الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبذلك نصل إلى المرحلة الرابعة التي استمرت منذ 1892، مرورا بعهد شارل جونار (سيما فترته الثانية 1903 - 1913) وبفترة الحرب العالمية الأولى التي كاد يتوقف فيها التعليم تماما. ثم الانطلاقة الكبيرة للتعليم العربي الإسلامي (الأصلي) من العشرينات حين لم يعد للإدارة أي مجال سوى أن تلاحق هذا التعليم وتنافسه. وهو تعليم قام على تبرعات الشعب وليس من ميزانية الدولة الفرنسية. أما التعليم الفرنسي خلال هذه المرحلة التي سميناها الرابعة فقد أصبح من ميزانية الدولة التي طالما تغيبت في الماضي عن أداء واجبها. ولا تتصور أن إحداث برنامج لتعليم الجزائريين منذ 1892 معناه رصد الأموال الكافية وبناء المدارس اللازمة واستيعاب كل التلاميذ في سن التمدرس، وقطع التلاميذ لكل المراحل التعليمية. لقد عرفنا أنه في سنة 1940 لم يكن في جامعة الجزائر سوى 89 طالبا. وكان عدد التلاميذ الجزائريين في الثانويات الفرنسية لا يتجاوز بضع مئات. إننا هنا نشير فقط إلى أن التعليم في الجزائر قد دخل مرحلة لا عهد له بها، وهي تتمثل في احتضان الدولة له، تحت ضغط (قوة الأشياء)، كما قال لوشاتلييه، لأن العالم الإسلامي كله كان يتحرك تحت أقدام المستعمرين الهولدنيين والبريطانيين والفرنسيين، الخ. ولأن هذه القوى الاستعمارية قد أخذت تغير من سياستها وفلسفتها إزاء مستعمراتها كما قال مارسيه (1).
المدرسة الابتدائية المزدوجة
1 -
ولنبدأ الآن بالمرحلة الأولى، مرحلة الإهمال واللامبالاة الفرنسية من تعليم الجزائريين، وهي ما بين 1830 إلى 1850. لقد قضى الفرنسيون على عشرات المدارس الابتدائية التي كانت بمدينة الجزائر وغيرها غداة
(1) هو جورج مارسيه الذي قال سنة 1908 أنه منذ حوالي عشرين سنة (حوالي 1888) اهتمت كل القوى الاستعمارية الأوروبية بقضية التعليم في المستعمرات. وقد تولى مارسيه وظائف هامة في ميدان التعليم والتأليف عندئذ. انظر بحثه عن التعليم في الجزائر، في (مؤتمر شمال إفريقية) لسنة 1908، ج 2، باريس، ص 181.
الاحتلال (1)، عندما صادروا أملاك الأوقاف، ثم أرادوا حمل الجزائريين على إرسال أولادهم إلى المدرسة الفرنسية المحض ليخلقوا جيلا جديدا يبدأ في التفاهم معهم باللغة الفرنسية. ومع ذلك قالوا عن الجزائريين الذين قاطعوا هذه المدرسة انهم متعصبون. ولنستمع إلى المتصرف المدني الفرنسي سنة 1832، وهو جنتي دي بوسيه الذي كان مسؤولا عن التعليم في الجزائر والمخطط للسياسة الفرنسية في هذا الميدان:
(من المستعجل جدا أن نمكن الأهالي من لغتنا أكثر مما هو مستعجل أن نمكن أنفسنا من لغتهم. فالعربية لن تكون مفيدة لنا إلا من جهة علاقتنا مع الإفريقيين (يقصد الجزائريين)، أما اللغة الفرنسية فهي لا تبدأ علاقتهم معنا فقط، ولكنها بالنسبة إليهم هي المفتاح الذي به يدخلون بر الأمان، فهي التي تجعلهم يعرفون كتبنا، ويتعرفون على أساتذتنا، أي يكونون على اتصال بالعلم الفرنسي. ان تعلم العربية ليس وراءه سوى اللغة لذاتها، أما تعلم الفرنسية فوراءه كل المعارف الإنسانية وكل ما أنتجه التقدم العقلي عبر السنين) (2).
وإذا كان في هذا الكلام بعض الحق بالنسبة لمدى التقدم الذي عليه الفرنسيون والتخلف الذي عليه الجزائريون في مستوى الحضارة المادية، فإنه كلام يحمل في نفس الوقت روح التعالي والتغطرس. ولو ترك الفرنسيون للجزائريين مدارسهم ثم أنشأوا هم المدارس الفرنسية إلى جانبها وأغروا الجزائريين بإظهار الفرق بين نوعين من التعليم لكانوا في الطريق الصحيح، ولكنهم جاؤوا بروح العداء لكل ما هو عربي وما هو إسلامي، وأرادوا القضاء على حضارة كاملة وإحلال حضارة أخرى غريبة محلها بروح
(1) انظر فصل المعالم الإسلامية، وكذلك فصل التعليم العربي الإسلامي.
(2)
نقل ذلك عنه جان ميرانت في (كراسات الاحتفال المئوي)، ص 75. وعنوان كتاب دي بوسيه هو (المنشآت الفرنسية في إيالة الجزائر)، ط. 1839، وقد تولى دي بوسيه الوظيفة المذكورة في الجزائر بين 1832 و 1835. وعلى يديه نشأت نواة التعليم الفرنسي.
التعصب والعداء. فما كان من الجزائريين إلا الرفض والمقاومة والتمسك بحضارتهم، أي أنهم قابلوا التعصب بتعصب مثله وقوة التحدي بقوة مضادة لها.
عندما بدأ الفرنسيون في إنشاء المدارس الابتدائية لأبنائهم في الجزائر لاحظوا أن اليهود قد أرسلوا أولادهم إليها بينما قاطعها المسلمون. وكان الارتباط بين الفرنسيين واليهود قد بدأ في عدة مجالات منذ لحظات الاحتلال الأولى. إذ قدم اليهود أنفسهم للفرنسيين على أنهم (الوسطاء) بينهم وبين المسلمين. فقد كانوا على علاقة قديمة مع الفرنسيين في مجال التجارة والترجمة والبنوك وغيرها. وبعد الاحتلال كان اليهود أكثر انفتاحا على العالم الأوروبي من المسلمين، فحاولوا أن يستفيدوا من الفراغ الذي حدث بعد هزيمة المسلمين عسكريا وسياسيا واقتصاديا. فلا غرابة عندئذ أن يتحالف الفرنسيون مع اليهود ضد المسلمين منذ البداية. وقد ظهر هذا التحالف بالخصوص في النواحي الروحية والتعليمية ثم تطور إلى أن تقرر التجنيس الجماعي لليهود في عهد كريميو والجمهورية الثالثة سنة 1870. أما المسلمون فلم يكن يعنيهم عندئذ التجنس ولا انتهاز الفرص ولا التحالف مع طرف ثالث من أوروبا، كما فعل اليهود. إن ما كان يهم المسلمين هو قضية وجودهم الحضاري وحفظ تراثهم واستقلال بلادهم، وهزيمة عدوهم الذي جاء لإخراجهم من أرضهم وديارهم ودينهم ولغتهم.
لجأ الفرنسيون إلى إنشاء ما أسموه بالمدارس الخاصة، وأعطوها اسم (المدرسة الحضرية - الفرنسية) بالنسبة للمسلمين، والمدرسة الإسرائيلية - الفرنسية بالنسبة لليهود. وبينما أقبل أبناء اليهود على هذه المدارس لم يستجب لها المسلمون لأنهم رأوا فيها فخا منصوبا لأطفالهم، كما وقعوا هم في فخ اتفاق 1830 الذي يعدهم بحرمة المساجد والأملاك والنساء فإذا كل ذلك الوعد أصبح في مهب الريح. شرع الفرنسيون ذلك لليهود سنة 1832 وللمسلمين سنة 1836. وكانت البداية في مدينة الجزائر. ويجب ألا يفهم من هذا أن الفرنسيين قد أنشأوا سلسلة من المدارس على هذا النحو أو أنهم
خططوا خطة تعليمية لرفع مستوى الجزائريين. إن التجربة كانت محدودة في المكان والزمان. وكان هدفها، كما صرحوا هم بذلك، هو نشر الفرنسية والفرنسة. يقول ميرانت نقلا عن دي بوسيه:(إن الهدف كان محو التعصب الديني والكراهية عن طريق التعليم بالفرنسية والحضارة والتقدم، وذلك لا يكون إلا بإحداث لغة مشتركة في الجيل الصاعد وتقريبه من الفرنسيين بتبنيه نفس الأفكار ونفس المصالح)(1). ترى، من المتعصب إذن؟
وكما قاطع المسلمون المدارس التي سميت خاصة، قاطعوا أيضا المدارس التي سميت بالودادية أو المشتركة mutuel) التي كانت موجهة لأبناء الفرنسيين في الأساس. وقد مر بنا أن بعض الجزائريين قد أرسلوا أولادهم إليها ثم سحبوهم، ربما تحت تأثير الرأي العام المسلم أو بعد أن تأكدوا من الخطر على أولادهم من التعليم في هذه المدارس سيما بعد أن وصف بأنه تعليم لائكي (2). وكان موقف الجزائريين واحدا بهذا الصدد سواء في الجزائر أو عنابة أو وهران، وهي المدن التي احتلت عندئذ (أي إلى 1836)، وأنشئت فيها المدارس المشتركة الفرنسية. وإذا كان برنامج المدارس المشتركة فرنسيا، فإن ما سمي بالمدارس الخاصة كان عربيا عدا اللغة الفرنسية وما يتصل بها من تأثيرات حضارية. فالتلاميذ في هذه المدارس الخاصة يتلقون دروسا في مبادئ القراءة والكتابة بالعربية على يد معلم (أهلي)، ولكنهم كانوا يتلقون أربع ساعات في اليوم لغة فرنسية على يد معلم فرنسي. وقد اشتكى الأولياء من أن المعلم (الأهلي) الذي تعاون مع الفرنسيين في هذا المجال، لم يكن يتوفر على شروط المعلم والمؤدب، بل كان عربيدا وغير متخلق، مما زادهم نفورا من هذه المدرسة الفرنسية الخاصة.
إن هذه التجربة لم تكن ناجحة إذن، وهي الخطوة الأولى فيما سيصبح
(1) جان ميرانت، مرجع سابق، 77.
(2)
كولونا (المعلمون الجزائريون). مرجع سابق.
التعليم الإسلامي - الفرنسي والذي استمر إلى عهد الاستقلال. وفي مصادر سنة 1837 أن عدد الأطفال المترددين على هذا النوع من المدارس كان لا يتجاوز التسعين تلميذا، وكانوا غير مواظبين على الحضور. فقد كانوا يحضرون أو يتغيبون على هواهم. ولكن المصدر يقول إن المعارضة آخذة في البرود وأن روح (التسامح) آخذة في الظهور، وأن الأطفال المسلمين أصبحوا يقلدون الأطفال الفرنسيين في الألعاب ونحو ذلك. إنها (العدوى) كما يقول هذا المصدر (1).
وبعد عشر سنوات من هذه التجربة كانت النتيجة متوقعة. فهي غير مبنية على رغبة الجزائريين وإنما فرضتها روح الغطرسة والتعالي إن لم نقل التعصب والكراهية من جانب الطرف الفرنسي. فإحصاء سنة 1841 أثبت وجود 260 تلميذا فقط في مدرسة الجزائر (الحضرية - الفرنسية)، وهي المدرسة الوحيدة، وقد بقيت مدة طويلة على ذلك. أما التلاميذ الأوروبيون والإسرائيليون الذين كانوا يدرسون في المدارس المشتركة فقد وصل عددهم إلى 1، 945 من بينهم 79 تلميذا جزائريا. فجملة المتعلمين الجزائريين في المدارس الابتدائية الفرنسية هو 339 تلميذا وذلك بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتلال (2). فأين هي نتائج الرسالة الحضارية الفرنسية؟ ويقول السيد إيمانويل بوجيجا وهو يصف هذه المرحلة من التعليم: إن فرنسا لاحظت أن المسلمين جاهلون، وكانت هي منشغلة بالحرب والاحتلال، وإن المسلمين في المدن لم يلبوا نداء المدرسة الفرنسية (3).
ولكن لماذا حرمت فرنسا الجزائريين من مدارسهم بهدمها ومصادرة
(1) السجل (طابلو)، سنة 1838، 252.
(2)
السجل (طابلو)، سنة 1841، 93. وعدد التلاميذ الجزائريين في المدرسة المشتركة بعنابة كان 75 وفي وهران 8 فقط. وبعد ثلاث سنوات (إحصاء 1844) وصل عدد أطفال المدرسة الحضرية - الفرنسية في الجزائر إلى 330 تلميذا ولا شيء في وهران أو عنابة. انظر نفس المصدر، سنة 1834 - 1844، ص 70.
(3)
إيمانويل بوجيجا، (تعليم الأهالي)، SGAAN (1938) عدد 153 - 154، 52.
أموالها ثم تخيرهم بين الدخول إلى مدرستها أو الجهل المطبق؟ وقد علق جان ميرانت عن تجربة التعليم المشترك فقال إن فرنسا أرادت به الجزائريين قبل كل شيء لأنه (الوسيلة أكثر تأكدا في الانتصار عليهم لمصلحة فرنسا والحضارة). وقال ميرانت أيضا إن لعب الأطفال العرب والفرنسيين معا منذ السن المبكرة وممارسة الدراسة معهم سيجعل روح التعصب والكراهية والأحكام المسبقة الدينية تختفي عند الأطفال الحضر. لقد كانت الحكومة الفرنسية تعمل على ربط الجيل الصاعد (الجزائري والفرنسي) بلغة واحدة مشتركة، وتقريب هذا الجيل إلى الفرنسيين بالاتفاق على نفس الأفكار ونفس المصالح. ولكن الحضر غادروا المقاعد الدراسية) (1). وما دام الهدف هكذا واضحا فلماذا يلام الجزائريون على ترك هذه المقاعد التي خطط لها أن تكون وسيلة لقطع الصلة بين الأطفال المسلمين ودينهم وماضيهم ولغتهم وربطهم بالأفكار والمصالح الفرنسية؟ فإذا كان الفرنسيون أذكياء وقوميين جدا فقد ظهر لهم أن الجزائريين كانوا لا يقلون ذكاء وقومية واعتزازا بوطنهم وهويتهم.
بقيت مدرسة الجزائر الحضرية - الفرنسية (الخاصة) إذن هي الوحيدة مدة طويلة. وحين طلب مفتش التعليم سنة 1839 فتح مدرسة حضرية مشابهة في عنابة ووهران لوجود أطفال في سن المدرسة ضائعين، كان الجواب هو أن المحلات غير متوفرة. وهو ادعاء باطل إذ استولى الفرنسيون في عنابة ووهران على أملاك المسلمين ومساجدهم ومدارسهم، وكان من الممكن فتح مدرسة في أحد هذه الأماكن، لكن الحقيقة كشف عنها وزير
(1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 77، وقد نقل ذلك عن دي بوسيه، الجزء الثاني، ص 204. وقد جاء في دي بوسيه أن التجربة في وهران وعنابة كانت غير مشجعة أيضا. وعلق ميرانت على ذلك بقوله إنه من بين 66 تلميذا في وهران سنة 1833 هناك 5 فقط من الحضر، وفي عنابة من بين 32 هناك 12 تلميذا من الحضر سنة 1834. والحديث هنا بالطبع على المدارس المشتركة (الودادية) وليس عن الحضرية - الفرنسية أو الخاصة.
الحربية الفرنسي حين كتب إلى الحاكم العام المارشال فاليه Vallé يخبره بأن الهدف ليس ترك الأطفال الجزائريين يتعلمون على طريقتهم وفي مدارسهم، ولكن تحويلهم إلى دعاة للحضارة الفرنسية عن طريق آبائهم. وكان في ذهن الوزير مشروع إنشاء مدرسة في فرنسا تستقبل أبناء الأعيان الجزائريين، وبعد غسل مخهم هناك واتصالهم بالأطفال الفرنسيين والحياة الفرنسية يرجعون إلى ذويهم ليؤثروا فيهم. يقول الوزير في مراسلته بتاريخ 20 ديسمبر 1837 (على أثر احتلال قسنطينة): إن هدف الحكومة هو جعل العرب يقدرون الفوائد التي تنجر إليهم من تعلم حضارتنا، وذلك بجمع عدد من الفتيان العرب وإرسالهم إما إلى الجزائر العاصمة وإما إلى باريس نفسها. إن هؤلاء سيرجعون بعد الحصول على المعارف من مدارسنا، إلى صفوف أهاليهم وإلى السكان عموما، ويقصون عليهم بحضورهم الشخصي، ما عرفوه من الأنوار العلمية والعجائب، مما سيكون له مفعول كبير لصالح قضيتنا. وتذكر المصادر الفرنسية أيضا أن الوزير الفرنسي كتب كذلك إلى الأمير عبد القادر بهذه الفكرة أثناء صلح التافنة، وهي إرسال الفتيان العرب إلى فرنسا أو إلى عاصمة الجزائر. وكانت المناطق الغربية والوسطى من البلاد تحت حكم الأمير. ولكن الأمير، كما قالوا، لم يرد على هذا العرض لأنه كان متخوفا من عواقبه (1).
وكان الفرنسيون قد أحدثوا في باريس معهدا خصا سموه (الكوليج العربي) سنة 1839، الهدف منه استقبال الفتيان العرب وصهرهم في البوتقة الفرنسية، ثم إرجاعهم إلى الجزائر ليقوموا بدور المبشرين بالحضارة الفرنسية تمهيدا للسيطرة والاستعمار، حسب مخطط الوزير المذكور. ولهذا المعهد وظيفتان الأولى إكرام الأعيان العرب (الجزائريين) الذين يزورون فرنسا زيارات منظمة، وحسن استقبالهم، وتطريتهم. والثانية تعليم مجموعة من الفتيان الجزائريين الذين يوضعون تحت إشراف ورقابة (رجال ثقاة وتقاة منهم) على أن يتلقوا تعليما على أيدي معلمين فرنسيين. كما ألحقت بهذا
(1) ميرانت، مرجع سابق (كراسات)، ص 78.
المعهد مدرسة للترجمة من العربية الدارجة (الجزائرية)، ويدخلها أيضا شبان فرنسيون، وبذلك يصبح المعهد، كما قيل، مشتلة للمترجمين المقدر لهم العمل بالجزائر. ويبدو أن هذا المشروع طموح، وكان يهدف إلى التعليم والدعاية معا، وبدل إنشاء المدارس للجزائريين في بلادهم أراد الفرنسيون نقل بعض الأطفال إلى باريس ليتعلموا فيها ويتأثروا بها، ثم يرجعون إلى الجزائر كدعاة وأبواق تسبح بحمد فرنسا وشكرها. ولكن الأعيان الجزائريين رفضوا هذا العرض السخي الذي قيل إنه يتماشى تماما مع الكرم العربي المعهود، وربما كان الرفض راجعا إلى الخوف على الأطفال. ولذلك فشل المشروع في مهده. وقد فكر الفرنسيون في إنشاء قسم خاص ملحق (بكوليج الجزائر) يدخله الأطفال الجزائريون ويتلقون فيه تعليما متميزا عن الأطفال الفرنسيين، ولكنه تعليم يضمن الاتصال واللعب بين الأطفال وبث روح (العدوى) بينهم (1).
وظل إهمال تعليم الجزائريين هو طابع السياسة الفرنسية في انتظار انقراض الجيل المعاند أو المحافظ وظهور جيل آخر على رماد الحروب. وفي منتصف الأربعينات تكونت اللجنة التي سبقت الإشارة إليها والتي كانت برئاسة الجنرال بيدو، ودام عمل اللجنة خمس سنوات، كما عرفنا. وفي 14 يوليو سنة 1850 صدر مرسوم بإنشاء ست مدارس في الجزائر، تسمى المدارس العربية - الفرنسية. وبالإضافة إلى مدرسة الجزائر السابقة (الحضرية) أنشئت أخريات في وهران وقسنطينة وعنابة والبليدة ومستغانم، برنامجها هو تعليم الفرنسية والعربية للأطفال الجزائريين. وتلك هي بداية المرحلة الثانية من مسيرة التعليم العربي - الفرنسي.
(1) السجل (طابلو)، سنة 1838، 115 - 116. وقد صدر مرسوم ملكي بإنشاء الكوليج العربي بباريس في مايو، 1839. ويقول بوجيجا إن هذا الكوليج لم ينطلق لرفض الأعيان إرسال أطفالهم إليه. ولكننا سنعرف أن محاولات أخرى جرت خلال الأربعينات سيما منذ 1843 عندما (خطف) الفرنسيون أطفال الأعيان والخلفاء الذين كانوا في زمالة الأمير وحملوهم كرها إلى باريس وعلموهم (بالقوة).
2 -
لقد ترك المجال مفتوحا أمام الحاكم العام لينشئ مدارس مماثلة في مدن أخرى إذا رأى ذلك. وبين 1850 - 1870 لم تنشئ فرنسا سوى 34 مدرسة عربية - فرنسية (البعض يقول 36) فإذا كانت فرنسا تتعلل في المرحلة الأولى بمقاومة الجزائريين وبالحروب، فإنها في المرحلة الثانية لا تجد ما تتعلل به، سيما وأن عهد الحروب قد خف ودخل عهد التهدئة، كما يسمونه. وإن مقاومة الجزائريين أخذت تضعف بعد تشريدهم وشعورهم بالحاجة إلى التعلم على أثر القضاء على معالمهم الدينية والتعليمية القديمة. وقد وصل عدد هذه المدارس سنة 1864 إلى ثماني عشرة مدرسة فقط يتردد عليها حوالي 700 تلميذ (1). وقد قلنا إن عدد المدارس قد وصل سنة 1870 إلى 34 مدرسة، تلاميذها حوالي 1، 155 هذا في المناطق المدنية، أما في المناطق العسكرية فقد أنشأ الفرنسيون خمس مدارس فقط (2). ولنتذكر أن معظم البلاد كانت ما تزال تتبع النظام العسكري.
لكن يجب أن نعرف أن ما يتلقاه التلميذ الجزائري في هذه المدارس لا يعدو أن يكون من نوع غسيل المخ أيضا. فالتلميذ لا يتلقى حصيلة معرفية تؤهله لأي وظيفة في الحياة. فبعد أن يقضي عدة سنوات في هذه المدارس يخرج منها ويرجع إلى داره وإلى الشارع وقد نسي ما قرأه اللهم إلا بعض المقارنات بين العربية والفرنسية، وبين حياة الفرنسيين وأفكارهم (المتقدمة) وحياة الجزائريين وأفكارهم (المتخلفة)، وذلك هو بالضبط ما كان يريده مشرعو المدرسة العربية - الفرنسية. كان المعلمون غير متوفرين باللغتين، ولذلك كانوا يأتون بهم ممن هب ودب، من الجنود ومن لا حرفة لهم. وليس هناك مستوى مطلوب في المعلم أخلاقيا ولا علميا. وقد ظل الحال
(1) ذكرت (المبشر) بتاريخ 3 يناير 1867، أن الحاكم العام قد أصدر قرارا لإنشاء مدرسة عربية - فرنسية في كل من مغنية وسيدي بلعباس. وقبل ذلك أنشئت مدارس مماثلة في بسكرة، ومليانة وايغيل علي، الخ.
(2)
ونلفت النظر هنا إلى أنه خلال المرحلة الثانية (1850 - 1870) أنشئت أيضا المدارس الثلاث والكوليج الإمبريالي.
كذلك إلى إنشاء المدرسة النورمالية أو ترشيح المعلمين. وكانت هذه المدارس مفتوحة للذكور والإناث ليتعلموا فيها مبادئ القراءة والكتابة في اللغتين. ولكن ما دامت الفرنسية هي لغة المستعمر ويسيطر على جو المدرسة الطابع الفرنسي، فإن التلاميذ كانوا يأخذون في الانسلاخ شيئا فشيئا عن مجتمعهم وماضيهم. وبالإضافة إلى ذلك فإن بقية المواد كان يتغلب عليها أيضا الطابع الفرنسي فتصبح العربية مجرد لغة. أما المعارف العملية فهي بالفرنسية، مثلا يتعلم التلاميذ الحساب بالفرنسية وكذلك التاريخ والجغرافية والموازين والمكاييل للذكور، والخياطة للإناث.
كان لكل مدرسة معلمان. أحدهما فرنسي، وهو المدير، والآخر مسلم مساعد له. يعين الحاكم العام كليهما بقرار، بناء على اقتراح من حاكم الناحية التي بها المدرسة. ويشترط في المعلم الفرنسي (المدير) أن تكون له شهادة النجاح في الترجمة كدليل على معرفته للعربية (الدارجة). أما المعلم المسلم فيستظهر فقط بشهادة من المفتي أو القاضي تشهد على تمكنه من العربية والدين، وهي الإجازة التي كان يعمل بها في السابق. وكانت أجرة المدير 1200 فرنك سنويا. وأجرة المعلم المسلم 200 فرنك فقط سنويا. ويمكن للحاكم العام أن يضيف إليهما علاوات سنوية في شكل مكافآت، بشرط ألا تتجاوز نصف الراتب. والملاحظ أن ميزانية هذه المدارس كانت من الجزائريين أنفسهم، فالرواتب للمعلمين كانت من الغرامة المضافة على العرب، كما تقول (المبشر)(3/ 1867/1). وحين تترك الميزانية للبلديات ترفض أو تتلكأ في إعطاء ميزانية للتعليم الموجه للأهالي، كما سنرى. والتعليم في هذه المدارس كان مجانيا واختياريا. وكانت المدارس تحت إشراف الحاكم العسكري للمنطقة (كان النظام كله عسكريا خلال المرحلة - سوى سنتين 1858 - 1860)، وهو الذي يقدم عنها تقريرا فصليا إلى الحاكم العام، ويتصل الوزير بتقرير عنها أيضا عن طريق الحاكم العام.
لاحظنا أن هذا التعليم كان موجها للبنين والبنات. وقد أنشئت ثلاث مدارس للبنات في كل من الجزائر ووهران وقسنطينة. ولم تكن في الواقع
مدارس جديدة وإنما وظفت بعض الزوايا والمدارس وحتى المساجد القديمة لذلك، مثلا مدرسة البنات في قسنطينة كانت في جامع سيدي الرماح. ومن حيث المبدأ فإن كل مدرسة للبنات كانت تخضع لنفس الشروط في مدرسة البنين. فلكل مدرسة معلمتان، إحداهما فرنسية، وهي المديرة، والأخرى مسلمة (1)، وتخضعان لنفس شروط التعيين. ولكن أجرة المديرة الفرنسية 1000 فرنك سنويا، وأجرة المعلمة المسلمة 500 ف فقط.
ولا تحسبن أن هذا التعليم كان مفتوحا للجميع، فالديموقراطية لم تكن معروفة. والتعليم إنما أنشئ لخدمة اللغة الفرنسية وحضارتها وتمكين السلطة الفرنسية في البلاد. ولم يكن من مصلحة الفرنسيين أن يفتحوا المدرسة الابتدائية المحدودة لكل الأطفال الأبرياء. إن العبرة هنا بالآباء والمستقبل. ولذلك فإن هذا التعليم كان مفتوحا فقط لأبناء الأعيان والعائلات التي خدمت فرنسا أو التي تتعامل معها. أما العائلات التي حاربتها أو تلك المجهولة فلا مكان لأطفالها في المدارس العربية - الفرنسية. وفي 1866 أعلنت جريدة (المبشر)(2) الرسمية بصوت تسوده الغبطة والسرور أن الحاكم العام قد (أنعم على 76 تلميذا من أولاد العرب بقبولهم في المدارس العربية - الفرنسية ابتداء من يناير 1867. ثم أوضحت الجريدة نماذج من العائلات العربية التي اختيرت لهذا الإنعام السامي في إقليم قسنطينة، وهي عائلة أولاد مقران (مجانة)، وعائلة أولاد بلقاضي (باتنة)، وعائلة ابن مراد (قالمة)، وعائلة ابن عاشور (فرجيوة)، وعائلة ابن باديس (قسنطينة)، إما لوظيف تقلده أعيانها وإما (سجية) بانت منه للدولة إلى الآن). وهذا تعبير غامض لا تفهمه إلا جريدة (المبشر) والسلطة التي تصدرها. والمهم هو أن العائلات التي اختيرت كانت مفيدة لمصالح فرنسا عاجلا أو آجلا وأن أبناء هذه
(1) سنتحدث عن تعليم المرأة المسلمة على حدة.
(2)
المبشر، عدد 27 ديسمبر 1866. انظر أيضا رسالة الباحث إبراهيم الونيسي حول جريدة المبشر. معهد التاريخ - جامعة الجزائر. وكذلك أرشيف إيكس (فرنسا) رقم 20 I 1.
العائلات ستحصل لهم (المناصب في الحكم العمومي أو الحكم الخصوصي).
وهناك ميزات أخرى تميز هذا الصنف من التعليم، وهو جعله تحت رقابة لجنة حسب الفرنسيون أنهم ضمنوا بها رضى المسلمين. فقد جندوا أناسا ممن كانوا طوع بنانهم من الجزائريين، وسموهم مفتين وقضاة، ثم جعلوا هذه المدارس تحت أنظارهم لكي ينزعوا عن الأولياء الشك في أهداف المدرسة. ولكن الفرنسيين كانوا لا يخفون نواياهم أبدا، وكانوا يقولون بصراحة: إننا نريد تعليما يخدم أهداف فرنسا لا أهداف الجزائريين. وهذه اللجنة الصورية كانت في الظاهر برئاسة المفتي أو القاضي. ولكن من هو هذا أو ذاك؟ فعندما عصي المفتي الكبابطي أمر بوجو عزله ونفاه سنة 1843 وجيء بمفت صوري مكانه. والمفروض في هذه اللجنة أن تراقب الدروس وتفتش المعلمين. وكان التلميذ يخضع لمراقبة صحية من قبل طبيب يزور المدرسة دوريا. وهناك امتحان في آخر المرحلة الدراسية عن طريق لجنة، وإذا نجح التلميذ يحصل على دبلوم (بروفي)، وهذا الدبلوم يؤهل للوظائف الدنيا المخصصة للأهالي في الإدارة الفرنسية وهي محجوزة لخريجي المدارس الفرنسية من الجزائريين، أما غير المتخرج منها فلا يطمع غالبا في الوظائف الدنيا ولا العليا. وأخبرت المصادر الرسمية أن التجربة سارت بنجاح وأن بعض الأولياء اقتنعوا بأهمية التعليم الجديد سيما وهم يرون المفتي في لجنة الإشراف والمعلم المسلم في حجرة المدرسة، ولذلك هنأ الفرنسيون أنفسهم عندما رأوا أن بعض المفتين قد أرسلوا أبناءهم أيضا إلى هذه المدرسة التي يشرف عليها معلمون مسيحيون مما يبرهن في نظرهم (الفرنسيين) على التغلب على روح التعصب (1). ولكن هذا التفاؤل ستظهر الأيام أنه كان في غير محله.
(1) السجل (طابلو)، سنة 1851 - 1852، ص 200. انظر أيضا نفس المصدر، سنة 1846 - 1849، ص 195. من الملاحظ أن المدارس العربية - الفرنسية كانت مفتوحة لأبناء الأوروبيين أيضا.
وإليك نموذجا لمدرسة عربية - فرنسية في مدينة الجزائر سنة 1867.
فعدد التلاميذ المسجلين فيها 213، منهم 173 مسلما و 40 أوروبيا. وفي آخر السنة كان عدد الحضور منهم: 159 فقط، منهم 81 من المسلمين و 28 من الأوروبيين. أما المعلمون، فالمدير/ المعلم هو أوغست ديباي A.Depeile والمعلم الفرنسي المساعد هو إيميل مانتي E.Mantis، ومعلم الرسم والموسيقى فرنسي ثالث يسمى ليليستان ليوجي L.Liogier، والمعلم المساعد الوحيد المسلم هو أحمد بن محمد القبطان، وهو معلم سيرد ذكره بعد ويكون من أصحاب النياشين بعد تقدم السن به. ومواد الدراسة (البرنامج) هو: اللغة الفرنسية نحوا وصرفا، والعمليات الأربع في الحساب، وتاريخ فرنسا وجغرافية أوروبا، والرسم والموسيقى (1). ثم اللغة العربية. ولا ندري لماذا تحتاج المدرسة إلى إشراف القاضي أو المفتي ما دام كل شيء يتم فيها لا دخل فيه. فالتلميذ لا يتعلم مبادئ الدين ولا تاريخ بلاده ولا جغرافيتها. وحتى الحساب قيل عنه إنه كان حساب النظام الميتري الفرنسي.
وإلى جانب هذا النوع من التعليم الموجه للأطفال، هناك تعليم آخر (مزدوج) موجه لبعض الكبار - من فاتهم سن التعلم، ومن تخرج من المدرسة أو أخرجته وأراد المتابعة. هذا الصنف من الجزائريين وجدت لهم السلطات الفرنسية طريقة للإبقاء على صلتهم بالفرنسيين ومحاولة دمجهم في الفكر الفرنسي. وقد كلفت بذلك أساتذة حلقات اللغة العربية في وهران وقسنطينة والجزائر بفتح لقاءات ودروس لهؤلاء باللغة الفرنسية، وهم بالطبع يعرفون العربية (الدارجة)، وهم يقدمون دروسهم أو لقاءاتهم ثلاثة أيام في الأسبوع. والموضوعات المقررة هي الحساب وتاريخ فرنسا والجغرافية أيضا إلى جانب اللغة الفرنسية. ومن أبرز المدرسين خلال هذه الفترة،
(1) المصدر، أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 20 I 1. لم يذكر هذا المصدر مادة اللغة العربية فأضفناها.
برينييه في الجزائر وشيربونو في قسنطينة.
ولكن هذا كله لا يفيد شيئا تقريبا، لأن ميزانية المدارس قد أصبحت في يد البلديات منذ 1861. والبلديات كان يسيطر عليها الكولون والعناصر التي لا تهتم بالمدارس العربية - الفرنسية ولا بتعليم الجزائريين مطلقا. ولذلك توقفت البلديات عن تخصيص ميزانية للصيانة والرعاية المالية والبناء والرواتب. والمعروف أن بلدية وادي العلايق مثلا رفضت إنشاء مدرسة عربية - فرنسية، وكانت البلديات تقول إن للعرب أكثر من 2000 مدرسة قرآنية وهذا يكفيهم (1). وبدأت البلديات بقطع الميزانية المتعلقة باللغة العربية. فاعترى المدارس الإهمال والهرم، كما أن المدارس الجديدة لم تر النور، بل إن الموجود منها اختفى خلال المرحلة الثالثة (2).
3 -
أما المرحلة الثالثة فقد عرفت تغييرات في هذه المدرسة العربية - الفرنسية القائمة على الازدواجية اللغوية والفكرية. لقد أدى ذكاء الفرنسيين سنة 1850 إلى محاولة الدخول في شخصية الجزائري وشطرها عن طريق هذا النوع من التعليم. فحين وجدوه رافضا لتعليمهم الخاص وتعليمهم العام، لجأوا إلى هذه الحيلة، وهي وضع العربية إلى جانب الفرنسية والمعلم الفرنسي إلى جانب المعلم المسلم، والحروف العربية إلى جانب الحروف اللاتينية والمعارف الدينية الإسلامية إلى جانب المعارف الفرنسية المسيحية. وكل ذلك كان تحت إشراف مفت أو قاض نظريا. ولكن هذه المرحلة (الثانية) كانت جسرا فقط، وكانت مؤقتة، ولم تكن شاملة ولا ديموقراطية، ولم تحصل منها نتيجة مفيدة للشعب الذي بقي على حبه للتعليم وتمسكه بتراثه وظل يقاوم ما وسعته المقاومة، وهذا لا ينفي وجود بعض المستفيدين من التجربة الفرنسية المذكورة.
وحين أحس الفرنسيون بأنهم لم يعودوا في حاجة إلى مراعاة شعور
(1) انظر فصل التعليم في المدارس القرآنية والمساجد.
(2)
كولونا، مرجع سابق، 16. انظر أيضا بيلي، مرجع سابق، 286.
الجزائريين، أغلقوا حتى هذه المدارس. فقد اغتنموا فرصة ثورة 1871 في الجزائر، وفرصة تغيير نظام الحكم والحماس للنظام الجمهوري والاستعمار والامبريالية في فرنسا، فقضى الحاكم العام الجديد، الأميرال ديقيدون، لإغلاق المدارس العربية - الفرنسية، وقطع ميزانيتها، عقابا، في نظره، لأبناء العائلات التي ثارت رغم إنعام فرنسا عليها. ثم إن الجمهورية الجديدة كانت متحمسة جدا للفرنسة والاندماج (1)، وكل مؤسسة فيها اسم العربية أو الإسلام تعتبر في نظرها مؤسسة عدوة. ولذلك صدر الحكم بإعدامها.
والواقع أن فترة 1870 - 1892 تعتبر فترة ظلام أخرى في ميدان التعليم. ولا نعني أن ما سبقها كان فترة تنوير، ولكن على الأقل كانت فيها محاولات محدودة باستخدام وسائل معينة لدمج الأهالي في المنظومة الفرنسية التربوية تحت مظلة المملكة العربية التي تبناها نابليون الثالث. أما مسؤولو الفترة الثالثة فهم في الوقت الذي قضوا فيه على تجربة المدارس العربية - الفرنسية لم ينشئوا البديل لها، بل ازدادوا عتوا وطغيانا، فقطعوا المدد عن المدرسة الموجهة للأهالي مهما كانت، وفرضوا الضرائب الإضافية على السكان وغرائم الحرب الباهظة، وصادروا الأراضي من جديد وأعطوها لمهاجري الألزاس واللورين، وسنوا قانون الأهالي (الأندجينا)، وضربوا عرض الحائط بكل شكاوى الجزائريين من الظلم الذي أصابهم في كل الميادين، ولا سيما ميدان القضاء الإسلامي والتعليم العربي. وهكذا فمن بين ثلاثة ملايين جزائري سنة 1880 لا يتردد على المدارس الابتدائية التي يديرها الفرنسيون سوى 2.814 تلميذ من البنين و 358 من البنات. وبدل أن تزيد المدارس نقصت، فلم يكن منها سنة 1882 سوى ست عشرة (البعض يقول 13 فقط) مدرسة في القطر كله، ولولا اعتماد الجزائريين على أنفسهم وانطلاق التعليم في الزوايا ونحوها لدخلت الجزائر عصر الكهوف.
(1) المقصود هنا دمج المؤسسات والمصالح التي تهم الكولون (المستوطنين) مع مثيلاتها بفرنسا، وليس دمج الجزائريين في فرنسا، وهو أمر كان يعارضه الكولون.
في الوقت الذي تترك فيه السلطات الفرنسية الجزائريين في حالة الجهل والإهمال وترصد فيه ميزانية للتعليم الإجباري للأطفال الفرنسيين، نجدها تطلق العنان للكاردينال لا فيجري وإخوانه وأخواته البيض يبنون أعشاشهم في منطقة زواوة وبعض المناطق الصحراوية. وقد طرد الجزائريون هؤلاء العنصريين (البيض) من زواوة سنة 1870. ولكنهم رجعوا إليها بعد ذلك بأسلوب جديد. ويقول الفرنسيون إن لا فيجري أراد احتلال القلوب والأرواح لسكان زواوة (القبائل)، فأنشأ هناك الإرساليات. وحاول الجزويت، من جهتهم، نشر تعليمهم الخاص الذي كانت الحكومة (العسكرية) تمنعه. وقد دعمت الحكومة الفرنسية جهود لا فيجري هذه المرة في محاولة منها للسيطرة على منطقة زواوة التي رفضت المنصرين وإرساليات لا فيجري (1). ان زواوة قد خضعت عندئذ لترويض خاص اشترك فيه الجيش والإدارة والقضاة والمنصرون (المبشرون)، كل في ميدان اختصاصه. وكانت جهود لا فيجري لا تتمثل في التعليم فقط ولكن أيضا في سلب الجزائري من انتمائه واقتلاعه من جذوره، بوسائل عديدة كالمستوصفات والورشات ونحوها. لقد فعل ذلك جهة العطاف (سان سيبريان) وسمى المستشفى هناك باسم (القديسة اليزابيت). كما انتشر (الآباء البيض) في غرداية وورقلة وبسكرة، الخ. وهكذا بدل أن تنشر الحكومة الفرنسية التعليم بين الجزائريين، كما كان واجبها كدولة محتلة، وكما كان يطالب به الجزائريون أنفسهم، تركت الجزائريين لعبث الآباء البيض وجيش لا فيجري والجزويت يعيثون فسادا بينما كانت تحميهم بنادق الجيش الإفريقي ومليشيات الكولون. ويشهد بوجيجا الذي عمل طويلا في الإدارة الفرنسية، أن جهود لا فيجري هي التي مهدت الطريق لفتح المدارس الرسمية فيما بعد في زواوة (1882)، مع أن مشروع لا فيجري الديني قد فشل (2).
(1) عن نشاط الآباء البيض في زواوة وغيرها انظر فصل الاستشراق.
(2)
مانويل بوجيجا (تعليم الأهالي)، في S.G.A.A.N (1938)، عدد 153 - 154، ص 53.
لقد شهد عقد 1880 - 1890 عدة إجراءات تتعلق بالتعليم عموما وتعليم الجزائريين خصوصا. فبعد الإهمال المتعمد الذي تميزت به فترة السبعينات، ظهر الاهتمام بالموضوع من جانب بعض المسؤولين الفرنسيين في باريس، وكان جول فيري عندئذ هو وزير التعليم (سنة 1879). فأظهر اهتماما بمسألة التعليم في الجزائر. وقبل أن يقرر بشأنها شيئا أرسل لجنة تتفحص الوضع، وكان في هذه اللجنة عدد من أعيان العلم والسياسة الاستعمارية بعيدي النظر، منهم ما سكرى، وهنري، ولو بورجوا. وكان جانمير Jeanmaire هو مدير التعليم (ريكتور) في الجزائر عندئذ. وكان هو بدوره (جانمير) متحمسا لنشر رسالة فرنسا الحضارية في ميدان التعليم. وكانت البلديات قد عطلت دفع الأموال للتعليم الأهلي كما ذكرنا، فخربت المدارس القائمة وهجرت وأغلقت إدارة الحاكم العام (ديقيدون) الباقي منها، وشددت الرقابة على التعليم الإسلامي في الزوايا. ولكن جول فيري خصص ميزانية من وزارته لبناء 15 مدرسة ابتدائية في الجزائر سنة 1880، غير أن هذه المدارس لم تبن كلها، وظل مشروعها يتمطى إلى سنة 1887 حتى سميت بالمدارس الوزارية لأن أموالها من الوزارة. ويخبر مارسيه أن إنشاء المدارس كان في اطراد ابتداء من الثمانينات. ففي سنة 1882 كان الباقي من المدارس العربية - الفرنسية ست عشرة مدرسة، فوصل عددها سنة 1887 إلى 86 مدرسة. وكان يتردد عليها بين سبعة وتسعة آلاف تلميذ أهلي. ثم نمت بسرعة بعد ذلك إلى أن وصل عددها إلى 124 مدرسة سنة 1892، وهي السنة التي سيبدأ فيها الإصلاح المشهور للمدرسة الفرنسية في الجزائر والتعليم بصفة عامة. وكانت هذه المدارس الأخيرة (أو الأقسام) تضم 12، 63 تلميذا أهليا، و 218 معلما (1).
(1) جورج مارسيه، (مؤتمر شمال إفريقية)، ج 2، مارس 1908، 183 - 184. وقد ظل جانمير مديرا للتعليم في الجزائر مدة ربع قرن. وقد عرفنا أنه في نفس الفترة (1882) كانت المدارس الفرنسية المحض في الجزائر تعد 697 ابتدائية وتضم 53.666 تلميذ فرنسي أو أوروبي، مع الفارق الشاسع في عدد السكان طبعا. انظر =
إن هذه الأرقام لا تثير دهشتنا لأنها تعطي صورة مشرقة عن انطلاقة التعليم الأهلي بدعم من الحكومة هذه المرة. لكن هناك من يذكر أن عدد المدارس سنة 1884 كان 30 مدرسة فقط، وتلاميذها لا يكادون يبلغون 4.000 تلميذ. وفي 1886 كان عدد المدارس 68 مدرسة وتلاميذها 5.600 تلميذ. ومهما كانت دقة الأرقام فإن الاتجاه الذي أصبحت تبنى عليه المدارس أصبح واضحا. لقد وقع التخلي عن التعليم الابتدائي المزدوج واتجه التعليم الآن إلى الفرنسة الصريحة تحت لواء الجمهورية الثالثة. وهو تعليم تسيطر عليه الروح اللاتينية والمسيحية (رغم الادعاء بأنه تعليم لايكي أو علماني) والتعالي الثقافي. وهذه هي الفترة التي أصبح على الأطفال الجزائريين فيها أن يقرأوا في كتبهم بأن أجدادهم هم سكان الغال (فرنسا)(1).
وقد وضع التعليم الأهلي تحت معلمين فرنسيين أو متفرنسين، ولكن في أقسام خاصة منزوية. ووقع النص على أن التعليم إجباري سنة 1881 كما هو في فرنسا، ولكن تطبيق ذلك على الجزائريين كان غير وارد. وسميت المدارس الجديدة (بالعادية) وأصبح يشرف عليها معلمون فرنسيون، ثم أنشئت أقسام للطفولة من الجنسين بإشراف نساء فرنسيات أو جزائريات. وهناك أيضا مدارس سميت (رئيسية) وهي التي تضم ستة أقسام على الأقل. ومع كل هذه الضجة توقفت القروض من الحكومة للبلديات بدعوى أن هذه لا تطلبها، كما أن البلديات لم تصرف على التعليم الأهلي بدعوى أن الأهالي غير قابلين للتعلم أو أن لديهم ما يكفيهم من المدارس القرآنية، بل هناك من ذهب إلى أن تعليمهم سيوقظهم ضد الفرنسيين فالأفضل إذن تركهم في حالة الجهل. ومهما كان الأمر فقد حدثت نكسة لهذه التجربة القصيرة نتيجه عدم القروض وانعدام الميزانية. والباحثون الفرنسيون يعزون استمرار التعليم
= رأي جورج مارسيه عن الفرق بين المدارس والأقسام، لاحقا.
(1)
بيلي (عندما أصبحت
…
)، مرجع سابق، 286.
للجزائريين رغم هذه النكسة، إلى جهود جانمير مدير التعليم، لأنه كان من المؤيدين لنشر التعليم الفرنسي بين الجزائريين، وتوحيد التعليم في الجزائر وفي فرنسا باسم (الاندماج) الثقافي، وهو المبدأ الذي جاءت به الجمهورية الثالثة.
دعنا الآن نذكر بعض التواريخ والإحصاءات المتعلقة بهذه المرحلة (الثالثة). فحسب تقرير رسمي كتب سنة 1875 كان عدد المدارس العربية - الفرنسية الباقية من المرحلة السابقة هو 23 مدرسة، وكانت تحتوي على 1، 069 تلميذا من بينهم 737 فقط من التلاميذ المسلمين. وفي سنة 1886 وجدت 55 مدرسة خاصة بالجزائريين مع إضافة 28 قسما خاصا بهم أيضا. وكانت الأقسام ملحقة بالمدارس العادية الفرنسية، ويشرف عليها معلمون جزائريون بدرجة ممرن. وضمن الـ 55 مدرسة، 19 فقط أنشئت منذ 1883، تاريخ المرسوم الشهير حول التعليم الأهلي في الجزائر. فهذا المرسوم، بعد أن انتقد الوضع التعليمي وأبدى أسفه على حالته ونتائجه منذ خمسين سنة من الاحتلال، وعد اصلاح الخطإ وتدارك ما فات وفتح المدارس للأهالي، كما سجل مبدأ إجبارية هذا التعليم. ثم نص على ما يلي (13 فبراير 1883):
كل بلدية كاملة عليها أن تنشئ مدرسة ابتدائية أو أكثر تكون مفتوحة مجانا للأطفال الأوروبيين والأهالي.
وفي البلديات الكاملة والمختلطة يكون التعليم الابتدائي مجانيا للأطفال من الجنسين البالغين ست سنوات، مهما كانت جنسية الآباء. وهذه المادة لا تنطبق على الأهالي المسلمين ولو في البلديات الكاملة إلا بالشروط المذكورة في المادة 34 الآتية.
وتقول هذه المادة (34) إن قرارات أخرى ستصدر من الحاكم العام تحدد عدد المحلات المدرسية المسموح بها وكذلك البلديات أو الأجزاء من البلديات التي تطبق فيها إجبارية التعليم على التلاميذ الأهالي.
ويشير التقرير الرسمي إلى أنه في نهاية سنة 1886، كان هناك 400 ألف
طفل في سن المدرسة، ولكن لا يدخلها منهم سوى سبعة آلاف طفل من الجزائريين. وهم موزعون على النحو التالي:
أطفال من الجنسين في المدارس المسماة الأهلية، وعددهم
…
3.823
أطفال من الجنسين في المدارس الفرنسية العامة:
…
3.230
الجملة:
…
7.053 تلميذا
والتقرير الرسمي المشار إليه يلقى باللائمة على كاهل الكولون لتأخيرهم مشاريع التعليم للجزائريين. وفيه نقد مركز باستعمال التسطير أو الحروف البارزة لإظهار قوة الاحتجاج على موقفهم. ومما جاء فيه أن مسألة تعليم الأهالي تتعقد أكثر فأكثر بالصعوبات المادية (المالية) والمعارضة العرقية (عرب - فرنسيون)، والأحكام المسبقة الدينية والاجتماعية، ثم يتساءل: ولماذا السكوت؟ ويمضي قائلا: (إنه الحرمان الغريزي) للكولون ضد الأهلي، لأن المستوطن الفرنسي يخشى ثورة الأهلي ولا يمكنه أن يرتبط معه بأية علاقة تجارية مؤكدة. (وإذا لم تتدخل السلطات العمومية، فمن المحتمل أن تغلق في وجهه (الأهلي) المدارس المشتركة، ومن المؤكد أن لا يخصص المال الضروري لبناء مدارس خاصة به) (1).
ونجد في حديث لويس فينيون ملاحظتين هامتين: الأولى حول المعلمين في المدارس الابتدائية خلال الثمانينات. فهو يدعي أن المعلمين الفرنسيين كانوا مفضلين عند الجزائريين، والملاحظة الثانية هي قوله إن البلديات الكاملة وحتى المدن هي التي تقف في وجه تعليم الجزائريين (حيث يسيطر المستوطنون طبعا). فهذه المراكز لا تقوم ببناء المدارس الأهلية، إذ
(1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، 259 - 260، وهو يشير إلى التقرير الرسمي الذي نشره ش. غاشان Ch.Ghachant عن التعليم العمومي في الجزائر، في (المجلة التربوية) R.Pedago.، بتاريخ 15 نوفمبر 1886.
لا يوجد سنة 1886 مدارس للجزائريين في البليدة والمدية ومليانة وتيزي وزو، الخ. أما في مدينة الجزائر حيث يقطن أكثر من ثلاثين ألف جزائري، فلا توجد أكثر من مدرسة واحدة لهم (1).
ورغم هذه الصورة المضببة عن التعليم الابتدائي خلال الثمانينات فإن كاتبا مثل بول غفريل Gaffarel رأى أنه تعليم مرضي جدا. وقد وصل إلى هذه النتيجة رغم أنه مر بالأرقام البائسة بالمقارنة إلى أرقام الأوروبيين. ففي سنة 1873 لاحظ هو نفسه وجود 687 مدرسة تحتوي على مجموع 57، 200 تلميذ، منهم فقط 1، 233 جزائري و 258 جزائرية. ويقول إن الباقي من الأطفال يقرأون القرآن في الزوايا، بدون إعطاء رقم. ويذكر إلى جانب ذلك 24 مدرسة ابتدائية في المناطق العسكرية، وهي التي لم تلغها إدارة ديقيدون بعد، ولا يتردد عليها سوى 622 تلميذا، كما يذكر 12 مدرسة ابتدائية دينية (زوايا؟) في زواوة وبو سعادة والأغواط. أما الآباء البيض فقد قال إن لديهم 163 ملجا يحتوي على 17.600 طفل (2). ولكن الملجأ غير المدرسة بالطبع. وقد اعتبر غفريل أن هؤلاء جميعا تلاميذ يتلقون المعرفة الابتدائية، في حين أنه لا يوجد لهم برنامج محدد ولا مدارس متشابهة ولا معلمون من ذوي الكفاءات. وكل مؤسسة من هذه المؤسسات التي ذكرها كانت تدرس بلغتها وتغني بغنائها، أما الملاجئ الكنسية فهي معروفة الهدف من إنشائها.
وقد ثبت أن العبرة ليست في المراسيم والقرارات، ولا في النقد الذي يظهر هنا وهناك. فقد وقع التعرف على داء المدرسة الجزائرية منذ 1880 ولم يقع التحرك اللازم. وتخلت الدولة عن القروض للتعليم، كما تهربت البلديات بل رفضت دفع ما عليها للتعليم الأهلي، رغم أنها هي المسؤولة
(1) نفس المصدر، ص 260.
(2)
بول غفريل (الجزائر)، باريس 1883، 630. والمعروف أن التعليم في الزوايا كان لا يكلف الدولة ولا البلديات أية مصاريف. والحديث في الواقع هو عن المدارس المدعومة من قبل السلطات الرسمية.
قانونيا، كما أنها هي المستفيدة من ضرائب الجزائريين (1)، ووقع الإعلان عن إجبارية التعليم ولم ينفذ إلا في بعض نواحي زواوة، وأعطيت الصلاحيات للحاكم العام ليصدر قراراته عن أماكن هذه المدارس، فوقع هذا تحت ضغط زعماء الكولون أمثال يوجين إيتيان. وقد صب لوروا بوليوجام نقده على التهاون في التعليم ورثى حاله خلال الثمانينات أيضا، كزميله فينيون وواهل (2) Wahl، ولكن نقدهم لم يكن من أجل غرض حضاري أو إنساني بل الخوف على مصير فرنسا في الجزائر وسمعة فرنسا في العالم. ثم جاء جان ميرانت ليقول سنة 1930 أن النتيجة كانت غير حاسمة لأن دراسة المجتمع الأهلي بعناصره وقواه العقلية تجعل من الصعب أن يحدث التغيير بسرعة. فلا بد إذن من تجارب كثيرة ومن محاولات عديدة (3). فهو بهذا يلقي التبعة على (تعقيدات) المجتمع الأهلي وليس على الإدارة المسؤولة والمستفيدة منذ 1830 من الاحتلال، وليس على الدولة المحتلة التي تخلت عن واجبها في رصد ميزانية التعليم لمن احتلتهم أو ترك مداخيل الوقف على الأقل لأهلها يتعلمون منها كيفما شاؤوا.
…
إن هناك مقدمات عديدة سبقت إصلاحات 1892 في نطاق التعليم. ولكن الجزائري ظل هو الضحية لسياسة التردد والانتظار، وتبادل النقد بين الفرنسيين، ولعبة جذب الحبل بين الكولون واللجان المرسلة من باريس، وزيارات بعض شخصيات من أمثال النائب البان روزي A.Rozet. إن عهد حكومة لويس تيرمان في الجزائر كان مثل العقد الأول من الاحتلال، قد عاش فيه الجزائري الحرمان والاضطهاد. ومن حسن الحظ أننا في الثمانينات بدأنا نسمع بتحرك أعيان المدن والضغط على الإدارة بالعرائض والشكاوى حول التعليم والقضاء. وقد صدر مرسوم 13 فيفري 1883 المشار إليه والذي
(1) انظر دور البلديات في قضية الأوقاف أيضا، في فصل المعالم الإسلامية.
(2)
بوليو، مرجع سابق 251 - 253 وكذلك واهل (الجزائر)، مرجع سابق، 317. تولى (واهل) Wahl تفتيش التعليم في المستعمرات الفرنسية.
(3)
ميرانت (كراسات
…
)، 84.
اعتبره البعض فتحا جديدا في ميدان التعليم الأهلي بالجزائر (1). واشترك فيه رجال أمثال فونسين، Foncin وبويسن Bouisson ورامبو. وقد صنف المرسوم المدارس الأهلية إلى ثلاثة أصناف:
1 -
مدارس رئيسية يشرف عليها معلم فرنسي.
2 -
مدارس تحضيرية يتولاها مساعدون أو ممرنون جزائريون.
3 -
مدارس طفولة - بين 3 - 8 سنوات، من الجنسين تشرف عليها معلمات فرنسيات أو معلمات جزائريات.
ونص هذا المرسوم كذلك على عدة أمور أخرى منها، أن أبناء الجزائريين في المدن التي يقطنها الأوروبيون سيسمح لهم بدخول المدارس الفرنسية بنفس الشروط مع تطبيق مبدإ إجبارية التعليم الابتدائي للبنين من الجزائريين، إذا رأى الحاكم ذلك، ونص على إنشاء شهادة الدراسة الابتدائية الخاصة بأبناء الجزائريين. لكن أين المدارس؟ أين الميزانية؟ لذلك فإنه يمكن القول إن المرسوم قد بقي حبرا على ورق يرجع إليه الباحثون ليتعرفوا على (نوايا) بعض الفرنسيين ثم يتوقفون. وقد صدق السيد (فونسين) عندما أعلن أن فرنسا حصدت ما زرعت. ولكن كلامه يجب أن يسري على العهد الفرنسي كله وليس على فترة معينة فقط. في 1884 ألقى فونسين محاضرة بمقر الجمعية التاريخية علق فيها برأيه حول اللغة الفرنسية في الجزائر فقال:(إننا لم نحصد من العالم الأهلي الجزائري سوى حصاد ضئيل جدا - لماذا؟ لأننا بذرنا بيد شحيحة حبات قليلة سقطت بطريق الصدفة أو المغامرة)(2)، ولعل رأيه هذا يذكرنا برأي دوطوكفيل سنة 1848،
(1) نوه به إيمانويل بوجيجا كثيرا وكذلك السيدة كولونا.
(2)
نقل ذلك بوجيجا، مرجع سابق، ص 56. وقد اعتبر جان ميرانت أن مرسوم 1883 قد وضع التعليم الأهلي الابتدائي على أسس جديدة تماما، وأنه تجديد مخلص، ولكنه جاء قبل الأوان وكان غير ناضج، وكانت نتائجه ضحلة. أما بوجيجا فقد امتدح المرسوم، وجاء فشله في نظره من كونه مرسوما بدون مال وبدون ميزانية حكومية، فلم تبن المدارس. انظر ميرانت 84.
رغم أنه في اتجاه آخر.
كل الوثائق تقريبا تشير إلى أن التعليم الأهلي قد أخذ دورة جديدة منذ 1892. ويأتي ذلك نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية. من العوامل الأولى مراسيم وإجراءات 1882، 1883 التي لم تنفذ بالنسبة للجزائريين. ومنها التحقيق الذي أجرته لجنة مجلس الشيوخ سنة 1892، وهو التحقيق الذي جرى بالنسبة للوضع في الجزائر كلها وليس حول التعليم فقط، مثل سلطة الحاكم العام، وقضية الأرض، والقضاء الإسلامي، والتمثيل البرلماني، والضرائب وغير ذلك. أما بالنسبة للتعليم الأهلي فقد انتهى التحقيق إلى ضرورة إنعاشه وتوجيهه وجهة عملية (مهنية). وكان على رأس الذين اهتموا بهذا الجانب كومبس، أحد أعضاء لجنة التحقيق. ومن العوامل الداخلية أيضا زيارات النائب البان روزي المتكررة للجزائر وإثارته في البرلمان مشكل التعليم فيها، وكشف بعض النوايا السيئة أو غير الواقعية التي كان يختبئ وراءها دعاة سياسة التجهيل من نواب الكولون.
أما العوامل الخارجية التي أثرت في دورة التعليم الجديدة فمنها اتجاه الدول الاستعمارية إلى الاهتمام بقضية التعليم في مستعمراتها تبعا لظهور تيارات فكرية ودينية في أوروبا تدعو إلى حقوق الإنسان، ولو كان إنسانا مستعمرا، وكذلك ضغط الحركة الماركسية وبعض الضغوط من رجال الدين المسيحي. وهناك عامل آخر مهم بالنسبة للجزائر وهو ظهور النهضة العربية الإسلامية على أساس التعليم ومحاربة الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي. وكانت بوادر هذه النهضة قد ظهرت في مصر والهند وسورية والدولة العثمانية على العموم. وكان من مصلحة الغرب، ومنه فرنسا، عدم تعريض نفسه للنقد المكشوف بكونه أخر المسلمين وأعاقهم عن التقدم بتبنيه سياسة التجهيل في المستعمرات.
في ضوء كل ذلك تحركت الجهات الفرنسية في الجزائر في الاتجاه الجديد. وكان الحاكم العام عندئذ هو جول كامبون (1891 - 1897).
وكان من الواعين للسياسة الجديدة والمتبنين لها. فساعد على تطبيقها ولم يضع أمامها العراقيل، كما كان الحال زمن لويس تيرمان. وقد أبقى مرسوم 81 أكتوبر 1892 الجديد على تصنيف المدارس الذي جاء به مرسوم 1883 تقر يبا، وهي:
1 -
المدارس الأساسية وهي التي تتضمن ثلاثة أقسام على الأقل، وعلى رأسها مدير فرنسي.
2 -
المدارس الابتدائية، وهي التي تتضمن قسما أو قسمين، وعلى رأسها معلم فرنسي أيضا.
3 -
المدارس التحضيرية، وهي التي لها قسم واحد، ويشرف عليها معلمون جزائريون سواء كانوا مساعدين أو متدربين.
والمدارس الأخيرة تقع تحت رقابة مديري المدارس الأساسية أو المعلمين الفرنسيين القرييبين منها، بحيث يزورها المدير أو المعلم عدة مرات لضمان سيرها طبقا للروح والبرنامج الفرنسي.
وبناء على قرار من الحاكم العام صادر في 3 يناير 1893 فإن المدارس التي كانت من قبل تسمى المدارس العربية - الفرنسية والتي بقي بعضها في المناطق العسكرية، قد ضمت إلى الأصناف الثلاثة الجديدة. كما ضمت المدارس الأوروبية التي كان أغلب تلاميذها من الجزائريين، وبذلك حصل التخلص من التعليم المزدوج، ولكنه ظل مع ذلك تعليما عنصريا، بجعل التعليم الأهلي ثانويا. ونص القرار الأخير كذلك على إنشاء أقسام خاصة بالجزائريين ملحقة بالمدارس الأوروبية، على أن تكون هذه الأقسام تحت إشراف معلمين فرنسيين من التعليم الأهلي، وهي تتبع البرنامج الخاص بالجزائريين.
وقد لاحظ جورج مارسيه الذي تولى إدارة التعليم، أن التعليم الأهلي قام على وحدة القسم وليس على وحدة المدرسة. فالخبراء مثلا يتحدثون عن تكاليف القسم وليس عن تكاليف المدرسة، ثم إن الأقسام كانت خاصة
وموجهة ولها برنامجها الذي ليس هو برنامج المدرسة الفرنسية العادية. وعلى هذا الأساس كان بالجزائر سنة 1893: 125 مدرسة تضم 216 قسما، يضاف إليها 28 قسما خاصا ملحقا بالمدارس الأوروبية، فالجملة 244 قسما. وعدد تلاميذها 12.000 تلميذ من الأهالي.
أما سنة 1951 فقد وصلت المدارس إلى 228 وكانت تحتوي على 427 قسما، يضاف إليها 47 قسما خاصا ملحقا بالمدارس الفرنسية، فتكون جملة ذلك 474 قسما، يتردد عليها 25.000 تلميذ.
وفي سنة 1905 كانت 241 مدرسة، 450 قسما (وإضافة 63 قسما خاصا ملحقا) أي 513 قسما في الجملة، وقد ارتفع عدد التلاميذ إلى 29، 000.
وقد وصل العدد سنة 1906 إلى 248 مدرسة بـ 458 قسما (و 68 قسما ملحقا) أي 526 قسما، يتردد عليها 30.000.
ثم في سنة 1907 وصل العدد إلى 255 مدرسة تحتوي على 473 قسما (و 69 قسما ملحقا)، أي 542 قسما ضمت 31، 000 (1). وقد لاحظ المصدر الذي أخذنا منه هذه المعلومات البطء الذي حصل في إنجاز عدد الأقسام منذ سنة 1951، بالنظر إلى الانطلاقة.
وبناء على تقرير الحاكم العام شارل جونار، سنة 1907 فإن النتيجة تكاد تكون متوافقة مع نتائج مارسيه. لكننا نجد في تقريره بعض التفاصيل الإضافية. فالمدارس الخاصة بالجزائريين بلغت هذه السنة 272 مدرسة بـ 506 أقسام، يضاف إليها 69 قسما ملحقا. ومن بين هذا العدد 9 مدارس للفتيات تضم 15 قسما، و 8 مدارس للطفولة .. وجاء في التقرير أيضا أن هناك 14 مدرسة حرة (بإشراف الفرنسيين؟)، منها 11 مدرسة للبنين وثلاث للبنات، ولها جميعا 24 قسما. وبناء على التقرير فإن عدد التلاميذ
(1) ج. مارسيه (مؤتمر شمال إفريقية) ج 2، 1908، باريس، ص 190. أيضا كولونا، (المعلمون)، ص 16.
الجزائريين في الابتدائي سنة 1907 هو 185. 31 (منهم 2.181 بنات). وإليك إحصاء التلاميذ الجزائريين بين 1882 - 1907 (1).
السنة
…
العدد
1882
…
3.172
1887
…
9.064
1892
…
12.263
1897
…
22.468
1902
…
25.921
1906
…
31.391
1907
…
32.517
هذا إذن التطور الذي حدث في التعليم نتيجة انطلاقة 1892. إنهم يقولون إنها انطلاقة تقوم على رؤية شمولية لموضوع المدرسة الموجهة للجزائريين، وأن الرأي العام الفرنسي قد تروض لقبول مبدإ تعليم (الأهالي) بعد أن كان رافضا. كما قالوا عن سنة 1892 بأنها شهدت ميلاد النص الرسمي الواضح الذي يلزم الجميع ويحدد للتعليم نظامه وبرنامجه. لقد حدث ذلك بعد جهود (بيردو) الذي قدم تقريرا حول ميزانية الجزائر لسنة 1891 في مجلس النواب، وجهود كومبس (Combes) في مجلس الشيوخ الذي تكلم باسم اللجنة المكلفة بإدخال التغييرات في الجزائر، ثم جهود السيد لوبورجوا في مجلس الشيوخ أيضا والذي ألقى خطبة مؤثرة حول تعليم الجزائريين. وقد نص المرسوم على نشر التعليم الفرنسي بين الأهالي في المدن الآهلة بالسكان وفي زواوة (2).
(1) المصدر: (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، أبريل 1908، ص 803 - 804.
(2)
منذ نوفمبر 1881 تقرر إنشاء ثماني مدارس ابتدائية عمومية في زواوة على نفقة =
لكن الخطة لم تنفذ كما بدأت. وكان لذلك أسباب مادية واجتماعية وسياسية. فقد انخفضت ميزانية بناء المدارس للجزائريين من 265.000 فرنك سنوات 1895 - 1899 إلى 5.000 21 فقط سنة 1955، بدل أن تزيد. وكان المجلس المالي Delegations Financieres الجديد في الجزائر، وهو الذي يسيطر عليه نواب الكولون، قد تردد في وضع ميزانية للتعليم الأهالي، وعارض بعض النواب تعليم الأهالي تماما، بل إن بعضهم خشي من هذا التعليم وعواقبه. ان تجهيل الجزائري هو ضمان للسيطرة عليه عند هؤلاء النواب، فإذا تعلم أفاق وحاسبهم ونافسهم. وهم لا يريدون ذلك. وقد حاول جونار أن يتجاوز مشكل الميزانية بإحداث مدارس زهيدة الثمن (بورخيص)، فأثمرت جهوده بعض الشيء. ولجأ إلى استخدام المسلمين أنفسهم في المساجد وغيرها، (انظر التعليم المسجدي).
ويذهب السيد مارسيه إلى أن معارضي التعليم الأهلي أصبحوا نادرين سنة 1.908، وأن دعاة تعليمهم ينطلقون من مبدإ وهو أن قلب مسلم يتكلم الفرنسية هو كسب لفرنسا. ويقول مارسيه إن حجة الذين لا يؤيدون تعليم الجزائريين تقوم على الركائز التالية:
1 -
إن كل محاولة لتقريب الأهالي من الفرنسيين عن طريق المدرسة هي محاولة عقيمة. لأن التعليم لن يكون له أثر عليهم لوجود فوارق عرقية وعقائدية وغيرها.
2 -
إن المدارس (الأهلية) لا يأتيها إلا الأطفال الذين يتعامل ذووهم مع الفرنسيين، أما ما عدا هؤلاء فإن هذه (القصور المدرسية) المخصصة
= الدولة. ولكن في أماكن محددة، دعما لجهود الآباء البيض هناك. وكان قد زار هذه المنطقة ثلاثة من وزراء التعليم في فرنسا، وهم جول فيري ولوبورجوا وبيرتيلو. وكان لوبورجوا هو الذي اقترح التركيز على زواوة في التعليم. انظر جان ميرانت (كراسات ..) 84 وبوجيجا في S.G.A.A.N (1938)، عدد 153 - 154، وكذلك مارسيه، مرجع سابق، 184.
للجزائريين تظل فارغة ولا تمتلئ إلا يوم التفتيش أو زيارة أحد الوزراء.
3 -
إن تعليم الجزائريين ليس فقط عقيما وغير مفيد ولكن نتائجه الضعيفة قد تكون خطيرة، اجتماعيا وسياسيا، على مستقبل الجزائر، لأن التعليم غير كاف لأدخالهم في الحضارة الفرنسية، وهو سينزعهم من وسطهم الأهلي وسيبعدهم عن العمل اليدوي، (الذي يستغله الكولون).
ويذهب السيد مارسيه إلى أن هذه الدعاوى قد تجاوزها الوقت (1908)، لأن الاتجاه أصبح يسير نحو تعليم الجزائريين تعليما يقوم على مبدأين اثنين: أ - أنه موجه إلى سكان هم سياسيا فرنسيون، ولكنهم أجانب من جهة التاريخ والعرق. ب - أنه تعليم يجب أن يكون، إلى أن يحدث نظام جديد (الرعايا) وليس (لمواطنين). وبذلك اقتنع الجميع، حسب رأي السيد مارسيه (1). ولا شك أن هذا الرأي يعكس خلاصة الرحلة الطويلة التي قطعها التعليم الأهلي الابتدائي على يد الفرنسيين. وواضح مما ذكره مارسيه أن الزعم بأن الجزائريين هم الرافضون للتعليم رفضا مطلقا ما هو إلا أسطورة، وأن وراء رفضهم مقاومة من جهتهم وعنصرية من جهة الفرنسيين. ونعني بها هذه الإرادة الفرنسية الكامنة والقائمة على احتقار الإنسان الجزائري وسلبه من كل شيء دون إعطائه في المقابل أي شيء، حتى حق التعلم.
ومهما كان الأمر، فقد وجه هذا التعليم فعلا توجيها خاصا يخدم المبدأين اللذين ذكرهما مارسيه: كونه لأجانب وكونه لرعايا. نعم أجانب في بلادهم ورعايا للدولة الفرنسية المحتلة. وعلى الأجنبي/ الرعية أن يكون في خدمة رب الدار وسيدها وهو الفرنسي. ولذلك كان تعليم الجزائريين الجديد يهدف إلى العمل المهني واليدوي في المزارع الفرنسية والوظائف المهنية التي يحتاجها الفرنسيون كالطرز والنسيج. وكان تعليما منفصلا عن التعليم الفرنسي المعطى في المدارس العامة. فالمساواة في الأدبيات الفرنسية هي شعار يأكلون به الخبز العالمي ويضحكون به على عقول المغفلين. يقولون
(1) مارسيه، مرجع سابق، ص 182.
إن الطفل الجزائري ينسى ما تعلمه في المدرسة بمجرد عودته إلى قريته، ولذلك يجب أن يتلقى تعليما مهنيا فقط يفيده في حقله وداره ومع جيرانه وفي العمل عند الفرنسيين. وأصروا على أن يكون التعليم قائما على اللغة الفرنسية وبعض المواد المهنية فقط. وهذا ابتداء من تقرير (بيردو Burdeau) سنة 1891 إلى تقرير (مارسيه) سنة 1908.
وقد زعموا أيضا أن التلاميذ الجزائريين كانوا يتغيبون عن المدارس. ولكن المفتشين والملاحظين أثبتوا العكس. فقد قال السيد واهل، مفتش التعليم بالمستعمرات، إنه غير صحيح ما يقال إن التلميذ الجزائري يهرب من المدرسة، وقبل القول بذلك يجب البحث فيما نقدمه له (1). ولاحظت مجلة العالم الإسلامي سنة 1908 أن معدل سنوات الحضور للتلاميذ كانت بين أربع وخمس سنوات (2). وهي المدة التي تخرجهم بعدها المدرسة مستغنية عنهم بعد أن تتركهم بدون تكوين حقيقي ولا مستقبل واضح. ويؤكد السيد بوجيجا أن الإحصاءات تشهد على أن نسبة التغيب عند الجزائريين كانت 10% فقط (3). وهو التغيب نفسه عند التلاميذ الفرنسيين إن لم يكن أقل عند الجزائريين. وذكر السيد بول بيرنار P.Bernard، مدير مدرسة بوزريعة (النورمال)، أن الحضور بين التلاميذ الأهالي مرضي، بل إنه تجاوز الحضور عنذ التلاميذ الأوروبيين. إن الصعوبات الإضافية للتلاميذ المسلمين تجعل المرء يزداد تقديرا لحضورهم. فهم يقطعون بين الخمسة والستة كلم. للوصول إلى المدرسة. وذلك بمحض الإرادة والرغبة منهم، وليس عقابا، لأن إجبارية التعليم لم تطبق في الجزائر على التعليم الأهلي. وعزا السيد بيرنار ذلك إلى تأثير المدرسة في الأطفال إذ قد يأتون إليها مخالفة لرغبة والديهم (4). وكان
(1) واهل (الجزائر
…
)، 317.
(2)
مجلة العالم الإسلامي R.M.M إبريل، 1908، 804.
(3)
بوجيجا، مرجع سابق.
(4)
بول بيرنار (التعليم الابتدائي للأهالي المسلمين)، مجلة العالم الإسلامي (1906)، ص 18.
السيد بيرنار بالطبع سعيدا بالنتيجة، لأن ثلاثين ألف طفل جزائري أصبحوا يتلقون تعليما فرنسيا، وهم سيحملون إلى ذويهم بعض الأفكار الفرنسية ومناهج وحضارة فرنسا، وسيصبحون، في نظره، زبائن جاهزين للتجارة الفرنسية، واحتياطيين للتأثير الفرنسي (هكذا يرى الفرنسيون رسالحهم في الجزائر).
لكن الجميع اصطدموا بضعف الميزانية التي يدفع المواطن الجزائر أغلبها، ومع ذلك لا ينال منها عشر ما يناله منها الكولون الذين يدفعون إليها أقل منه. لقد بدأ التعليم الأهلي بداية ملفتة للنظر ثم أخذ يتدهور نتيجة ضعف الميزانية وقلة القروض. حماس في البداية ثم تردد وتراجع. كان مقرر الميزانية سنة 1893 هو شارل جونار الذي سيصبح حاكما عاما في الجزائر، بعد عشر سنوات. وبناء على تقريره فإن ميزانية التعليم الأهلي (1893) هي ما يلي:
50.
000 فرنك = للدراسة في المعاهد والثانويات الفرنسية (في شكل منح)
621.
000 فرنك= للصرف على مختلف أوجه التعليم الابتدائي (بناء المدارس، ورواتب المعلمين).
51.
000 فرنك - من أجل المدارس الحكومية الثلاث (فرنكو - إسلا مية).
المجموع: 622.850 فرنك، (ويضاف إليها بعض القروض التي تعطى للبلديات لبناء المدارس) (1).
ولكن هذا البرنامج قد واجه معارضة وعراقيل. فقد كان ينص على إنشاء 600 مدرسة خاصة بالأهالي، خلال عشر سنوات. وكان أصحاب هذا البرنامج يظنون أنها مدارس كافية لاستيعاب الأطفال الذين في سن المدرسة،
(1) شارك تيار (الجزائر في الأدب ..)، مرجع سابق، ص 160. وقد عرفنا أن البلديات كانت لا تبني المدارس وتصرف مخصصات التعليم الأهلى على المدارس الفرنسية.
ولكن بحلول سنة 1951 كان عدد التلاميذ المتمدرسين يمثل 4.3% فقط، أي ثلاثين ألف تلميذ من مجموع 70.000 في سن المدرسة، وهو عدد قليل جدا، كما لاحظ السيد بول بيرنار (1). وهذا العدد يصبح ثلاثين ألفا على 150.000 أي بنسبة 1، 5%، عند السيد مارسيه (2). ومعنى ذلك أن روح وحماس مرسوم 1892 لم يتحققا. فالميزانية قد انخفضت كما لاحظنا من 621.000 فرنك (للابتدائي) إلى 215.000 فرنك فقط. ويرجع ذلك، كما قال بيرنار إلى عدم دفع البلديات نصيبها من المال لبناء المدارس من ميزانيتها. وقد توقفت الحكومة عن دفع القروض للبلديات، كما تردد المجلس المالي (الوفود المالية) في الموضوع، واشتدت معارضة العناصر المعادية للتعليم الأهلي.
وأمام تدهو التعليم الأهلي من جديد، قام الحاكم العام شارل جونار سنة 1908 بمبادرة أنعشت هذا التعليم قليلا. ولكن المبادرة كانت محل انتقاد شديد أيضا. فقد تعهد ببناء 60 قسما (وليس مدرسة) سنويا لأطفال المسلمين، وحصل على قرض يقدرب 340.000 فرنك. ثم بلغ القرض سنة 1959 ما قدره 540.000 ف. لكن برنامجه لم ينفذ بحذافيره. فلم يبن سنة 1908 سوى أربع مدارس. وتساءل بوجيجا هل يرجع ذلك إلى العراقيل؟ لقد أراد جونار أن ينشر التعليم الفرنسي بين الجزائريين بوسائل غير مكلفة، أي إنشاء مدارس أو أقسام، لا تستجيب لكل الشروط المطلوبة وقليلة المصاريف، وإعطاؤها معلمين من الجزائريين أنفسهم، لأنهم أيضا غير مكلفين، بينما المعلم الفرنسي له راتب محدد. وقد سمى بعضهم هذا النوع من المدارس (المدرسة - القربي - الكوخ)، وسمي هذا التعليم تفكها وسخرية تعليم بورخيص (بومارشي). ذلك أنه كان تعليما لا يحقق الهدف عندهم، وهو تكوين إنسان جزائري متأثر بالفرنسية وحضارة فرنسا ومسلوخ من حضارته. فقالوا إن المعلم الفرنسي يكون متحمسا من أجل فكرة وهي
(1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 21.
(2)
مارسيه، مرجع سابق، 191.
بث الأفكار الفرنسية في الأهالي، أما المعلم الأهلي فلن يكون له ذلك الحماس. ومن جهة أخرى فإن المعلم الفرنسي يحمل شهادات معينة تؤهله للتعليم، أما المعلم الجزائري فلا يحمل أكثر من الشهادة الابتدائية (1)، إلى غير ذلك من الفروق التي تجعل التعليم ضعيف المستوى ولا يحقق هدف مرسوم سنة 1892 في نظرهم.
وها نحن نذكر بعض الإحصاءات التي تنتهي بنا إلى سنة 1921. فبين 1959 ونهاية الحرب العالمية الأولى بنيت بعض المدارس والأقسام وازداد عدد التلاميذ في الابتدائي، ولكن ليس بالشكل الذي كان مخططا له، إما لظروف الميزانية التي ذكرناها واستمرار العراقيل، وإما لظروف الحرب التي كادت توقف بناء الأقسام والمدارس، وإما للأزمة الاقتصادية التي تولدت عن الحرب مباشرة. وهذه هي بعض الأرقام، كما أوردها السيد إيمانويل بوجيجا:
السنة
…
المدارس
…
التلاميذ (الأهالي)
1959
…
286
…
33.887
1915
…
301
…
34.811
1914
…
452
…
43.270
1919
…
474
…
33.747 (2)
1920 أضيف 24 مدرسة، ووجود 916 يقصدها حوالي 35.295
1921 لم تضف مدارس جديدة، لكن الأقسام بلغت 925، ومجموع التلاميذ هو 36.262.
(1) بوجيجا، مرجع سابق، 62.
(2)
يرجع الانخفاض كما قيل، إلى عدم بناء المدارس خلال الحرب. ولوحظ أيضا أن الأرقام أصبحت تؤخذ لعدد التلاميذ الحاضرين في اليوم الذي تحدده مديرية التربية وليس عدد المسجلين. كما لوحظ أن المواظبة أكثر من السابق، انظر بوجيجا، مرجع سابق، ص 61 - 62.
4 -
إن الوضع بعد الحرب قد غير عقلية الجميع وأحدث مفاهيم جديدة في العلاقات والنظرة إلى المستقبل. ومن ذلك الموقف من التعليم الموجه إلى الجزائريين. فقد أصبح الزعماء الجزائريون أكثر إلحاحا على المطالبة بتعليم أولادهم وبحقوقهم المدنية والسياسية. وظهرت محاولات التحدي في هذا الميدان بإنشاء المدارس الخاصة المتبرع لها من قبل الجزائريين أنفسهم، وأخذ هؤلاء يطالبون برخص فتح المدارس لتعليم أولادهم كما اشترط مرسوم 18 أكتوبر 1892. وكان المسؤولون الفرنسيون تارة يستجيبون وتارة يمتنعون. ولكن ذلك كله أدى إلى الضغط على الحكومة الفرنسية، فأصبحت ترصد المال اللازم سواء من ميزانية الجزائر التي يصوت عليها المجلس المالي أو القروض الحكومية المباشرة. وتذكر التقارير أن ميزانية التعليم لسنة 1924 بلغت 13.458.500 فرنك مضافا إليها حوالي خمسة ملايين فرنك لإنجاز البنايات الجديدة (1). ويقول بوجيجا إن التعليم الأهلي قد أصبح من مسؤولية الحكومة وليس من مسؤولية البلديات، فهي التي تصرف عليه، فكانت المشاريع تنجز في وقتها في أغلب الأحيان.
واتفق الجميع على أن هناك انطلاقة جديدة في ميدان التعليم خلال العشرينات والثلاثينات بفضل النهضة الوطنية، سيما حركة الأمير خالد وحركة ابن باديس. يقول جان ميرانت الذي عاصر هذه الفترة أنه منذ 1922 ازداد التقدم نحو التعليم بين الجزائريين، بنين وبنات. لقد أصبح عدد البنات سنة 1930 مثلا يفوق ست مرات عددهن سنة 1890. فبينما كان عددهن في هذه السنة 1.132 أصبح 6.712 سنة 1929. لقد تدافع التلاميذ على المدارس الفرنسية، بينما كان الأمر من قبل يحتاج إلى ضغوط على الأولياء لإرسال أولادهم إلى هذه المدارس، وأصبح التلاميذ يواظبون على الحضور حتى بلغت نسبة حضورهم 95%، كما أصبح قادة الأهالي يطالبون بفتح
(1) تيار، مرجع سابق، 160. عن التغيير في الذهنية العامة الذي حدث بعد الحرب الأولى انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 2.
المدارس الجديدة في كل مكان، وبتوسيع القديمة، وهكذا انتزعوا زمام المبادرة من أيدي الإدارة. كما لاحظ ميرانت أن بعض القرى أصبحت هي التي تقدم المكان، منزل مثلا، ليكون مقرا للمدرسة. ولاحظ أن هناك أعيانا يتفاهمون مع المعلمين الفرنسيين لتعليم أولادهم على حسابهم.
والغريب أن ميرانت لا يفسر هذه الظاهرة باستجابة الجزائر لداعي النهضة والتأثر بروح المرحلة في أوروبا وفي الشرق، ولكن يفسرها بالتفضل الفرنسي، إذ يقول إن المدرسة الفرنسية قد (احتلت) قلوب الجزائريين، رغم التعصب السابق والكراهية لها والأحكام المسبقة. وبذلك أصبحت المدرسة (الفرنسية) في حد ذاتها محبوبة ومحل اعتبار في نظره. والواقع أن الجزائري كان يحب العلم حيث وجده، وقد كان يتدافع على المدرسة العربية الجديدة كالشبيبة والتربية والتعليم. كما كان يهاجر في طلب العلم ولو في الصين. ولكن ميرانت يذهب إلى أن الجزائريين قد تأثروا بحكم اتصالهم بالفرنسيين وتجنيدهم في الجيش الفرنسي واختلاطهم بالكولون، وذهابهم إلى فرنسا للعمل، وبكونهم فهموا أن مصلحتهم تقتضي تعلم الفرنسية وامتلاك التعليم الابتدائي بها (1). وهذا الرأي، إذا كان صحيحا بالنسبة للنقطة الأخيرة وهو السفر إلى فرنسا للعمل، فإنه قد لا يكون صحيحا بالنسبة لقضية الجندية والاختلاط بالفرنسيين، ذلك أن الجزائريين قد عرفوا الفرنسيين وخدموا في جيشهم كمتطوعين، منذ الاحتلال وحاربوا معهم في مختلف أنحاء العالم أيضا (2).
ويتفق بوجيجا في بعض النقاط مع الرأي السابق، سيما في قضية الحضور المكثف، حتى لقد بلغ العدد 43 تلميذا في الفصل (القسم)، وكذلك المواظبة. وقد ازداد تبعا لذلك عدد المدارس والأقسام وعدد التلاميذ. وإذا كان الفضل في هذا الإقبال يرجع إلى روح النهضة والوعي السياسي والوطني
(1) ميرانت (كراسات
…
)، 90 - 91.
(2)
حاربوا معهم في عدة نقاط كإيطاليا، والمكسيك، ومدغشقر، وألمانيا، والهند الصينية.
في الجزائر، وهو ما لم يدركه الفرنسيون إلا في وقت لاحق، وإلى انتظام ميزانية التعليم إلى حد كبير، فإن بوجيجا يذكر فضلا آخر، ولكنه ينسبه إلى جهود ثلاثة رجال عاصروا هذه المرحلة. فمنذ 1909 استحدث وظيف جديد يسمى المفتش العام للمدارس الأهلية بجانب مدير التربية (الريكتور). فكان المفتش يساعد المدير في مهمته. وقد تولى منصب المفتش على التوالي منذ إنشائه: جورج مارسيه، ثم هيرلوك (1913)، ثم جاكار. وفي سنة 1936 تولاه دوماس. وإلى هؤلاء يرجع الفضل، في نظر بوجيجا، في جعل المدارس واسعة وسهلة البناء. وهكذا أصبح بإمكاننا أن نقدم بعض الإحصاءات لفترة العشرينات والثلاثينات لنفهم من خلالها مدى التقدم الذي حصل من جهة ومدى الحاجة إلى المزيد من جهة أخرى. ذلك أن عدد السكان الجزائريين كان يفرض مضاعفة العدد الموجود من المدارس والأقسام. ونحن نعرف أن مدارس الحركة الإصلاحية في هذه الفترة، كانت تنافس المدارس الفرنسية عددا وعمرانا، وهي تعتبر مدارس خاصة وحرة.
في 1926 بلغ عدد الأقسام 1.018 قسما للبنين، في كل قسم حوالي 43 تلميذا. وبلغت نسبة الحضور 90%. وعدد التلاميذ الإجمالي بلغ 43.318 وتشير الإحصائية إلى زيادة 1، 211 تلميذ على سنة 1925.
أما سنة 1926 فقد كانت هناك 519 مدرسة تضم 1.033 قسما، بمجموع 45.000 تلميذ يترددون على المدارس (الأهلية). وهناك 9، 000 تلميذ يترددون على المدارس الأوروبية في أقسام خاصة تسمى (ملحقات) الأهالي.
وفي سنة 1933 هناك 570 مدرسة للجزائريين تضم 1.506 أقسام، ويتردد عليها 56.330 تلميذا. وقد ثبت أن التلاميذ (الحاضرين) في المدارس العمومية بلغ 40.866 وفي المدارس الخصوصية 663، فالجملة 41.529 تلميذا (1).
(1) بوجيجا، مرجع سابق، 63 - 64. لاحظ بوجيجا أن الفرنسيين اهتموا منذ الثمانينات من القرن الماضي بالتعليم في زواوة خاصة، وقال إن المدارس الابتدائية قد بلغت =
وحسب إحصاء سنة 1936 فإن عدد الأطفال الجزائريين في المدارس الابتدائية الأهلية قد بلغ 75.191 تلميذا، منهم 66.861 بنين، و 8.330 بنات. وعدد هذه المدارس عندئذ 732. فإذا أضيف إلى ذلك عدد التلاميذ المسموح لهم بالذهاب إلى الأقسام الخاصة أو الملحقات في المدارس الفرنسية، فإن العدد يصل إلى 101، 253، منهم 85.389 بنين، و 15.854 بنات (1).
ورغم هذه الأرقام فإنه يجب أن لا تخدعنا. فهي لا تدل على الحضور الفعلي، ولا تنص على عدد الخريجين الذين ينالون الشهادة الابتدائية الخاصة بالأهالي. فنحن إلى الآن لا نعرف مدى تأثير هذا التعليم في الحياة اليومية للناس، رغم (احتلال) المدرسة قلوب الجزائريين، كما قال جان ميرانت. فكم تخرج من هذه المدارس سنويا؟ وماذا يفعل المتخرجون بتعليمهم؟ وهل تقبلهم المؤسسات المتوسطة والثانوية الفرنسية، وإذا لم تقبلهم (بتعليمهم الأهلي) فإلى أين يتجهون؟ إنها دوامة لا يجد الباحث لها جوابا سريعا. إن التلاميذ المسموح لهم بدخول الثانويات الفرنسية عدد ضئيل جدا، كما لاحظت. وليس هناك متوسطات ولا ثانويات خاصة بالمسلمين، كما هو الشأن في الابتدائي. فلماذا إذن هذه الضجة؟ إن عدد الذين وصلوا إلى الجامعة من الجزائريين لم يتجاوز 89 طالبا (سنة 1940). ومع ذلك فالتعليم على
= سنة 1930 بين عامة وخاصة 549 مدرسة، بعضها بقسم (فصل) واحد فقط، وبعضها بعشرة أقسام. وبلغ عدد معلميها، وهم في الغالب جزائريون، 383 معلما. والظاهر أنه يقصد بالمدارس الخاصة مدارس الآباء البيض. انظر ص 63. ويقصد بوجيجا بكلمة (الحاضرين) أن هناك فرقا بين التسجيل والحضور في عدد التلاميذ. وإيمانويل بوجيجا كان رجلا متقاعدا وإداريا قديما، عاش في منطقة زواوة، وحضر زيارة جول فيري وبيرتيلو وغيرهما لها في الثمانينات من القرن الماضي - 1887 - أما زوجته، ماري بوجيجا فقد تخصصت (منذ أربعين سنة) في قضية المرأة المسلمة (المضطهدة) في نظرها.
(1)
أرشيف إيكس (فرنسا) 61 H 10 نقلا عن جريدة (وهران الجمهورية) 18 يوليو، 1937.
انحرافه عن الهدف التربوي الحقيقي وعن ربطه بالمجتمع، فإنه فتح أعين الجزائريين على حقائق جديدة، وقد نجحت الحركة الإصلاحية والحركة السياسية، في تجنيد مجموعة من أبناء التعليم الأهلي الفرنسي فأنقذتها ووجهتها ورمت بها وسط الشعب لأداء المهمة الحضارية الحقيقية. فاثمرت جهودها في الإصلاح الاجتماعي والتحرر السياسي.
ونحن لا نستغرب أن يخرج أحد الفرنسيين مثل (جورج هاردي G.Hardy) لينتقد مسيرة التعليم الأهلي الفرنسي سنة 1937 بشيء من السخرية والتحدي. فهو يرى أن المسألة بلغت حد التضحية. مائة ألف تلميذ جزائري في المدرسة! هكذا تعجب السيد هاردي. ومع ذلك فإن الحضور الحقيقي لا يتجاوز الثمانية أو التسعة آلاف طفل. إن السكان يتزايدون، وفي كل عام تفتح أقسام جديدة لأعداد جديدة من التلاميذ. وميزانية هذا التعليم صخرة ثقيلة على صدر الميزانية العامة، في نظره، وهي الميزانية التي يرصدها له المجلس المالي والحكومة العامة، رغم شدة الحاجة إلى هذه الميزانية في جهات أخرى (؟) حسب دعواه. وقال جورج هاردي إن الحكومة تقدم كل عام 187 مليون فرنك معونة لميزانية الجزائر لتصرف على تحسين أحوال الجزائريين، ومن ذلك المبلغ 35 مليونا للتعليم. وأعلن أن هذا النوع من المعونة جديد في تاريخ الاستعمار، ولا يمكن استمراره. والحل؟ إما بقاء الحالة البطيئة للتعليم والتي لا فائدة منها في القريب العاجل، وإما الاعتماد على تلاميذ المدن فقط وعددهم لا يزيد عن 65 ألف تلميذ بين بنين وبنات في كل الأقاليم الثلاثة. أما أبناء الأرياف فلا حظ لهم عند جورج هاردي في ذلك الوقت وعليهم الانتظار (1).
وهناك ملاحظات أخرى أبداها أحد الأجانب على التعليم الأهلي الفرنسي، جديرة بالنظر أيضا لأن الفرنسيين يضخمون فصائلهم حتى لا يرون في أنفسهم وأعمالهم إلا الحق والخير، ولو كان الأمر عكس ذلك. يقول
(1) انظر مقالته في (إفريقية الفرنسية)، عدد غشت/ سبتمبر 1937.
هذا الكاتب إن المعلم الفرنسي البعيد في الواحات والمناطق النائية لا يتعب نفسه من أجل أولاد يعرف مسبقا أنهم لن يستفيدوا من جهده. فالأولاد لا يبقون أكثر من سن 13 أو 14، وهم ينسون بعد خروجهم كل ما قرأوا إلا القراءة والكتابة. وأولياؤهم لا ينكرون فائدة تعليمهم، ولكنهم يستفيدون منهم أكثر إذا خرجوا من المدرسة أو بقوا إلى جانبهم من البداية. ثم إن بعض الأعيان كان يدفع عن أبنائه حتى المنح الدراسية في الثانويات الفرنسية، ولكن بعد تخرجهم وعودتهم إلى أهلهم يجدون أنفسهم لا يختلفون عن أخوتهم الذين اكتفوا بقراءة القرآن والتعليم التقليدي، ولم يضيفوا جديدا سوى العيوب الأوروبية. وقد لاحظ هذا الكاتب أيضا كثرة المتكلمين بالفرنسية من العرب الجزائريين، بينما في الهند فالبريطانيون الرسميون هم الذين يتعلمون الأردية ليتصلوا عن طريقها بالسكان. وأما في الجزائر فالعرب هم الذين عليهم أن يتعلموا الفرنسية ليتصلوا بالفرنسيين. وإذا كان التلميذ المتخرج من المدرسة الابتدائية على درجة طيبة من الذكاء فأمامه مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) وهو يدخلها مجانا ليصبح بعد التخرج منها معلما في المدارس الفرنسية (1).
إلى هنا نكون قد أتينا على المراحل الأربع التي وعدنا بها بالنسبة للتعليم العربي/ الفرنسي الابتدائي للجزائريين. وقد رأينا أن المرحلة الأولى قد تميزت بالإهمال من جانب الفرسيين والانشغال بالاحتلال والحرب والاستيلاء على الأوقاف والأرض. كما كان الجزائريون خلالها يقاومون النفوذ الفرنسي المتمثل في الغزو بشتى أشكاله، ومنه الغزو عن طريق المدرسة. وكان الجزائريون يأملون في جلاء فرنسا عن بلادهم، وتغلب حركة الأمير عبد القادر. ومنذ انتهاء هذه المقاومة ونضوب معين العلم وإطلاق إشارات الخطر من كتاب أمثال دي طوكفيل وقادة أمثال الجنرال بيدو، تكونت لجنة لدارسة الوضع التعليمي وخرجت ببرنامج يتبنى التعليم
(1) هذه الملاحظات أبداها بودلي R.V.C.Bodley (الجزائر من الداخل)، لندن، 1927، فصل التعليم العربي. وهو يتفق في بعض ملاحظاته مع بعض الفرنسيين أنفسهم.
المزدوج على أن تكون فيه اللغة الفرنسية هي السيدة. وبذلك بدأت المرحلة الثانية منذ 1851. وقد تميزت بعدم الفعالية أيضا لأن مجموع ما ظهر من المدارس المزدوجة لا يعدو 34 أو 36 مدرسة في مجموع القطر الجزائري إلى سنة 1870. وخلال المرحلة الثالثة ألغيت هذه المدارس إلا ما كان منها في المناطق العسكرية، ورجع الإهمال للتعليم الجزائري، إلى 1883 حين ظهرت بوادر الاهتمام، ولكن في شكل قرارات وإجراءات جزئية فقط، دون إنشاء المدارس ورصد الميزانية اللازمة له، وكانت معارضة الكولون وزعماؤهم للتعليم الأهلي قوية، وبذلك انتهت المرحلة الثالثة بدون نتيجة إلا من بعض المراسيم التي ظلت في أغلبها حبرا على ورق.
لكن المرحلة الرابعة هي التي شهدت ميلاد المدرسة الفرنسية الخاصة بالجزائريين، رغم التعثرات، وكان التعليم فيها موجها توجيها خاصا ويهدف إلى إخراج إنسان جزائري مسلوب من كل تاريخه ولغته وبيئته ودينه، فهو يتلقى تعليما خاصا في مدارس خاصة على يد معلمين خاصين وكأنه كان من جنس خاص. وبعد أن يتشوش ذهنه خلال ست سنوات ونحوها يرمى به للشارع. إذ لا حظ له في المواصلة، وقد ابتعد عن المدارس القرآنية. والنادرون فقط هم الذين يلتحقون بمدرسة ترشيح المعلمين في القسم الخاص (بالأهالي) أيضا. وقد يلتحق بعضهم بإحدى المدارس الرسمية الثلاث التي سنتحدث عنها. وهكذا، فإنه إلى سنة 1940 لم تكن قضية تعليم الجزائريين قد وجدت حلا جذريا في الإدارة الفرنسية لعدم الحسم في هوية الجزائري: هل هو فرنسي فيتلقى تعليما كالفرنسيين؟ كيف يقع إقناع الأولياء بذلك؟ أو هل هو عربي مسلم فيتلقى تعليما يتماشى مع هويته وحضارته؟ وكيف يقتنع الكولون بذلك؟ وبينما كانت الإدارة الفرنسية جامدة أو مترددة في موقفها، كانت الحركة الإصلاحية قد وجدت الجواب فأخذت تعلم أبناء الوطن تحت شعار: الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا (1).
(1) عالجنا ذلك في فصل التعليم في المدارس الحرة.