمالك والشيخ. ويخضع التلاميذ لنظام داخلي ولانضباط صارم. وهم يتعهدون بعدم كسر أو هدم أي شيء في الزاوية، واحترام المسؤولين، والزملاء. ومن تلاميذ الزاوية متزوجون تعيش نساؤهم في القرية. وفي هذه الحالة لا ينامون في الزاوية بل يذهبون إلى القرية، ويعطي لهم الوكيل حصتهم من مدخول الزاوية عينا (1).
ولكي نقدر دور الزوايا في منطقة زواوة علينا أن نعرف أن السلطات
(1) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، 119 - 121. انظر أيضا إيمانويل بوجيجا (التعليم الأهلي) في SGAAN (1938)، عدد 153 - 154، ص 53. وقد نقل الكثير عن المصدر السابق.
الفرنسية جعلت المنطقة هدفا منذ احتلالها، 1857، وقد ازداد الاهتمام الخاص بها منذ ثورة 1871. ويخبرنا أحد الذين عملوا طويلا كإداري هناك، أن الحكومة الفرنسية قد تعاونت في ذلك مع الكنيسة منذ الستينات - عهد الجوائح الشهيرة وعهد الحاكم العام ماكماهون والكاردينال لا فيجري Lavigerie ويقول بوجيجا إن الكاردينال قد حاول أن يحتل أرواح وقلوب سكان المنطقة، بعد أن احتل الجيش الفرنسي أرضهم وديارهم، فأنشأ الكاردينال هناك إرساليات الآباء البيض قبل 1870. وحاول الجزويت نشر التعليم الذي كانت الحكومة تمنعه في فرنسا. ثم قام لافيجري بعد ذلك بإرسال الآباء والأخوات البيض إلى هناك فرفضهم السكان وطردوهم خلال بضعة أشهر، فاستقروا في الجنوب. وبعد محاولة أخرى ابتداء من سنة 1873، أي أثناء الاضطهاد الجماعي والمصادرة والنفي إثر ثورة 1871، مهدت مدارس الآباء البيض للحكومة الفرنسية لكي تنشئ بعض المدارس الخاصة بمنطقة زواوة (القبائل) سنة 1882. ويقول بوجيجا أيضا أن تجربة الحكومة لم تستمر لأسباب محلية، بينما استمرت جهود الآباء البيض (1).
في هذا الإطار يجب النظر إلى التعليم الذي كانت تقوم به الزوايا في منطقة زواوة. إنه تعليم يدخل في نطاق المقاومة والمحافظة على الذات في وجه الغزو التنصيري الذي جاء في أعقاب الغزو العسكري للمنطقة. وبشهادة الدارسين الفرنسيين أنفسهم، فإن هناك تعاونا وثيقا بين مختلف الجهات الفرنسية: الجيش والكنيسة وإدارة التعليم بهدف التسرب إلى المنطقة والتحكم في أرواح أهلها وقلوبهم، حسب تعبير الكاردينال نفسه. وكان الفرنسيون يعيشون في خوف دائم من شبح ثورة أخرى شبيهة بثورة 1871 ومن تجذر الإسلام في المنطقة، ويقول ليونار بارليت L.Barlete سنة 1913، وهو يتحدث عن بلدة ذراع الميزان التي عمل فيها طويلا وكتب عنها:(إن الإسلام هنا منطبع ومنقوش العمق مما يجعل إزالته ليس بالأمر الهين في المدى القريب)(2).
(1) إيمانويل بوجبجا، مرجع سابق، 54.
(2)
ليونار بارليت، عمل متصرفا لبلدية ذراع الميزان المختلطة عندئذ، وكانت تشمل =
ورغم النقد الذي قد يوجه إلى منهج التعليم في الزوايا المذكورة أو إلى استعمال الخرافات والبدع في بعض زوايا الطرق الصوفية، فإن المرء لا يملك إلا أن يزداد إكبارا وتقديرا لمقاومة رجال الزوايا التعليمية في منطقة زواوة التي جعلتها السلطات الفرنسية هدفا لمسخها ففشلت. فالزوايا التعليمية الباقية بعد الاحتلال والاضطهاد، والتي قدرت بين 17 و 19 زاوية يجب التنويه بها. وقد تعرض معظمها إلى الحرق والتلف أثناء ثورة التحرير مما يدل على الطغيان الاستعماري. وقد ذكرنا منها زاوية اليلولي، وابن أبي داود (تاسلنت)، وزاوية آل سحنون، وزاوية صدوق، وحتى زاوية شلاطة رغم مواقف بعض أصحابها الذين لم يقدروا حكم التاريخ.
وقد بقي علينا أن نقول كلمة في زاوية ظهرت أيضا زمن الطغيان الاستعماري في المنطقة، وهي زاوية بوجليل في بني عباس. وصاحبها يستحق الدراسة من عدة وجوه، فهو عالم ومقدم طريقة ومؤلف. ونحن هنا إنما نهتم به كعالم ومدرس في زاوية لعبت دورا في نشر التعليم العربي الإسلامي. أما دوره في التصوف (وقد كان رحمانيا) فمكانه فصل الطرق الصوفية، وأما مؤلفاته فسنعالجها في الجزء الخاص بذلك. ولد الشيخ محمد بن بلقاسم البوجليلي حوالي 1836 في قرية بوجليل، إحدى قرى بني عباس حكم بجاية، وهي مقر آل المقراني قبل انتقالهم إلى مجانة. وأسرة البوجليلي معدودة في الأشراف حسب رواية الورتالاني. وظلوا يقومون على خدمة العلم. وقد اشتهر منهم محمد بن بلقاسم هذا في ميدان التعليم. وسمعت شخصيا تنويها كبيرا به من قبل المرحوم محمد البشير الإبراهيمي الذي حدثني عنه عندما كنت طالبا في مصر. ولم أكن إذاك أعرف شيئا عن الشيخ البوجليلي. والشيخ الإبراهيمي الذي قلنا إنه درس في زاوية شلاطة،
= الأعراش الآتية: فليسة، آيت اسماعيل، والمعاتقة، والنزليوة، والعبيد، الخ. انظر (مونوغراف
…
ذراع الميزان) في SGAAN، 1913 ص 462.
من أعرف الناس بتقييم العلماء في هذا الميدان لحاسته النقدية والعلمية الدقيقة، وكان قد سمع عن الشيخ البوجليلي من تلاميذه.
التحق محمد بن بلقاسم بزاوية اليلولي سنة 1261 (1845). وكان قد حفظ القرآن على والده. فيكون عمره إذاك حوالي 14 سنة كما جرت عادة صبيان المنطقة. ومن شيوخه في زاوية اليلولي، العربي الأخداشي ومحمد الطاهر الجنادي ومحمد بن علي بن مالك التقابي، وقد ذكرنا قبلا أن زاوية اليلولي من المتخصصات في الدراسات القرآنية، ولذلك كانت قراءة البوجليلي مركزة على القراءات برواية قالون، ثم قرأ العشر، وتعلم النحو. ودام ذلك حوالي أربع سنوات. وتعلم بالإضافة إلى القراءات علوما ذكرناها كالفقه والتوحيد والنحو والصرف والحساب والفلك. وسند البوجليلي في القراءات مذكور في المصادر التي بين أيدينا عن شيوخه المذكورين عن شيوخهم إلى الشيخ اليلولي المتوفى سنة 1105 (1691). وأما سنده في الفقه والطريقة الرحمانية فقد أخذه عن شيخه محمد امزيان الحداد بصدوق. وختم على يديه أيضا السلم المرونق في المنطق للأخضري وكذلك الجوهر المكنون له في المعاني والبيان، كما أخذ عنه الاستعارات للسمرقندي.
وبعد أربع سنوات في زاوية اليلولي انتصب للتدريس بها حوالي ثلاثين سنة. وقد درس علوما شتى هي التي تلقاها عن شيوخه، ولكنه عرف بالتمهر في علم النحو، وهو علم عقلي، كما نعرف. وعز عليه أن يرى بلاده وقد تنكر لها الزمان، وملكها الطغيان، وعاصر أحداث الثورتين في المنطقة - 1857، و 1871 وما رافقهما وما لحق وراءهما، سيما الثانية، من انتقامات مريعة. وتأمل في سبب ما عليه الفرنسيون من قوة وجبروت وما عليه الجزائريون من ذل وهوان. فأراد أن يجاهد بطريقته وأن يحافظ على التراث، وأن يبث في تلاميذه روح المواصلة للمقاومة مع نور العقل وروح الإصلاح. ولذلك لم يفتح زاوية لإعطاء الأوراد والبركات الصوفية ولكن فتحها للتدريس ومنح الإجازات (الشهادات)، كما لاحظ الخبراء الفرنسيون المعاصرون له. ولعله اتخذ التصوف المسموح به غطاء للعلم غير المسموح