الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باريس ومقابلة وزير التعليم، وكان يرافقهم مفتش المدارس العربية في الجزائر. ولاحظت الجريدة أن معظم المعلمين الشبان كانوا من منطقة زواوة، وكانوا يحملون الشهادة الابتدائية، ويتكلمون الفرنسية بطلاقة، وقد عبروا عن إعجابهم بما شاهدوه في فرنسا من مظاهر التمدن، وقالت:(ولا شك أنهم لما يعودون إلى مقرهم يبقى ما رأوه أثناء سفرهم في الوطن (فرنسا) الذي كأنه وطنهم، منقوشا في صفحات قلوبهم). وبذلك يكونون في رأيها قادرين على (بث تمدننا في وطنهم الأصلي). وأثناء هذا الحفل الاستقبالي وبعد خطاب الوزير، عبر أحد التلاميذ بكلمات مناسبة، وكان هذا التلميذ ممن سبق لهم العمل في الجيش الفرنسي بمدغشقر بصفته ترجمانا، كما عمل وشارك في المعارك (1).
ومن الواضح أن المدرسة النورمالية كانت في ذهن الفرنسيين مشتلة للاندماج الحضاري والدعاية، رغم أنها كانت قائمة على التفريق العنصري في برنامجها واختيار تلاميذها، كما لاحظنا.
البرنامج والميزانية
تحدثنا حتى الآن عن برامج وتمويل المدارس الرسمية الثلاث، والمعاهد، ومدرسة ترشيح المعلمين، داخل كل وحدة. ونريد الآن أن نتحدث عن برنامج وتمويل التعليم العام (ابتدائي وغيره) الموجه للأطفال الجزائريين. بالإضافة إلى المواد المقررة في مدرسة ترشيح المعلمين.
فمنذ البداية كان هدف البرامج التعليمية الفرنسية هو فرنسة الإنسان الجزائري وسلخه عن ماضيه وإدخاله، إذا أمكن، في الهوية الفرنسية أو يظل على جهله الكامل. وكان الفرنسيون لا يخفون ذلك لا في تصريحاتهم ولا في تقارير لجانهم ومسؤوليهم. ولذلك فإنه بعد الإهمال المقصود لتعليم
(1) جريدة المبشر، 22 غشت، 1896. سبقت منطقة زواوة إلى التعليم الفرنسي منذ الثمانينات لأن جهود الآباء البيض والمسؤولين الفرنسيين قد ركزت عليها. كما كان معظم تلاميذ مدرسة ترشيح المعلمين الأوائل من نفس المنطقة كما أشرنا.
الجزائريين مدة العشرين سنة الأولى من الاحتلال قرروا إنشاء بعض المدارس التي تهدف إلى ما ذكرنا دون مواربة. وهي المدارس الابتدائية الست الأولى سنة 1850. ورغم التظاهر بوجود مادة حفظ القرآن فيها والعربية الدارجة فإن البرنامج الحقيقي كان فرنسيا، فالتلميذ عليه أن يدرس اللغة الفرنسية دراسة مباشرة بطريقة ذلك الوقت، أي بالعين والأذن، ثم يتعلم الحساب والتاريخ الفرنسي والجغرافية والتاريخ الطبيعي ومبادئ الزراعة، والأخلاق، والموازيين والمكاييل الفرنسية وطبقا للنظام الفرنسي. ويضاف للبنات أشغال الإبرة. فالمنهج كان فرنسيا وطبقا لما يجري في مدارس فرنسا نفسها، عدا مادة القرآن والعربية الدارجة الموكولتين إلى معاون مسلم. وللتمويه أنشئت لجنة لمراقبة المدرسة فيها المفتي أو القاضي (1).
وقد استعمل الفرنسيون ما أسموه بالطريقة الجديدة في تعلم اللغة وهو تلقينها إلى الطفل دون واسطة لغة الأم. واستغلوا ذلك في تعليم الفرنسية لأبناء الجزائر بدون واسطة العربية، وقالوا إن تلك هي الطريقة الطبيعية، وهي الأسرع والأعدل، حسب تعبير دوقا (2). وفي وقت لاحق نادي مارسيه بضرورة مراعاة بيئة الطفل وحضارته والجغرافية المحلية والحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان عند تعليم الأطفال الجزائريين. ولكن المناداة باستعمال الفرنسية المباشرة كانت هي الأقوى.
وبين 1887 - 1892 جرى درس المناهج والبرامج مجددا في ضوء الحماس للفرنسة الذي جاءت به الجمهورية الثالثة. وقد عالج نص سنة 1887 هذه النقطة. وهو النص الصادر عن لجنة تعرف بلجنة قسنطينة، لأن مقرها كان في هذه المدينة، وكان هدفها هو (وضع خطة الدراسات والبرامج للتعليم الابتدائي الأهلي في الجزائر) كما جاء في عنوان عملها. ويعتبرها الفرنسيون لجنة ذات قيمة كبيرة. وكانت مهتمة بدراسة أوضاع جميع
(1) السجل (طابلو) 1846 - 1849، 195. وكذلك سنة 1851 - 1852، ص 200 - 201، وكذلك ميرانت (كراسات ..) مرجع سابق، 79.
(2)
دوقا، المجلة الإفريقية R.A، مرجع سابق، 285.
المدارس العمومية الأهلية دون التمييز بينها، بلدية أو غير بلدية، تابعة لبلدية أهلية أو غيرها حسب مصطلحات ذلك الوقت في المدارس الأهلية. وقد أقرت اللجنة ضرورة الإبقاء على المواد المبرمجة في المدرسة الابتدائية الفرنسية في فرنسا، ولكنها اقترحت إدخال مادة تاريخ وجغرافية الجزائر. واهتمت بتجديد المناهج وإعطائها طابعا نفعيا وتطبيقيا مع اعترافها أنها كانت مناهج حية وفعالة ونشيطة! وأوصت بالابتعاد عن كل تعليم تجريدي. فالزراعة مثلا يجب أن تصبح تطبيقية من البداية. وبينما يتعلم الطفل الفرنسي الإملاء في اللغة الفرنسية يتعلم الطفل الجزائري هذه اللغة لذاتها، والمفردات التي تتألف منها، وتشكيل الكلمات في جمل وحروف وروابط، لأن المقصود ليس فهم الفرنسية فقط ولكن كيفية استعمالها الجاري. ومن ثمة فإن اللجنة أبقت على هذا المبدأ غير الجديد في الواقع، وهو أن (المكانة الرئيسية في تعليم الأهالي بقيت للغة الفرنسية)، ويجب أن توظف جميع الدروس الأخرى لتعليم الفرنسية ونشرها، فهي في الجغرافية وفي الحساب وفي الرسم والأشغال اليدوية، فكل درس في أية مادة يجب أن يعلم المفردات ويعلم التعبير أيضا.
من هذا المنطلق انطلق التعليم الأهلي في تصور خبراء الفرنسية الجدد. وكان على اللغة العربية (الدارجة) أن تترك الطريق لهذه الموجة العاتية من العلم اللغوي والتسلط الاستعماري. وما زادت اللجنة المعتبرة، في الواقع على أن بلورت ما كان مضببا ولخصت ما كان مشتتا. وعلى عقول الأطفال الجزائريين أن تتكيف حسب الرغبة الفرنسية في إنشاء جيل ممسوخ. وقد بقيت توصيات هذه اللجنة محترمة حتى بعد صدور مراسيم جديدة تخص التعليم خلال 1892 - 1898. ويعتبر جان ميرانت خطة هذه اللجنة مرحلة هامة من تاريخ توجيه التعليم الأهلي، وهو يقول عنها إنها: (خطة تمثل التقدم الأكثر حسما وهو الذي بدأ وتحقق منذ 1830) (1).
(1) جان ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 86. طبعت خطة اللجنة القسنطينية سنة 1890 نشرها المتحف التربوي (البيداغوجي).
إن هذه الفترة (1882 - 1892) كانت فترة صدور القرارات والمراسيم والتصورات التي لم تأخذ مجراها الحقيقي وتبدأ نتائجها في الظهور إلا حوالي مدار القرن. وقد سبق لنا ذكر مراسيم وإجراءات وزارة جول فيري وزيارة اللجنة التي أرسلتها وتوصياتها خلال الثمانينات (1). ويهمنا هنا ونحن بصدد الحديث عن المناهج أن مرسوم 13 فبراير 1883 قد أشار إلى عدة ركائز في المدرسة الفرنسية بالجزائر، كأفكار وتصورات. أما إنجازها فذلك مسألة أخرى. من تلك الأفكار والتصورات: إلزامية البلديات بفتح مدرسة واحدة فيها على الأقل، ولكن البلديات لم تمتثل كلها لذلك. والمفروض أن المدرسة البلدية تستقبل التلاميذ الأوروبيين في أقسام عادية، والتلاميذ (الأهالي) في ملحقات خاصة بهم. كما اعترف المرسوم بمجانية التعليم وإلزاميته عمليا للأوروبيين ونظريا فقط للجزائريين.
وتسمت البلديات بالنسبة للتعليم بلديات كاملة أو مختلطة أو أهلية. وفي النوعين الأولين يذهب التلاميذ الأهالي إلى المدرسة الأوروبية نفسها إذا لم تكن لهم مدرسة خاصة بهم، والدراسة هنا طبعا بالفرنسية، أما في البلديات الأهلية، وهي الغالبة، فالتعليم بالعربية الدارجة والفرنسية في مدارس تسمى (خاصة) speciales بالأهالي. ونص المرسوم أيضا على ضمان حرية الضمير في المدرسة، وقد فسر بعضهم ذلك بأنه يعني اللائكية أو عدم إخضاع التعليم للدين. أما بالنسبة للكتب الخاصة بالتعليم الأهلي فستفتح بشأنها مسابقة ويقرر منها الأفضل الذي يتماشى مع الفرنسة ونظرية الجمهورية الثالثة في المستعمرات. أما شهادة التخرج فقد نص على أنها ستسمى بالدبلوم الخاص أو (شهادة الدراسات الأهلية). وقد شمل المرسوم أيضا إحداث وظائف مؤقتة للمفتشين الابتدائيين المكلفين بالمدارس الأهلية على أن يكونوا تحت إشراف مدير التعليم، الذي له صلاحية تسمية المعلمين الابتدائيين وكذلك مدراء المدارس الأهلية المسماة بالرئيسية (2)(principales).
(1) انظر سابقا.
(2)
كولونا، مرجع سابق، 18. وكذلك جان ميرانت، مرجع سابق، 86.
وإذا كان مرسوم 1883 قد جاء مقيدا، فإن مرسوم 1887 قد أطلق هذه القيود في عدة مظاهر. من ذلك عدم تحديد نوعية البلدية (كاملة أو مختلطة أو أهلية) فالمرسوم الجديد تحدث عن التعليم العمومي للأهالي في الجزائر كلها دون تحديد المكان، كما أن مرسوم 1887 جعل وظائف المفتشين المذكورين وظائف دائمة وليست مؤقتة. ومن جهة أخرى تدخل المرسوم الجديد حتى في تعليم القرآن وتعليم الزوايا. ولم يهمل موضوع التعليم المهني. ومع ذلك فإنه ظل مرسوما نظريا أيضا لأن البلديات لم تلتزم بتخصيص المال لبناء المدارس للأهالي، ولذلك حدث ما يسمونه (بالنكسة) في التعليم. وقد ظل الأمر كذلك إلى مجيء لجنة مجلس الشيوخ 1892.
ودون إلغاء مرسوم 1887 جاء مرسوم 1892 لتنظيم عدة مسائل تتعلق بالمدرسة الأهلية ذات التصور الفرنسي الجديد، مثل شروط إنشاء المدارس والتسيير واللجان التعليمية والرواتب وترقية المعلمين والتصنيف، وبرامج تعليم البنين والبنات، والتفتيش وما إلى ذلك. وقد لاحظ ميرانت أن لجنة قسنطينة (1887) قد ركزت على المنهج التعليمي، أما مرسوم 1892 فقد ركز على التنظيم. ومعنى ذلك أن المرسوم جاء مكملا ومنظما لتصورات لجنة قسنطينة (1). والتعليم بناء على مرسوم 1892 ينقسم إلى أطوار: تحضيري وابتدائي ومتوسط، وينتهي (بشهادة الدراسات الخاصة بالأهالي). وأعمار التلاميذ تتراوح بين السادسة والثالثة عشر في العادة. ومواد الدراسة هي اللغة الفرنسية التي تأخذ المكانة الأولى - كما أوصت لجنة قسنطينة وكما كانت دائما منذ الاحتلال. فهي تستأثر بثلاثة أرباع الوقت، أو 15 ساعة أسبوعيا. وللتلاميذ الأهالي كتاب خاص بالقراءة ليس هو بالطبع كتاب الطفل الفرنسي. ثم يدرس التلاميذ الحساب والرسم والأشكال الهندسية. وللعربية الدارجة ساعتان ونصف فقط أسبوعيا في كل طور من الأطوار الثلاثة المذكورة. وبالأضافة إلى ذلك هناك الأعمال اليدوية والزراعية التطبيقية، ثم
(1) ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 86.
المعارف العامة كالصحة والاقتصاد المنزلي ومبادئ العلوم، وكذلك التربية الأخلاقية، والتاريخ والجغرافية، والإدارة (1).
وهناك نقاط في برنامج سنة 1898 جديرة بالتوقف قليلا لأنها داخلة فيما سمي بالتوجيه والأيديولوجية الفرنسية عندئذ. إن الهدف كما ذكرنا هو نشر اللغة الفرنسية وسط الأهالي وإخضاع كل أنواع التعليم الأخرى إلى هذه اللغة باعتبارها وسيلة اتصال للجزائريين مع الفرنسيين بعد خروجهم من المدرسة. وقد جاء في البرنامج أنه من السطحية القول بأنه ليس من مهمة التعليم الابتدائي الأهلي جعل الأهالي يتذوقون الأدب الفرنسي والثراء العلمي للغة الفرنسية، أو الخصوصيات الصناعية والتجارية لها، أو حتى المعارف النحوية. إننا نكرر أن الهدف من تعليمها لهم هو جعلهم قادرين على التعبير بها فقط عن بعض المعارف العامة وبعض الأفكار ذات المعنى العملي أو التربوي، وتكوين الطفل الجزائري بهذه الطريقة ليس للوظيف العام ولكن للعمل في الحقول أو الورشات، وهذا التعلم يجب أن يعطى له بالفرنسية ليحس بالتقدم وما قامت به فرنسا من أجل الجزائر ومن ثمة يقترب من الفرنسيين.
أما بالنسبة لمادة التربية الأخلاقية فقد جاء في البرنامج أن المقصود منها ليس تعليم الأطفال تعليما مجردا ولكن تعليم الأخلاق أيضا. وانطلاقا من أن المعلمين الفرنسيين قد تعلموا احترام القناعات الدينية للجزائريين، وأن هؤلاء المعلمين قد تعلموا أنه يمكن للجزائريين أن يكونوا أحسن المتعاونين مع الفرنسيين مع بقائهم على إسلامهم، فإنه لا يسمح للمعلم الفرنسي أبدا أن ينتقد تعاليم القرآن. وعليه أن يعامل الدين كشيء خاص ومقدس كالضمير. والمعلمون الفرنسيون لا يجهلون أن فكرة الإله موجودة في الأديان وفي معظم الفلسفات. وفي هذا الموضوع يمكن للمعلم أن يتحدث
(1) سبق أن ذكرنا رأي مارسيه في اللغة والأخلاق والتاريخ وطريقة تدريسها في الجزائر. انظر سابقا (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 191 - 201. عن البرنامج انظر أيضا كولونا، مرجع سابق، 19، كذلك 208.
مع التلاميذ. إن فكرة الأخلاق في نظر البرنامج الفرنسي مبنية على فكرة الإله. وعليه يمكن للمعلمين أن يبينوا للتلاميذ أن الحقائق الأخلاقية موجودة في القرآن والإنجيل، وكذلك لدى الأخلاقيين القدماء والمحدثين. وهم جميعا يوصون بنفس الشيء في أغلب الأحيان ويدعون إلى تجنب نفس الأخطاء أيضا. وهذا التحليل يتماشى في الواقع مع الأفكار الماسونية التي كانت وراء الثورة الفرنسية. وكان الحكام العامون في الجزائر وعدد من المسؤولين أعضاء في المحافل الماسونية.
والغريب أن البرنامج يخلط بين التربية الأخلاقية والتربية السياسية. وهو يدخل الولاء لفرنسا ضمن هذه التربية. فإذا كانت حقائق الأخلاق موجودة في كتب الأديان وفي الفلسفات فأين حقائق الولاء لفرنسا في هذه؟ فقد جاء في البرنامج التنصيص على توجيه التلاميذ نحو طاعة الوالدين واحترام المعلم. وهذا واضح ومعقول. ولكن تعليمهم وتعليم ذويهم الواجبات نحو فرنسا مقابل حمايتهم وتوفير العدل لهم وحفظ السلام والمصالح العامة، وكون فرنسا فعلت الخير نحوهم لأنها علمتهم ومدنتهم. كما نص البرنامج على تعليم الطفل طاعة واحترام من يحكم ويسير البلاد باسم فرنسا، بل واحترام العلم المثلث والجيش الفرنسي، وكذلك احترام القانون والسلطات على أنه شعار كل أمة متحضرة، (ويجب الإلحاح على هذه الحقيقة الأساسية بالخصوص)، وكذلك (الإلحاح على ضرورة دفع الضريبة، وعدم ارتكاب الغش)(1).
ولا تخلو المواد الأخرى أيضا من فلسفة عند البعض. بالنسبة للعربية يرى بول بيرنار، مدير مدرسة ترشيح المعلمين، أن تعليمها جاء استجابة للمطالب المتجددة من الجزائريين، ثم أن العربية هي لغة التجارة في نظره. ولكنه أكد على أنه يعني اللهجة الدارجة فقط. فهل طالب الجزائريون بالعربية
(1) خلاصة البرنامج واردة في كولونا، مرجع سابق، 212. انظر كذلك 207 - 214. وعن فلسفة البرنامج الموجه للأهالي انظر كذلك بول بيرنار (التعليم الابتدائي
…
)، مرجع سابق، 5 - 9. وهو يسمى ذلك بالمذهب التربوي: Doctrine pédagogique.
الدارجة أو بالمكتوبة؟ إن العرائض كانت تطالب باللغة العربية المكتوبة، لغة التعليم والقراءة والكتابة والعلم والبحث. أما الدارجة فلا تفيد إلا المستشرقين والتجار الفرنسيين، وقد انتقد بعض علماء الفرنسيين أنفسهم تعليم الدارجة إذ لا طائل من ورائها، ذلك أن اللغة المكتوبة هي لغة التراث والقرآن والتجارة أيضا - وهم يقصدون بالتجارة الاتصال بالبلاد العربية والإسلامية عن طريقها. ولكن أيديولوجية القضاء على اللغة العربية لتعيش الفرنسية هي التي كانت تملي اختيار اللغة الدارجة التي رفضها الجزائريون من التعليم على كل حال.
أما في الحساب فقد ظهرت مقدرة الطفل الجزائري على الحساب العقلي والكتابي، وكان الأطفال يتعلمون النظام الفرنسي في المقاييس والمكاييل. والمادة التي تعالج المعارف العامة عن فرنسا والجزائر لا يأخذها إلا التلاميذ الاكثر تقدما في السن، إنها مبادئ عامة بالصور والحكايات، وليس تاريخا بمعنى الكلمة. فتاريخ فرنسا كان يقدم للتلاميذ ممزوجا بالإنتاج الحضاري وبفكرة التقدم والحرية والعدالة (؟) وما فعلته فرنسا من خير للجزائر، (هذا بالطبع إذا كان المعلم فرنسيا في بداية القرن العشرين)، أما بالنسبة لمادة الفلاحة فيمكن للجزائريين تحسين فلاحتهم وتعلم طرق المحاسبة والحالة المدنية ووظيفة البريد وغيرها مما سمي بالمعارف العامة. وأما بالنسبة لتعليم البنات فيقع التركيز على صناعة الزرابي والطرز العربي (1)، فالبرنامج الفرنسي للجزائريين كان يتلخص في فرنسة اللسان والعقل واستغلال الأيدي والأبدان لصالح السلطة الفرنسية، وليس في البرنامج ما يدل على تكوين الإنسان والمواطن الصالح في ثقافته من أجل قومه وبلاده.
أما المواد المقررة في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) فهي: بيدا غوجية (منهجية) المدرسة الأهلية، والزراعة، والأعمال اليدوية، واللغة العربية والبربرية، والطب الشائع. والهدف هو تخريج معلم فرنسي للمدارس الأهلية
(1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 10 - 15.
قادر على التعليم وعلى المداواة، لأن عمله الطبي يقربه من الأهالي، ويساعده على إزالة الشك والعداء المتأصل فيهم نحو الفرنسية (كذا). وتوجد مدرسة للتدريب قريبة من مدرسة النورمال وحقول شاسعة للتطبيق الفلاحي وعدة ورشات. ويعمل البرنامج على إعطاء المعلمين الفرنسيين مدخلا ضروريا لحياة الجزائريين ولغتهم ولهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فالتغيير الاجتماعي المنتظر على أيديهم يتطلب أولا معرفة المجتمع نفسه، كما يقول بول بيرنار. وقد عمل الحاكم العام شارل جونار على فتح دروس في التمريض أيضا وكذلك في الطب العام في مستشفى مصطفى باشا وفي غيره ليتدرب المعلم الفرنسي على مختلف الأمراض المنتشرة في الريف وطرق علاجها (1).
ومن رأى مارسيه أن البرنامج الفرنسي للمدارس الأهلية لا يلبي حاجة الطفل ولا يسير مع روح التربية. وقد ذكر من ذلك النقاط التي علقنا عليها، وهي تعليم العربية الدارجة على يد معلم فرنسي، وقضية الأخلاق والدين، ومسألة التاريخ والسلام (Pax) الفرنسي والروماني. ومن الملاحظات التي أبداها مارسيه لتوجيه التعليم نذكر ضرورة الأخذ في الاعتبار حضارة الطفل والبيئة الجغرافية والاجتماعية والحياة الاقتصادية للسكان والجو الفرنسي العام في الجزائر. وضرب لذلك مثلا بحياة المدن والإعلانات واللغة الفرنسية. ونادى بأن يحاول التعليم القضاء على الأحكام المسبقة وأن يقرب الأهالي من الفرنسيين وأن يعرفهم بالأفكار الفرنسية. وبالإضافة إلى ذلك ربط مارسيه بين التعليم والمعيشة، فقال بضرورة تحسين الوضع الاقتصادي للجزائري لأنه لا يمكن القضاء على الجهل مع بقاء الفقر، لذلك نادى بأن يكون إلى جانب التعليم العام تعليم آخر مهني وفلاحي مختلف (2).
(1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 14 - 18. وكذلك مارسيه (مؤتمر ..) مرجع سابق.
(2)
تساءل مارسيه عن كيف يمكن لمعلم فرنسي أن يعلم طفلا جزائريا اللهجة الجزائرية العربية. وطالب بتعليم الأطفال اللغة الفصحى، لغة الكتابة لأن الدارجة غير مكتوبة، =
إن الثغرة الكبيرة في ميدان التعليم المسمى بالأهلي هي تخلي الحكومة الفرنسية عن تمويله ومنح تلك المسؤولية إلى سلطة البلديات. والمعروف أن الكولون والعناصر المعادية لتعليم الجزائريين هم الذين سيطروا على البلديات. ورغم أن ميزانية الدولة الفرنسية هي التي استوعبت أموال الأوقاف المخصصة في جزء كبير منها إلى التعليم، فإنها لم ترصد ميزانية قارة وهامة منها لهذا التعليم وإنما استوعبت أموال الأوقاف الإسلامية في أغراض أخرى غير إسلامية، ومنها تعليم الفرنسيين أنفسهم، والاكتفاء بتخصيص (معونة) سنوية تقدمها لميزانية الجزائر لتصرف في شكل مساعدات خيرية وليس بالضرورة عن التعليم. وبناء على القوانين الفرنسية فإن التعليم الفرنسي كان منذ 1848 يتبع وزارة المعارف (التربية والتعليم) أما التعليم الجزائري فظل يتبع وزارة الحرب التي يمثلها الحاكم العام. وبقي الصراع على أشده بين العسكريين والمدنيين الفرنسيين إلى 1870 حين تغلب المدنيون واستولوا على مقاليد الإدارة، وأبعدوا العسكريين إلى الأماكن النائية فقط والتي سميت بالمناطق العسكرية. وسيطر الكولون وممثلوهم على ميزانية الجزائر فوجهوها لصالح أبنائهم وأنشأوا لهم المدارس المخصصة لكل مرحلة تعليمية، من الابتدائي إلى الجامعي، وازدهر التعليم الفرنسي في الجزائر كما عرفنا، بينما ظل التعليم على اضطرابه وتدهوره بالنسبة للجزائريين لعدم وجود ميزانية. لقد كان الجزائريون هم الذين يدفعون الكثير لميزانية فرنسا ولا يجنون إلا القليل. وفي سنة 1886 قدرت الضرائب التي يدفعونهاب 6.300.000
= ولأن الأهالي أنفسهم يطالبون بتعليم الفصحى. ولاحظ مارسيه أن البرنامج يعلم الطفل أن الله هو الأب لكل البشر، وقال إن هذه فكرة مسيحية لا تليق بالمسلمين!
كما انتقد فكرة التربية من غير مؤمن لمؤمن. انظر مارسيه (مؤتمر شمالي إفريقية
…
)، مرجع سابق، 191 - 201. وعن البرنامج لسنة 1898 انظر الكتاب الذي صدر متضمنا خطة الدراسة وبرنامج التعليم الابتدائي الأهلي في الجزائر، وهو بعنوان:
Plan d'etudes et programme de L'enseignement primaire des indigènes en Algérie، Aovet، 1898 Jourdan، ALGER. 1900.
فرنك. وهي تزداد كل سنة، وكانت بالطبع توضع في خزينة الدولة الفرنسية التي كانت ممثلة في خزينتي الولاية والبلدية. فماذا خصصت هاتان الخزينتان لميزانية التعليم؟ لقد قدره السيد لويس فينيون بـ 79.000 فرنك فقط، وقد لاحظ في نفس الوقت مدى الفرق بين المدفوع والمصروف، وأظهر أن هناك تضحية كبيرة من جانب الأهالي، ولكن بدون تعويض. وطالب بما أسماه بعمل عادل في الموضوع رغم أنه كان ضدهم سياسيا وحتى عنصريا. كما حذر من أن الجزائريين يرسلون أولادهم إلى الزوايا التي كانت تعلم في نظره القرآن والكراهية للاحتلال الفرنسي، ومن رأيه أن المتخرجين سيصبحون عندئذ أنصارا للطرق الصوفية. وطالب بضرورة تعليمهم الفرنسية وتخصيص ميزانية للتعليم تقدرب 219.000 فرنك لسنة 1887. ومن رأيه أنه كان على الجزائريين جميعا أن يتكلموا الفرنسية كما يتكلمها الفلاحون الفرنسيون (1).
لقد نصت ميزانية وزارة التعليم سنة 1886 على تخصيص مبلغ 45.000 ف لتقديمه (معونة) لبلديات الجزائر لتشجيع التعليم الابتدائي عند الأهالي. ووافقت (بعض) البلديات في نفس الوقت على تغطية مصاريف التعليم مؤقتا. ومن نتيجة ذلك بناء 19 مدرسة أهلية (قسما؟) وقد بلغ الصرف عليها 34.000 ف. وبذلك يصبح مجموع الصرف هو 72، 00 72 ف. ومن جهة أخرى طلبت الحكومة من البرلمان رفع المعونة (وهي 45.000 ف) إلى 219.000 ف. لتوجيهها إلى التعليم الأهلي، وقد تحصلت فعلا على المبلغ (2). ولكن البلديات الأخرى رفضت تخصيص المبلغ المالي السنوي للمدارس الأهلية تحت عدة دعاوى، منها أن لدى الأهالي عددا كبيرا من المدارس القرآنية (الكتاتيب) وهذا يكفيهم، ومنها أن
(1) كل هذه الآراء تدل على أن هدف فرنسا هو جعل الجزائريين (يتكلمون) الفرنسية، فكل ما سمي (بالمهمة الحضارية) كان يتمثل عند الفرنسيين في تحريك اللسان بالفرنسية وليس التثقف بها. ولكنهم كانوا متناقضين مع أنفسهم فهم من جهة يحبون لغتهم ومن جهة أخرى يبخلون عنها ببعض الفرنكات.
(2)
لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقيق)، مرجع سابق، 260 - 261.
الأهالي غير قابلين للتعلم وأن المدارس تظل فارغة، وكان أعداء تعليم الأهالي يسمونها (بالقصور الخاوية). وفي أحسن الأحوال تقول تلك البلديات أنها لا تملك المال.
والواقع أن هناك نوعين من الميزانية في ميدان التعليم عندئذ: ميزانية الموظفين وهذه كانت تتولاها الدولة، ولا نزاع بشأنها عادة، ثم أصبحت تتولاها ميزانية الجزائر منذ 1955. ثم ميزانية بناء المدارس أو تجديدها وصيانتها، وهذه هي محل النزاع الكبير. فالميزانية الأخيرة كانت تأتي من البلديات كما ذكرنا. ثم تأتي الدولة لمساعدتها بالمعونة المشار إليها أو القرض الذي قيل إنه يتراوح بين 40% و 80% من المصاريف الكاملة. ورغم أن القرض وصل أحيانا إلى 90% فإن البلديات كانت تغض النظر عن كل مطالبة ببناء المدارس أو توفيرها للأهالي رغم أن بعض البلديات كانت تملك بالإضافة إلى الضرائب الأهلية، أملاكا وقفية إسلامية تسلمتها من الدولة الفرنسية نفسها، وكان لهذه الأملاك الوقفية مداخيلها المالية للبلدية. وكانت المطالبة بإنشاء المدارس، كما يقول مارسيه، تأتي من الإدارة العليا (الحكومة العامة) في الجزائر (1)، ومن الجزائريين أنفسهم.
ولكن من المسؤول على تعليم الأهالي: الدولة أو ممثلها أو البلدية؟ إن الأصابع تشير دائما إلى الدولة صاحبة السيادة على الجزائر والغائبة عن واجبها في هذا المجال. لقد بح صوت الجزائريين من المطالبة بإسماع أصواتهم إلى (الجهات العليا) الفرنسية بالنسبة للتعليم وغيره. وقدموا العرائض فظلت في الأدراج، ورفعوا الشكاوى والاحتجاجات فبقيت في سلال المكاتب العربية والبلدية. وجاءت لجنة فيرى وحققت في عدة قضايا وأصدرت توصياتها. وظهر (الفاهمون) للموضوع أمثال جونار وكامبون، ولكنهم غرقوا في (اللوبي) الكولوني، بينما أصوات النواب الاستعماريين كانت تجلجل من على منصة البرلمان الفرنسي. وطالب بعض الجزائريين
(1) مارسيه، (مؤتمر
…
)، مرجع سابق، 186.
بالتمثيل السياسي لإسماع صوتهم فلم يستمع أحد إلى مطالبهم. وظلت قضية ميزانية التعليم جزئية من بين القضايا الكبرى التي كان يعاني منها الجزائريون لتتخلى الدولة الفرنسية عنها، تاركة الحبل على الغارب. ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد صدق جورج مارسيه عندما قال سنة 1908 إن ترك البلديات تقرر مصير التعليم للأهالي منتقذ بأن الحكومة العامة، وهي التي تمثل الدولة الفرنسية، قد ظلت غريبة عن تعليم الأهالي وتكوينهم المعنوي والعقلي. ولهذا كاد تعليمهم أن يكون مستقلا عن الحكومة العامة (1).
إن الميزانية التى أعدها جونار سنة 1893 قد تضمنت مخصصات التعليم الأهلي وهي: 622.850 فرنك، موزعة على المنح الدراسية في الثانويات: 50.000 ف والصرف على أوجه التعليم الابتدائي الأهلي: 621.000 ف، وللمدارس الشرعية - الثلاث، والمنح التابعة لها: 51، 850 ف.
وكان مقررا حسب برنامج 1892 بناء من 60 إلى 80 قسما (فصلا) دراسيا كل سنة، ويعني ذلك زيادة ميزانية التعليم الابتدائي سنويا إلى حوالي 150.000 ف. للموظفين، وحوالي 400.000 ف. لبناء المدارس. لكن لأسباب مختلفة، كما قال مارسيه، لم تتواصل هذه الخطوة، بحيث كانت ميزانية بناء المدارس 265.000 ف. فقط بين سنوات 1895 و 1899، ثم انخفضت إلى 215.000 فقط سنة 1955. وأثناء منح القروض (1892 - 1894) بنيت مدارس ابتدائية في مدن وهران والجزائر وقسنطينة وعنابة وفي البلديات المختلطة بمنطقة زواوة، وهي المنطقة التي اقترح لوبورجوا التركيز عليها خلال الثمانينات (2). لكن القرض انخفض كما لاحظنا من 400.000 ف إلى 215.000 ف. ويمثل تاريخ 1955 نشأة
(1) مارسيه، (مؤتمر
…
)، مرجع سابق، 185.
(2)
ويقول ميرانت (كراسات
…
)، ص 84، إن الدولة الفرنسية بنت على نفقتها ثماني مدارس ابتدائية عمومية في منطقة زواوة بناء على مرسوم 9 نوفمبر 1881.