المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٣

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

حادا لسياسة بلاده في تكوين رجال الدين والقضاء واللغة العربية. وكثير من المشاهير الذين مارسوا التدريس فيها لم يتخرجوا في الواقع منها بل تكونوا في غيرها أو ساهمت عوامل أخرى في تكوينهم، مثل عبد القادر المجاوي وحسن بن بريهمات وعبد الحليم بن سماية والمولود بن الموهوب ومحمد السعيد بن زكري. صحيح أن لغة تلاميذها كانت مزدوجة وأن ثقافتهم كانت متنوعة وعقليتهم كانت علمية أكثر من زملائهم خريجي الزوايا ومعاهد الشرق وتونس والمغرب، ولكننا نتحدث هنا عن الدور المنتظر منهم في تخصصهم، وهو القضاء الإسلامي واللغة العربية والأدب العربي والترجمة وما إلى ذلك. ومن أبرز المتخرجين من المدارس الشرعية مالك بن نبي، ولكنه لم يبرز إلا بعد أن ذهب إلى فرنسا نفسها واكتشف عبقريته هناك (1).

‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

هذا نمط آخر من المدارس أنشأه الفرنسيون في القرن الماضي لفترة محددة ثم ألغوه بعد حوالي اثني عشر سنة من إنشائه. وقد أطلقوا على مؤسسته اسم الكوليج الإمبريالي، أو الامبراطوري نسبة إلى الامبراطور نابليون الثالث الذي تأسس الكوليج في عهده. وكانت جريدة المبشر الرسمية تسميه (المدرسة السلطانية) لأنها تترجم الامبراطورية بالسلطنة. وقد فضلنا أن نطلق عليه اسم المعهد العربي - الفرنسي تمييزا للمدارس العربية - الفرنسية، وكثر استعمال لفظ (الكوليج) خلال القرن الماضي، ولذلك يجب عدم الخلط في الأسماء، فقد سبقت الإشارة إلى إنشاء كوليج الجزائر سنة 1837، وهو في مستوى متوسطة، وكان خاصا بالفرنسيين والأوروبيين الذين أنهوا دراستهم الابتدائية. ثم أنشأوا الكوليج العربي في باريس سنة 1839، وكان موجها للجزائريين أعيانا وشبانا، ولكن التجربة فشلت فألغي بعد قليل. ثم ظهر الكوليج العربي/ الإمبريالي (السلطاني) الذي نحن بصدده، وكان تاريخ إنشائه هو 14 مارس 1857.

لقد ظل الجزائريون بدون مدرسة متوسطة تشرف عليها الدولة الفرنسية

(1) انظر ترجمتنا له في فصل العلوم الاجتماعية.

ص: 402

إلى سنة 1850 حين تأسست المدارس الشرعية - الفرنسية، كما أشرنا، فكانوا لا يجدون أين يواصلون تعليمهم بعد أن يكون الأطفال قد انتهوا من المرحلة الابتدائية في المكاتب (الكتاتيب) ونحوها. وإذا كانت الزوايا متوفرة عندئذ في الأرياف، فإنها في المدن قد وقع الاستيلاء عليها وتحويلها إلى أعراض أخرى ذكرناها في فصل المعالم الإسلامية. وتدهورت حالة التعليم عموما بكل مستوياته. وفي سنة 1844 اقترح ليون روش على بوجو إنشاء (كوليج) في مستوى التعليم المتوسط، ولكن التنفيذ لم يتم. ثم تألفت لجنة الجنرال بيدو وخرجت سنة 1849 بتوصيات حول التعليم الموجه للمسلمين منها إنشاء ست مدارس عربية - فرنسية ابتدائية وإنشاء ثلاث مدارس شرعية - فرنسية. وقد فهم من ذلك أن الأخيرة هي التي تستقبل تلاميذ المدارس الابتدائية، رغم أن المدارس الشرعية بدأت بكبار السن وبمن لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. وكانت الدراسة فيها بالعربية والفرنسية (1).

كان الهدف الأساسي عند الفرنسيين، بعد فترة الإهمال المتعمد لتعليم الجزائريين، هو فرنسة تعليمهم من حيث اللغة ومن حيث المحتوى الفكري وتوجيه الخريجين وجهة تخدم المصالح الفرنسية. فأنشأوا بعد انقراض الجيل القديم عدة مدارس ابتدائية بالفرنسية أيضا، رغم ذكر عبارة (عربية) معها. ثم أنشأوا بعد 27 سنة من الاحتلال مؤسسة تعليمية للجزائريين لا تدرس إلا بالفرنسية. ونعني بذلك المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي. والواقع أنهما اثنان في الجزائر كلها، الأول بدأ يعمل في العاصمة سنة 1857 - 1858، والثاني بدأ يعمل في قسنطينة سنة 1867. وكان من المخطط توسيع التجربة وإنشاء معاهد أخرى في وهران وغيرها، ولكن سقوط الامبراطورية وظهور الجمهورية الثالثة الساخطة على سياسة نابليون (العربية) في الجزائر أديا إلى إغلاق حتى المعهدين المذكورين. ظهر المعهد في عهد الحاكم العام المارشال راندون الذي واصل سياسة بوجو في القضاء على الثورات والاستيلاء على المناطق الباقية من الجزائر

(1) انظر سابقا.

ص: 403

مثل منطقة جرجرة والواحات. وصدر مرسوم إنشاء المعهد في 14 مارس 1857 كما ذكرنا، ونشرته جريدة المبشر في 15 أبريل. وهو ينص على أن التعليم فيه شبه مجاني، وعلى إعطاء المنح لعدد من تلاميذ، وكونه مفتوحا للجزائريين والأوروبيين أيضا، إذا كانت أعمارهم بين التاسعة والاثني عشر. والتلاميذ فيه على ثلاث مجموعات: مجموعة من 45 تلميذا يدرسون على حساب الدولة، ومجموعة أخرى من 45 تلميذا تدفع عنهم الدولة حوالي ثلاثة أرباع المصاريف. ومجموعة من 60 تلميذا لا تدفع عنهم الدولة سوى نصف المصاريف، وكان الفرنسيون يريدون مكافأة العملاء الجزائريين على خدماتهم لهم، ولذلك خصصوا الدخول إلى المعهد لأبناء الذين قاتلوا إلى جانب الفرنسيين أو خدموا القضية الفرنسية بإخلاص.

والدراسة في المعهد ابتدائية ومتوسطة. والتلميذ يظل في المرحلة الابتدائية ثلاث سنوات، يتدرب فيها على اللغة الفرنسية. ولا ينتقل إلى المرحلة التحضيرية (المتوسطة) إلا بعد اجتياز امتحان صعب في اللغة الفرنسية. وكان التلميذ الجزائري يعتبر ساذجا وبسيطا وصغير المخ ما دام من بيئة عربية يتحكم فيها القرآن والتقاليد الإسلامية. ومعظم التلاميذ لهم مبادئ بالفرنسية عند الدخول، كلاما وكتابة وقراءة. لذلك يعين لهم معلمون يدخلونهم بالتدرج في الحياة الفرنسية وينقلونهم، كما يقول غوستاف دوقا Dugat، من الحياة الإسلامية إلى الحياة الفرنسية. ولما كان التلاميذ متأثرين باللغة العربية التي لا تتسع، في نظره، إلى جميع الأفكار العصرية، فإن الوصول إلى الهدف المنشود، وهو دمجهم في الحياة الفرنسية، سيكون بطيئا. ويسمى دوقا هذه المرحلة مرحلة (فصل التلميذ عن القرآن)، وهي ما قبل سنة التخصص.

وقد ألبس الفرنسيون الدراسة في هذا المعهد بلباس إسلامي أيضا تمويها على الأهالي. فجاؤوا بمؤدب يقرئ القرآن للتلاميذ، وهو أيضا إمام يؤمهم في الصلوات الخمس. أما اللغة العربية التي تدرس في المعهد فهي العربية الدارجة، ولا تدرس إلا بمعدل ساعة في الأسبوع على يد أحد الفرنسيين. وقد اعتبرت لغة (أجنبية)، مع ذلك. أما اللغة العربية الفصحى

ص: 404

الكلاسيكية، كما يسمونها، فتدرس مرة في الأسبوع في السنة الثانية وفي الأقسام النهائية مرتين في الأسبوع، ولا يشرحها أو يتحدث عنها المعلم الفرنسي إلا باللغة الفرنسية. وفي المرحلة التحضيرية يتلقى التلميذ دروسه في التاريخ الفرنسي والجغرافية الفرنسية، والحساب، والتحليل العميق للنصوص بالفرنسية. فإذا اجتاز التلميذ هذه المرحلة التي سماها دوقا (فصل التلميذ عن القرآن)، يأخذ في تلقي دروس الأدب الفرنسي ويتمرن على طريقة التراجم الفرنسية وتحليل أعمال الكتاب الفرنسيين، كما يدرس تاريخ فرنسا منذ 1789. أما في السنة الثالثة فيأخذ دروسا في تاريخ إفريقية (1)، أي أنه يدرس كل شيء تقريبا إلا تاريخ الجزائر وتاريخ العرب والمسلمين وحضارتهم.

بدأ معهد الجزائر بـ 105 من التلاميذ الداخليين و 68 خارجيين، يضاف إليهم تلميذان في الطب. والداخليون هم أولاد العرب، كما يقول الفرنسيون، وكان عددهم يتزايد سنة بعد أخرى (2). وكان التلاميذ الذين تتحمل الدولة الفرنسية نفقتهم هم أبناء القيادات الأهلية التي خدمت فرنسا كما ذكرنا. ويتضح ذلك من قائمة التلاميذ عند النجاح ونيل الجوائز فهم عادة أبناء كبار الموظفين عند فرنسا أو ممن قتل آباؤهم أو جرحوا أثناء أداء الخدمة لفرنسا أيضا. وكانت الميزانية المحلية والبلدية تساهم أيضا في النفقة والجوائز. وللتلاميذ المسلمين نظام داخلي خاص بهم. أما التلاميذ الأوروبيون فهم خارجيون (3).

أول مدير للمعهد العربي - الفرنسي (الكوليج) منذ إنشائه هو الدكتور

(1) غوستاف دوقا المجلة الإفريقية R.A، 1869، ص 248.

(2)

بوليو، مرجع سابق، 254.

(3)

انظر رسالة إبراهيم الونيسي عن جريدة المبشر، مرجع سابق، وكذلك ميرانت كراسات)، ص 80. ويذكر ميرانت أن هناك علاقة بين إنشاء المعهد ومدرسة الطب، ولاحظ أن راندون خطط بأن يدخل تلاميذ المعهد إلى مدرسة الطب ليصبح هؤلاء بعد ذلك في خدمة الطب الفرنسي في الأعراش (الأرياف).

ص: 405

نقولا بيرون Perron. وهو كمدير كان يعين من قبل وزير الحربية. وبيرون مستشرق له حياة متنوعة، درس العربية والطب وحياة الشرق، وترجم عدة مصادر إسلامية من بينها مختصر الشيخ خليل في الفقه، وبعض التجارب الطبية العربية، وحياة المرأة العربية قبل الإسلام. وعاش في القاهرة، وتولى بها مدرسة الطب، وكانت الثقافة الفرنسية في مصر قوية منذ عهد محمد علي باشا. ولذلك فإن عددا من الذين سبقت لهم التجربة في مصر جيء بهم إلى الجزائر لتشابه الحياة والظروف في البلدين. وقد تناولنا سيرة الدكتور بيرون في فصل الاستشراق.

وفي سنة 1864 خلفه في إدارة المعهد المستشرق شيربونو الذي كان على رأس حلقة اللغة العربية في قسنطينة، كما كان شيربونو يلقي دروسا في الفرنسية للراغبين فيها من الجزائريين الموظفين. أما معهد قسنطينة فتولاه السيد (أوبن) سنة 1869. ويشترط في المعلمين الجنسية الفرنسية سواء كانوا فرنسيين بالأصالة أو متجنسين، ولا يقبل في المعهد غير هؤلاء بمن فيهم الجزائريون. وكلهم كانوا تحت رقابة الحاكم العام. ويشترط فيهم أيضا معرفة اللغة العربية الدارجة وعادات أهلها. والحاكم العام هو الذي كان يرشح للوزير أسماء المعلمين ليقوم بتعيينهم. وكان المؤدب أو المعلم للقرآن في المعهد عندئذ هو الشيخ (أحمد؟) بوقندورة، وهو اسم ظل يتردد إلى فاتح هذا القرن، لأن عائلة بوقندورة قد تولت وظائف عالية أيضا كالإفتاء. ولاحظ أحد التقارير أن هذا المؤدب (سنة 1865) كان لا يعرف الفرنسية ولا الحساب، وطالب بأن يعين شاب فرنسي إلى جواره (1).

وبعد التخرج يحصل التلاميذ على شهادة تؤهلهم لبعض الوظائف الدنيا. وهي وظائف مدنية وعسكرية. فهم إما يتجهون لأداء الخدمة

(1) أرشيف إيكس (فرنسا)، 1732 F 80. والتقرير كتبه من مرسيليا إلى الوزير السيد أوريلي orielle في 5 جوان (يونيو)، 1865. انظر كذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، 220. ترى ماذا ستكون مهمة الشاب الفرنسي: هل سيعلمه الصلاة أو يحفظه القرآن؟! عن عائلة بوقندورة انظر فصل السلك الديني والقضائي.

ص: 406

العسكرية التطوعية، وإما يتولون وظائف القياد أو الخوجات أو الترجمة، أو الطب، أو الفقه. ومنهم من يتوجه إلى مدرسة الفلاحة بفرنسا، ولكن عدد الخريجين ضئيل جدا، إذ لا يتعدى الخمسة أو الستة في العام. وقد لاحظت (المبشر) أن التلاميذ يتوقفون عادة في سن السادسة عشرة لحاجة ذويهم إليهم، وهم عادة من عائلات فقيرة، وادعت أيضا أن السكان لهم قابلية في تعلم الحرف والصنائع خلافا لما كان يشاع عنهم، بل ولهم قابلية في التعلم عموما. ولعل في ذلك تكذيبا للمقولة السائدة عندئذ، وهي رفض الجزائريين التعليم وعدم القابلية فيهم أصلا. ولكن صاحب هذا الرأي أبى إلا أن يطعن في اللغة العربية إذ قال عنها إنها لغة غير صالحة للتقدم، وهي لا تؤدي إلى التطور والإصلاح (1).

برنامج المعهد محدود وموجه جدا. أما كونه محدودا فلأنه مقصور على مواد معينة في الحضارة الفرنسية، وهو كذلك غير مفتوح لكل الجزائريين. وأما كونه موجها جدا فلأن كل المواد تصب في هدف واحد وهو إبعاد المتعلم الجزائري عن أصله وتراثه ولغته ودينه وربطه بالحضارة الفرنسية. ولا يغرنك وجود القرآن في المعهد، فقد لاحظ الفرنسيون أن التلاميذ يحفظون آياته دون إدراك معناها، والمؤدب يقوم معهم في المعهد بما يقوم به زملاؤه في المكتب (الكتاب) وهو حفظ بعض السور والآيات. كما لا يغرنك وجود العربية لأنها هي الدارجة فقط وبحصة واحدة أسبوعيا وعلى يد معلم فرنسي، وتعليمها لا يكون إلا باللغة الفرنسية، فهو في الواقع تشويه لها في أذهان التلاميذ الذين هم أعرف بالدارجة ونطقها بالسجية من الفرنسي. أما اللغة الفصحى فكذلك لا تدرس إلا بالفرنسية. والمواد الفرنسية في البرنامج هي الأساسية، وهي اللغة بنحوها وصرفها وتمارين

(1) المبشر، 25 مارس 1869، مقالة عربتها عن زميلتها (الأخبار) في 15 مارس، والمقالة بقلم غوستاف دوقا. وجعلت المبشر عنوان المقالة الطويلة (النبذة اللطيفة في شأن تأديب وتعليم صبيان المسلمين). وانظر العدد 1 أبريل 1869 من المبشر أيضا. والمقالة على كل حال مفيدة.

ص: 407

إنشائها وإملائها والقراءة في نصوصها، مع مادة الحساب والرسم والخط والموسيقى. وكذلك التاريخ الفرنسي والجغرافية، والمحفوظات (1). ومن المواد المدروسة أيضا العلوم الطبيعية والهندسة والرياضة البدنية. وبعد اجتياز الامتحان بنجاح في هذه المواد يمنح التلميذ شهادة تعتبر في مستوى البكالوريا، ولكنها (شهادة خاصة) ولا ترقى في الواقع إلا إلى مستوى الأهلية (2).

في سنة 1869، أي بعد 11 سنة من إنشاء المعهد العربي - الفرنسي تخرج من معهد الجزائر 16 تلميذا مسلما. وقد ذكرت المبشر أن ثلاثة منهم دخلوا مدرسة سان سير العسكرية، والتحق واحد منهم بمدرسة الخيالة بسومور، وتلميذ آخر بمدرسة الطب البيطري ببلفور، أما الباقون فقد قالت عنهم إن منهم من كان يرغب في الدخول إلى مدرسة الطب (الجزائر)، ومنهم من تطلع إلى وظائف أخرى (3). ويظهر من أسماء الذين التحقوا بمدرسة سان سير أنهم من أصول عثمانية (4).

أما معهد قسنطينة فلم تطل مدته حتى تظهر نتائجه بوضوح. فقد افتتح

(1) أرشيف إيكس (فرنسا) من كتيب رقم 27 I 1 . الأرقام التي كانت تستعمل في المعهد هي الأرقام التي نسميها اليوم الهندية، وهي الأرقام العربية المستعملة في المشرق.

(2)

رسالة إبراهيم الونيسي، مرجع سابق.

(3)

المبشر 21 كتوبر 1869. ذكرت المبشر في العدد الموالي وهو 28 أكتوبر 1869 أن وزير الحربية قد رخص لثلاثة من خريجي المعهد العربي - الفرنسي بدخول المدرسة المذكورة (سان سير) وهم: حسن بن محمد، ومحمد بن إبراهيم مامو، وعمرو بن محمد بن الشاوش، من خريجي المعهد لسنة 1867، وأن اثنين قبلا في مدرسة الطب بالجزائر، وهما علي بن محمد بن بولكباشي وقدور بن محمد، وذلك بعد امتحان دخول خاص. انظر المبشر 3 أكتوبر 1867.

(4)

بوليو، مرجع سابق، 254. وكذلك دوقا، مرجع سابق (R.A) 1869، 280. في سنة 1869 تخرج من معهد قسنطينة 13 جزائريا، منهم 4 واصلوا التعليم في مدرسة عربية رسمية (فرنسية)، و 3 في مدرسة سومور، و 3 مهندسين، وفارس في ديوانة القنطرة، وواحد بيطري. انظر بيلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، ص 284.

ص: 408

فقط سنة 1867 وبعد أربع سنوات صدر قرار إغلاقه من الحاكم العام المتعصب ضد العرب والمسلمين، والناقم على عهد نابليون الثالث، وهو الأميرال ديقيدون. وقد غشيها عند افتتاحها 156 تلميذا منهم 112 تلميذا مستقرا أو داخليا، و 40 نصف داخلي، و 12 خارجيين (أوروبيون؟)، مع تلميذين متخصصين في الفقه الإسلامي. بدأ المعهد في شهر يناير فقط. والإقبال الذي شهده هذا المعهد جعل السلطات تفكر في تعميم التجربة. واعتبر السيد بوليو التجربة ناجحة جدا، وقال إنه يمكن التفكير في إنشاء سبعة أو ثمانية معاهد أخرى مماثلة (1). أما جان ميرانت فقد اعتبر هذا النوع من التعليم دليلا على كرم فرنسا وليبراليتها وجميل صنيعها. وذكر أن معهد قسنطينة قد افتتح في بناية إسلامية جميلة تقع على منحدرات سيدي مسيد. وضم 112 تلميذا، منهم 108 من الأهالي، وقد أصبح سنة 1870 يضم 199 منهم 117 من الأهالي. وقد خطط الفرنسيون لإنشاء معهد ثالث في وهران، ولكن ذلك لم يحصل لتغيير نظام الحكم.

تبين بعد تجربة قصيرة أن فكرة إنشاء المعاهد لم تحقق كل الهدف الذي وضعه المنظرون الفرنسيون. فاللغة الفرنسية لم تكن إلى سنة 1864 شرطا أساسيا لدخول المعهد. ووجدوا أن بعض التلاميذ دخلوه وهم لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. ولعل ذلك راجع إلى قلة التلاميذ المتقدمين وحرص المسؤولين على فرنسة كل من جاءهم عندئذ، مهما كان مستواه. وأمام هذا الخلل كتب الحاكم العام مذكرة إلى والي الجزائر قائلا إنه لا يمكن التسامح بعد اليوم في ذلك، فقد حان الوقت الذي لا يدخل فيه المعهد إلا التلاميذ العارفون بالفرنسية. وتشجيعا لذلك رصد الحاكم العام منحتين لتلميذين يعرفان قراءة الفرنسية، وإذا أمكن يعرفان كتابتها أيضا، مع جودة الصحة البدنية. هذا بالنسبة للغة الفرنسية، أما المنح الخاصة بأبناء من خدموا القضية الفرنسية فقد رصدها الحاكم العام أيضا، وهي تدخل فيما فرضه الفرنسيون على العرب من غرائم والتي تسمى (الغرامة

(1) ميرانت (كراسات)، ص 81. وهناك اختلاف في أرقام التلاميذ عند الافتتاح.

ص: 409

العربية) (1). وإذن فالفرنسيون لا يدفعون المنح ولا المرتبات من ميزانية الحكومة وإنما يدفعها الجزائريون، رغم أن أولادهم لا يدرسون، كما عرفنا، وهم في الواقع يدفعون مرتين مرة في شكل أموال الأوقاف المغتصبة ومرة في شكل الغرامة العربية، بالإضافة إلى الضرائب العادية.

ومع ذلك فإنه يبدو أن تجربة إنشاء المعهدين قد جلبت الأنظار إليها حتى من غير الفرنسيين. ولعل هؤلاء قد أكثروا من الضجة حول نجاح التجربة. ففي 1869 جاء أحد الخبراء الروس إلى الجزائر مبعوثا من وزيره للتعليم ليشهد التجربة الفرنسية في الجزائر بنفسه وليحاول الوزير الروسي تطبيقها على مسلمي بلاد القوقاز والجركس، إذا اقتنع بجدواها. فالتجربة الفرنسية قامت على فرض الفرنسية على الجزائريين مباشرة وإلغاء العربية، وكان الروس يريدون أن يفعلوا ذلك مع لغتهم ولغة مسلمي القوقاز. والغريب أن الجريدة الرسمية (المبشر) قد تبجحت (بالطريقة الجديدة) في ميدان التربية والتعليم، كما تقول، وهي تقوم على (تحريم) استعمال العربية في تدريس اللغتين الفرنسية والعربية للتلاميذ المسلمين، لإدراك معنى اللغة الفرنسية. وقالت إنه:(لا يخفى على أحد أن الصور والأشكال الحسية هي الكتاب الأنفع في تعليم الصبيان اللغة الأجنبية، مهما كانت اللغة) وأخبرت الجريدة أن المسؤول الروسي قد تأمل في الطريقة الجديدة وكيف كان الفرنسيون يعلمون لغتهم مباشرة (لأبناء العرب دون ارتكاب اللغة العربية للتوصل إلى المعنى)(2).

وعشية افتتاح معهد قسنطينة نشرت المبشر مقالة طويلة في عددين أو أكثر، لأحد المتأدبين من أهالي قسنطينة عنوانها (النصيحة الدرية في تأديب الذرية)، وصاحب المقالة هو مصطفى بن السادات. ويظهر أنه كتبها بإيعاز من سلطات المبشر والإدارة ترغيبا لأهل المنطقة في إرسال أولادهم إلى

(1) انظر أرشيف إيكس (فرنسا) 21 I 1، وكذلك المبشر، 3 أكتوبر 1867.

(2)

المبشر، 11 فبراير 1869.

ص: 410

المعهد الجديد وعدم الخوف من التعليم الفرنسي الذي كانوا يحذرون منه. وقد أخبر ابن السادات أن الدولة تحث الناس على التعلم باللغة الفرنسية لأنها لغة العلم والسيادة، وأن من لم يحرز بها وظيفة تمتع بآدابها، وأنها في المستقبل هي وسيلة الوظيف والخبز. وقد كتب المقالة بأسلوب مسجع أحيانا، وأخبر أنه إلى ذلك الحين تخرج 31 تلميذا من معهد الجزائر، وظهر منهم الترجمان والمهندس والمعلم والحاكم بالأعراش والجندي. وقد سمي معهد قسنطينة الجديد (المدرسة السلطانية التي أعدت لبث العلوم الفرنسية بقصد صالحي الذرية الإسلامية في مدينة قسنطينة)(1).

وقد تبعه زميله محمود بن الشيخ، المحرر بالمبشر أيضا، بمقالة على نفس الوتيرة، وعنوانها (نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية)، وظهرت هذه المقالة بعد الأولى بحوالي سبعة أشهر. وكلتاهما (تنصح) الجزائريين بإرسال أولادهم ليتعلموا الفرنسية التي هي خير وسيلة للعلم والتعلم ونبذ الجهل وإحراز المناصب، لأن (التعلم يؤلف بين العباد على اختلاف ألسنتها وطبائعها)، وضرب لهم مثلا بالنهضة في مصر، وحثهم على العلم طبقا للآيات والأحاديث، وبين خطأ الاعتقاد في أن علوم الدين وحدها كافية. وأشار إلى أهمية اللغة الفرنسية كلغة حديثة وما توصل إليه الفرنسيون من اختراعات ونهضة (2).

وهذا حق أريد به باطل. فالسلطة الفرنسية أهملت التعليم للجزائريين ثم خططت لنوع من التعليم يهمها هي تريد من ورائه إبعاد الجزائريين عن

(1) المبشر، 27 ديسمبر 1866. هذه المقالة لم نعثر على أولها إذ الأعداد السابقة لهذا التاريخ مفقودة في المجموعة التي رجعنا إليها. وقد وجدنا في العدد المذكور تتمة وعبارة انتهى. وسنشير إلى مصطفى بن السادات في فصل المنشآت الثقافية (الصحافة).

(2)

المبشر 25 يوليو، 1867. انظر كذلك رسالة إبراهيم الونيسي، مرجع سابق. ونرجح أن محمود هذا هو ابن الشيخ علي بن عبد القادر بن الأمين، الذي تولى الفتوى عدة مرات في آخر العهد العثماني. وعن محمود بن الشيخ علي انظر لاحقا.

ص: 411

لغتهم وماضيهم وشخصيتهم. وأوعزت لبعض منهم ليخاطبوا مواطنيهم بما يرغب فيه الفرنسيون. فالجزائري لم يرفض التعليم بل كان يطالب به، ولم يرفض الفرنسية لو أنها كانت فقط لتدعيم ثقافته العربية الإسلامية. وقد جاء في العريضة الشهيرة المسماة (مقالة غريق) والتي حررها أهالي قسنطينة سنة 1891 قولهم للسلطات الفرنسية (إننا لا نستحي من القول بأن السبب المنافي للبعظ (كذا) منا من إرسال أولادهم إلى المدارس هو تحققهم بعدم تدريس لغتهم الأصلية العربية بتلك المكاتب (المدارس)، وخولهم من فساد عقولهم الضعيفة ونسيانهم لأصولهم ودينهم وملتهم) (1).

ومع ذلك فإن الذي ألغى المعهدين المذكورين ليس هم الجزائريين. ويقول بوليو إن إلغاء المعهدين سنة 1871 عمل تعصبي أو (شوفينيستي). وقد هنئ ديقيدون (الحاكم العام) في تقريره سنة 1873 على هذا العمل التخريبي. وقال بوليو إنه كان من المفروض أن تتوسع شبكة هذه المعاهد حتى تصل إلى عشرين أو ثلاثين مدينة في الجزائر، وبذلك تجلب إليها عشرة آلاف من الشبان الجزائريين الذين يمكن لفرنسا ممارسة نفوذها عليهم عقليا ومعنويا. وطالب بأن يكون للغة العربية مكانها في الجزائر حتى في الليسيات الفرنسية، وهي في نظره لغة واجبة على الفرنسيين أيضا لأنها وسيلتهم إلى السفر نحو السودان والصحراء والمغرب الأقصى. وندد بوليو بالشعور المعادي لتعليم الجزائريين وللردة التي ظهرت في الوثائق الرسمية، كما قال، منذ سنة 1870، وهو الشعور الذي غذته النقمة من ثورتي 1871 و 1881 (2).

ورغم أن المعهدين لا يمكن اعتبارهما مدرستين ثانويتين للجزائريين، كما ذكرنا، فإنهما كانا نافذتين لمن يرغب في متابعة الدراسة المتوسطة وحتى الثانوية بعد اجتياز مرحلة المدرسة الابتدائية المسماة العربية - الفرنسية.

(1) انظر العريضة (مقالة غريق) وهي مطبوعة على حدة في قسنطينة، وقد نشرها أيضا جمال قنان (نصوص سياسية).

(2)

بوليو، مرجع سابق، 255. وكان بوليو من أنصار دمج الجزائريين حضاريا. ولذلك رأى أن تجربة المعاهد تخدم ذلك الهدف.

ص: 412