المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٣

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

بعد مصادرة الأوقاف ونفي العديد من العلماء وترهيب الباقين، ترك الفرنسيون التعليم يموت دون الإعلان عن ذلك رسميا. اشتغلوا بالاستيلاء على الأراضي وتوطين أبنائهم فيها ومحاربة المقاومين، وأهملوا كل ما يتعلق بتعليم الجزائريين. وبعد حوالي عشر سنوات أخذ بعض مسؤولي المكاتب العربية (وهم عسكريون) يكتبون التقارير عن وضع التعليم عند المسلمين (الجزائريين) وموقفهم من المدرسة الفرنسية عموما. ومن هذه الكتابات تقرير الجنرال بيدو، وتقرير فاليري، وتقرير الجنرال درماس، وتقرير ليبيشو، ثم تقرير ديهو تبول. ففي فترة الأربعينات من القرن الماضي، نصبت لجان رسمية، وزار الجزائر أمثال أليكسس دي طوكفيل، وخرجوا جميعا برأي عن تجربة التعليم في الجزائر ماضيا وحاضرا. ويتلخص هذا الرأي فيما يلي:

1 -

الاستمرار في إهمال التعليم العربي الإسلامي وعدم رد الأوقاف إليه، رغم تشبث السكان به ومقاطعتهم المدرسة الفرنسية.

2 -

إنشاء تعليم مزدوج خاص بالجزائريين تدرس فيه اللغة العربية على أن تكون فيه الفرنسية وعلومها هي السيدة، ابتداء من سنة 1850.

3 -

ترك التعليم في الزوايا الريفية والمعمرات على ما هو عليه مع مراقبة برنامجه ومعلميه حتى لا تكون الزوايا مراكز لمعاداة الفرنسيين. وقد اعترفت جميع التقارير بأن التعليم العربي الإسلامي كان منتشرا بين الجزائريين بشكل ملفت للنظر قبل الاحتلال، وأنهم بقوا متشبثين به رغم مصادرة الأوقاف وهجرة العلماء أو نفيهم.

يقول لويس رين. كان القرآن في الجزائر هو كل شيء، هو المعلم والتعليم. وكان الفرنسيون كلما حاولوا مشروع إصلاح فكروا في عدم المس بالمشاعر الإسلامية، لكن المتعلمين (الجزائريين) الخبراء أصبحوا بمرور

ص: 21

الزمان، نادرين مما سهل على فرنسا تمرير مشاريعها. لقد كان هدف فرنسا منذ 1830 هو الحط من التعليم القرآني وتعويضه تدريجيا بتعليم أكثر عقلنة وأكثر علمية، وبالخصوص أكثر فرنسة (فرنسية). وقد نجحت فرنسا (وهو يكتب سنة 1884) في الفصل بين الدين والتعليم اللذين كانا في الماضي لا ينفصلان (1).

وفي الوثائق الفرنسية الرسمية أن التعليم العربي الإسلامي كان على العموم مزدهرا سنة 1830. وهو يتألف من مستويات التعليم الثلاث المعروفة اليوم: الابتدائي والثانوي والعالي. وكان التعليم الثانوي والعالي مجانا، أما الابتدائي فقد كان بأجر اختياري ضعيف، وفي أغلب الأحيان يدفع الأجر عينا. وجميع أنواع التعليم لا تقدم إليها الدولة (الجزائرية) أية مساعدة، فكان تعليما حرا بمعنى الكلمة. وكانت المدارس متصلة بالمساجد في أغلب الأحيان، ويشرف عليها وكلاء الشؤون الدينية، وهي تتغذي من أملاك الأوقاف الخيرية. ولكن منذ الاحتلال دخلت أملاك الأوقاف في أملاك الدولة الفرنسية، فأهملت المدارس الإسلامية، وتوقف التعليم الابتدائي والثانوي، ولم تبق إلا بعض الزوايا البعيدة والمعزولة حيث الدروس العليا (2).

ويضيف تقرير آخر أن المعلمين كانوا أيضا أحرارا. فهم لا يخضعون إلى أية ترقية، وشهرتهم هي التي تدل عليهم، وهذه الشهرة تكون في العلم والأخلاق الكريمة والسلوك الجيد، كما أنهم كانوا يحصلون على الشهادة (الإجازة) من أستاذ معروف. وكانت المدارس كثيرة، ورواتب المعلمين مضمونة من مداخيل المساجد (الوقف). وكان مشاهير الأساتذة يأتيهم المتعلمون من أماكن بعيدة - وقد أقيمت الزوايا المجاورة للمساجد لإيواء أمثال هؤلاء الغرباء. وكان عدد هذه الزوايا في مدينة الجزائر وحدها ستا، اثنتان لأهل الشرق وثلاثة لأهل الغرب وواحدة لأهل المدينة (الجزائر). وقد

(1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر، 1884، ص 6.

(2)

السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1849، ص 194.

ص: 22

اختفت جميعها ولم تبق منها بعد سنة 1846 سوى واحدة كانت تقع في سوق الجمعة. وكل هذه الزوايا كانت تصونها وتتعهدها أموال الأوقاف قبل مصادرتها. وكذلك لم يبق من المدارس القديمة إلا عدد ضئيل، وأصبح التعليم في الباقي منها ناقصا. واختفت كثير من المساجد أيضا بالهدم والتحويل عن الغرض الأصلي.

أما خارج مدينة الجزائر، فإن التقرير يذكر أن المدارس الشهيرة والزوايا كانت متوفرة ثم اختفت نتيجة للاحتلال والإهمال ومصادرة الأوقاف وهجرة العلماء أو نفيهم. ومن هذه مدرسة صالح باي بقسنطينة، ومدرسة قرومة الواقعة على وادي الزيتون شرقي العاصمة، ومدرسة (زاوية) سيدي محمد بن عبد الرحمن بجرجرة، وبسهل متيجة كانت زاوية مربوني بالأربعاء، وزاوية سيدي خير الدين بين الخشنة وبني موسى، وزاوية النميلي في بني موسى، وزاوية سيدي السعيد بين بوفاريك والدويرة، وزاوية سيدي الحبشي بأولاد منديل، ثم زاوية البراكنة قرب شرشال (1). ويضيف التقرير أن الزوايا الواقعة في أوساط القبائل والأعراش قد اختفت أيضا نتيجة الحروب المريرة والحملات العسكرية الفرنسية، إذ تشتت المعلمون والمتعلمون، واختفت المخطوطات. كما أن المعلمين عموما تضاءل عددهم حتى في المدن لضعف الرواتب وعدم انتظام الدروس واستقرار الحياة العلمية.

كان برنامج التعليم يكمل بعضه بعضا. ففي الابتدائي يحفظ الطفل كل أو أجزاء من القرآن الكريم، ويتقن الكتابة والقراءة، ويتعلم مبادئ الدين، ويحفظ المتون والنصوص الضرورية. وفي الثانوي يواصل المطالعة والفقه والتوحيد ودراسة النحو والصرف وأوليات التفسير ومصطلح الحديث والسيرة النبوية. وأما الدراسات العليا فتشمل الفقه أيضا وأصول الدين والتوحيد

(1) تقرير بعنوان (التعليم العمومي في الجزائر)، نشره عبد الحميد زوزو (نصوص)، الجزائر، 1982، ص 205 - 208، عن تقرير بالأرشيف الفرنسي 235 R.M.G.H. ولعله هو تقرير الجنرال دوماس، انظر أيضا رسالة إبراهيم الونيسي عن جريدة (المبشر).

ص: 23

والتاريخ الإسلامي وبعض الحساب والفلك والجغرافية والطب والتاريخ الطبيعي. وقد لاحظت التقارير أن التعليم الأول كان يحصل عليه أبناء الطبقة الغنية وكذلك التعليم العالي الذي لا يواصله عادة إلا الطبقة التي كرست حياتها للعلم حتى أصبح فيها وراثة. والمقصود هنا هو علم الدين. وقد أضاف بعضهم إلى مواد التعليم العالي الهندسة، وعلم الرسم والزخرفة والخطاطة وكتابة الوثائق (1).

والمدارس لم تندثر دفعة واحدة. ففي العاصمة كانت حوالي مائة مدرسة سنة 1830 لم يبق منها سنة 1840 سوى حوالي 24 مدرسة (مسيد) يتردد عليها 600 تلميذ. وفي سنة 1846 انخفض عدد هذه المدارس إلى 14 فقط يتردد عليها بين 320 و 400 تلميذ. ومع ذلك فإن الأولياء كانوا يفضلون هذا النوع من المدارس لأولادهم على المدرسة الفرنسية. لقد كانت المدارس تحت إشراف (الطلبة)(2) الذين يعلمون التلاميذ اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الدين. وهي منتشرة بكثرة خارج العاصمة، سيما قسنطينة ومنطقة زواوة. ويقول التقرير أن هذه المدارس بقيت حتى الآن (1846) خارج مراقبة السلطات الفرنسية. وقد أوصى التقرير بضرورة وضع كل أنواع التعليم تحت الرقابة، لأن (الوجود الفرنسي لا يمكن أن يتأسس نهائيا

إلا إذا تولت السلطة المديرة تعليم كل الأجيال الجديدة في البلاد وأمسكته بيدها) (3).

وسنذكر عدد المدارس والزوايا بعد قليل.

وفي تقرير أوغيست ليبيشو عن التعليم وصف (حي) للتجربة الإسلامية فيه ومدى معاناته بعد الاحتلال. وكان السيد ليبيشو نفسه مسؤولا عن التعليم

(1) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، ص 194، وكذلك زوزو، مرجع سابق، ص 208.

(2)

تنطق بضم الطاء وتشديدها وتسكين اللام، وهم المعلمون أو المتعلمون عموما.

(3)

السجل (طابلو) سنة 1845 - 1846، ص 113.

ص: 24

في الجزائر. وقد شهد أن التعليم العربي - الإسلامي كان منتشرا في المدن والأرياف وحتى في الخيام. وكانت المدارس والزوايا تضم المخطوطات أيضا. ولكن كل ذلك تغير، حسب رأيه، فالحملات العسكرية بعثرت كل تجمعات الطلبة والعلماء. ولم يبق إلا بعض المدارس التي لا تقدم سوى تعليم غير كامل على الإطلاق. ذلك أن دراسة الدين قد أهملت، بينما لا يمكن فهم الدين إلا بالرجوع إلى الشروح التي يجب لفهمها إتقان اللغة العربية. وأصبح المتعلمون نادرين تدريجيا. وبذلك كثر أعداء فرنسا، حسب قوله. أما عن المخطوطات فقد قال أنها أيضا تبعثرت وأتلفت في معظمها، وكانت هي أساس التعليم (1). وقد جاء في تقرير الجنرال دوماس أنه بعد عشرين سنة من الاحتلال لم يعد في إمكان السلطات الفرنسية أن تجد من توظفه في القضاء إلا بصعوبة. وتمثل ذلك في الشؤون الدينية والتعليمية الأخرى. أما عن الأدب والثقافة والفن فلا حديث.

وتؤكد مختلف الكتابات الفرنسية على هذا التحول الذي أصاب التعليم العربي - الإسلامي نتيجة الاحتلال. وقد جاء في إحداها أن التعليم التقليدي (وهو هذا الذي سميناه الأصلي) قد توقف عن أداء مهمته، لظروف الحرب من جهة، والاستيلاء على الأوقاف من جهة أخرى، وهجرة المعلمين أو نفيهم من جهة ثالثة. فقد خربت المدارس الثانوية (وهي التي كان منها يتخرج العلماء)، وغادر المتعلمون الزوايا القريبة من مراكز الاحتلال. والأساتذة إما اكتفوا بأداء الشعائر الدينية دون التعليم وإما انتقلوا إلى أماكن غير محتلة. وامتنع (الأهالي) عن إرسال أولادهم إلى المدرسة الفرنسية، لأن المدرسة في نظرهم هي حيث يتعلم الطفل القرآن والصلوات وقواعد الدين، بينما المدرسة الفرنسية لا تعلمهم إلا اللغة وربما تعلمهم أيضا مبادئ دين آخر. ومن ثمة اقترح صاحب التقرير (وهو غير مذكور): العودة إلى النظام القديم في التعليم الابتدائي والثانوي (بعد خمسة عشر عاما من الإهمال، لأن

(1) عبد الحميد زوزو، أطروحة الدكتوراه، مخطوطة، ص 726، هامش 1.

ص: 25

التقرير مكتوب حوالي سنة 1845). مع الرقابة التامة والدقيقة للفرنسيين على هذا التعليم حتى في اختيار المؤدبين في الابتدائي والمدرسين في الثانوي، كما اقترح صاحب التقرير إدخال بعض المواد كالحساب والجغرافية في برنامج التعليم الابتدائي، وإدخال التاريخ والفيزياء والكيمياء إلى برنامج الثانوي. واقترح كذلك جلب المعلمين من تونس ومصر، لخلو الجزائر منهم عندئذ أو لعداوتهم للفرنسيين. أما بالنسبة للتعليم العالي فقد اقترح التقرير تركه إلى حين آخر، أي عندما يصل الجيل الذي سيتكون تحت الإدارة الفرنسية إلى المرحلة العالية. ومعنى ذلك توقيف دورة الحياة العلمية. وما دام القرآن نفسه قد مجد العلم فقد اقترح صاحب التقرير أن يبقي التعليم التقليدي على ما هو عليه في المدارس الصناعية والزراعية (الفرنسية) لأن المسلمين سيقبلون عليه باعتباره واجبا دينيا. ومن الطبيعي أن يوصي التقرير بأن يكون الهدف من كل هذه المحاولات هو خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر (1).

وبعد احتلال قسنطينة كتب الجنرال بيدو تقريرا عن التعليم فيها، وقدمه إلى وزير الحرب. وقد جاء فيه أن التعليم في قسنطينة كان منتشرا بصورة غير متوقعة للفرنسيين، فقد كان فيها مدارس من مختلف المستويات الإقليمية. فمدارسها الثانوية والعالية تضم بين 600 و 700 تلميذ يدرسون علوم التفسير (القرآن) وعلوم الحديث، ومحاضرات في الحساب والفلك والبلاغة والفلسفة. كما يوجد بها 95 مدرسة ابتدائية (مكتب) يتردد عليها بين 1، 300 و 1، 400 طفل. وكانت دروس المساجد (وعددها 35 مسجدا) والمدارس الثانوية (وعددها سبع) غاصة بالمستمعين، والأساتذة لهم شهرة تجلب إليهم الطلبة من بعيد. والمدارس الابتدائية تابعة للمسجد أو الزاوية. والنفقات جميعا كانت من الأوقاف المخصصة للمسجد أو الزاوية. وكان المؤدب يعينه

(1) تقرير غير موقع وغير مؤرخ من ثلاث عشرة صفحة بعنوان (مذكرة عن التعليم الإسلامي العام)، أرشيف إيكس (فرنسا) 1732 - F 80. ولكن الظروف التاريخية تجعلنا نرجح أنه كتب ربما سنة 1845.

ص: 26

ناظر الأوقاف بوصية من العائلات، وهو (المؤدب) يقوم بدور الإمام والحزاب أيضا. وله منزل خاص به، وله أجر من أولياء التلاميذ يقدر بحوالي 14 ف. بالإضافة إلى الهدايا التي يتلقاها بمناسبة الأعياد وعددها أحد عشر عيدا، ويتلقى أيضا تبرعات مختلفة سيما عندما يحفظ التلميذ أجزاء من القرآن. وبذلك قدر دخل المعلم (المؤدب) بحوالي ثلاثين فرنكا سنويا، زيادة على عطاءات أهل الخير والإحسان.

ولكن منذ الاحتلال تدهور كل ذلك. ففي عشر سنوات (1847)(1)، كاد يختفي التعليم في هذه المدينة (قسنطينة) العريقة في خدمة العلم والعلماء. ولم يبق من 600 أو 700 تلميذ في الثانوي سوى 60 فقط. والمدارس الابتدائية التي كانت تسعين لم يبق منها سوى ثلاثين، ولا يتجاوز الأطفال فيها 350 بعد أن كانوا بين 1، 300 و 1، 400. هذه إذن هي رسالة فرنسا الحضارية للجزائريين. وقد كان صاحب التقرير (الجنرال بيدو) والمعلق عليه (دي طوكفيل) صريحين جدا في ذلك. فقد قال بيدو أننا أهملنا التعليم في عاصمة الإقليم (قسنطينة) مما سيعطي لرجال الزوايا أهمية كبيرة ويزيد من نفوذهم وقوتهم بين السكان. وواضح من تقرير الجنرال أن خوفه ليس على الجزائريين من الجهل، ولكن على مصير الوجود الفرنسي من نفوذ الزوايا. ذلك أن اختفاء المعلمين قد حول أنظار الناس إلى شيوخ الزوايا في الأرياف. أما دي طوكفيل فهو صاحب الصيحة الشهيرة:(إننا جئنا لإضاءة الشموع فأطفانا الموجود منها)، وهو يقصد هنا بالشموع المدارس. ولكن دي طوكفيل كان أيضا في صالح الرسالة الحضارية الفرنسية وتثبيت الاستعمار في الجزائر (2).

لقد نقصت المدارس والمساجد بعد أن حولت مداخيل أملاكها (الأوقاف) إلى أملاك الدولة كما ذكرنا، وتوقفت الدولة الفرنسية المحتلة عن

(1) احتلت قسنطينة سنة 1837.

(2)

أليكسيس دي طوكفيل (عن المستعمرة في الجزائر)، باريس، ص 170. امتدح دي طوكفيل تقرير بيدو وقال أنه (بيدو) قد وزعه على اللجنة البرلمانية. انظر أيضا زوزو، مرجع سابق، ص 209 - 213.

ص: 27

صيانة المساجد، كما أنها لم تصن مساكن الطلبة والعلماء التي كانت مجانية. ونقصت قيمة العملة المتداولة، فلم تعد الوظيفة التي أصبح عليها رجال الدين يكفي دخلها، ولذلك لم تعد أمرا ممتازا يتنافسون عليه. وقد زاد أولياء التلاميذ في أجور المعلمين (المؤدبين) ولكن غلاء المعيشة أدى بالعائلات إلى توجيه الأبناء إلى أعمال أخرى أكثر ربحا، كما توقفوا عن استقبال الأقارب وأبناء الأعراش من خارج قسنطينة. بينما تدهور حال المدرسين والعلماء وافتقروا وأصبحوا متذمرين. وأدى كل ذلك إلى انخفاض مستوى التعليم ونقص مدته والمواظبة عليه. وكانت نتيجة هذا الوضع في مدينة قسنطينة هي رحيل التلاميذ القادرين إلى زوايا المناطق غير المحتلة بعد، مثل منطقة زواوة ومناطق الجنوب، طلبا للعلم.

هذه الصورة السوداء التي رسمها تقرير الجنرال بيدو عن التعليم في قسنطينة وتدهوره وبعثرة أهله يتفق معه فيها زائر انكليزي زار هذه المدينة في نفس الفترة تقريبا. يقول الرحالة بلاكسلي: كانت الأوقاف كثيرة، وهي مورد التعليم المجاني. وكانت تزيد أحيانا عن حاجة المدرسة والمسجد فيخصص منها جانب للفقراء أيضا. وقد حضر بلاكسلي مع المستشرق شيربونو درسا كان يلقيه بعض المدرسين فقال أنه مدرس يمتاز بالذكاء والجاه، وكان الدرس في تفسير القرآن الكريم. أما في وقت الزيارة فقد أصبحت المدارس والمساجد والزوايا (مهجورة وخرابا في كل مكان بالجزائر). كما أن فقر السكان الذي جاء في أعقاب مصادرة أموال الأوقاف كان بدون شك السبب الرئيسي في هذا الخراب، رغم أن الحرب كانت سببا آخر أيضا (1).

ونفهم من ذلك أنه بعد الاستيلاء على المدن ومصادرة الأوقاف وهجرة العلماء، قصد المتعلمون الراغبون المناطق البعيدة عن الفرنسيين لمواصلة

(1) جوزيف بلاكسلي، (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن 1859، ص 30. لا شك أن الزيارة كانت بعد 1850، لأن وجود شيربونو كان بعد هذه السنة. والمقصود هنا فتح المدرسة التي أسسها الفرنسيون في هذا العام في قسنطينة، وهي إحدى المدارس الثلاث الشرعية - الرسمية.

ص: 28

تعلمهم العربي والإسلامي، ومنه ذلك التعليم الذي كان منتشرا في مدارس وزوايا منطقة زواوة. ويقول تقرير كتب عن بجاية وما حولها سنة 1840 أن كل دشرة (قرية) كان لها طالب يحسن اللغة العربية، وهو يقوم في نفس الوقت بوظيفة إمام المسجد، ويعلم الأطفال الكتابة والقراءة وحفظ القرآن، وله أجر يشترك فيه الجميع، وكان بعض هؤلاء الطلبة قد حصلوا على مبادئ الفقه في الزوايا، وهم يحكمون بالصلح بين الناس أيضا. وفي كل قبيلة أماكن مخصصة للتعليم وتكوين التلاميذ في المواد التي ذكرناها، في أماكن عادة تكون قريبة من الزاوية التي فيها أو كان فيها مرابط اشتهر بين الناس بالورع والتقى. والدراسة مجانية ومدتها غير محددة، والجميع، المعلمون والتلاميذ، يعيشون من تبرعات وإحسان القبائل المجاورة، وأحيانا من مداخيل مخصصة لهم بمقتضى الأوقاف التابعة للزاوية منذ عهود سالفة. والزاوية مكان مقدس لدى الجميع ولا أحد يجروء على انتهاك حرمتها. وأبرز هذه الزوايا في المنطقة هي زاوية شلاطة التي كانت تبعد مسافة يومين عن سوق بجاية، وهي تقع على الضفة اليسرى لوادي آقبو. وتسمى أيضا زاوية ابن علي الشريف. ولها سمعة علمية تجاوزت حدود الجزائر إذ كانت الهدايا تأتيها من فاس وتونس وأسطنبول (1).

وفي دراسة هانوتو ولوتورنو عن منطقة القبائل (2) ما يؤكد هذه الظاهرة كما سنرى، فقد قالا إن كل فرد في المنطقة يعرف القراءة والكتابة، وللسكان مدارس عامة، واعتزاز قوي بدعم هذه المدارس إذ يرون في ذلك واجبا دينيا ونخوة خاصة. ولغة التدريس هي اللغة العربية والمواد كلها إسلامية، وهي تتبع المنهج الإسلامي. والتعليم في هذه المؤسسات على مرحلتين: ابتدائي وثانوي. وهناك بعض المدارس الخاصة تحت إشراف المرابطين، وهم يقومون عليها بحماس ديني قوي، فهم يستقبلون العديد من الشباب

(1) السجل (طابلو) - سنة 840 1، ص 377. عن أصول زاوية شلاطة (آقبو) انظر الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب.

(2)

هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، ط 2، 1893، ص 06 1.

ص: 29

ويوفرون لهم المسكن والمأكل، ويعلمونهم مجانا، وكان التعليم نفسه عموميا.

وهذه الظاهرة كانت عامة، كما لاحظها مختلف الكتاب، ونعني ظاهرة انتشار الكتابة والقراءة وحفظ القرآن في المدن والأرياف على السواء، حسب برنامج موحد يقوم على دراسة العلوم الإسلامية باللغة العربية. ولاحظ أحد الضباط الفرنسيين أن منطقة ميزاب كانت تتبع نفس المنهج وبحماس كبير حتى أنه لا يوجد إلا عدد قليل جدا هناك لا يعرف القراءة والكتابة. وقال أن أعمال الحساب عندهم منتشرة حتى أن تجارهم في مدن التل يقومون بالحسابات في سجلاتهم دون وسائط. والتعليم عندهم يجري في المساجد على يد (الطلبة) أيضا. وكل مدينة لها جامع خاص بذلك. لكن السكنى للطلبة كانت في أماكن مخصصة لهم خارج المسجد، والطلبة (المعلمون) لا يأخذون أجرا من أولياء التلاميذ، وكل أجورهم يأخذونها من الأوقاف. وتوزع مداخيل الوقف نوعا لا نقدا (1). هذا عن التعليم الابتدائي، أما الثانوي فيحصلون عليه في المساجد الكبيرة بالدروس العامة المتطورة أو بالهجرة في سبيل العلم إلى مناطق أو بلدان أخرى.

فإذا كان حال العلم غداة الاحتلال هو الازدهار والانتشار والاحترام، فأين هو بعد ربع قرن من ذلك؟ لقد أهمل الفرنسيون التعليم في المدن والأرياف، على السواء، لأسباب مختلفة منها اغتصاب موارده، وكثرة الحروب، ومشاركة الطلبة في واجب الجهاد. وبعد ضعف التعليم بل نكاد نقول انهياره في المدن على إثر الاحتلال، بقي التعليم في الزوايا والمعمرات، فخرج إليها التلاميذ واغتربوا فيها طلبا للعلم والمقاومة الثقافية. وبعد نجاح الاستعمار في التوغل في الريف أيضا ومراقبة المعلمين

(1) كوين Coyene، في المجلة الإفريقية R.A.، 1879، ص 200. والمعروف أن منطقة ميزاب كانت إلى سنة 1882 محمية وغير محتلة، ومن ثمة فإن التعليم فيها عندئذ كان ما يزال يسير حسب التقاليد الإسلامية ولم تتأثر الأوقاف بالمصادرة إلا بعد 1882.

ص: 30

والتلاميذ ضعف التعليم هناك أيضا وحوصر إداريا بالقوانين ولغويا بالفرنسية، سيما منذ الستينات، وفي هذه الأثناء نشأت زوايا جديدة مثل زوايا الهامل وأولاد جلال وقصر البخاري، وفتحت زاوية نفطة أبوابها للجزائريين، وظلت زوايا زواوة مستمرة في التعليم إلى ثورة 1871. وكل هذه الزوايا ترجع إلى الطريقة الرحمانية عدا زاوية قصر البخاري التي كانت شاذلية. ومع ضغط الاستعمار في عهد الجمهورية الثالثة كادت حركة التعليم العربي - الإسلامي تختفي، وهكذا ارتمى الناس في أحضان الطرق الصوفية والغموض والدروشة، واعتقدوا أن الخلاص لم يعد بالسلاح ولا بالتعليم ولكن ببركة الشيخ الصوفي والمرابط. وسنعرف التطور الذي حدث منذ العشرية الأخيرة من هذا القرن، سواء في ميدان التعليم العربي الإسلامي أو في الميدان السياسي والفكري أو في الميدان الصوفي.

أما في الناحية الغربية فقد أصيبت حركة التعليم بالشلل، نتيجة الحروب القاسية أثناء المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر. فقد تعرضت المدن الرئيسية إلى تبادل الأيدي عدة مرات. فهذه تلمسان ومعسكر، ومستغانم ووهران، تعرضت جميعا إلى خروج أهلها منها عدة مرات، ومنهم بالطبع المعلمون والتلاميذ. وتوقفت مدرسة مازونة عن وظيفتها مدة طويلة، وتعرضت المكتبات والمساجد والزوايا والمدارس إلى النهب والهدم، والهجران. وقد اعتمد الأمير عبد القادر على فئة العلماء والمثقفين في إدارته، فجعل منهم القضاة والخلفاء والكتاب. ورغم اهتمامه بالتعليم في الخيام وفي المدن التي كانت تحت يده، فإن حركة التعليم قد تأثرت بشدة، ونفس الشيء يقال عن مليانة والمدية اللتين كانتا تابعتين لحكم الأمير إلى سنة 1840. ومن الزوايا الريفية في الجهة الغربية زاوية القيطنة التي توقفت أيضا عن أداء مهمتها في التعليم أثناء المقاومة، سيما بعد 1836. وقد عاشت هذه الظروف زاوية سيدي محمد بن عودة ناحية زمورة الغربية، وزاوية سيدي العريبي نواحي مينة، والتي يمتد نفوذها من مستغانم إلى أم السنام (الأصنام قديما)، وزاوية أولاد سيدي دحو، بمعسكر، وزاوية أولاد سيدي الشيخ

ص: 31

بالبيض، وزاوية أولاد سيدي عمار بن دوبة (كاشرو) الخ. ومنذ حوالي الستينات ظهرت زوايا جديدة نصبت نفسها للتعليم العربي الإسلامي رغم المراقبة والمضايقة الفرنسية والقيود القانونية وجفاف الموارد. ومن ذلك زاوية أولاد الأكراد بتيهرت (تيارت).

وقبل أن نختم هذه الفقرة حول وضع التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال في رأي الكتاب والملاحظين، نذكر أن بعضهم قد حكم على هذا النوع من التعليم بالفشل لأسباب: منها ما ذكرنا كالحروب ومصادرة الأوقاف الخ. ومنها اختفاء الطلبة والعلماء حتى أنه لم يبق منهم إلا بعض الطاعنين في السن، وفيهم من لا يكاد يعرف القراءة والكتابة (إنهم طاعنون في السن وإن جهلهم لا يعادله إلا البؤس العميق). الذي أصبحوا عليه. ومعنى ذلك أن الفرنسيين انتظروا عن قصد إلى أن أصبح وضع هذا التعليم كالمريض الميؤوس منه. وبعض الذين بقوا من متعلمي الزوايا قد تولوا وظائف أخرى غير التعليم الذي أصبح، كما لاحظ تقرير بيدو، تعليما لا يعيش أسرة ولا يقيم الأود. وتعترف بعض المصادر الفرنسية بأن اختفاء التعليم العربي - الإسلامي أو فشله يرجع أيضا إلى هدم العديد من المدارس والزوايا أثناء الثورات المتأخرة مثل 1857، 1864، 1871. وقد حدثت الأزمات الاقتصادية خلال الخمسينات والجوائح الماحقة بين 1867 - 1869. ثم إن الزوايا كانت تعيش من الأوقاف (الأحباس) إلى سنة 1863، ولكن في هذه السنة صدر المرسوم الشهير حول تمليك الأرض والذي قضى على أوقافها أيضا إذ كان كثير من الزوايا يعيش على الأرض الموقوفة، فلم يبق للزوايا بعد ذلك من الموارد سوى الزيارات التي يأتي بها أتباع الزوايا في مواسم معينة، وقد تدخلت السلطات الفرنسية في هذه الزيارات أيضا فمنعتها عمن تشاء وأبقتها فقط لبعض من الشيوخ الذين خدموا فرنسا بإخلاص.

وليس السبب الاقتصادي هو وحده الذي كان وراء فشل الزوايا في أداء دورها - والتعليم من أبرزه - ذلك أن مجالات العمل أمام المتخرجين منها أصبحت معدومة تقريبا. فالفرنسيون كانوا يعتبرونها ملجأ للتعصب الديني

ص: 32

والتراث العربي الإسلامي. ولذلك زعزعوها من جذورها. ولم يكونوا يثقون في المتخرجين من الزوايا ولا من الذين يتخرجون من القرويين أو الزيتونة أو من الأزهر. وقد أسسوا المدارس الشرعية الرسمية الثلاث لتخريج من يحتاجونه في الوظائف الدينية والقضائية دون الحاجة إلى خريجي الزوايا أو معاهد المغرب أو تونس أو مصر. وبنى الفرنسيون بعض المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية لتنافس تعليم الزوايا والمعمرات وللتأثير على جيل من المتعلمين لا رابطة بينه وبين ما يسمى التعليم الديني أو التقليدي. ولم يعد في استطاعة الزوايا التوسع في أوساط الأعراش وفي المدن كما في الماضي لأن مرسوم الأرض المشار إليه أخذ صلاحيات كثيرة من القيادات العربية السابقة وبدأ في تدجينها بتقليص مساحات نفوذها ونزع أهم اختصاصاتها وإدخال منافسين جددا ليسوا من أهل السيف. وبذلك ضعف التعاون الذي كان بين أصحاب الزوايا (المرابطين) والأجواد أو الحكام في هذا المجال، ونعني به مجال التعليم. وما دامت الزوايا لم تجد طريقا للتوسع فقد انطوت على نفسها، كما ذكرنا، واستعملت وسائل أخرى ربما تكون غير علمية كالاكتفاء بتحفيظ القرآن، واللجوء إلى اتخاذ الرموز والتلغيز وكتابة الحروز، وتمني الأماني على الله.

ولكن يجب ألا يفهم من هذا اختفاء الزوايا ودورها التعليمي تماما. فرغم التدهور الذي أصابها خلال الستينات، كما ذكرنا، فإنها قد استمرت في أداء مهمتها في بعض المناطق كالجنوب وزواوة والأوراس. وكان بعضها يكتفي بالحد الأدنى (المسموح به) وهو تحفيظ القرآن الكريم ومبادئ الدين كزاوية تماسين التجانية وزاوية قمار، وزاوية أولاد الأكراد وزاوية العطاف، وبعض زوايا المدن التابعة للطرق الصوفية كالحنصالية في قسنطينة. ويذهب روبير آجرون إلى أن السلطات الفرنسية قد قامت بغلق بعض الزوايا اعتباطيا، تبعا للضغط عليها من الكولون، بعد 1870 (1). ولعل ما زاد في إضعاف دور الزوايا التعليمي قبول بعض رجالها التوظف في الوظائف المدنية

(1) نقلت ذلك تامي كولونا (المعلمون الجزائريون)، 1984 ص 32 وهنا وهناك.

ص: 33

الفرنسية بعد الثمانينات (1). ولكن كل ذلك لم يجعل الزوايا ترفع العلم الأبيض. فقد بقي (في الزوايا خبايا) كما يقولون، ومن هذه الخبايا سيتخرج جيل مطعم بالتأثير العربي الإسلامي وبالجو العام الفرنسي، وسيكون هو العمود الفقري لحركة الإصلاح القادمة. وقد وجد هذا الجيل احتياطيا قويا في خريجي المعاهد الإسلامية الذين كانوا مهمشين وغرباء في بلادهم، إلى أن فتح الفرنسيون مجال التعليم من جديد في عهد كامبون، بشرط طلب الرخصة حسب قانون أكتوبر 1892، فأقدم الجزائريون على إحياء التعليم في مختلف مجالاته، في الزاوية والمسجد والمدرسة. وعند حديثنا عن الشيوخ الذين أوكل إليهم التعليم المسجدي سنعرف من كان منهم خريج الزاوية، ومن كان خريج المدرسة الشرعية، ومن درس في المعاهد الإسلامية خارج الجزائر.

تلك آراء ومواقف الفرنسيين وبعض الأروبيين من التعليم العربي الإسلامي في الجزائر ومصيره. وقد اعتنى عدد من الجزائريين أيضا بهذا التعليم، بل دعاته، وانتقد منهجه ودعا إلى إصلاحه وتطويره. ومن الجزائريين من وظفته السلطة الفرنسية للدعوة إلى التعليم الفرنسي فقط، كما سنرى ذلك في آراء كتاب جريدة (المبشر). ولكن معظم الجزائريين لم يدعوا إلى نبذ تراثهم التعليمي، بل دعوا لتطويره لكي يتماشى مع الروح الإسلامية نفسها ومع روح العصر. ومن هؤلاء عبد القادر المجاوي في رسالته (إرشاد المتعلمين) وبعض كتبه الأخرى، ومحمد بن أبي شنب في ترجمته لبعض النصوص المتعلقة بالتربية عند المسلمين، ومحمد السعيد بن زكري في رسالته (أوضح الدلائل). وكل هؤلاء فعلوا ذلك قبل ظهور الحركة الإصلاحية الباديسية. وفي عهد هذه الحركة وقع تطوير التعليم العربي الإسلامي فعلا، وحلت المدرسة، كما قال جوزيف ديبارمي، محل المسيد (أو المكتب)، وحل المعهد محل الزاوية، بل أن الزاوية طورت نفسها أيضا لتواكب العصر والحاجة.

(1) انظر فصلي الطرق الصوفية.

ص: 34

وقد لخص الشيح أبو يعلي الزواوي حالة هذا التعليم في جمل قصيرة ومفيدة سنة 1367 هـ في مقالة نشرها في البصائر. فوصف التعليم العربي الإسلامي بأنه كان بدون إشراف الحكومة في العهد العثماني وأنه كان يكتفى بتعليم القرآن والعربية تبركا فقط، وأن الزوايا وغيرها لم تكن تتبع إدارة موحدة ولا برنامج يضبط مراحل التعليم، ثم قال: (وبينما نحن كذلك

إذ استولت علينا فرنسا فصار الأمر ضغثا على إبالة، فتمادى عدم الفرض على طلب العلم وفقدان الباعث

فالحكومة الفرنسية اعتنت بلسانها فبثته وأيدته وعززته، فتوقف الكثير من الناس، ولم يرغبوا فيه خشية أن يتفرنجوا ويتفرنسوا ويتخلقوا بخلق الإفرنج المباينة للعربية والإسلامية. ثم هم كذلك إلى ما بعد ثورة عام 1871، فتم الاستيلاء على جميع الوطن جبرا وقهرا، فتمكنت الحكومة في البادية (1)، التي كانت بمعزل عن التعليمين العربي والإفرنجي، فأسست المدارس الفرنسية، وألزمت الناس ببعث أولادهم إلى تلك المدارس إجبارا، وقررت لذلك عقوبات للمتخلف فتم الدست على العربية وخلفتها الفرنسية، وأقيمت مقامها، فالأولاد الذين كانوا يقرأون العربية تركوها فصاروا يقرأون الفرنسية منذ نحو ثلثي القرن. ثم من الطامة الكبرى أن قد صار المعلمون في تلك المدارس الفرنسية ينهون عن العربية بأنها تتعب الأولاد وتشوشهم وتكلفهم ما لا يطيقون، وأن لا بد من الاقتصار على الفرنسية، وأن من خالف ذلك أو قاوم أو نازع يعاقب بالأنديجينية، فانعدمت العربية

) (2).

والشيخ أبو يعلى يقصد هنا الصراع بين اللغتين في مراحله المختلفة. ولا يفهم منه أن الفرنسية كانت منتشرة لتعليم الجزائريين

(1) يعني في المناطق الريفية التي جرت فيها الثورة، ولا سيما منطقة زواوة.

(2)

أبو يعلى الزواوي (جماعة المسلمين) ط. 1948، ص 50 - 51، من مقال كان قد نشره في البصائر، عدد 25 (1397). ويقصد (بالانديجينية) قانون الأهالي البغيض الخاص بمعاقبة الجزائريين دون غيرهم. ونلاحظ أن معظم ما ذكره الشيخ أبو يعلى إنما كان يخص منطقة ثورة 1871.

ص: 35