الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد ست سنوات (1936) وصل مجمل طلاب الجامعة إلى 2.250 طالبا في مختلف التخصصات. فكان عدد الجزائريين من ذلك هو 94 طالبا فقط (1). وقد انخفض هذا العدد سنة 1940 إلى 89 طالبا فقط (2). أما سنة 1951 فقد كانت الكليات تضم 4.404 طلبة ليس من بينهم سوى بضع عشرات من الجزائريين (3).
هذا هو التعليم العمومي الفرنسي في الجزائر. وهذا حظ الجزائريين منه، ابتداء من التعليم الابتدائي إلى الجامعي. فنحن هنا أمام فراغ مهول بالنسبة للشعب الجزائري. فأبناؤه لم يعرفوا طيلة قرن وربع معنى التعليم الحقيقي لا في لغتهم ولا في لغة المستعمر، بل كانوا محرومين من نور العلم، رغم كثرة الحديث عن الرسالة الحضارية ومهمة فرنسا الإنسانية. وقد انخدع الأغرار بهذا الكلام المعسول والدعاية المغلفة فاعتقدوا أن الجزائريين كانوا في بحبوحة من العيش وفي جنة من العلم والنور ما دامت الدولة التي تستعمرهم هي فرنسا - موطن حركة التنوين ووطن فولتير الخ -.
حلقات اللغة العربية
نود الآن أن نتحدث عن نوع آخر من التعليم الموجه للفرنسيين وهو تعلم اللغة العربية. ونحن وإن كنا سنعود إلى هذا الموضوع في حديثنا عن الاستشراق في فصل آخر، إلا أننا هنا نتحدث عن الجانب التعليمي منه. فقد اعتبر الفرنسيون في أوائل الاحتلال أن معرفة اللغة العربية أساسية لهم لكي يحكموا سيطرتهم على الجزائر. ورغم وقوع خلاف نظري حول ما إذا كان على الجزائريين أن يعرفوا الفرنسية أو على الفرنسيين أن يعرفوا العربية، فإن
(1) المصدر: أرشيف إيكس، 61 H 10، عن جريدة (وهران الجمهورية)، 18 يوليو 1937. من بين عدد الفرنسيين 15 من الطلاب الأجانب. وليس في الطلاب الجزائريين أي عنصر نسوي، بينما شمل الرقم المذكور 538 فتاة فرنسية.
(2)
كولونا، مرجع سابق، 93. انظر أيضا إيمانويل بوجيجا في S.G.A.A.N، 1938، 66.
(3)
لويس ماسينيون، (الحولية)، باريس، 1955، ص 236.
الأمر قد حسم في العقود الأولى لصالح الرأي الثاني. إن تعليم الجزائريين (الأهالي) لم يكن واردا البتة عندئذ، كما عرفنا. وكان الفرنسيون منشغلين بالقضاء على المقاومة الشديدة، ومن جملة أسلحتهم في ذلك تعلم اللغة العربية، الفصيحة والدارجة، عملا بالأثر: من تعلم لغة قوم أمن شرهم (1). ظهر هذا التعليم الموجه للفرنسيين في شكل حلقات أو (كراسي) اللغة العربية أولا في العاصمة منذ 1832 ثم منذ 1846 في قسنطينة ووهران أيضا. وكانت البداية على يد جوني فرون ثم تولاه برينييه، منذ 1836، كما سبق. وقد ظل هذا يؤدي عمله في العاصمة، مدرسا ومؤلفا وموجها إلى وفاته سنة 1869. وكثيرا ما كانت الدروس تكشف في أول الموسم الدراسي. ثم تتقلص تدريجيا، حسب الظروف وطريقة الأستاذ في التعليم والوظائف المتاحة والقوانين الملزمة. والمعروف أن معظم المستعربين من الجنود ومن الموظفين المدنيين ورؤساء المكاتب العربية والمترجمين الفرنسيين قد مروا بالحلقات. ومن هذه الحلقات أيضا انطلق الاستشراق الفرنسي قبل ميلاد مدرسة الآداب (كلية الآداب) في الجزائر. لقد كانت الإدارة تشجع على معرفة اللغة العربية للفرنسيين لا حبا فيها أو تقديرا لها، ولكن باعتبارها لغة وظيفية وأداة للحكم والسيطرة ومعرفة أفكار وتاريخ الجزائريين وما يدور بينهم في الأسواق والزوايا والبيوت، وما في كتب الفقه والأدب من نصوص وقوانين وقيم. وكانوا يقولون إن اللغة العربية صعبة، ومع ذلك لا بد منها، خصوصا عندما ارتبطت بها الترقيات الإدارية والوظائف الرسمية. فكانت العربية المكتوبة أو الشفوية شرطا لازما. كما أن معرفة الفرنسية للعاملين الجزائريين في المصالح الفرنسية لازمة (2). وكانت في باريس مدرسة اللغات الشرقية التي يحضرها الفرنسيون المترشحون للعمل في الجزائر. ولكن المقارنين لاحظوا أن الحضور في حلقات الجزائر كان أكثر كثافة من حضور
(1) وفي وقت لاحق تعلم الفرنسيون اللغة البربرية أيضا لأسباب سياسية وعلمية. انظر فصل الاستشراق.
(2)
السجل (طابلو)، 1838، ج 2، 251 - 252.
دروس مدرسة الاستشراق الفرنسية.
والغريب أن التسمية لم تتغير، فقد بقيت تحت هذا العنوان (حلقات اللغة العربية) في الغالب أو الدروس العربية أحيانا. بينما كان بالإمكان إطلاق اسم مدرسة أو كوليج عليها. وبذلك تكون مثلا فرعا من مدرسة اللغات الشرقية في باريس. ولكن ذلك لم يحدث. ولم نعرف أن هناك من اقترح تغيير الاسم رغم وجود عناصر استشراقية بارزة على رأس كل حلقة، مثل شيربونو Cherbonneau وبرينييه، وهوداس O.Houdas وأضرابهم. ولم تكن مهمة هذه الحلقات هي تخريج المستشرقين بالمعنى الدقيق للكلمة، كما هو شأن مدرسة اللغات الشرقية، ولكن تخريج موظفين مدنيين وعسكريين يتولون شؤون (العرب) كما كان يقال، بالإضافة إلى الراغبين من المستوطنين الذين يريدون معرفة اللغة العربية كوسيلة للاتصال مع (الأهالي) في الحياة اليومية، للعمل والتجارة. وكذلك كان يحضرها المترشحون للمدرسة السلطانية (الكوليج الامبراطوري) وغيرهم من التلاميذ. أما الجزائريون فقد كانوا غير معنيين بهذه الحلقات.
في 15 أبريل 1845 صدر مرسوم ملكي يجعل معرفة اللغة العربية إجبارية على كل المترشحين للوظيف المدني في الجزائر ابتداء من سنة 1847. وقد استبشر بهذا المرسوم أنصار حلقات اللغة العربية مثل شيربونو وبرينييه. وكان الحاكم العام المارشال بوجو، قد شجع على ذلك، وهو الذي كان يفرضه حتى قبل صدور المرسوم. وكان قد غير الإدارة وأنشأ إدارة الشؤون العربية ودعم المكاتب العربية. وكلها كانت تقوم على الترجمة ومعرفة لغة البلاد، فكانت حلقة الجزائر وحدها تضم 20 متعلما سنة 1845. وكان الدرس عادة يبدأ بحضور حوالي أربعين ثم ينخفض العدد تدريجيا، كما ذكرنا.
ويعتبر التعليم في هذه الحلقات من التعليم العالي، رغم أن المصطلح (العالي) قد لا يصدق عليه. لأن برينييه مثلا كان يلقي درسا في اللغة
الفصحى أو المكتوبة أو الأدبية، ودرسا آخر في الدارجة أو الشفوية. وهو يكرر ذلك في عدة مستويات. أما حلقتا العربية في قسنطينة ووهران فقد كانتا بالدارجة. وكان الفرنسيون يخططون لإنشاء حلقات للعربية في مدن أخرى حين يتوفر المال (1). ويبدو أن هذا النوع من التعليم كان سيتوطد ويستمر، ولكن حدثين أثرا عليه، الأول انتهاء مهمة بوجو من الحكومة العامة في الجزائر في صيف 1847، وهي سنة تطبيق القرار بإلزامية معرفة العربية في التوظيف. والحدث الثاني هو سقوط الملك الذي أصدر المرسوم المذكور في فبراير، 1848. ان قيام الجمهورية الثانية في فرنسا قد نتج عنه تغيير إداري في الجزائر، ومنه إنشاء الأكاديمية كما ذكرنا، وفصل التعليم الفرنسي عن التعليم الموجه للجزائريين. فأصبح الأول تابعا لوزارة المعارف في فرنسا، أما الثاني فقد بقي تابعا لوزارة الحربية الذي يخول صلاحياته للحاكم العام. هذا بالنسبة للتعليم عموما بعد قيام الجمهورية.
أما حلقات اللغة العربية التي تعتبر من مشمولات التعليم الفرنسي فقد أغفلت تماما من القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية الجديدة في فرنسا، كما لاحظ ذلك أوغست كور A.Cour، وهو أحد المستشرقين. وقد تساءل ثم أجاب بأن السلطة المذكورة كانت تعتبر ذلك التعليم (الحلقات) من مشمولات التعليم الإسلامي. (ما دامت قد أهملته في القرارات المذكورة) غير أن كور لاحظ أنه من الناحية المالية كانت ميزانية دروس اللغة العربية تصدر عن وزارة المعارف في فرنسا وليس من الجزائر، ومن ثمة فهي دروس تهم الفرنسيين. وقد ختم كور ملاحظاته عن تذبذب الموقف الرسمي إزاء هذا النوع من التعليم، بقوله: إنه رغم إهمال حلقات العربية فإن الإدارة الفرنسية والسلطات المحلية ظلت تهتم بتدريس اللغة العربية للأوروبيين من جهة واللغة الفرنسية الأهالي من جهة أخرى (2).
(1) السجل (طابلو)، سنة 1845 - 1846، 111.
(2)
كور، المجلة الإفريقية، 1924، 41 - 42.
وقد وجه نقد شديد بين 1849، و 1851 لحلقات اللغة العربية للأوروبيين. فجاء في التقرير الرسمي لسنة 1849 أنها الدروس الوحيدة في الجزائر التي تعتبر دروسا عالية، وأنه رغم الحماس لها في البداية فإنها لم تعط الثمرة المرجوة منها. ووجه النقد بالخصوص لدروس وهران لقلة حضورها، ومرد ذلك إلى صعوبة اللغة العربية (كذا) التي لا يواظب عليها إلا الأذكياء (1). ومن الملفت للنظر أن الناقد لم يقل شيئا عن الإخلال بتطبيق مرسوم 1845، وركز نقده على صعوبة اللغة. وأين مثلا كفاءة المدرسين وقدرتهم على اجتذاب التلاميذ، وتوفير الشروط لإنجاح الحلقة؟ ان الأساتذة أنفسهم كانوا يشتكون من عدم الأماكن والوسائل. وبعد أن ركز ناقد آخر على أن التعليم في الحلقات الثلاث ظل في مستوى العالي ذكر أن الحكومة كانت تشجعه وأنها أعطت فرصا كثيرة للحاصلين عليه، لكن المواظبين عليه يجعلون منه، في نظره، تسلية فقط ولم يأخذوه مأخذ الجد. كما أنهم كانوا يغيرون إقاماتهم فلا يواظبون عليه. وقد لاحظ هذا الناقد أن دراسة اللغة العربية ذات أهمية كبيرة للفرنسيين، ومع ذلك لم يحصل التقدم المطلوب فيها إلا بدرجة ضعيفة (2).
كما وصف التعليم في الحلقات بأن القليل فقط من أساتذته يعلم أيضا العربية الفصحى التي يسمونها المكتوبة أو الأدبية. وفي سنة 1848 قال بيليسييه دي رينو أن عدد الحضور في الحلقات الثلاث لا يتجاوز الستين، وأن حالها كحال دروس الكوليج دي فرانس. وفي تقرير آخر ذكر أن النتائج كانت غير مرضية رغم مؤهلات الأساتذة، ورغم الحماس الذي يبدونه.
ومن النقد الموجه إلى هذه التجربة أنه رغم الاعتراف بأهمية اللغة العربية كوسيلة اندماج بين الجزائريين والفرنسيين وكوسيلة تجارية، فإن البرنامج المعد لذلك لا يحقق الهدف. لقد كان الواجب هو الشروع في تعليم
(1) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، 189 - 195.
(2)
نفس المصدر، سنة 1851 - 1852، 190.
العربية منذ الابتدائي حتى يحضر التلاميذ لتلقيها في الدروس العالية على يد الأساتذة في الكراسي أو الحلقات. ذلك أن أكبر مشكل كان يعانيه الأساتذة هو أن التلاميذ الذين يتقدمون إليهم لا يعرفون أوليات العربية. وهكذا اضطر الأساتذة إلى التعليم على مستويات ثلاثة: ابتدائي باللغة العامية، ومتوسط يعلمون فيه النحو وقراءة القرآن، وعالي يعلمون فيه تراجم المؤلفين ومختلف أنواع الكتابة. وكل مستوى انخفض إلى ساعتين في الأسبوع فقط. ولو كانت العربية تدرس في الابتدائي لاختلف الوضع. ولذلك طالب مفتش التعليم بالجزائر بتدريس العربية في الابتدائي والثانوي قائلا إنها بالنسبة للكولون أولى من الإيطالية والإسبانية لقلة استعمالهما، بينما العربية هم في حاجة إليها مع الأهالي. وإذا تخلص أساتذة الحلقات من مستوى الابتدائي في اللغة العربية فإنهم سيتفرغون حقا إلى المستوى العالي ويأتون بنتائج طيبة. وعلى المدارس الابتدائية والمتوسطات (الكوليجات) أو تنشر اللغة العربية العامية حتى تساعد على اختلاط الأطفال الفرنسيين والجزائريين ويتفرغ أساتذة الحلقات لتعليم الفصحى (1). ولم يهتم صاحب التقرير طبعا بما سيستفيده الطفل (الأهلي) من تعلم العامية التي يعرفها منذ الرضاعة.
ويرى ناقد آخر أن تدريس اللغة العربية كان ينظر إليه، من جانب الإدارة، على أنه وسيلة للتوغل السياسي وليس لنشر الثقافة الفكرية، بالإضافة إلى أنها فقط وسيلة اتصال مع الأهالي والعلاقات التجارية. وقد ساعد على ذلك أيضا أن مؤلفي الكتب المدرسية كانوا يكرسون هذا المفهوم في عقول تلاميذهم وفي الجمهور. فهم يؤلفون كتبا في النحو وغيره للتطبيق العملي على اللهجة المحلية، دون الإحساس بضرورة الارتفاع إلى معالجة المنهج وتقديم النماذج المحللة على تجاربهم مع النصوص. ويقول هذا الناقد، إن الإدارة والمؤلفين معا قد نسوا أن ذكريات حضارة الشعب إنما
(1) كور، ص 42، 59 - 62. وتقرير المفتش المذكور مقدم في عهد الحاكم العام شأنزي (تولى سنة 1873). وهو منشور في إحصاءات سنوات 1872 - 1875. أي أن نقد التجربة جاء في أوائل عهد الجمهورية الثالثة.
ترقد في كتب التراث المؤلفة في اللغة العربية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الوضع الإداري لحلقات اللغة العربية قد بقي غير واضح. فقد كانت الحلقات تتبع وزارة المعارف، كما ذكرنا. وفي 1858 وقع إلغاء حكومة الجزائر وعوضت بوزارة مقرها في باريس.
ولكن حلقات اللغة العربية ظلت تابعة لوزارة المعارف ولم تكن الوزارة الجديدة معنية بها أيضا. ورغم وصف تعليمها بالعالي، فإن التقارير بين 1860 - 1879 كانت لا تشير إلى الحلقات في ذلك، وتكتفي بوصف التعليم في مدرسة الطب والصيدلة فقط على أنه عال. وما دامت الحلقات كانت تابعة مباشرة لوزارة المعارف فإنها كانت لا تتلقى المساعدات من الميزانية المحلية - الجزائر، بينما كانت مدرسة الطب تنال مساعدات منها (1)، لأنها تتبع وزارة الحربية (أو الميزانية المحلية في عهد الجمهورية الثالثة).
ومن جهة أخرى كان هناك أنصار وخصوم لحلقات العربية، سيما في عهد المكاتب العربية. وكان قصور الحلقات عن أداء مهمتها حجة في يد المطالبين بالإبقاء على المكاتب العربية (العسكرية) لأنها في حد ذاتها مدرسة للاتصال مع الأهالي عن طريق اللغة العامية، وهي (المكاتب) منظمة وسيطة بين الفرنسيين والأهالي، بينما يرى البعض (الأنصار) أن خريجي الحلقات قد أصبحوا بالآلاف، موظفين ومستوطنين، ولذلك فلا داعي لوجود المكاتب العربية أصلا، ولا حاجة إلى هذه الواسطة بين الفرنسيين والأهالي. ولذلك اعتبرت المكاتب العربية حجر عثرة في سبيل (الاندماج) المنتظر بين الطرفين، وهي تقف ضد كل تقارب بينهما. وكان الدكتور وارنييه Warnier وزميله دوفال Deval من أنصار الحلقات وضد المكاتب العربية، بينما كانت جريدة باريسية تسمى (الدستوري) تقف مع هذه المكاتب (2).
(1) كور، ص 58.
(2)
كور، ص 59. كتب وارنييه ودوفال عدة كتب (نشريات) خلال الستينات ضد المكاتب العربية وسياسة نابليون في الجزائر.
ومهما كان الأمر، فإن الجمهورية الثالثة قد ألغت المكاتب العربية من المناطق المدنية وعوضتها بالبلديات الشاملة والمختلطة. أما حلقات اللغة العربية الثلاث فقد أدمجتها في التعليم العالي الجديد الذي أنشئ في 20 ديسمبر 1879. وأصبحت مدرسة الآداب العليا هي التي تمنح شهادة تسمى (بروفي اللغة العربية) و (دبلوم اللغة العربية). وهما الشهادتان الوحيدتان اللتان تمنحان في الجزائر، أما شهادة الليسانس في الآداب فلا تمنح إلا في فرنسا، إلى أن تكونت كلية الآداب وجامعة الجزائر سنة 1959.
وفي سنة 1849 أيضا وقعت دراسة شاملة لموضوع العربية والفرنسية في الجزائر على أثر الاهتمام الخاص الذي ظهر من تقرير (بارو F.Barot) الشهير. لقد عينت وزارة التعليم والأديان في الحكومة الفرنسية لجنة ذات مستوى عال برئاسة الجنرال Bedeau الذي سبق له العمل في وهران وقسنطينة. ومن أعضائها المستشرق بيرسونال من الكوليج دي فرانس، والدكتور بيرون Perron مدير مدرسة الطب بمصر (1) وفيرناندان بارو الذي اختير مقررا لهذه اللجنة. كان أمام اللجنة نقطتان: كيفية تدريس العربية للفرنسيين وكيفية تدريس الفرنسية للجزائريين. وإذا شئت مشكل التعليم الاندماجي في الجزائر. ولاحظت اللجنة أن الحلقات لم تؤد مهمتها المرجوة أيضا. وأنه لا بد من تطويرها، وكذلك رأت ضرورة العمل على نشر الفرنسية بين الجزائريين باعتبار ذلك عملا مستعجلا لمساعدة عمليات الاستعمار (أي الاستيطان ومصادرة الأراضي واستثمارها لصالح فرنسا)، وضرورة اتباع الوسائل الآتية وهي التهدئة أي القضاء على جيوب المقاومة، وجلب الجزائريين إلى الجانب الفرنسي وتحقيق الاندماج. ونظرت اللجنة إلى دراسة اللغتين على أنه وسيلة لتسهيل الاتصال بين الجنسين: العربي والفرنسي.
أما بالنسبة لتعليم الفرنسية للأهالي فسيظهر أثره في المدارس الابتدائية المسماة بالعربية - الفرنسية. وأما بالنسبة لحلقات اللغة العربية الموجهة
(1) سيأتي الحديث عنه بعد قليل.
أساسا لتعليم الفرنسيين، فاللجنة لاحظت أن هناك أربعة دروس: اثنان بالعاصمة وواحد بقسنطينة والرابع في وهران، وأن درسي العاصمة أحدهما لتلاميذ الثانوية (كوليج الجزائر - الليسيه) وكان يحضره حوالي مائة تلميذ منقسمين على ثلاثة أقسام بمعدل حصتين في الأسبوع. أما الدرس الثاني فهو مفتوح للجميع ويتولاه برينييه. وعدد حضوره غير مضبوط. ففي بداية السنة يكون التلاميذ حوالي مائة ثم لا تأتي نهاية السنة حتى يكون العدد بين 15 و 20 فقط. وكان برينييه يعقد حوالي ستة لقاءات أسبوعيا، ثلاثة منها للتدريب الشفوي والنطق والقراءة، والرابعة للنحو والإملاء والأسلوب، والخامسة للأدب وشرح النصوص الأدبية والعلمية، والأخيرة لترجمة الرسائل والعقود والكتابات العادية التي سيواجهها المتخرجون في الحياة اليومية وأيضا في كتب التراث العربي والإسلامي.
وعندما كانت اللجنة (لجنة بيدو) مجتمعة لم يكن قد مر على فتح حلقات العربية في قسنطينة ووهران إلا حوالي سنتين، لذلك فمن الصعب تقييم التجربة هناك. وكان شيربونو هو المتولي لحلقة قسنطينة منذ 1847 إذ افتتح درسه في فيفري من هذه السنة. وكان عدد تلاميذه حوالي خمسة عشر. وكان يعلم مبادئ الكتابة والقراءة العربية، أما شرحه للنصوص فيسير فيه على الطريقة الفرنسية الكلاسيكية، وكذلك كان يعلم قواعد النحو العربي، ويحلل أعمال المؤلفين، ولا يختار منهم إلا أصحاب الأسلوب المعتاد والقصص وغيرها مما هو قريب من لغة الحياة اليومية الوظيفية. إن هذا الدرس الموجه إلى عدد قليل من المتعلمين الفرنسيين، كان يأخذ طابع التعليم الفرنسي العالي. ومن أجل ذلك كانت دروس اللغة العربية في هذا المستوى مصنفة عندهم في التعليم العالي، كما لاحظنا في البداية. ومن جهة أخرى فإن شيربونو قد نجح، حسب كور، في جلب عدد من الأهالي إلى درسه باللغة الفرنسية، وذلك باستعمال جهوده الشخصية وطريقته، وحصل من ذلك على نتائج طيبة. ولا نجد هذه المحاولة قد وقعت على يد برينييه في الجزائر. فلا نعلم أنه عقد درسا بالفرنسية لأهل الجزائر، عامتهم أو
خاصتهم. أما مسؤول حلقة اللغة العربية في وهران فقد كان هو السيد (هادمار)، وقد بدأها في شهر أبريل 1847. ولكن لم يسجل فيها من التلاميذ سوى حوالي خمسين من أبناء الجنود المعسكرين في مدينة وهران. وكان يلتقي بهم ثلاث مرات في الأسبوع بمعدل ساعة في كل لقاء. هذا عن درس العربية للفرنسيين، أما عن درس الفرنسية للجزائريين فقد سجل فيه ستة، منهم المفتي والإمام وبعض أبناء الشيوخ أو خوجات المكاتب العربية. ويبدو أن بعض الموظفين المذكورين قد سجلوا أنفسهم خوفا أو طمعا فقط. هذا عن الواقع وسير الدروس. أما عن اقتراحات اللجنة، فقد رأت أن الدروس العربية في حاجة إلى إعادة تنظيم وتوسيع ودعم. واقترحت أيضا أن يكون درس العربية ساعة في كل مرة. وعبرت عن رغبتها في فتح حلقات أخرى في مدن مثل تلمسان وسكيكدة وعنابة والبليدة، لتكون العربية متوفرة على أوسع نطاق للراغبين فيها من الفرنسيين. وليس من الصعب في نظر اللجنة العثور على أربعة أساتذة أكفاء قادرين على تعليم العربية في الجزائر في هذه المراكز الجديدة. غير أن اللجنة لاحظت أن نتيجة الدروس كادت تكون صفرا، رغم حماس المدرسين ومؤهلاتهم. ولذلك اقترحت بعض التشجيعات للأساتذة وفتح المجال للتلاميذ مثل جعل التوظيف المدني مشروطا بإتقان اللغة العربية.
أما عن تعليم الفرنسية للجزائريين، وهي النقطة الثانية في جدول أعمال اللجنة، فقد أوصت بعدم التنازل عن تعليمها واشتراطها لأنها (لغة سيادة)، فالتمسك بها ضروري لأن الجزائريين يستمعون من خلالها إلى أحكام القضاء المدني والجنائي، ثم إن كل الاتصالات الرسمية ستكون بها عاجلا أو آجلا، وسيتم بها تحرير كل الوثائق العامة. ومن جهة أخرى فإن الفرنسيين قادرون على جلب الجزائريين نحوهم وعلى دمجهم فيهم (وفرنستهم)، ولكن في حدود عاداتهم ودينهم (؟).
ورغم هذا العرض والنقد لتجربة حلقات اللغة العربية من قبل لجنة