المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المدارس الشرعية الثلاث - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٣

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: ‌المدارس الشرعية الثلاث

‌المدارس الشرعية الثلاث

لم يفكر الفرنسيون في إنشاء تعليم في المستوى المتوسط والثانوي للجزائريين إلا منذ 1850، أي بعد عشرين سنة من الاحتلال. وقد تزامن ذلك مع ظهور المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية التي أنشئ منها ست مدارس فقط إلى السنة المذكورة. أما المتوسط فقد أنشئ له ثلاث مدارس فقط في كل من البليدة وقسنطينة وتلمسان.

وتسمية هذه المدارس خضعت لعدة اعتبارات. فمن حيث الإشراف عليها هي مدارس حكومية رسمية، ولذلك كانت تسمى في أغلب الأحيان بالمدارس الحكومية الثلاث أو المدارس الرسمية. وكان الفرنسيون يطلقون عليها الاسم العربي وهو (المدارس Les Medersas). ولا يسمونها بالاسم الفرنسي écoles أو lycées أو colleges، أو يترجمون معنى هذه إلى العربية. بل انطلقوا في التسمية من التقاليد الإسلامية التي تطلق اسم المدرسة على المكان المخصص لتدريس العلوم بالمستويات الثانوية والعالية، مثل المحمدية بمعسكر والكتانية في قسنطينة والقشاشية في العاصمة. وكانت عبارة المسيد أو الكتاب أو المكتب خاصة بالتعليم الابتدائي (القرآني). أما التعليم العالي فكان مقره المساجد الكبرى والزوايا الشهيرة.

وأما من حيث البرامج والأهداف فقد كانت المدارس الثلاث تسمى بالفقهية، وهذا من إطلاقات جريدة (المبشر) الرسمية. ذلك أن برنامج المدارس تضمن تدريس الفقه والمواد الدينية الإسلامية وكان يهدف إلى تخريج القضاة والأيمة الذين تحتاجهم الإدارة. وكانت الدراسة في أول إنشاء هذه المدارس كلها بالعربية (1)، ومنذ 1876 أدخلت عليها تغييرات، منها

(1) يقول ميرانت أنه ابتداء من سنة 1863 أضيف أستاذ فرنسي لتعليم اللغة الفرنسية إلى هيئة التدريس في كل مدرسة من المدارس الشرعية. انظر (كراسات)، ص 80 =

ص: 367

ازدواجية برنامجها ولغة التدريس فيها. وأصبحت من ذلك العهد يطلق عليها المدارس العربية - الفرنسية أو الفرنسية الإسلامية (فرنكو - آراب/ فرنكو - ميزولمان).

وعند إنشائها كان وضعها فوضويا، لا حدود فيها لسن الداخل إليها، ولا شروط في مستوى تعليمه، فقد يدخلها من سبق له التعلم ومن لم يسبق له، ويدخلها صغير السن والمتقدم في السن. ولا شروط أيضا في معلميها من حيث المستوى والشهادات. تكفي فيهم فقط الشهرة في وقتهم والولاء لفرنسا. ولكن هذا الوضع قد تغير بعد 1876 أيضا. فقد اتخذت إجراءات عديدة تتعلق بالتلاميذ والمعلمين والامتحانات والإدارة، سنتحدث عنها.

من الصعب أن نقول إن المدارس المذكورة كانت ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية أو حتى عالية. فإذا نظرنا إلى فترة تأسيسها وانطلاقتها إلى حوالي 1876 فإنها لا تعدو أن تكون مدارس متوسطة، رغم وجود بعض الشيوخ المؤطرين لها ومستوى دروسهم التي كانت أحيانا في مستوى الثانوي. وبين 1876 و 1895 كانت المدارس تبث تعليما في مستوى الثانوي بالفرنسية وفي مستوى المتوسط بالعربية، رغم أن الفرنسيين يصفون التعليم بالعربية فيها بأنه (عال) superieur، ولكن منذ 1905 استحدث في مدرسة الجزائر فقط تعليم يمكن تسميته عاليا، إذ لا يدخله من التلاميذ إلا من قضى أربع سنوات بالمدرسة وحصل على (البروفي؟) وخارج هذا القسم الخاص لا يوجد تعليم عالي في الجزائر مزدوجا أو عربيا، ولكن من الناحية النظرية يمكن للجزائريين دخول جامعة الجزائر، والدراسة فيها بالفرنسية فقط. وقد لاحظنا أن الجامعة كانت محتكرة للفرنسيين، فلم يكن في كلياتها الخمس ومعاهدها من الجزائريين سنة 1940 سوى 89 طالبا.

= وكانت مدرسة الجزائر هي الوحيدة التي تنقلت بين المدية ثم البليدة (1855) ثم العاصمة من جديد 1859 حيث استقرت. وكانت المدارس الثلاث تابعة للحكم العسكري، أما إصلاح 1876 فهو الذي وضعها تحت الحكم المدني وسلطة (الأكاديمية) أو مديرية التربية.

ص: 368

وبالنظر إلى برنامج المدارس الثلاث وأهدافها المذكورة يمكننا أن نبقى على تسمية جريدة المبشر لها وهي تسميها بالفقهية. ولكن هذا الاطلاق يصدق فقط على العهد الأول حين كانت تحت إدارة عربية وكانت موادها عربية - إسلامية. أما منذ تولاها المستشرقون وتغيرت برامجها فالتسمية بالفقهية لم تعد صالحة في نظرنا. والأولى أن نسميها بالمدارس الشرعية - الفرنسية. وكلمة (شرعية) هنا لا تعني الشريعة أو التشريع الإسلامي فقط، ذلك أن القانون الفرنسي كان أيضا يدرس في هذه المدارس، وقد فقدت الشريعة الإسلامية فيها سلطتها منذ حوصر القضاء الإسلامي في المحاكم، كما أن اللغة الفرنسية والأفكار الفرنسية كانت هي الغالبة عليها. ولذلك نميل إلى التسمية المذكورة، وهي الشرعية - الفرنسية.

سبق إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية عدة محاولات ولكنها جميعا لم تثمر. فبعد إهمال التعديم الابتدائي العربي - الإسلامي، وقع فراغ مخيف في الحياة العلمية والثقافية، وكذلك بالطبع في الحياة الدينية ولا سيما في ملء الوظائف القضائية والإمامة وما إليها. فمهما اشتغل الفرنسيون بالحرب وقمع المقاومة، ومهما اشتغلوا بمصادرة أموال الأوقاف والأماكن الدينية، فإنهم كانوا في حاجة إلى موظفين جزائريين في إدارة القضاء والقيام بالعبادات في المساجد وغيرها مما لا يمكنهم هم أن يقوموا به. كانت المحاولة الأولى هي إنشاء كوليج الجزائر (1837) وهو للتعليم الثانوي الفرنسي لكن من حيث المبدإ يمكن للجزائريين دخوله. وقد رأينا أنهم قاطعوه. فطرأت فكرة أخرى على الفرنسيين وهي إنشاء كوليج عربي في باريس لاستقبال التلاميذ والضيوف العرب، (سنة 1839)، ولكن التجربة أيضا لم تنجح إذ لم يذهب إليه الجزائريون وعارضوا إرسال أبنائهم إليه، كما لاحظنا أيضا. وفي سنة 1844 كتب الضابط ليون روش Leon Roche (1)

(1) عن ليون روش انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1. وكان قد تجسس على الأمير عبد القادر لصالح المارشال بوجو، وزار الحجاز متنكرا باسم (عمر) ورجع بفتوى ضد المقاومة، وتولى وظائف عليا، منها قنصل فرنسا في المغرب ثم تونس. وله =

ص: 369

تقريرا اقترح فيه إنشاء معهد عربي في الجزائر، لتدريس المواد العربية والإسلامية لسد الفراغ في هذا الباب وتوظيف خريجيه فيما تحتاج إليه فرنسا. وقد صادف هذا التقرير بداية الاهتمام لدى السلطات الفرنسية بقضية التعليم للجزائريين ووضع فلسفة تخدم الوجود الفرنسي.

تجمد تقرير ليون روش وبدأت لجنة الجنرال بيدو في عملها. وقد استغرق البحث والدراسة أربع بل خمس سنوات، ثم خرجت التوصيات والاقتراحات بإنشاء تعليم يقوم من جهة على الازدواجية ومن جهة أخرى يقوم على قطع الطريق على المغامرين في نظر الفرنسيين، وهم أولئك المسلمون الذين يأتون إلى الجزائر من المغرب أو من تونس أو غيرهما لنشر التعليم وتولي القضاء والإمامة بدعوى أن الجزائر قد أصبحت شاغرة من أصحاب هذه الوظائف.

صدر مرسوم إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية بتاريخ 30 سبتمبر 1850. وقد نص على إنشاء ثلاث مدارس واحدة في قسنطينة، وأخرى مقرها تلمسان، وثالثة في المدية. ويقول المستشرق ألفريد بيل الذي تولى إدارة مدرسة تلمسان مدة طويلة بعد ذلك، إن الهدف من إنشاء المدارس الشرعية الفرنسية، هو إعادة الثقة للمغلوبين (الجزائريين)، وجلب الطلبة الذين كانوا من قبل يتوجهون للدراسة في الجامعات (الأجنبية)، وخصوصا المغرب. والمقصود من المدارس تكوين المترشحين للوظائف المتصلة بمصالح الدين والقضاء والتعليم العام للأهالي وللمكاتب العربية (1).

كان لكل مدرسة ثلاثة معلمين مسلمين (جزائريين) أحدهم مدير

= كتاب في جزأين قص فيه حياته ومغامراته، سماه (اثنان وثلاثون سنة في الإسلام)، باريس

1884.

وقد نشر عنه يوسف مناصرية كتابا سماه (مهمة ليون روش في الجزائر والمغرب)، 1990. انظر أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) مجلة (المنهل) عدد غشت، 1996.

(1)

كان في كل مكتب عربي (وهو في الواقع مكتب عسكري فرنسي) قاض جزائري، وقد لاحظ الفرنسيون أنهم لم يعودوا يجدون من يوظفون في هذا المنصب الحساس. وكان ذلك من دوافع إنشاء هذه المدارس.

ص: 370

للمدرسة. وكانوا يتوزعون المواد التي هي: النحو، والأدب، والفقه، وأصول الدين، والتوحيد. ونلاحظ أن إنشاء المدارس كان في كل مدينة إسلامية عريقة، فتلمسان معروفة كعاصمة قديمة لمملكة بني زيان، واشتهرت بعلمائها وصلحائها ومساجدها وقبابها ومدارسها وحضارتها وصنائعها الإسلامية. ومدينة قسنطينة كذلك كانت مدينة العلم والحكم في العهد الحفصي، واشتهرت أيضا بعائلاتها العلمية وبمشيخة الإسلام في العهد العثماني وبالمدرسة الكتانية في عهد صالح باي. أما مدينة المدية فقد كانت معتزة بمحافظتها على التقاليد العربية الإسلامية، وبكونها عاصمة إقليم التيطري في العهد العثماني، وكانت نقطة ارتكاز هامة أثناء المقاومة تطل على العاصمة في عهد الأمير عبد القادر، ولها مساجدها وعمرانها. وقد عرفنا أن إقامة المدرسة في المدية لم تطل، وأنها انتقلت بعد خمس سنوات إلى البليدة، وبعد حوالي أربع سنوات نقلت إلى العاصمة.

من الميزات كذلك أن المدارس الشرعية - الفرنسية قد وضعت منذ البداية تحت إشراف السلطات العسكرية، رغم أن إدارتها كانت عربية ومعلميها من العرب. فهي مدارس تقع تحت إشراف الحاكم العام، وتحت مراقبة الضباط الحاكمين في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة عندئذ. ومن خصائصها أنها نشأت إلى جانب أحد المساجد أو قريبا من ذلك. وكانت السلطات الفرنسية تجري عليها تفتيشا سنويا، يقوم به مفتش فرنسي له علاقة بالشؤون العربية (العسكرية)، ويساعده في ذلك أحد المستشرقين القائمين على حلقات اللغة العربية الثلاث، وكان الحاكم العام هو الذي يعين هذا المساعد للقيام بمهمته.

وكان التعليم مجانيا في المدارس الشرعية - الفرنسية، وليس هناك امتحان دخول إليها في البداية. وكان على الطالب أن يتقدم فقط بطلب إلى المكتب العربي بالناحية على أن يوافق عليه الحاكم العسكري. وبعد تقدم السنوات أضيف شرط، وهو امتحان دخول لمعرفة ما إذا كان التلاميذ يعرفون القراءة والكتابة بالعربية. ولذلك قلنا إن مستوى تعليمها في هذه المرحلة

ص: 371

ابتدائي، رغم قول الفرنسيين أنه ثانوي أو عالي. فكون المتلقي كبير السن لا يجعل مستوى التعليم عاليا سواء كان المتلقي يعرف القراءة والكتابة أو لا يعرفهما. لقد كان في إمكان التلاميذ أن يدخلوا المدارس المذكورة في أي وقت شاؤوا من السنة، فدروسها عبارة عن دروس حرة. وكان طلابها أو تلاميذها متقدمين في السن، ومنهم من وصل إلى سن الأربعين، وفي أغلب الأحيان قد وخطهم الشيب، كما يقول المستشرق بيل. وبناء على توصية من لجنة (قاستنبيد) جرى امتحان دخول للمدارس الثلاث وشارك فيه لأول مرة سنة 1869 رجال الزوايا. وكان ذلك بإلحاح من المكي بن باديس الذي قيل عنه أنه كان ضد المدارس الثلاث وكان يقف مع استقلال المجالس القضائية ويدافع عن الدين الإسلامي. وقد فاز رجال الزوايا بوظائف القضاء، ولكن مشاركة رجال الزوايا ألغيت في عهد الحاكم العام شانزي (انظر لاحقا) سنة 1877. ويبدو أن الإقبال على المدارس الرسمية في البداية كان مرتفعا إذ يذكرون أن عدد التلاميذ في المدرسة الواحدة كان بين 50 و 60 بسبب ما أشيع من أن التلميذ المنتظم يتحصل على حوالي 80 سنتيم في اليوم. ولكن ذلك لم يستمر، لأن معدل الحضور، كما سنرى، كان بين 15 و 20 فقط. وقد قدرت بعض التقارير أن المنحة السنوية للتلميذ المنتظم كانت حوالي مائة فرنك سنويا، إذا أثبت التلميذ أنه نجيب. وكان يمكن للتلاميذ السكنى في المدرسة إذا توفر لها ذلك. ولكن التقارير أثبتت أن الشروط الصحية كانت سيئة.

كذلك لم يكن هناك شروط لاختيار المعلمين، ولا المدير، ولا توجيه التعليم. فقد ترك توجيه التعليم للمعلمين أنفسهم، على أن يخضع لزيارة المفتش الفرنسي، كما لاحظنا، ليطلع على سير التعليم. والغريب أن السلطات العسكرية قررت إلغاء مادة التوحيد من التدريس، وهو قرار خارج عن نص المرسوم بإنشاء المدارس. ويقول المستشرق بيل أن أحدا (من الأهالي) لم يتقدم بشكوى من ذلك. وسنرى أن باب الجهاد والضرائب قد ألغى أيضا من أبواب الفقه. وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات فقط. وقلما يواصل التلاميذ تعلمهم إلى نهاية الفترة، على قصرها، إذ أنهم يغادرون

ص: 372

المدرسة كلما وجدوا وظيفة (صغيرة) في القضاء أو الديانة. هكذا يصف المستشرق بيل وظيفة الديانة والقضاء بالصغيرة، وأنها لكبيرة لو كان يدرك هو ومن تولاها مغزاها وأهميتها. ولكن هذه الوظيفة استهزئ بها زمن الاحتلال حتى تولاها الأميون وأشباههم، وكانت النتيجة هي ذلك الضحل من العلم والإساعة إلى الدين الإسلامي والقضاء والتعليم. وفي 1863 عدل مرسوم إنشاء المدارس وأضيفت اللغة الفرنسية والحساب والهندسة والتاريخ الفرنسي والجغرافية إلى مواد الدراسة كما سبقت الإشارة. والمهم هو أن هذه المواد كان يغطيها معلمون فرنسيون، وكان المدير يغطي مادة واحدة. وبالإضافة إلى المعلمين كانت كل مدرسة تضم أيضا وقافا أو قيما (1). إن برنامج المدارس الشرعية - الفرنسية قد أصبح يساير المدرسة العربية - الفرنسية، بعد حوالي ثلاث عشرة سنة من إنشائها.

وقد جاء في أحد التقارير أن للمدارس الشرعية - الفرنسية (صبغة سياسية). وأنها لكذلك. فقد ذكرنا أنها كانت تخضع لرقابة السلطات الحاكمة، والعسكرية بالخصوص. وأن مادة التوحيد والجهاد قد أزيلت من برنامجها. والذين عينهم الفرنسيون على رأسها هم من القضاة السابقين في المكاتب العربية مثل الشيخ محمد الشاذلي بقسنطينة. وأثبت التقرير أيضا أنه بعد حوالي خمس سنوات من إنشائها أصبح بالإمكان توظيف خريجيها وإدخال المواد الفرنسية على برنامجها وأن دروسها على ما يرام بعد أن أثبت التفتيش ذلك، كما أثبت تطوير المعلمين المسلمين فيها، وأنه لن يطول الزمن حتى ينفروا من الدراسات القرآنية والتقليدية ويستقبلوا الدراسات والأفكار الفرنسية بصدر رحب. وقد أثبت هذا التقرير أيضا أن عدد التلاميذ الإجمالي هو 66 تلميذا كانوا موزعين هكذا: 26 في مدرسة البليدة، و 26 في مدرسة قسنطينة، و 14 في مدرسة تلمسان. أما الميزانية السنوية فتبلغ 23.000 فرنك. وهي تخرج من ميزانية الدولة (2).

(1) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1850، ص 195 - 196.

(2)

عبد الحميد زوزو، (نصوص

)، مرجع سابق، ص 218 - 220.

ص: 373

أما المدراء والمدرسون فكان وزير الحرب هو الذي يعينهم باقتراح من الحاكم العام. وأما الحارس أو الوقاف فيعينه الوالي بناء على اقتراح من مدير المدرسة. وأجرة المدير كانت 2.100 ف. سنويا. وأجرة المعلمين 1، 500 ف. وليس هناك شروط لاختيار المعلمين. ومن أوائل مدراء هذه المدارس هم حسن بن بريهمات في البليدة - الجزائر، ومحمد بن عبد الله الزقاي في تلمسان، ومحمد الشاذلي في قسنطينة (1). واشتهر من بين شيوخها في قسنطينة الحاج أحمد المبارك المعروف بالعطار والمكي البوطالبي، وكلاهما من بقايا المدرسة القديمة ولهما إلمام واسع بالمعارف الإسلامية. وكان الطاهر بن غراس من أوائل شيوخ مدرسة تلمسان التي بدأت عملها في مدرسة سيدى بومدين بقرية أو ضاحية العباد ثم تحولت إلى تلمسان نفسها ابتداء من سنة 1853 (2).

لقد كانت المدارس الشرعية - الفرنسية وسيلة أخرى لتجنيد الجزائريين إلى جانب الإدارة الفرنسية. فبعد الفراغ الذي خدفه (المتعصبون) المعاصرون للحملة، وهم الذين حملوا السلاح وقاوموا الاحتلال، أرادت السلطات الفرنسية أن تعلم جيلا من أبناء هؤلاء ليكونوا لها مطية في تولي الوظائف القضائية والدينية، كما تولى القسم الآخر من هذا الجيل الوظائف الإدارية - الباشغوات والأغوات والقياد الخ. - وقد أثمرت الجهود فأخذ الفرنسيون يعينون، منذ منتصف الخمسينات، من خريجي المدارس التي أنشأوها. وكما حل أغوات فرنسا محل خلفاء الأمير عبد القادر حل كذلك قضاة فرنسا محل قضاة الأمير، وكذلك محل القضاة الآخرين الذين لم يمروا بالمدرسة الفرنسية ولم يلامس أمخاخهم الفكر الفرنسي، قضاة وعلماء كانوا قد درسوا

(1) وكلهم اشتغلوا أيضا في السلك القضائي. انظر فصلا آخر تناولنا فيه هذا السلك.

(2)

انظر ألفريد بيل، (مؤتمر شمال إفريقية)، ج 2، 1908، باريس، ص 219. وقد تعرض الباحث إبراهيم الونيسي إلى ما جاء في جريدة (المبشر) عن المدارس الشرعية - الفرنسية، سيما أعدادها 12 جوان، 1861، و 24 أكتوبر 1877. انظر رسالته، مرجع سابق.

ص: 374

في المغرب أو المشرق. وقد وجدنا جريدة المبشر تنشر سنة 1867 بمناسبة المجاعة المهولة التي حدثت بالجزائر كلها، الرسالة التي بعثت بها مجموعة من قدماء مدرسة الجزائر إلى مديرها الشيخ حسن بن بريهمات. وفي الرسالة بعض النقود التي تبرعوا بها لتلاميذ المدرسة المتضررين من المجاعة، وكتابين للمدير، واعتزاز بانتمائهم إلى المدرسة وبالوظائف التي أصبحوا يتولونها بعد تخرجهم منها. وكان عددهم، حسب الرسالة، ستة عشر قاضيا وعدلا وباش عدل، في دوائر المدية، والأصنام (الشلف)، ومليانة، وسور الغزلان. ومنهم محمد العنتري (بني مناصر)، ومحمد الحميسي (العطاف)، والحاج محمد طيفور (1).

ولكن ليس كل خريجي المدارس الشرعية - الفرنسية كانوا يجدون الوظائف مفتوحة أمامهم. إنها وظائف قبل كل شيء محدودة بأعيانها. وهي القضاء والديانة، ولذلك كان العدد يتحدد مسبقا. وقلما يزيد عدد التلاميذ في المدرسة عن العشرين. وقد كثر (العاطلون) بين من تخرجوا منها منذ ألغيت الوظائف القضائية الإسلامية وإحلال القضاة الفرنسيين محل القضاة المسلمين، أي منذ الخمسينات ولكن بالتدرج. ويبدو أن المستوى في المدارس كان ضعيفا جدا في اللغة وفي الفقه والأدب، ولا ندري مدى تقدم الخريجين في المواد الفرنسية، وهي المواد التي لا تفيدهم كثيرا في أداء وظيفة القضاء والديانة. وهذه رسالة بعث بها أحد الخريجين إلى مدير التعليم الفرنسي (الريكتور) يخبره أنه قرأ في مدرسة تلمسان ثلاث سنوات ونال الشهادة منها سنة 1888 (أي بعد إصلاحها) ومع ذلك لم يجد وظيفة (والطلبة الأجنبية (أي الذين لم يدرسوا في المدرسة) يضحكوا (كذا) علي ويقولوا (كذا) لي إجازة المدرسة ليس فيها فائدة). وهو يطلب من المدير أن يدله على وظيفة شاغرة لكتابة عقود الزواج والطلاق والميلاد والوفاة بين

(1) المبشر، عدد 28 مارس، 1867. لا شك أن الوظائف المفتوحة أكثر من غيرها عندئذ هي الوظائف القضائية. أما الدينية فما تزال في أيدي فئة أخرى، سنتحدث عنها.

ص: 375

العرب. وقد ألح عليه في الطلب (بجاه الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين). ونحن لا نعرف من هو هذا المتوسل المسكين، ولكنه كان من نواحي وهران، وكان ضحية من ضحايا الإدارة الفرنسية، وتدل رسالته على مستوى تعليمي وعقلي بسيط (1).

انتقد المستشرق بيل المتحمس جدا للفرنسية، النتائج التي تحصل عليها الفرنسيون من المدارس الشرعية - الفرنسية قبل الإصلاح سنة ص 1876. ومن رأيه أنها أدت مهمتها في عدة نواحي ولكنها ظلت قاصرة عن إدراك الهدف الحقيقي وهو خدمة المصلحة الفرنسية قبل كل شيء. فقال إنه بعد 25 سنة من إنشائها تكون قد أدت دورها بالنسبة للمسلمين، لأنها كانت تضم عددا كبيرا من المترشحين رغم حالتهم السيئة في السكنى والعناية. كما أن الإدارة الفرنسية قد وجدت فيها موظفين اعتمدت على مشاعرهم وولائهم بعد أن عركتهم في الميدان فوجدتهم أقل خطرا عليها من أولئك الذين وظفتهم من المدارس الحرة (الزوايا؟) أو من الجامعات الأجنبية (الإسلامية). ويرجع الفضل في ولاء الخريجين وكسب مشاعرهم إلى تعلمهم اللغة الفرنسية، رغم أنه كان تعلما بسيطا. فقد كان له الأثر الإيجابي الكبير على عقلية التلاميذ فقربهم قليلا من الفرنسيين.

ولكن هذه النتائج في نظره لم تكن كافية، لأن هناك عدة أخطاء ارتكبت في الأثناء وأصبح لا بد من إعادة النظر ومراجعة البرنامج. من ذلك الخطأ في تنظيم المدارس نفسه وعدم وجود إدارة مناسبة لها. وانعدام المراقبة الفعالة للدروس والطريقة السيئة في اختيار التلاميذ، فهؤلاء كانوا لا يعرفون إلا القليل من العربية، والأقل من ذلك أو لا شيء على الإطلاق من العربية الفصيحة أو الأدبية عند دخولهم، مع تقدم السن بعدد كبير من التلاميذ، وكانوا يفتقرون إلى الذكاء والطموح. وبتعبير آخر فإن هذه النقائص

(1) الرسالة نشرها بلقاسم بن سديرة في (كتاب الرسائل)، مرجع سابق 311. وهي بتاريخ 13 سبتمبر 1890، وكان مدير مدرسة تلمسان عندئذ (ديرسيوا) هو الذي نصحه بالكتابة إلى مدير التعليم.

ص: 376

كلها ترجع إلى أن المدرسة كانت تحت إدارة جزائرية وبرنامج عربي في مجمله وتلاميذ غير مختارين بدقة، إذ جاء أغلبهم من الزوايا حيث يحملون معهم مادة قوية من التعصب الديني ضد الفرنسيين، ويرفضون كل الأفكار الليبرالية الفرنسية التي يحاول الفرنسيون زرعها في التلاميذ. أما النقد الآخر فقد وجهه بيل إلى السلطات العسكرية التي كانت تتحكم في هذه المدارس في حين أنها غير مؤهلة لإدارة التعليم فيها (1).

لقد رأى الفرنسيون إدخال إصلاحات على المدارس الشرعية - الفرنسية ابتداء من سنة 1876. كان عقد السبعينات يمثل مرحلة خاصة في مختلف الميادين. وفي ميدان التعليم بالذات لاحظنا إلغاء المدارس العربية - الفرنسية بقرار من الحاكم العام ديقيدون، وإلغاء الكوليج الامبريالي في كل من الجزائر وقسنطينة. وجاء دور المدارس الشرعية - الفرنسية، فلم تلغ تماما لحاجة الإدارة إلى خريجيها في بعض التخصصات، ولكنها نظمت تنظيما خاصا بحيث تؤدي دورها المحدود، وهو تخريج بعض القضاة الخاصين بعقود الزواج والتركات، وتخريج بعض الأيمة في المساجد، مع التركيز على الفرنسية في اللسان وفي الأفكار. لقد جاءت الجمهورية الثالثة لمحو ما بقي يدل على وجود عربي - إسلامي في الجزائر. فجاء مرسوم 15 غشت 1875 ليمنح الحكومة العامة في الجزائر حق إنشاء مدارس إسلامية، ذريعة لإحداث تغيير هام في بنية ووظيفة المدارس الشرعية الثلاث ابتداء من 16 فبراير 1876. وبناء على القراء الأخير فإن الحاكم العام في الجزائر يحتفظ بحق المراقبة السياسية والإدارية للمدارس المذكورة. كما يتكفل مدير التعليم بإدارة الدراسات والانضباط الداخلي فيها. وقد اعتبر التعليم في المدارس الثلاث عبارة عن تعليم عال، على أنها مؤسسات للتعليم العالي الإسلامي. أما هدفها فقد ظل كما كان تقريبا، وهو تخريج المترشحين لوظيفة القضاء والديانة الإسلامية والتعليم العام الإسلامي، وكذلك كل الوظائف الأخرى المخصصة حسب مرسوم 21 إبريل 1866، للأهالي المسلمين غير

(1) بيل (مؤتمر شمال إفريقية)، مرجع سابق، 219.

ص: 377

المتجنسين بالجنسية الفرنسية (1).

وبناء على هذا الإصلاح تناقص عدد التلاميذ في المدارس الشرعية - الفرنسية خلال سنوات 1877، 1878 وإلى 1891. فقد كان مثلا عددهم أكثر من 50 تلميذا في تلمسان خلال سنوات 1860 - 1882 فإذا به ينحدر إلى أقل من 40 سنة 1882 ثم إلى 21 فقط سنة 1890، و 1881 (2). ويذكر بوليو أن العدد في المدارس الثلاث قد انخفض إلى 78 فقط سنة 1878، أي بمعدل 29 تلميذا لكل مدرسة (3). وقد حدد الإصلاح الجديد عمر الدخول للتلاميذ بـ 18 إلى 25 سنة. وقبل الدخول كان على المترشح أن يمثل أمام لجنة الاختبار، وبعد ذلك يظهر اسمه في قائمة المقبولين التي تقدم للحاكم العام نفسه ليختار منها من يرغب فيه. ويكون ذلك بعد دراسة دقيقة لملف المترشح ووضع أهله السياسي والاجتماعي وسيرتهم وعلاقتهم بالفرنسيين ماضيا وحاضرا. كما أن الحاكم العام هو الذي يسمى المدرسين والمفتشين. ويقدم المفتش تقاريره إلى مدير التعليم. وفي القرارات التنظيمية اللاحقة

(1) عن المراسيم والقرارات الخاصة بالإصلاح المذكور انظر جريده (المبشر) عدد 12 مايو، 1877. وهو نص أمضاه الحاكم العام شانزي، ويتضمن النواحي الإدارية والرواتب والبرنامج، وكذلك (لائحة ما تجب معرفته على طالبي وظائف الشريعة الإسلامية) وهي لائحة مفصلة في نفس الجريدة عدد 11 غشت، 1877. انظر أعداد نوفمبر 1876 من الجريدة المذكورة.

(2)

يذكر بيل (مؤتمر

)، ص 221، أن سنتي 1877، 1878 انخفض فيها عدد التلاميذ إلى ما دون الخمسين. وظل دون الأربعين منذ 1882، بينما سبق له أن وصل إلى 62 سنة 1868 (سنة المجاعة). ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن هناك فرقا بين عدد المسجلين وعدد الدائمين، الذي لم يكن يتجاوز 15 - 20. وجاء في إحصاء ذكره بوليو أن سنة 1879 قد عرفت ارتفاعا في أعداد التلاميذ، فبلغت 128 تلميذا، موزعين هكذا: الجزائر: 26، تلمسان 45، قسنطينة 27، أما في سنة 1882 فقد وصل العدد إلى 96. وتوزع التلاميذ هكذا: الجزائر 43، تلمسان 24، قسنطينة 29. انظر بوليو، ص 265.

(3)

بوليو، مرجع سابق، ص 265.

ص: 378

تفاصيل إضافية. فقد انتزع قرار 21 نوفمبر 1882 حق المراقبة في المناطق العسكرية من يد الضباط وأعطاه إلى الولاة. ثم جاء قرار 26 يوليو، 1883 فوضع إدارة المدارس في يد مدير التعليم (ريكتور). أما الميزانية فقد بقيت تخرج من الدولة.

كان امتحان الدخول إلى المدارس الثلاث يجري خلال جوان/ يونيو من كل عام، ولكن منذ سنة 1886 استحدث امتحان دخول آخر في أكتوبر (دورة ثانية). ويتضمن الامتحان العناصر الآتية:

1 -

إملاء بالعربية مع إعراب في النحو من الإملاء نفسه.

2 -

شرح نص بالعربية في الشريعة الإسلامية.

3 -

تدريب على التحرير بالعربية.

4 -

اختبار في اللغة الفرنسية يتضمن القراءة والكتابة بها، مع محادثة شفوية.

5 -

أسئلة عن الأعداد العشرية.

وهي عناصر تدل على الفرق الذي كان بين مدرسة 1850 ومدرسة 1877. ومن الواضح أن الذي يمكنه اجتياز هذا الاختبار هو التلميذ الذي نجح بالمدرسة العربية - الفرنسية السابقة أو بالأقسام الأهلية الملحقة بالمدارس الفرنسية، أما في العربية فيبدو أن هناك ضعفا متواصلا للتلاميذ لطغيان المواد الفرنسية على مواد الاختبار ثم على مواد الدراسة. ولنذكر هنا أن معظم الداخلين إلى هذه المدارس هم الذين كان يدرس لهم عبد القادر المجاوي في هذه الأثناء سواء في قسنطينة أو الجزائر. ولا نعرف له نظيرا في مدرسة تلمسان. أما مدة الدراسة فقد بقيت ثلاث سنوات، كما كانت منذ 1850. ثم صدر قرار سنة 1884 يحدد المواد الدراسية في التالي: الشريعة الإسلامية، والنحو والأدب العربي، واللغة الفرنسية، ومبادئ القانون الفرنسي ثم الحساب والتاريخ الفرنسي والجغرافية. ومنذ 1887 أضيفت مواد أخرى إلى البرنامج وهي مواد تدرس بالفرنسية، مما جعلنا نؤكد أن الاتجاه كان نحو

ص: 379

الفرنسية حتى في هذه المدارس التي من المفروض فيها خدمة الدين الإسلامي والقضاء الإسلامي والتراث العربي. فقد أضيفت في السنة المذكورة مبادئ العلوم الطبيعية والفيزيائية وحفظ الصحة والتربية الأخلاقية والمدنية، وجميعها كانت تدرس باللغة الفرنسية. وبناء على إحصاء ذكره المستشرق بيل بالنسبة لمدرسة تلمسان (وهو الإحصاء نفسه في المدرستين الأخريين) فإن عدد الساعات المخصصة للسنة الأولى هي 29 ونصف ساعة، منها عشرون فقط للغة العربية والشريعة. ومن بين الساعات المخصصة للسنتين الأولى والثانية ومجموعها 32 وثلاثة أرباع، نجد عشرين ساعة فقط أيضا للمواد العربية والشرعية (1).

أما المعلمون فقد مسهم أيضا قرار أو إصلاح سنة 1876، ونص على تحسين أوضاعهم وطريقه توظيفهم ورواتبهم، الخ. والمديرون، الذين أصبحوا فرنسيين، قد صنفوا إلى ثلاث فئات حسب طبقاتهم: 2200، 2500، 3000 فرنك. وراتب المعلم يبدأ بـ 1، 200 ف. وفي إمكانه أن يرتقي إلى 1.500 ف و 1.800 ف. وكان مدير مدرسة تلمسان ممن يعرفون العربية ويشغل وظيفة مدير في نفس الوقت لإحدى المدارس الابتدائية في المدينة. فهو يجمع بين إدارتين، ولذلك لا يكاد يجد الوقت لمراقبة شؤون المدرسة الشرعية - الفرنسية التي نحن بصددها. وكان عليه أن يقوم فيها بدروس معينة. كما كانت المدرسة تضم معلمين فرنسيين آخرين يشغلان أيضا وظيفة التعليم في الثانوية البلدية (الكوليج)، ويحصلان على تعويض مقابل تدريسهما في المدرسة الشرعية، وليس لهما معرفة في اللغة العربية. وفي المدرسة أيضا ثلاثة معلمين جزائريين لا ندري من أين وظفوا وبناء على أية مؤهلات، وهم لا يعرفون الفرنسية وليست لهم أية وظيفة أخرى غير التدريس في المدرسة (2). والغالب أن وضع مدرسة الجزائر وقسنطينة كان هو

(1) بيل، مرجع سابق، ص 221.

(2)

نفس المصدر، وقد اعتمدنا على تقريره، ولذلك كانت الأمثلة بمدرسة تلمسان في وقت إدراته، وقد كتب بحثه سنة 1908.

ص: 380

نفسه وضع مدرسة تلمسان.

والنقد الذي وجه إلى هذه التجربة شديد أيضا رغم مدح الإصلاح الذي حقق الكثير من الأهداف الفرنسية. وهذا النقد موجه إلى وضع التلاميذ وليس إلى البرنامج أو المعلمين. فهم يدخلون المدرسة بمعرفة بسيطة باللغة الفرنسية لا تمكنهم من فهم المعلومات الملقاة عليهم بالفرنسية أيضا. واختيارهم كان شكليا لأن عدد المترشحين كان قليلا فلا يجري عليهم المختبرون عملية تصفية دقيقة بل يقبلونهم جميعا. وأما بخصوص العربية فهم فيها خليط وليس لهم فيها مستوى واحد. ومن عادة المدرس المسلم الارتفاع بالدرس إلى مستوى الأفضل من تلاميذه فلا يفهم عليه المتوسطون والضعفاء، ومن عادة المعلم الفرنسي النزول إلى مستوى الضعفاء في النحو الفرنسي والحساب. وبذلك يحس المعلم أنه يقدم معلومات أولية جدا، إضافة إلى كون المديرين لا وقت لهم لتوليهم إدارة ثنائية وقيامهم بالتدريس أيضا. وقد ظل الأمر كذلك إلى الإصلاح الثاني الذي عرفته المدارس الشرعية الفرنسية، وهو الصادر في 1895 (1).

وهذا الإصلاح الثاني جاء في الواقع ضمن التوجهات الجديدة الشاملة للحكومة الفرنسية في الجزائر وغيرها. فالأمر لا يتعلق بالمدارس الشرعية وحدها أو التعليم وحده، ولكن المسألة تهم جميع الميادين الإدارية والمالية وغيرها. وكان ذلك نتيجة التحقيق الذي أجرته لجنة مجلس الشيوخ بين 1891 - 1892، وكان السيد كومبس من بين أعضائها، كما مر، ثم أصبح وزيرا للتعليم. وأثناء قيامه بهذه المسؤوليات قدم التقرير المعروف باسمه إلى البرلمان وتبناه عندما وافق عليه زملاؤه وأخذ يطبقه كوزير. وقد ساعده على ذلك آخرون كانوا يشاطرونه الرأي، ومنهم جول فيري، وجول كامبون، وشارل جونار، والبان روزي، ووا لدك روسو.

وقد ظهر مقال بدون توقيع في (مجلة إفريقية الفرنسية) سنة 1896

(1) بيل، مرجع سابق، 221 - 222، وكذلك جان ميرانت (الكراسات)، 88.

ص: 381

لخص أفكار كومبس حول إصلاح المدارس الشرعية - الفرنسية (1). ولأهميته نذكر نقاطه البارزة فيما يلي: قال صاحب المقال: إنه كان للجزائر عند الاحتلال موظفون مؤهلون في ميدان القضاء والديانة. ولكن ذلك الجيل أخذ ينقرض، فتفطن العسكريون الفرنسيون لذلك الفراغ وأنشأوا المدارس الشرعية - الفرنسية سنة 1850. وكانت مدة الدراسة في القانون الفرنسي هي ثلاث سنوات، والقانون الفرنسي في نظر العسكريين أصعب من الشريعة الإسلامية، ولذلك حددوا مدة الدراسة في هذه المدارس بثلاث سنوات أيضا. وعلى ذلك فقد كان بإمكان التلاميذ الجزائريين أن يكتسبوا معارف جيدة لو أن شروط الدخول هنا كشروط الدخول هناك، ولكن الأمر في الجزائر لم يكن كالأمر في فرنسا، لأن المتخرجين من المدارس الثلاث كانوا، عدا المتفوقين، أدنى من المستوى المطلوب، رغم ذكائهم وحماسهم.

ومن الأخطاء في نظر صاحب المقال الذي بنى فكرته على تقرير كومبس والنقد الذي جاء فيه، قضاء التلاميذ وقتا طويلا في تعلم اللغة الفرنسية ظنا من الفرنسيين أن اللغة تجعلهم أكثر ولاء وإخلاصا لفرنسا مما لو أنهم قضوا وقتا أطول في تعلم العلوم العربية الفقهية واللغوية. وقد تبين أن اللغة الفرنسية وإن كانت تفيد التلميذ فإنها لا تمنحه أي تأثير على مواطنيه. ولكن هدف فرنسا هو تعيين رجال يكون لهم تأثير معنوي على مواطنيهم، ومن ثمة كان لابد من تعليمهم بعمق في العلوم الإسلامية والعربية، أما الفرنسية فلتكن فقط في الدرجة الثانية بالنسبة إليهم، أي عندما يعاد النظر في قانون التوظيف الذي سيبنى على مراعاة مصلحة فرنسا. ومن جهة أخرى فإن ثلاثة ملايين ونصفا من الجزائريين لهم وزن اقتصادي وسياسي عظيم.

ومن الأخطاء التي بررت إصلاح سنة 1895، نشأة الكوليجات

(1) مجلة إفريقية الفرنسية. A.F. (يناير 1896)، ص 42 - 43.

ص: 382

(المعاهد) العربية - الفرنسية (1)، فقد كان الهدف منها تعويض الفراغ الذي أحدثه إلغاء المدارس والمعاهد العربية للتعليم الثانوي. وكان القصد من إنشاء الكوليجات هو إعطاء المكانة للغة الفرنسية حتى لا تتغلب عليها اللغة العربية. ولكن التجربة دلت على أن الأوروبيين والجزائريين قد نظروا بشزر إلى تلك الكوليجات، فالأوروبيون اعتبروها تدليلا للجزائريين وحسدوهم عليها ما دام أولاد الأوروبيين كانوا يتلقون التعليم الثانوي في إحدى الثكنات الانكشارية. أما الجزائريون فقد تخوفوا من وجود الكوليجات ولم يرتاحوا إليها (2). وبعد 1870 نظر الأوروبيون إلى الجزائريين على أنهم مرتبطون بالعهد العسكري (عهد الامبراطورية)، فقاموا بإضعاف اللغة العربية في المدارس الشرعية - الفرنسية وتقوية الفرنسية فيها (إصلاح 1876). فإذا بهذه المدارس قد ابتعدت عن هدفها وأصبحت لا تخرج إلا الضعفاء غير المؤهلين لتولي المناصب الدينية والقضائية. وكان ذلك في الوقت الذي ظهر التنافس لها على أشده في الزوايا المحلية والجامعات الإسلامية والأجنبية. ولو ترك الفرنسيون الأمور تتطور على هذا النحو لألغيت المدارس الشرعية - الفرنسية تماما ولكان ذلك خطرا على المصالح الفرنسية وعلى الجزائريين معا.

وقد امتدح صاحب المقال جهود الحاكم العام كامبون أيضا لأنه هو المسؤول على تطبيق المراسيم الحكومية الجديدة. فهو الذي أشرف على إعادة تنظيم المدارس الشرعية، وقد أصبحت الدراسة فيها ست سنوات لمن أراد التوظف في السلك الديني والقضائي، وأصبح على الجزائريين دراسة اللغة الفرنسية من البداية، ودراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية في هذه

(1) سندرسها في فقرة أخرى، وكانت قد نشأت قبل 1870 ثم ألغيت مع سقوط الامبراطورية. والإشارة إلى الثكنات دليل على أن الفرنسيين استخدموا المنشآت العسكرية والدينية السابقة لصالح تعليمهم وإدارتهم. انظر فصل المعالم الإسلامية.

(2)

وهذا ادعاء غير صحيح في جملته إذا نظرنا إلى الإقبال على الكوليجات التي خصصت لأبناء العائلات التي خدمت فرنسا. ولكن الجزائريين كانوا إلى ذلك العهد (عهد الامبراطورية) متحفظين من المدارس الفرنسية عموما.

ص: 383

المدارس التي هي بمثابة الثانويات لهم. أما الذين لا يريدون منهم العمل في القضاء ولا في السلك الديني فعليهم أن يدخلوا الثانويات الفرنسية المحض. وكانت الميزانية من الدولة، ولكنها تقدم في شكل مساعدات فقط، بينما ميزانية التعليم الفرنسي أساسية. ولذلك لخص صاحب المقال المذكور هذا الموقف بقوله: إن 400.000 ساكن أوروبي في الجزائر يأخذؤن 3.000.000 فرنك من الميزانية للتعليم، أما المسلمون (الجزائريون) البالغون 3.400.000 فيأخذون 70.000 فرنك من الميزانية، ولكن في شكل مساعدات فقط.

والإصلاحات التي اقترحها تقرير كومبس بالنسبة للمدارس الشرعية تتلخص في عشر نقاط أساسية. وهي:

1 -

إعادة تنظيمها بناء على الاقتراحات التي يقدمها مدير التعليم (ريكتور) ويوافق عليها الحاكم العام.

2 -

الاستمرار في أداء وظيفتها باعتبارها مدارس (عليا) تحضر للوظائف الإسلامية العامة (1)، على أن تصبح مفتوحة أمام جميع الشبان المسلمين (الجزائريين) بناء على طلبهم ومؤهلاتهم (2).

3 -

برنامجها الإسلامي يتضمن دروسا في التوحيد والفقه والأدب العربي والتاريخ الإسلامي. أما برنامجها الفرنسي فيتضمن دروسا في الأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافية الفرنسية والحساب ومبادئ القانون الفرنسي والتشريعات الفرنسية في الجزائر ومبادئ العلوم الطبيعية والصحية والبدنية.

4 -

مدة الدراسة بها ست سنوات. وتكون على مرحلتين. المرحلة الأولى مدتها أربع سنوات يتخرج بعدها الطالب ليمارس الوظائف الدنيا. والمرحلة الثانية ومدتها سنتان، وهي تخرج للوظائف العليا. وجميع

(1) هكذا الوصف (عليا) رغم أنها في درجة متوسطة وثانوية، وسينشأ فيها قسم عال.

(2)

إشارة إلى أنها في السابق كانت مقصورة على بعض الفئات من المجتمع. انظر أيضا جول كامبون (حكومة الجزائر).

ص: 384

الوظائف لا تكون إلا بعد النجاح في الامتحان، وهو إلزامي.

5 -

لا يمكن توظيف أي كان في الوظائف القضائية إذا لم يكن الطالب متحصلا على شهادة التخرج الممنوحة من المدرسة.

6 -

بالنسبة للقضاء أيضا، فإن التعيين فيه لا يكون إلا من الحاكم العام، باقتراح من الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالجزائر العاصمة.

7 -

مجموع المنح في المدارس واحد، وهو 300 فرنك.

8 -

القبول في المدارس سواء للمنحة أو القراءة العادية، مشروط بالاستظهار بشهادة دراسات التعليم الابتدائي - العالي، أو بنتيجة امتحان معترف به إذا كان التلميذ المتقدم للدخول حرا ويريد إثبات قدرته على متابعة الدراسة.

9 -

تنشأ في ولاية الجزائر مدرسة ابتدائية عالية خاصة بالأهالي لكي تستجيب للشروط السابقة، والشبان المسلمون الأفضل من بين الحاصلين على شهادة الدراسات الابتدائية يتقاضون منحا.

10 -

زيادة عدد الموظفين في القضاء والديانة الإسلامية ورفع مرتباتهم. وتكون تسمية القضاة على رأس المحاكم الملحقة، أما بالنسبة للديانة فستنشأ وظائف للفتوى والإمامة بعدد كاف وحسب الحاجة (1).

نلاحظ مما سبق أن إصلاحات المدارس الشرعية كانت تخدم التوجه الجديد للسياسة الفرنسية في الجزائر وفي العالم الإسلامي. فقد وقف كومبس بين الذين يريدون إلغاء هذه المدارس تماما وبين الذين يرغبون في جعلها مدارس عليا للدراسات الإسلامية على غرار المدارس العليا الأخرى التي أصبحت كليات جامعية، فاقترح أن تظل مدارس خاصة تحضر لوظائف معينة تخدم المصالح الفرنسية، ولكنه في نفس الوقت اقترح دعم برنامجها

(1) النص الكامل في مجلة إفريقية الفرنسية A.F.، فبراير 1894، عدد 2، ص 11 - 12. مسألة القضاء هنا هامة لأن الشكوى كانت كبيرة من تقليص وظائفه بعد أن تفرنست كل الأجهزة القضائية عدا الأحوال الشخصية. انظر فصل السلك الديني والقضائي.

ص: 385

بالمواد العربية والإسلامية والفرنسية معا. وقد زاد من مدة الدراسة فيها من ثلاث إلى ست سنوات للوظائف الإسلامية العليا. وأصبح دبلوم التخرج منها شرطا لتولي هذه الوظائف.

وقد صدر المرسوم في 23 يوليو 1895، وحدد الدراسة في المرحلة الأولى بأربع سنوات. واشترط على المترشحين شهادة التعليم الابتدائي - الإعدادي. مع ضرورة المشاركة في امتحان دخول. ونص كذلك على إنشاء قسم عال في مدرسة الجزائر فقط، وهو يفتح للتلاميذ الحاصلين على شهادة النجاح والتخرج بعد الأربع سنوات في إحدى المدارس الثلاث. كما نص على تدريس اللغة والعرف الزواوي في مدرسة مدينة الجزائر فقط.

وإليك برنامج السنوات الأربع في المدارس الشرعية الثلاث: فهو يشتمل على خمس مواد موزعة على السنوات الأربع بعدد مدروس من الساعات يجعل اللغة العربية تفوق قليلا ساعات الفرنسية. ولكنه تفوق نظري فقط. ذلك أن البيئة والمؤثرات الأخرى تجعل الفرنسية، مع ذلك، هي المتفوقة. والمواد العربية والإسلامية هي: اللغة العربية، الشريعة الإسلامية مع تطبيقاتها العملية (هكذا جاء في البرنامج)، التوحيد (1)، أما مواد اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية فهي: اللغة الفرنسية، وفكرة عن التاريخ والجغرافية، والقانون العام والنظام الإداري، ثم الحساب وفكرة عن الهندسة، والعلوم الفيزيائية والطبيعية.

أما برنامج القسم العالي الخاص، فهو أيضا مؤلف من عنصرين رئيسيين، الأول مواد في الحضارة العربية - الإسلامية، والثاني مواد في الحضارة الفرنسية. ومن المفهوم أن المواد الأخيرة هي المتغلبة لا من حيث العدد، ولكن من حيث النفوذ والتأثير والروح العملية والارتباط بالحياة الاجتماعية والاقتصادية. وها هي مواد الحضارة العربية - الإسلامية:

(1) كانت مادة التوحيد موجودة في برنامج هذه المدارس حين إنشائها، ثم حذفت بقرار خاص، وها هي ترجع في إصلاح 1895.

ص: 386

التوحيد، وأصول الشريعة الإسلامية، والأدب العربي ثم البلاغة والمنطق. وأما مواد الحضارة الفرنسية فهي تاريخ هذه الحضارة، وعناصر القانون الفرنسي والتشريعات الجزائرية. وإلى جانب ذلك هناك درس في علم الصحة يلقيه طبيب على التلاميذ (1). فأنت ترى أن الازدواجية اللغوية والثقافية كانت لطبع البرامج المدرسية مع تغلب الفرنسة لوجود السيادة وحضور الكولون والتأثيرات الاجتماعية.

وإذا أكمل التلميذ الست سنوات يحصل على شهادة تسمى (دبلوم الدراسات العليا). وهي التي تؤهله للوظائف العليا المنصوص عليها. أما برنامج الامتحانات فيخضع لموافقة الحاكم العام بعد اقتراح من مدير التعليم (2) .. وقد أصدر الحاكم العام جول كامبون في 29 يوليو 1895 قرارا يقضي بأنه ابتداء من أول يناير 1898 لن توظف حكومته في مجالات القضاء (العدالة) والديانة الإسلامية إلا من كان متخرجا (من مدارسنا). والمقصود بها هذه المدارس الشرعية التي نحن بصددها. وقد ألح الحاكم العام على ذلك تفاديا، كما قال، لتوظيف أناس لم يتخرجوا من مدارس فرنسية بل جاؤوا من (زوايا سرية) أو تعلموا في الخارج تعليما بعيدا عن الروح الفرنسية (3). وهو هنا يعني الجزائريين الذين تخرجوا من الزوايا أو ذهبوا للدراسة في المغرب أو تونس أو الأزهر بعد عجزهم عن إيجاد معهد يقبلهم في بلادهم.

(1) سنعرف أن بعض الأطباء الجزائريين، مثل الدكتور الطيب مرسلي في قسنطينة، وبريهمات في العاصمة، هم الذين كانوا يقدمون هذا الدرس. كما ظهرت بعض التآليف في هذه الأثناء تتحدث عن علم الصحة، وهي بدون شك تخدم هذا البرنامج ومن وحي هذه الظروف.

(2)

جول كامبون (حكومة الجزائر العامة)، الجزائر، 1918، ص 54 - 55. انظر أيضا أرشيف إيكس (فرنسا) 61 H 10.

(3)

جول كامبون، من خطبة له ألقاها (تقرير) عن الوضع العام في الجزائر أمام المجلس الأعلى للحكومة، انظر مجلة إفريقية الفرنسية. A.F. (أبريل 1896)، ص 126.

ص: 387

وفي 17 أبريل 1896 زار كومبس نفسه مدرسة الجزائر بصفته وزيرا للتعليم هذه المرة. وكان مديرها عندئذ هو المستشرق ديلفان. وحضر مع الوزير المستشرق هوداس المدرس بمدرسة اللغات الشرقية بباريس والذي سبق له التدريس في الجزائر أيضا. كما حضر المدرسون الجزائريون بالمدرسة، ومنهم عمر بريهمات ومحمد السعيد بن أحمد بن زكري، وكذلك عدد من الأعيان، منهم المفتي والقاضي والإمام. وعلى رأس هؤلاء الأعيان الحكيم (طبيب) محمد بن العربي، عضو المجلس البلدي، ومحيي الدين الشريف الذي خاطب الوزير بالفرنسية باسم موظفي المساجد، وأمين قدور بن عبد الرحمن، وأحمد بن القبطان، وكلاهما من الأيمة، وعلي الشريف (الزهار)، الذي كان الفرنسيون قد خطفوه وهربوه إلى فرنسا أوائل الاحتلال (1843). ويهمنا من هذا كله أن الوزير قد خصص ميزانية لبناء مدرسة جديدة، لضيق الأولى، ووعدهم بدعم إصلاحاته ورؤيته لجعل فرنسا لا تظهر في العالم الإسلامي في صورة الدولة المضطهدة للمسلمين، كما كان يشاع عنها (1).

وفي سنة 1896 نشرت جريدة المبشر أسماء المعلمين والمواد التي يعلمونها في كل مدرسة من المدارس الشرعية. وقد رأينا ذكر ذلك هنا ليطلع القارئ على أسماء المدرسين من عرب وفرنسيين من جهة وليعرف توزيع المواد بينهم في بداية عهد الإصلاح الجديد. ونلاحظ قبل ذلك أنهم كانوا يسمون طلبة كل سنة (طبقة)، وأن المدرسين كانوا يتبادلون أو يتقاسمون الطبقات (السنوات). مثلا مادة النحو يدرسها فلان للطبقة الأولى ويدرسها فلان للطبقة الثالثة، وهكذا. ونفس الشيء في المواد الفرنسية. ولعل هذه التسمية مستمدة من نظام جامع الزيتونة بتونس. ومعدل الساعات هي اثنا عشر للمواد العربية والإسلامية، وثمانية للمواد الفرنسية. مع التنبيه على أن

(1) المبشر، 11 أبريل وكذلك 18 أبريل 1896. انظر أيضا إفريقية الفرنسية، مايو 1896. وعن أحمد بن القبطان انظر سابقا، وقد كان إماما ومؤدبا في عهد الامبراطورية.

ص: 388

مدرسة الجزائر تحتوي أيضا على القسم العالي، كما ذكرنا. 1 - مدرسة الجزائر:

المواد

المدرس

تعليق وملاحظات

الأدب والنحو

عبد الرزاق الأشرف

(تعين قاضيا في نقاوس 1905)

النحوا الفقه/ التوحيد

الشيخ علي العمالي

(وهو نجل حميدة العمالي المفتي المالكي).

الفقه الفرسي/ الفقه الإسلامي/ عمر بريهمات

(والده حسن بريهمات كان مديرا للمدرسة مدة طويلة).

التوحيد.

الأدب العربي

عبد الحليم بن سماية

(والده علي بن سماية كان أحد مدرسي المدرسة ومحررا في المبشر، واشتهر عبد الحليم أكثر من والده).

الفقه/ التوحيد

محمد السعيد بن زكري

(أصبح مفتيا بعد ذلك، وله تأليف، وتولى ابنه أحمد التدريس بعده).

التاريخ القديم (يوناني/روماني)

غوتييه

(الظاهر أنه هو إيميل غوتييه، صاحب كتاب القرون الغامضة وغيره، وهو من أعداء العرب والمسلمين وسخر موهبته لخدمة الاستعمار المتطرف).

الجغرافية العامة والقديمة

غوتييه

تارخ إفريقية الشمالية/ العرب

غوتييه جغرافية إفريقية

غوتييه

اللغة الفرسية

غوتييه

تاريخ فرنسا وجغرافيتها

غوتييه

الأدب الفرنسي

غوتييه

العلوم الطبيعية

جولي

(اشتهر بكتاباته عن الأدب الشعبي في البادية، والطرق الصوفية

)

الرياضيات

جولي

اللغة الفرنسية

جولي

هذا خلال القسم الأول من الدراسة، أي خلال الأربع سنوات أو الطبقات. أما بالنسبة للقسم العالي فهذه هي مواده ومدرسوه:

ص: 389

الحضارة الفرنسية

ديلفان

(عمل في مدرسة تلمسان، أصبح مديرا لمدرسة الجزائر. معتدل في آرائه. اهتم بالتاريخ والأدب الشعبي).

المحادثة في الأدب الفرنسي

ديلفان

فقه جزائري (تشريعات؟)

عمر بريهمات

(شاعر، ومؤلف، توفي مبكرا).

الفقه التوحيد/ أصول الدين

محمد السعيد بن زكري

(إضافة إلى ما ذكرناه عنه فهو خريج الزوايا - زاوية اليلولي)

المنطق/ البيان/ التفسير

عبد الحليم بن سماية

الإنشاء الأدبي (1)

(دون أستاذ)

(لعل أستاذ المادة هو عبد الحليم بن سماية)

2 -

مدرسة قسنطينة:

المواد

المدرس

التعليق والملاحظات

التوحيد

الشيخ محمود بن الشاذلي

(هو ابن محمد الشاذلي اول مدير لمدرسة قسنطينة - انظر كتابنا عنه).

الفنون الأدبية (نثر ونظم)

م. بن الموهوب

(سيتولى الفتوى 1908، ويكون من دعاة

التعليم والإصلاح، وله تآليف ونشاط أدبي، لم ينسجم مع ابن باديس).

الفقه الإسلامي (الشريعة)

م. بن الموهوب إنشاء الوثائق الشرعية

دون ذكر المدرس (لعله ابن الموهوب).

النحو والصرف

عبد القادر المجاوي

(من أبرز الشخصيات العلمية. له درس آخر

في الفنون الأدبية لطبقة أخرى، نقل في آخر القرن إلى مدرسة الجزائر. له تآليف)

القوانين الشرعية الفرنسية

موتيلانسكي

(مترجم عسكري، مستشرق اهتم بتاريخ

الإباضية، وقبائل الصحراء. تولى إدارة المدرسة)

التاريخ والجغرافية

موتيلانسكي

لغة فرنسية

بيريه

(1) المبشر، 26 ديسمبر 1896.

ص: 390

الحساب والهندسة

بيرييه

العلوم الطبيعية

بيرييه

التاربخ والجغرافية

سان كالبر

(اهتم بتاريخ وشخصيات قسنطينة، تولى إدارة مدرسة الجزائر، ودرس اللغة الفرنسية أيضا)(1)

3 -

مدرسة تلمسان:

التوحيد

احمد بن البشير

(تولى إدارة المدرسة قبل 1876، درس الفقه أيضا لطبقة أخرى)

الفقه

البغدادي

(كذا، بدون الاسم الأول، مادة الأدب العربي ترك مكانها فارغا، وكذلك مادة النحو في بعض السنوات رغم أنها مواد أساسية)

الفرنسية

جورج مارسيه

(مدير المدرسة قبل ألفريد بيل. ألف كثيرا في الآثار العربية الإسلامية. معتدل الرأي. انتقل إلى مدرسة الجزائر، تولى تفتيش التعليم الأهلي)

التاريخ والجغرافية

جورج مارسيه

الحساب

جوح مارسيه

القوانين الفرنسية

جورج مارسيه

العلوم الطبيعية

رندرق

(أحيانا يذكر على أنه مدرس للحساب والجغرافية لطبقة أخرى)(2)

(1) المبشر، 5 ديسمبر، 1896. نلاحظ أن السيد (أريب) قد درس أيضا مادة القوانين الشرعية الفرنسية. كما درس محمود بن الشاذلي مادة الفقه الإسلامي لطبقة أخرى. وموتيلانسكي درس مادة اللغة العربية والفنون الأدبية، رغم أنه من المستشرقين. الحصص الأسبوعية 21 ساعة.

(2)

المبشر، 5 ديسبر، 1896؛ مجموع الساعات الأسبوعية 20 في مدرسة تلمسان. والعادة وجود ثلاثة مدرسين من الجزائريين وثلاثة من الفرنسيين بمن فيهم مدير المدرسة. انظر أيضا أبو بكر بن أبي طالب (روضة الأخبار)، ط. 1901، ص 57. وربما كان ضعف هيئة التدريس في مدرسة تلمسان وسيطرة شخصية الفريد بيل على =

ص: 391

وفعلا رصدت أموال لبناء المدارس الشرعية الثلاث على الطراز العربي - الإسلامي الأثري (الأندلسي). فقد تحولت مدرسة الجزائر من المدية والبليدة، ثم كانت في ضيق بالعاصمة منذ 1859 رغم وجود القصور التي منحت لمصالح فرنسية دينية وإدارية. أما المدرسة الشرعية فقد ظلت في مكان ضيق اشتكى منه المستشرق ديلفان مديرها إلى الوزير كومبس. وقد افتتحت المدرسة الجديدة باسم (الثعالبية) أوائل القرن (1904). كما كانت مدرسة تلمسان تعاني من الضيق والإهمال إذ كانت عبارة عن منزل خاص قيل إن الحكومة أجرته من صاحبه لهذا الغرض. وقد بنيت أيضا واحتفل بافتتاحها في سنة 1905. وهي المدرسة التي بنيت قرب مدرسة أولاد الإمام الشهيرة في تلمسان القديمة (1). وكانت مدرسة قسنطينة أفضل حالا إذ استعمل الفرنسيون المدرسة الكتانية التي كان قد بناها صالح باي، ثم بنوا هم أخرى على الطراز الجديد، ولم تفتح إلا سنة 1908، وهي الواقعة اليوم في شارع العربي بن المهيدي. والمدارس الثلاث من الناحية العمرانية تمثل تحفا فنية. وكان الفرنسيون يريدون بها منافسة مباني القيروان والقرويين ومدارس تلمسان وفاس القديمة دفعا للحملات التي كانت تقول إن فرنسا قضت على المعالم الإسلامية. ولو حافظت فرنسا على الآثار والمعالم الإسلامية في الجزائر وقسنطينة وبجاية وعنابة ووهران ومعسكر لكان خيرا لها وللمسلمين. يتكون معلمو المدارس من جزائريين وفرنسيين، وهم عادة ثلاثة من كل جنس، وجميعهم يعينهم الحاكم العام باقتراح من مدير التعليم. ويتولى أحد المدرسين الفرنسيين إدارة المدرسة أيضا بتعيين من الحاكم العام. ويشترط في المدرسين الفرنسيين معرفة اللغة العربية والبرهنة على الإخلاص لمهمتهم ومهنتهم ولهم شهاداتهم العلمية من الأهلية أو دبلوم اللغة العربية الذي تعطيه مدرسة (كلية) الآداب بالجزائر، أو مدرسة اللغات الشرقية

= إدارتها سنوات طويلة هو الذي جعل مدرسة تلمسان لا تنافس أختيها مدرسة الجزائر ومدرسة قسنطينة في الحركة الأدبية والفقهية.

(1)

ألفريد بيل، (مؤتمر

) مرجع سابق، 227.

ص: 392

بباريس. أما المعلمون المسلمون فبالإضافة إلى تعيينهم من الحاكم العام واشتراط الكفاءة، كان يفضل تعيينهم من بين حملة شهادة دبلوم الدراسات العليا من نفس المدارس. ورواتب المدرسين مرتفعة نسبيا وهم على ست درجات. أعلاها راتب 3000 ف. وأدناها راتب 1500 فرنك. وقد نصت قرارات لاحقة على زيادة الرواتب (قرار 1907) حتى وصلت الطبقة العليا إلى 5000 فرنك، والدنيا إلى 2000 ف. وكل ثلاث سنوات يترقى المدرس بطلب منه. وبعد خمس سنوات يترقى بالأقدمية. كما أن للمدير حق الإدارة وهو ألف فرنك إضافية. ويتقاضى مدير مدرسة الجزائر بالذات ألفي (2000 ف.). وواضح أن مسؤولية المدرسة تقع على عاتق الحاكم العام نفسه وعاتق مدير التعليم أيضا.

وهناك موظفون آخرون في كل مدرسة. أولا هناك مفتش عام يقوم بتفتيش المدارس سنويا، وهو معين من قبل الحاكم العام أيضا. وهذا المفتش يحضر الدروس ويعطي رأيه في المعلمين وطرق التدريس والنتائج من التعليم كله. وفي 19 أكتوبر 1904 صدر قرار بإلحاق طبيب بكل مدرسة ليعطي دروسا في الصحة لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة، كما ذكرنا. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان في كل مدرسة وقاف أو حارس (مراقب؟) وكذلك منظف يعتني بالمدرسة (1).

ومن رأى المستشرق بيل مراعاة ظروف خاصة عند اختيار المعلمين في هذه المدارس. فالأبواب يجب أن لا تفتح لهم بدون حدود وشروط. إن مراعاة (الجانب السياسي) أمر مهم هنا في نظره، وهو يعني بذلك إثبات الولاء لفرنسا منهم ومن ذويهم. كما دعا إلى عدم تعيين معلمين لم يثبت إخلاصهم لفرنسا. ويجب عليهم أن يثبتوا ذلك بالعمل والسلوك معا، سواء مع تلاميذهم أو مع إخوانهم في الدين أو داخل المؤسسة (2)، ومن ثمة نفهم

(1) الفريد بيل (مؤتمر

) مرجع سابق، 224، وجول كامبون (حكومة

) مرجع سابق ص 54 - 56.

(2)

بيل، مرجع سابق، ص 230.

ص: 393

حساسية العلاقة بين الجزائريين والفرنسيين. وكان على الذين يطمحون إلى وظيفة في هذه المدارس أن يدجنوا أنفسهم قبل أن يغربلهم الفرنسيون.

أما التلاميذ فقد ذكرنا الشروط التي كانوا يقبلون بها في المدارس الشرعية الثلاث، الشهادة وامتحان الدخول في إحدى الدورتين (يونيو أو أكتوبر). وقد نشرت جريدة (المبشر) (1) الرسمية شروط المسابقة للدخول في 15 أكتوبر 1896 فكانت كما يلي: طلب بخط اليد من المترشح على ورق رسمي (60 سنتيم) إلى مدير المدرسة مصحوبا بشهادة ميلاد تثبت أن عمره لا يقل عن 16 ولا يزيد عن 20 سنة، وشهادة حسن السيرة والسلوك من الحاكم الفرنسي في دائرة سكنى التلميذ، والشهادة الابتدائية أو نظيرها. وجاء في المبشر أيضا أن اختبار الدخول يتألف من: تحرير رسالة أو حكاية باللغة الفرنسية من نوع الإنشاء البسيط، ثم تحرير رسالة أو حكاية باللغة العربية المعربة (الدارجة؟)، مع أسئلة شفوية في اللغتين العربية والفرنسية. وكذلك علم الحساب. ومن هذا النموذج نرى الازدواجية من البداية. فالقول بالتعمق في الدراسات العربية والإسلامية هو محض نظريات.

وإذا قبل التلميذ فإنه يحصل على منحة من 350 ف. سنويا. ويمكن للتلاميذ الآخرين أن يحضروا كمستمعين إلى دروس المدرسة إذا شاؤوا، ولكن لا حق لهم في الامتحان ولا في المنحة، ومع ذلك يجري عليهم الانضباط الذي تطبقه المدرسة. وقد لاحظ بيل أن العائلات قد اقتنعت بجدوى الدراسة بعد أن أصبحت بعض الوظائف مفتوحة لأبنائها بعد التخرج. وفي هذا رد على من يقول إن الجزائريين قاطعوا التعليم لذاته. كما أن اختبار الدخول لم يعد شكليا كما كان بعد إصلاح 1876 حين كانت اللجنة تقبل كل المترشحين لقلة عددهم. ولذلك ظهرت عناصر جدية بين التلاميذ. ومن رأي بيل أن يكون اختيار التلاميذ على أساس الروح الليبرالية (التسامح؟) والقدرة على أن يكونوا من النخبة elite المثقفة بعد التخرج

(1) المبشر، عدد 27 جوان، 1896.

ص: 394

وليكونوا من الطبقة القائدة والخالية من كل روح ارستقراطية وكل تعصب ديني، كما اشترط في التلاميذ أن يكونوا من ذوي المشاعر الحسنة نحو الفرنسيين. ومن الأفضل أن يكون التلاميذ يحسنون بعض العربية الأدبية بحضورهم للدروس الجديدة التي افتتحت في المساجد، لأن هذه الدروس قد فتحت في الواقع لحملة الشهادة الابتدائية الذين يرغبون في الدخول إلى المدرسة الشرعية. وعليه يحسن أن يأتي التلميذ المترشح بشهادة مواظبة من أحد مدرسي المساجد. وقد لاحظ كذلك أن حجم الساعات الأسبوعي في مدرسة تلمسان يدل على قوة اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية.

وهذا بالطبع ليس نقدا أو رفضا لهذا الواقع. فإن بيل رآه شيئا جديدا، رغم أنه مخالف لروح الإصلاح المعلنة سنة 1895. فقد قال بيل إن معرفة الخريج المسلم للغة الفرنسية ستجعله قادرا على التعبير الجيد بها وعلى فهم (الإنتاج العلمي والأدبي للعبقرية الفرنسية) لأن التلاميذ بدون اللغة الفرنسية لا يستطيعون فهم (أفكارنا ولا متابعة تقدمنا ولا الهدف الإنساني من سياستنا وإدارتنا). وهذا الكلام هو نفسه تقريبا ما قاله جنتي دي بوسيه أوائل الاحتلال، وقال به أيضا الدوق دوروفيقو 1832. وإذا حصل الطلبة على ذلك المستوى أمكنهم بث الأفكار بين إخوانهم في الدين بحكم الدالة التي لهم عليهم نظرا للسمعة التي يتمتعون بها (1). وهذا كلام مقبول إذا كان المقصود من إنشاء المدارس الشرعية هو الدعاية الفرنسية، ولكنه غير مقبول إذا كان الهدف منها هو تخريج قضاة ومعلمين وأيمة أكفاء في اللغة العربية والعلوم الإسلامية يستطيعون أن يردوا بالحجة والبرهان على خريجي الزوايا في الجزائر والأزهر بمصر، كما صرح بذلك كامبون وأكده جان ميرانت وأوغسطين بيرك (2).

وقد علق بيل أيضا على البرنامج الذي وضعه مصلحو 1895 للمدارس

(1) بيل (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 224، 231. ولعل ذلك يفسر أيضا ضعف المستوى الأدبي واللغوي في مدرسة تلمسان على عهد ألفريد بيل.

(2)

جان ميرانت (كراسات

)، ص 88. وقد سبق لنا التعرض لرأي جول كامبون.

ص: 395

الشرعية الثلاث. فقال بخصوص مادة القانون الفرنسي إن على الموظف المسلم المقبل أن يعرف القوانين الفرنسية والنظام السياسي والإداري والقضائي الفرنسي. أما النحو العربي فقد قال عنه إنه صعب، وكذلك حكم على مختصر الشيخ خليل، وأوصى أن يضع المدرس أمام التلاميذ الترجمة الفرنسية لهذا المختصر لإدراك المصطلح الشرعي العربي. ومعنى هذا أن التلاميذ سيقرأون المختصر الذي هو في الفقه المالكي، بالفرنسية وليس بالعربية. أما علم التوحيد فقال عنه إن مكانته غير كبيرة في البرنامج، ولكن يكفي أنه يعطي للتلاميذ فكرة وجيزة عن العقائد الإسلامية، لأن معرفتهم به تجعلهم في نظر إخوانهم الجاهلين الذين ما يزالون يمارسون السحر والمتعلقين بدين مليء بالخرافات

يسمى المرابطية، تجعلهم يظهرون بمظهر التفوق عليهم. وهناك ملاحظة أبداها جان ميرانت أيضا (وهو معاصر لبيل) حول مادة التوحيد، فقال إننا لسنا في زمن الأشعري والغزالي، فهو علم لم يعد يهم المعاصرين في نظره. وليس تدريسه سوى سلاح يتسلح به الخريجون ليناقشوا خريجي الأزهر إذا واجهوهم في ذلك. فعلى القاضي والإمام في الغد أن يجمع، في نظر ميرانت، بين الثقافة الإسلامية وبين المعارف العميقة عن (تاريخنا ولغتنا وحضارتنا)(1).

وإذا نظرنا إلى عدد الساعات الأسبوعية الموزعة على المواد وجدناها في الجملة 23 ساعة في السنتين الأوليين و 24 ساعة في السنتين الأخيرتين. ومن 23 ساعة توجد 12 للمواد العربية و 11 للمواد الفرنسية. أما في السنة الثالثة والرابعة فالساعات فيهما مقسمة بالنصف 12 ساعة لكل مجموعة. ولكن يلاحظ أن المواد العملية (رياضيات، صحة، جغرافية، الخ). كلها بالفرنسية (2).

(1) ميرانت (كراسات)، 88. وكذلك بيل، مرجع سابق، 225 - 226.

(2)

انظر بيل، مرجع سابق، 224.

ص: 396

وبناء على إحصاءات 1911 - 1912 فإن مجموع من كانوا بالمدارس الشرعية الثلاث هو 176 تلميذ. وهم موزعون كالتالي:

مدرسة الجزائر 83 تلميذا، بما في ذلك تلاميذ القسم العالي.

مدرسة تلمسان 39 تلميذا.

مدرسة قسنطينة 54 تلميذا (1).

وفي سنة 1908 نشر الفريد بيل إحصاء لتلاميذ مدرسة تلمسان بين 1901 - 1908 فكانوا دائما في ازدياد، وإليك هذا الجدول (2):

1901

32 تلميذا

1902

34 تلميذا

1903

38 تلميذا

1904

46 تلميذا

1905

49 تلميذا

1907

59 تلميذا

1908

66 تلميذا

وفي سنة 1920 بقي عدد التلاميذ في المدارس الشرعية - الفرنسية هو نفسه (176)، لكن يلاحظ أن من بين هذا العدد هناك 24 تخصصوا في اللغة البربرية (الزواوية)، وهذا من توجيهات الفرنسيين للفكر الجزائري ولعزل سكان المنطقة عن إخوانهم، كما أن اتجاه الدراسة العلمي في المدارس الثلاث، كما يقول ماسينيون، كان اتجاها فرنسيا. فبعد أن كانت الدراسة في المدارس الشرعية عربية - إسلامية، أضيفت إليها الفرنسية وأخيرا أضيفت الزواوية. وقد نصت (إصلاحات) 1895 على تدريس العرف الزواوي أيضا.

(1) جول كامبون (حكومة. ..)، 56 - 76. في هذه الصفحات أيضا تقرير كومبس وبمشاركة كامبون.

(2)

بيل، مرجع سابق، 226، قارن هذا الجدول بما سبقه حيث العدد 39 فقط.

ص: 397

أما توزيع التلاميذ فكان كالتالي: مدرسة الجزائر: 55 + 14، مدرسة قسنطينة 48 + 10، مدرسة تلمسان 49 (1).

وقد نقص مجموع عدد التلاميذ سنة 1931 فأصبح 143 فقط. منهم 23 في البربرية (عشرون في مدرسة الجزائر وثلاثة فقط في مدرسة قسنطينة). وهكذا يكون تلاميذ مدرسة الجزائر 64 (القسم الأول والعالي)، ومدرسة قسنطينة 43، ومدرسة تلمسان 36 (2). ثم ارتفع العدد فوصل سنة 1936 إلى 171 (دون تفصيل) مع أنه لم يبلغ الرقم 176 الذي وصله سنة 1911 - 1912. كما أن الزيادة لم تكن بحجم الحاجة في الوظائف التي كان من المفروض أنها تزيد كل سنة. وإليك توزيع التلاميذ لسنة 1936: مدرسة الجزائر 69 (بقسميها)، ومدرسة قسنطينة 61، ومدرسة تلمسان 41 (3).

إن الشهادة التي تمنحها المدارس الشرعية تؤهل إلى الوظائف الدنيا المخصصة (للأهالي) في الإدارة الفرنسية. وهذه الوظائف هي:

(أ) العون، والحزاب، والمؤذن، والطالب (المعلم) في المدارس الابتدائية، والوكيل، والخوجة، والعدل، والدلال عند القاضي.

(ب) الباش عدل، والأمام، والقاضي، والمفتي.

أما وظائف الصنف الأول فهي مخصصة لحملة شهادة الدراسة التي يحصل عليها التلميذ عند الانتهاء من السنة الرابعة واجتيازه الامتحان بنجاح. وأما وظائف الصنف الثاني فمخصصة لحاملي دبلوم الدراسات العليا، أولئك الذين أكملوا الست سنوات واجتازوا الامتحان بنجاح أيضا. وهذه الوظائف

(1)(حولية العالم الإسلامي) إشراف لويس ماسينيون، سنة 1923، ص 96.

(2)

أرشيف إيكسى (فرنسا) 61 H 10. يذكر بوجيجا، S.G.A.A.N، مرجع سابق، 66، في إحصاء سنة 1930 أن المجموع هو 161 وبذلك يكون العدد قد انخفض كثيرا

بعد سنة واحدة.

(3)

بوجيجا، مرجع سابق، 66.

ص: 398

كلها مصنفة عند الفرنسيين إلى وظائف المناطق المدنية ووظائف المناطق العسكرية (1).

ومن الخريجين من كان يستنكف عن بعض الوظائف لعدم جدواها المادي. فقد لاحظ الفريد بيل سنة 1908 أن الخريجين عادة يرغبون في الوظائف الآتية: إمام في بعض المساجد الهامة، أو عدل في محكمة، أو مدرس، أو خوجة. وهي الوظائف التي تجلب إليهم حوالي 50 فرنكا شهريا. ولكنه لاحظ أن هذه الوظائف محدودة جدا. والشغور فيها قليل في السنة الواحدة. وقد ذكر أنه في ولاية وهران كلها عندئذ لا يمكن أن تفرغ أكثر من عشرة مناصب في العام. ولنقس عليها الولايتين الأخريين (الجزائر وقسنطينة) وكذلك المناطق الصحراوية - العسكرية. والخريجون عادة لا يريدون وظائف دنيا مثل الحزاب والمؤذن ووكيل المحكمة وعون المحكمة. فهي وظالف لا تجلب أكثر من 10 فرنكات إلى 30 ف في الشهر، وهو مبلغ لا يمكنهم من تنشئة عائلة، ولذلك أوصى بيل بأن لا تقبل المدارس الثلاث أكثر من 60 تلميذا، أي بمعدل تخريج عشرة أفراد لكل منها في السنة تبعا للوظائف المفتوحة. وقد حذر من أن الذين يتخرجون ثم لا يجدون عملا سيصبحون خطرا على الفرنسيين لأنهم سينشرون السخط والتذمر. ومن جهة أخرى لا يمكن توظيف الجميع (2).

ويبدو أن هناك مجالا آخر يمكن لخريجي المدارس الشرعية طرقه، وهو مواصلة الدراسة العالية في كلية الآداب مثلا. ونحن لا ندري كيف كان يقع ذلك ما دام دبلوم الدراسات العليا قد لا يؤهل لدخول الجامعة، وهو ليس معادلا للبكالوريا. فهل يشارك حاملوه في امتحان خاص أو في البكالوريا الحرة؟ إن السيد جان ميرانت يقول إن مستوى الدراسة في المدارس الشرعية قد تحسن وأصبح في استطاعة تلاميذها متابعة الدراسة في

(1) جول كامبون (حكومة

)، مرجع سابق، 56. وكذلك ألفريد بيل، (مؤتمر

)، مرجع سابق، 223. وأرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10.

(2)

بيل (مؤتمر

)، مرجع سابق، ص 227.

ص: 399

الكليات، وأن بعضهم قد نجح في امتحان الليسانس (1). وقد جاء في أحد التقارير لسنة 1931 أن الفرنسيين يعتبرون المدارس الثلاث كليات فرنسية - إسلامية بالنظر إلى برنامجها، وهي كليات للتعليم الأهلي بالنظر إلى تلاميذها، وأن إطارها هو تعليم (عالي) إسلامي وتعليم (ثانوي) فرنسي (2). وهذا كله يدل على الذبذبة التي عليها الذهن الفرنسي إزاء الجزائريين، وهي ذبذبة تقوم على عدم الإقرار بالمساواة البشرية والحضارية. وحتى بالنسبة للشهادة التي تمنحها المدارس الشرعية كانت تضاف إليها دائما عبارة خاصة، وهي (بالمدرسة) أي شهادة الدراسات (بالمدرسة) ودبلوم الدراسات العليا (بالمدرسة)، خوفا من أن تختلط بالشهادات الفرنسية العادية (3).

وقد استمرت الدراسة على هذا النحو في المدارس الشرعية - الفرنسية إلى 1944. حين تحولت إلى ثانويات ذات مستويين (متوسط وثانوي)، بينما تحول القسم العالي التابع لمدرسة الجزائر سنة 1946، إلى معهد للدراسات الإسلامية العليا لإعداد المدرسين ورجال الديانة. وقد بلغ عدد طلبة التلاميذ في المدارس الثلاث سنة 1950، 289. أما في سنة 1951 فقد أصبحت المدارس الثلاث ثانويات (ليسيات) فرنكو - ميزولمان/ فرنسي - إسلامي: اثنتان في العاصمة، وواحدة في قسنطينة والرابعة في تلمسان، وأصبحت مهمة المدارس هي التحضير للباكلوريا، وبلغ عدد تلاميذها سنة 1953، 430 تلميذا (4).

وقبل أن نختم الحديث عن المدارس الشرعية نشير إلى أنه قد أنشئ بمدرسة الجزائر قسم تجاري سنة 1908. وكان ذلك باقتراح من المفتش

(1) ميرانت (كراسات

)، مرجع سابق، 88.

(2)

أرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10.

(3)

من سيرة مالك بن نبي نعرف الكثير عن وضع المتخرجين من المدارس الشرعية لامكانات العمل المحدودة أمامهم. وهو نفسه كان قد تخرج من مدرسة قسنطينة التي أمضى فيها أربع سنوات، وبعد أن عمل فترة في سلك الترجمة والقضاء، ذهب إلى فرنسا للدراسة في الكهرباء (بعد أن عجز عن دخول مدرسة اللغات الشرقية). انظر مذكراته.

(4)

آجرون (تاريخ الجزائر المعاصر)، ج 2، ص 536.

ص: 400

هوداس. وصدر القرار بإنشاء القسم المذكور عن الحاكم العام شارل جونار، وبدأ العمل به في أكتوبر من السنة المذكورة. وكان القسم يقبل التلاميذ الذين قبلوا في امتحان الدخول إلى السنة الرابعة بالمدرسة، أي بعد أن يكونوا قد قطعوا ثلاث سنوات فيها. كان الهدف من إنشائه فيما يبدو هو توظيف الجزائريين في مجالات التجارة في إفريقية والمشرق العربي واستفادة فرنسا من خبراتهم وعلاقاتهم في هذا المجال (1). وقد قال ألفريد بيل إن في إمكان القسم التجاري أن يخرج أفضل العملاء والزبائن للشركات الفرنسية التجارية (الجزائر وتونس ومراكش ومصر وطرابلس، وسورية). واستشهد بالفوائد التي جناها الفرنسيون في المغرب الأقصى من حرفائهم الجزائريين خريجي مدرسة تلمسان، لأن الثقافة العربية هي وحدها التي تجعل، كما قال، من تلاميذنا (عملاء جيدين للتوغل في البلاد الإسلامية لمصلحة فرنسا)(2).

وهكذا تكون المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث قد أدت خدمات كبيرة لفرنسا وليس للثقافة العربية ولا الثقافة الإسلامية. فلم تخرج علماء في الفقه الإسلامي ولا في اللغة العربية قادرين على ملء الفراغ الذي تركه الجيل القديم بالانقراض والهجرة، ولم يبرز منها منافسون لعلماء الزوايا أو الأحرار العصاميين في الثقافة الإسلامية الذين كان الفرنسيون يخشون من توظيفهم لأنهم خطرون وغير موثوق في نواياهم، كما أن تلامذ المدارس الشرعية، وقد بلغ عمرها قرنا كاملا، لم يستطيعوا منافسة علماء الزيتونة أو القرويين أو الأزهر في الأدب واللغة والتوحيد والفقه وحركة التأليف، رغم أن تصريحات بعض الفرنسيين الأولى يفهم منها أن الهدف من إنشائها وإصلاحاتها هو الوصول إلى هذه النتيجة. وسنجد أوغسطين بيرك في الأربعينات يوجه نقدا

(1) انظر مقالة إسماعيل حامد عن الأهالي والتجارة. في مجلة العالم الإسلامي R.M.M .

(2)

بيل، (مؤتمر

)، مرجع سابق، 228، استشهد بشهادة زملائه دوتيه وسيقونزاك الخ. على الخدمات التي قدمها خريجو مدرسة تلمسان في المغرب الأقصى. وقد جندت فرنسا أعدادا منهم في التعليم والتجارة والبحث والإدارة الخ. انظر أيضا الآن كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 244 - 245 عن توظيف المثقفين الجزائريين في غرب إفريقية والعالم الإسلامي لخدمة المصالح الفرنسية.

ص: 401