المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اشتداد المقاومة على عهد الأمير ونشأة الدولة الجديدة، أمثال علي - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٣

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: اشتداد المقاومة على عهد الأمير ونشأة الدولة الجديدة، أمثال علي

اشتداد المقاومة على عهد الأمير ونشأة الدولة الجديدة، أمثال علي بن الحفاف، وقدور بن رويلة، وحتى أحمد بوضربة.

وقد استبشر ألفريد بيل بتدهور حركة التعليم الأصلي (العربي - الإسلامي) في زوايا إقليم وهران بحلول القرن العشرين. فقال أنه يمكنه ذكر العديد من الزوايا التي كانت تعلم العلوم كالنحو والأدب والتوحيد والفقه بالإضافة إلى تحفيظ القرآن، ولكنه لاحظ (سنة 1908) أن هذا النوع من الزوايا أخذ يضمحل ويختفي ولم يبق إلا النوع الذي لا يعلم إلا القرآن، أي أن الزوايا أصبحت مجرد كتاتيب. وقال أنه يمكنه أن يذكر نماذج على تلك الزوايا التي كانت تعلم العلوم المذكورة ثم اختفت أو تغيرت، ولم يبق منها إلا عدد قليل جدا، وهي في تناقص يومي. ثم استدرك قائلا بالعكس إنه لا يوجد، حسب معلوماته، كتاب (مدرسة) قرآني قد وسع تعليمه لكي يشمل أيضا الفقه أو غيره من المعارف العربية (1).

ويبدو أن هذه الظاهرة كانت عامة في الناحية، لأنه، باستثناء بعض زوايا الأرياف، كدنا لا نجد زاوية تعليمية في النواحي الغربية شبيهة ببعض زوايا منطقة زواوة وزوايا الجنوب. فلماذا هذه الظاهرة السلبية؟ أين هي زوايا سيدي العريبي (سيدي بو عبد الله المغوفل) وسيدي محمد بن عودة، وسيدي دحو، وسيدي عمار بن دوبة، الخ؟ حتى زاوية أولاد سيدي الشيخ تولاها مواليهم وتخلوا هم عنها، وحولوها إلى مراكز لجلب الصدقات والزيارات والغفارة وليس للعلم والتعليم.

‌المدارس الحرة

نعني بالمدارس الحرة تلك المؤسسات التعليمية التي نشأت منذ أوائل هذا القرن، ثم انطلقت انطلاقة كبيرة منذ حوالي 1920 على يد أفراد أو جماعات لنشر التعليم العربي الإسلامي في الجزائر، ويدخل في هذا التعريف المدارس التي قامت في المدن وفي الأرياف، والتي كانت تحقظ القرآن في

(1) ألفريد بيل (مؤتمر

) 1908، مرجع سابق، ص 216.

ص: 238

الأساس أو التي أضافت إليها مواد أخرى، وأصبحت تطلق على نفسها اسم المدارس العصرية أو الحديثة.

والواقع أن الجزائر لم تخل من المدارس (الحرة) حتى خلال القرن الماضي. فبعد استيلاء الفرنسيين على الأوقاف والمدارس والمساجد والزوايا في المدن، واصل الناس تعليم القرآن، كما عرفنا، في المسيدات أو الكتاتيب، في غرف صغيرة أحيانا معتمة، وفي بيوت ملصقة بدور العبادة التي بقيت، وكانت هذه المؤسسات، على ضعفها وتدهورها، حرة ولا تمولها السلطات الفرنسية، ولكنها تراقبها سياسيا. وفي الريف بقيت الزوايا والشريعات (الخيام) والمعمرات هي الأماكن التي يعلم فيها القرآن الكريم والعلوم الأخرى الدينية واللغوية. وكانت أيضا حرة لا دخل للسلطة فيها إلا المراقبة وأحيانا التحكم في البرنامج والمواد بمنع الزائرين والمتبرعين لها. إن التعليم الذي كنا نتحدث عنه في المساجد والزوايا كان كله من أموال الناس المتطوعين من أجل تعليم أبنائهم اللغة العربية والدين الإسلامي حسب طريقة معلومة عندهم. فهو تعليم حر، وكان القائمون عليه معلمين متطوعين، وإنما يضمن لهم أهل القرية القوت، وأحيانا تضمن لهم ذلك الزاوية نفسها.

إننا عندما نتحدث عن المدارس الحرة يجب أن نتذكر الماضي، فما الجديد إذن؟ الجديد هو تخلف نظام التعليم القديم الذي قصدته السلطات الفرنسية قصدا، والذي تحدث عنه ألفريد بيل أوائل هذا القرن، ظنا منه أن ذلك سيؤدي إلى موت الدراسات العربية والإسلامية لصالح اللغة والحضارة الفرنسية. وأمام ذلك التخلف في المكان والمنهج والبرنامج جاء النقد، والتماس البدائل. وكانت تجارب المدارس القرآنية في المشرق العربي وفي تونس وإصلاحها قد تأثر بها أيضا بعض الجزائريين سواء الذين درسوا هناك أو الذين قرأوا عنها في الصحف. ومن جهة أخرى كانت المدرسة الفرنسية الخاصة بالأهالي تغزو أوساط الجزائريين فخاف هؤلاء على مصير أبنائهم. ولذلك ظهرت عدة تجارب قبل الحرب العالمية الأولى، ثم توسعت واستمرت منذ 1920، كما ذكرنا.

ص: 239

كان القانون الفرنسي الذي يرجع إلى 18 أكتوبر 1892 ينص على إمكانية فتح المدارس الحرة (وهو يعني هنا القرآنية فقط) بشروط ثلاثة: وجود المحل الصحي، والحصول على رخصة بفتح المدرسة (كتاب أو نحوه) ورخصة خاصة بالمعلم المسلم يوافق عليها والي الولاية التي تفتح فيها المدرسة مع أخذ رأي كل من المراقب الولائي للتعليم (وهو فرنسي)، وكذلك رأي السلطات الفرنسية المعنية. وقد ظل هذا هو حجر الزاوية في تأسيس المدارس الحرة على يد المسلمين الجزائريين. والفرنسيون هم الذين يقررون ما إذا كان المكان صحيا أو غير صحي، وما إذا كانت المدرسة تفتح في الحي أو القرية أو لا تفتح، وكذلك هم الذين يقررون ما إذا كان المعلم (بالمفرد فقط لأن المؤدب واحد، والمقصود في نظرهم هو معلم القرآن فقط)، مقبولا عندهم أو غير مقبول. وغير المقبول عندهم هو المعلم الأجنبي (مغربي أو تونسي

الخ). ثم الأهلي الدارس في غير الجزائر، والذي لا يرضون عن سيرته أو سيرة أهله معهم.

وقد ظل هذا القانون ساري المفعول أكثر من أربعين سنة، وبعد منشور ميشيل سنة 1933، وقرار رينيه (1) سنة 1935، صدر سنة 1938 (8 مارس) قرار من الحاكم العام، لوبو Le Beau، نص على إمكان فتح المدارس الحرة بدون طلب رخصة. وقد أصبح هذا القرار قانونا أو مرسوما عندما وقعه رئيس الجمهورية الفرنسية لوبران. وكانت الحركة الوطنية قد ضغطت على السلطات الفرنسية في عدة مناسبات مطالبة بفتح المدارس الحرة ما دامت الحكومة عاجزة عن توفير هذه المدارس لأبناء البلاد. وكانت حالة الحرب تنذر بتطور خطير في الأوضاع، وكان الفرنسيون يريدون أن يكسبوا الجزائريين إلى جانبهم إذا وقعت الحرب. ومن جهة أخرى بلغ سكان الجزائر (المسلمون) أكثر من ستة ملايين 6، 200، 000 سنة 1936، وكان حوالي 620، 000 طفل منهم في سن المدرسة (بين 6 - 13 سنة)، ولكن الحكومة لا توفر التعليم إلا

(1) انظر كتاب الحركة الوطنية ج 3.

ص: 240

لعدد ضئيل جدا منهم (1). فقد كان يجب بناء 620 قسما (وليس مدرسة) سنويا للبنين فقط دون البنات، بينما لم تبن الحكومة سنة 1938 سوى 89 قسما. وأمام ذلك العجز، وذلك الإلحاح من الأهالي من أجل تعليم أبنائهم، صدر القانون المذكور بإنشاء المدارس القرآنية بدون طلب رخصة (2).

لم يكن الجزائريون عاجزين عن تعليم أبنائهم لو لم يواجهوا العراقيل القانونية والمخططات الإدارية التي كانت تهدف إلى تحطيم الهوية العربية الإسلامية للجزائر من خلال طمس مؤسسات التعليم، كما كان بإمكانهم توفير التعليم لأبنائهم لو لم تستول السلطات الفرنسية على أموال الوقف الموجهة لخدمة العلم والدين، وكانت مطالبتهم بإرجاع حقوقهم من أموال الوقف قد ذهبت أدراج الرياح إذ تحول ما تقدمه منها فرنسا لهم إلى (مساعدة) خيرية للفقراء والمساكين خلال المواسم الدينية. وابتلعت الدولة الفرنسية أموال اليتامى والمعلمين والغرباء وفقراء مكة والمدينة والأشراف وأهل الأندلس، ونسي معظم الجزائريين ذلك، فأصبحوا لا يطالبون إلا بزيادة المساعدة الخيرية. ومن جهة أخرى أهملت الحكومة الفرنسية التعليم العربي للجزائريين إلا في المدارس الشرعية التي أسستها لتخريج الموظفين فقط، أما في المدارس الابتدائية فالتعليم كان بالفرنسية، وقد تستعمل العربية الدارجة معها. وكان القصد من ذلك هو إماتة العربية الفصحى أو لغة الكتابة والمطالعة والثقافة والتراث الإسلامي.

أخذت الغيرة على اللغة العربية بعض الرواد فأسسوا أول مدرسة قرآنية عصرية حرة في تبسة سنة 1913. وكان وراء هذا المشروع السيد عباس بن حمانة. فقد اجتمعت إرادة المحسنين ورواد الأفكار النيرة على تأسيس جمعية خيرية أولا باسم (الجمعية الصديقية الخيرية للتربية الإسلامية والتعليم العربي والاصلاح الاجتماعي) برئاسة ابن حمانة، وكان أمين المال هو الحاج

(1) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

(2)

افريقية الفرنسية A.F يوليو، 1938.

ص: 241

عمر العنق. ومن أعضائها النشطين الحاج بكير العنق، أخو السابق. ويخيل إلينا أن المشروع كانت له دوافع، من ذلك بوادر النهضة التي أخذت تلوح في الأفق في عهد الحاكم العام شارل جونار حين برزت الصحافة والجمعيات والنوادي في المدن الرئيسية (سيما العاصمة وقسنطينة)، وزيارة الشيخ محمد عبده وانعقاد مؤتمر المستشرقين، ثم فرض التجنيد على الشباب سنة 1912. والمعروف أن القضية الأخيرة قد حركت المثقفين والقادة، فبينما المثقفون بالعربية عموما رفضوا فرض التجنيد مهما كانت الوعود الفرنسية، وقف المثقفون بالفرنسية معه بشرط أن تعد فرنسا بمنحهم الحقوق السياسية الكاملة. ومن الدوافع في نظرنا إحداث مدارس مشابهة في تونس. فمنذ 1907 أسس الشيخ بشير صفر المدرسة القرآنية التي نجحت نجاحا كبيرا، كما انفصل عنه الشاذلي المورالي وأسس مدرسة السلام القرآنية أيضا. وكلتاهما كانت على الطراز الحديث، وكانت تعلم مختلف العلوم بما في ذلك اللغة الفرنسية. فمن يدري، لعل رواد المدرسة القرآنية العصرية في تبسة قد تأثروا بكل ذلك.

تحدث محمد علي دبوز عن المدرسة الصديقية رواية عن أحد شهودها وهو الحاج بكير العنق وأحد تلاميذها وهو الصديق سعدي، وكذلك نقلا عن جريدة (الصديق). فقد كانت المدرسة تقع في بناية من أربعة طوابق تبرع بها للجمعية الحاج بكير بن عمر المرموري. وكانت للمدرسة مكتبة وصيدلية ومطبخ. واعتمدت في تعليمها برنامجا حديثا يهتم بالتربية الإسلامية وبالقرآن والأخلاق، والتاريخ الإسلامي - بما في ذلك تاريخ الجزائر - والجغرافية، كما اشتمل على المواد الرياضية والرياضة البدنية واللغة الفرنسية. ونص البرنامج على أن تكون مدة الدراسة ثماني سنوات. وللتلاميذ الواردين من بعيد قسم داخلي للإقامة. وكان على التلميذ أن يدفع مبلغا ماليا زهيدا. وللمدرسة قانون داخلي طبع في تونس، نص على أن هدفها هو إحياء اللغة العربية في تبسة. وهكذا تبلور المشروع ثم انطلق يحقق هدفه.

وبعد بضعة أشهر صدر الأمر بغلق المدرسة من السلطات الفرنسية،

ص: 242

كما حلت الجمعية الخيرية ونفت المعلمين وشردت التلاميذ، وزج بابن حمانة في السجن. فما الذي حدث؟ ليس هناك جواب واضح. إن الكتاب الجزائريين يتهمون الإدارة والكولون بالتواطؤ على قتل المشروع في المهد. ويعزز ذلك أن عباس بن حمانة قد اغتيل أيضا اغتيالا سياسيا، حسب تعبير مالك بن نبي. فقد كان ذات يوم حار جالسا تحت شجرة يقرأ جريدة، فتقدم منه أحد الأشقياء وضربه بفأس على أم رأسه (1). ونعرف من عدة مصادر أن سيرة عباس بن حمانة كانت تثير القلق في الأوساط الفرنسية عندئذ، وهي الأوساط التي تعودت على تطبيق قانون الاندجينا المرعب، فلا يمكن الأهلي، أن يتحداها أو يسألها عما تفعل. ويبدو أن حمانة قد أخذ يتحدى الإدارة بالظهور كزعيم ليس في تبسة فحسب بل على المستوى الوطني. ورغم الغموض الذي ما يزال يكتنف حياته ومواقفه فإنه يمكننا تقديم هذه الصورة عنه بعد أن رجعنا إلى عدة مصادر (2).

لم يظهر ابن حمانة على المسرح السياسي قبل فرض التجنيد. ويتحدث بعضهم أنه كان عالما بالأحوال السياسية وداهية وأنه كان مزدوج اللغة. وتظهره الصورة التي نشرها له دبوز بلباسه الوطني المؤلف من العمامة والبرنس. وربما يكون قد تخرج من إحدى المدارس الرسمية (قسنطينة؟). والواقع أن تبسة في عهده كانت في مفترق الطرق ثقافيا وسياسيا. فهي قد تأثرت بما حدث في تونس والجزائر وطرابلس منذ 1870. فقد دخلها الأمير محميي الدين بن الأمير عبد القادر في هذه السنة وثور أهلها وجعلها قاعدة لنشاطه بعض الوقت، ثم تأثرت باحتلال تونس سنة 1881 وبأحداث طرابلس سنة 1911 حين تحارب العثمانيون والطليان وشارك في الدفاع عن

(1) كان ذلك يوم 16 يوليو، 1914. انظر دبوز (النهضة) 1/ 269. وكذلك دبوز (أعلام) 3/ 146.

(2)

لا يمكن لقضية ابن حمانة أن تظهر على حقيقتها إلا بالرجوع إلى الوثائق الفرنسية وجرائد الوقت، وروايات الأهالي، ومذكرات المعاصرين أمثال مالك بن نبي وابن الساعي والخالدي.

ص: 243

ليبيا أعداد من المتطوعة الجزائريين، وقد وجدنا اسم ابن حمانة ضمن النشطين في تجنيد المتطوعة، وله مراسلات مع الزعيم سليمان الباروني. وربما كان له أيضا اتصالات مع القيادات التونسية أوائل هذا القرن أمثال عبد العزيز الثعالبي ومحمد الخضر حسين والأخوين باش حانبة. وكانت الجرائد التونسية تصل إلى تبسة بسهولة. وهكذا فإن عباس بن حمانة يعتبر نتاجا لهذه التطورات.

يذكر مالك بن نبي الذي عاش طفولته في تبسة والذي كان عمره حوالي تسع سنوات عند اغتيال ابن حمانة: إن تبسة قد شهدت حرائق مهولة في الغابات سنة 1912 فدمرتها. وكانت الغابات تحت حماية الفرنسيين، وكانوا يعاقبون على الحرائق بتطبيق قانون الاندجينا الذي يحكم بالمسؤولية الجماعية. وقد ساءت الحالة الاقتصادية للعائلات الكبيرة في المنطقة وتدهورت حالتها الاجتماعية أيضا. لقد كان الاستعمار في ذروته عندئذ. ويحدثنا ابن نبي على أن ابن حمانة كان مستقلا سياسيا وأن خصمه المدعوم من الإدارة هو السيد ابن علاوة، ولكن الإدارة لا تفهم الاستقلال إلا أنه معارضة لها. وقد شارك ابن حمانة في الوفد الذي توجه إلى فرنسا لتقديم مطالب تتعلق بفرض التجنيد. وهنا تختلف الروايات. فهل كان ابن حمانة مع أو ضد التجنيد الإجباري؟ يقول آجرون أن ابن حمانة كان مع فرض التجنيد بل كان متحمسا له، وأنه قاد حملة عنيفة لصالحه إلى جانب المهندس الفرنسي شارل ميشيل، ومن رأي آجرون أن ذلك الموقف هو الذي كان السبب في اغتياله سنة 1914 (1). ولكي تتم الصورة نذكر أن الكولون كانوا لا يوافقون على فرض التجنيد خشية أن يؤدي إلى توعية الجزائريين من جهة وأن يؤدي إلى حرمانهم (الكولون) من اليد العاملة في الحقول وغيرها من جهة

(1) آجرون (ميلانج شارل اندري جوليان)، ص 243. أما دبوز فيقول أن ابن حمانة قد عارض التجنيد وطالب بإلغائه (نهضة) 2/ 263. ولكن المسألة فيها نظر، لأن معارضته حينئذ تتماشى مع موقف الكولون. وعن الوفد الذي سافر إلى باريس سنة 1912 انظر كتابنا (الحركة الوطنية)2.

ص: 244

أخرى. فاغتيال ابن حمانة يضرب العصفورين معا.

وللتذكير نقول أن من كانوا يسمون بالنخبة، وهم ذوو الثقافة الفرنسية كانوا في أغلبهم مع قبول التجنيد إذا كان سيؤدي إلى الحصول على المساواة السياسية. وبذلك نادى أبناء بوضربة، وابن حبيلس وابن التهامي. ولكن النخبة المعربة والقادة الإسلاميين مثل عبد الحليم بن سماية وعمر بن قدور قد عارضوا التجنيد مهما كانت النتيجة. فكيف يذهب محمد بن رحال، وهو مزدوج اللغة ومن الغيورين على العربية والإسلام ومن عائلة دينية - صوفية، مع عباس بن حمانة الذي لم تكن له شهرة ابن رحال، إلى باريس لتقديم مطالب باسم الجزائريين، وما هي؟ هل هي مطالب تختلف عن مطالب الفريقين السابقين؟ لقد علق ابن نبي على زيارة ابن حمانة لباريس بقوله أنه ذهب لتقديم مطالب أبناء البلاد (لم يقل ما هي) فمنحه الفرنسيون وسام الاستحقاق الزراعي!.

لا شك أن نشاط ابن حمانة كان يهدد المصالح الفرنسية. فاغتياله قد حدث شهرا قبل وقوع الحرب العالمية. ولعل الفرنسيين قد خشوا منه إذا بقي طليقا مع تفاقم الأحداث الدولية. ويذهب ابن نبي إلى أن اسم ابن حمانة قد ارتبط بحادثة اغتيال سياسي هز الإدارة، وألف فيه أحد الفرنسيين كتابا بعنوان (قضية تبسة) (1). واعتبره ابن نبي أول من دافع عن اللغة العربية في تبسة وعمل على نشرها. وفي مكان آخر قال عنه أنه (أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلاد) (2). أما دبوز فقد روى عن الشيخ بكير العنق الذي كان يعرف ابن حمانة شخصيا: بأن هذا كان شخصا جديرا بأن يكون رجل دولة وأنه كان نظير الشيخ الثعالبي في تونس لو واتته الظروف. وقد وجد عباس بن حمانة المساندة في مشروعه من أبناء ميزاب التجار في تبسة، وكذلك من محمد (معمر؟) بن الحاج رابح الزردومي.

(1) لم نطلع على هذا الكتاب، ولعل فيه آراء أخرى في الموضوع تساعد على فهمه. وكان حاكم تبسة عندئذ يدعى (سينيوري).

(2)

مالك بن نبي (المذكرات) ط. دمشق، دار الفكر 1984، ص 31 وهنا وهناك.

ص: 245

ويبدو أن ابن حمانة كان له أصدقاء أيضا في الأوساط الفرنسية. ونحن نستشف ذلك من حادثتين: الأولى أنه وجد دعما من بعض النواب عندما عرضت مسألة غلق المدرسة وحل الجمعية على البرلمان الفرنسي. فقد احتج لدى الحاكم العام ثم رفع المسألة إلى البرلمان، فوجد تعاطفا من بعضهم. ولكنه قبل أن يربح القضية وقع اغتياله. والحادثة الثانية نجدها في تعليق إحدى الجمعيات الفرنسية (جمعية ماسونية؟) التي ادعت أنها دافعت عن عباس بن حمانة واستطاعت إخراجه من السجن. ونحن نفهم من هذا السياق أن ابن حمانة قد زج به في السجن، ربما بعد غلق المدرسة، وربما للنزاع السياسي بينه وبين ابن علاوة. فهذه الجمعية التي تسمى (جمعية حقوق الإنسان) زعمت أنها تدخلت في قضيته لأن حاكم تبسة قد اتهمه (ظلما وجورا ورماه في السجن) فعملت لصالحه إلى أن استطاعت أن تظهر ظلم الحاكم وبهتانه وبراءة عباس وتخليصه من السجن (1).

وهكذا فقد كانت تجربة عباس بن حمانة رائدة فعلا، ولكنها رمزية فقط. لأنها في الواقع كانت تجربة قصيرة. غير أنها أوحت لغيره بالتعلم والاستفادة منها بطريقة أكثر نجاحا. ولعل الشيخ العربي التبسي، الذي درس في زاوية نفطة ثم في جامع الزيتونة، كان متأثرا بذلك النموذج حين أنشأ مدرسة البنين والبنات في تبسة بعد رجوعه من مصر.

ولكن قبل ذلك علينا أن ندرس تجارب أخرى في المدرسة الحرة العصرية. وهذا الشيخ عبد الحميد بن باديس، بدأ حركة التعليم الحر أثناء الحرب العالمية - منذ 1913 - . بدأ بالمسجد الحر، وانتهى بالمدرسة،

(1) انظر مجلة (الشهاب) عدد يونيو 1930، ص 313. ولا نذكر المناسبة التي ورد فيها هذا الخبر الذي صادف مرور مائة سنة على الاحتلال. وقد تأسست جمعية حقوق الإنسان في فرنسا سنة 1898 على أثر حادثة الضابط دريفس DREYFUS الفرنسي اليهودي في الجيش. ويبدو أنها كانت تحارب معاداة السامية التي ظهرت في الجزائر في ذلك التاريخ (1898) وما بعده على يد رئيس بلدية الجزائر عندئذ، ماكس ريجس M.REGIS، وقد تكون جمعية ذات اتجاه ماسوني/ صهيوني.

ص: 246

مدرسة التربية والتعليم. وكانت هذه المدرسة في الحقيقة نموذجا احتذاه تلاميذه في الجهات الأخرى من الوطن، كما كانت نموذجا للمدرسة الحديثة عند جمعية العلماء بعد ميلادها سنة 1931. ومن الذين فعلوا ذلك، الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي أنشأ بتبرعات السكان، مدرسة دار الحديث بتلمسان سنة 1937. ويدخل في هذه النماذج للمدرسة الجديدة معهد الحياة بالقرارة الذي تأسس سنة 1925 بأموال السكان أيضا. وكل هذه المدارس كانت من أجل التعليم العربي والإسلامي بطريقة عصرية مستفيدة من تجارب الشرق في المحتوى والفكر وتجارب الفرنسيين في المنهج والبناء والإدارة. وكانت دار الحديث قد أحيت أيضا الطراز العربي الإسلامي في الشكل الهندسي، وللإنصاف نقول أن هذا الشكل قد شجع عليه الحاكم العام جونار قبل ذلك بثلاثة عقود، وتمثل في المدرسة الثعالبية ومدرستي قسنطينة وتلمسان الرسميتين.

ولم يكن هدفنا دراسة هذا الموضوع بطريقة الحوليات، ولكن إعطاء الرواد حقهم واجب هنا. ذلك أن إنشاء المدرسة الحرة كان يتطلب الحافز الفكري والوطني، كما يتطلب المال والمعلم والمكان والبرنامج. والمال لا يمكن أن يوفره فرد أو هيئة صغيرة، كما دلت التجارب الكثيرة. ومع ذلك غامر بعضهم بإنشاء المدرسة الحرة فاعتبر (بطلا)، ولكن المحاولة كانت فردية وقصيرة الحياة.

على إثر الحرب العالمية الأولى ظهرت في مدينة الجزائر عدة محاولات لإنشاء المدرسة القرآنية العصرية - كما كانت تسمى - ويعتبر الشيخ مصطفى حافظ أول من فعل ذلك، حسب علمنا، بعد تجربة ابن حمانة. هذا (الشاب)(1) الذي تخرج من مصر ورجع إلى وطنه بفكرة إصلاحية، وهي تطوير المدارس القرآنية بعد أن اعتراها الهرم في أسلوبها القديم. وكان حافظ فيما يبدو متأثرا بما رأى في مصر من إنشاء المدرسة العربية - الإسلامية، على

(1) سماه كذلك، محمد العابد الجلالي في (تقويم الأخلاق)، سنة 1927، ص 172.

ص: 247

أنقاض الكتاتيب (1). ويقول المرحوم أحمد توفيق المدني: أن مصطفى حافظ أول من فكر في التعليم الحر، أي التعليم القرآني المنظم. ولكن المدني لاحظ أن مشروع مصطفى حافظ كان فرديا، فولد ضعيفا وبقي ضعيفا (2).

أسس مصطفى حافظ مدرسة سماها (الفلاح)، وهو اسم استفتاحي معبر، وفيه رمز ديني وفهم صوفي واضح. وأنشأ لها أيضا جمعية سميت جمعية الفلاح، استطاعت أن تجمع للمشروع أربعمائة (400) ألف فرنك لبناء محل خاص (مدرسة) للتعليم العربي، وشراء دار لاستعمالها كمقر رسمي لهذه الجمعية، ولإيواء التلاميذ الذين لا يجدون مكانا لهم في المدارس الدينية المسيحية، وتعليمهم القرآن والعلوم العربية والإسلامية بطريقة حديثة (3). ويقول محمد العابد الجلالي عن مصطفى حافظ أنه قضى في مصر مدة وأخذ العلوم هناك ثم رجع إلى الجزائر. ففكر في وسيلة تفيد الأمة (الشعب)، فوجدها في إنشاء (مدرسة قرآنية) تفيد الأطفال، ولما فعل ذلك هرع الناس إليه واتضحت لهم نتائج أعماله. ووصفه بالشاب النشيط و (البطل) وقال أن من حق العاصمة أن تفتخر به. وقد زار الجلالي هذه المدرسة حوالي 1925 والتقى بصاحبها فأطلعه على برنامج المدرسة، كما وزعه على أيام الأسبوع، ووجده الجلالي برنامجا جيدا، في نظره، كما وجد الشبيبة (تفيض أعينهم بالأمل البعيد والقريب)(4).

ولا ندري كيف انتهت تجربة مصطفى حافظ الرائدة أيضا، غير أننا نعرف أن مدرسة أخرى ظهرت في العاصمة حوالي نفس الوقت. ونعني بذلك (مدرسة السلام) الحرة التي تأسست سنة 1930. وكانت معدة لتعليم البنين والبنات، ومتخصصة للتعليم العربي الإسلامي والمبادئ الدينية.

(1) أشار إلى ذلك الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين في الجزائر 1905 ة سيما عبد العزيز جاويش ومحمد فريد.

(2)

أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ط.2.

(3)

نفس المصدر.

(4)

محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق) ص 172.

ص: 248

وكانت لها جمعية برئاسة السيد عمر إسماعيل، تسمى (جمعية السلام) وتضم نحو 200 تلميذ (1).

أهم مدرسة للتعليم العربي الحر ظهرت في العاصمة هي مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترجع أهميتها إلى نتائجها وطول مدتها واندماجها في إحدى مراحلها في الحركة الإصلاحية. وكان ظهورها سنة 1927 على يد جمعية تحمل نفس الاسم، ويرأسها السيد محمد علي دامرجي، وتضم عناصر من المحسنين والغيورين على اللغة العربية والقرآن والدين الإسلامي. وقد لعبت هذه المدرسة دورا رئيسيا في الحياة الثقافية والتربية والتعليم، سيما بين الحربين. ولا ندري من أدار المدرسة أول مرة، ولعله الكاتب والصحفي الشهير عمر بن قدور. ويبدو أن مدته، إذا كان هو، لم تطل، ولا ندري لماذا. أما الذي تولاها وطالت مدته فيها وأشهرها واشتهر بها فهو الشاعر العظيم محمد العيد آل خليفة. وقد تحدثنا في كتابنا عنه وعن ظروف تعيينه فيها ودوره وتنشيطه لحياة التلاميذ والمدرسين. إنما نريد أن نذكر هنا ما يفيد موضوعنا فقط، وهو أن كلمة (الشبيبة) كلمة سحرية في ذلك الوقت، وهي تعني النهضة واليقظة، كما تعني الأطفال والفتيان والشبان، إنها تعني جيلا من الأبناء الذين انهمكوا في إعداد مستقبلهم بالتربية والتعليم. وفي الشباب الحيوية والطموح والمستقبل. فالذين اختاروا هذا الاسم لم يكونوا غافلين عن معانيه المذكورة خلال العشرينات.

بناء على رسالة (وثيقة) الدعوة التي وجهها رئيس الجمعية إلى محمد العيد، فإن مواد الدراسة هي: القرآن الكريم، واللغة العربية، والنحو والصرف، ومبادئ العلوم الدينية، والجغرافية، والحساب، ومبادئ علم الصحة. على أن يتم تعليم هذه المواد (بأساليب تعليمية عصرية). كان

(1) أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور) ج 5، سنة 1348 هـ. وفيه مقال بعنوان (مدرسة السلام والتعليم العربي في الجزائر) ص 304 - 307. وفيه صور للمجلس الإداري وللتلاميذ والمدرسين. وفي هذا المقال إضاءة هامة عن حالة التعليم العربي قديما من وجهة نظر معاصر.

ص: 249

الهدف من التربية والتعليم في هذه المدرسة هو (تهذيب الأخلاق)، وتثقيف الأفكار بالكيفية المستعملة بالمشرق، وهذا يدل على تأثر المخططين لهذا النوع من التعليم بتجربة المشرق في التعليم العربي الإسلامي على أسس حديثة، كما ذكرنا. وتهتم الجمعية ومدرستها بالمواسم الدينية، وهي عيد الفطر (سبعة أيام دون الجمعة والاثنين)، ومثله عيد الأضحى، وخمسة أيام للمولد النبوي، ويومان لعاشوراء، أما الراحة الأسبوعية فالجمعة والإثنين. وقد ختمت الدعوة بهذه العبارات الدالة على المشروع والهدف منه، وهي:(أملنا أن تشاركونا في مشروعنا الخيري الجليل، ألا وهو خدمة الدين والوطن وبث اللغة العربية)(1).

بعد حوالي سنتين من إنشائها أخبر الشيخ المدني أن في مدرسة الشبيبة حوالي مائتي تلميذ. وكانوا بين بنين وبنات. وكان فيها على الأقل أربعة مدرسين نعرف منهم عندئذ: محمد العيد (المدير) والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، والشيخ محمد الهادي السنوسي، وآخر لا نعرف اسمه، حسب بعض الصور. وقد وصف الشيخ الجيلالي بأنه مدرس القسم الابتدائي والشيخ السنوسي بأنه مدرس القسم العالي (2). ويبدو أن الذين وضعوا برنامج مدرسة الشبيبة الحرة وضعوه على نمط المدرسة الشرعية الرسمية بالجزائر ذات القسمين أيضا (الثانوي والعالي). ونعلم من بعض المصادر أن مكان مدرسة الشبيبة كان يقع فوق حديقة مرنقو، قرب ضريح الشيخ الثعالبي، وهي

(1) نص الدعوة أو الرسالة مطبوع في كتاب محمد بن سمينة (محمد العيد آل خليفة)، الجزائر، ص 159، تاريخ الرسالة 7 جوان (يونيو)1927. عن الشبيبة انظر أيضا خطاب الشيخ الطيب العقبي في جريدة (الأمة) لأبي اليقظان، 15 ديسمبر 1936.

(2)

المدني (تقويم المنصور)، مرجع سابق. يقول هذا المصدر أن الحكومة العامة كانت تقدم مساعدة مالية سنوية لمدرسة الشبيبة. كانت لهذه المدرسة سمعة خاصة حتى عند الشرطة الفرنسية. وأذكر أنني عندما كنت معلما في مدرسة الثبات بالحراش (قرب العاصمة) شتاء 1954 - 1955 داهمنا البوليس ليلا وسألونا، أنا وزميلي الأزهاري، عن عملنا ومكانه. فقلنا لهم إننا معلمون في مدرسة الشبيبة فتركونا في حالنا بينما الواقع أننا كنا نعلم في إحدى مدارس جمعية العلماء التي لا ترضى عنها الشرطة.

ص: 250

ملاصقة لثانوية عقبة بن نافع اليوم، ولكن لها ممر خاص، وقد دخلناها. ومن جهة أخرى حاولت الإدارة الفرنسية إدخال اللغة الفرنسية في برنامج مدرسة الشبيبة فرفضت إدارتها الأولى وتعللت بشتى العلل، ثم بعد ذهاب الشاعر محمد العيد منها، حوالي 1940، ومجيء إدارة جديدة، فرضت فرنسا لغتها على هذه المدرسة، إلى أن أصبحت كغيرها من المدارس التي تشرف عليها الإدارة. ومع ذلك بقي لها اسمها التاريخي.

تكاثرت المدارس الحرة العصرية منذ العشرينات، وتبناها الشعب وأقبل عليها إقبالا كليا، فقد وجد أولا في جهود بعض الأغنياء والمحسنين أمثال الدامرجي وعمر إسماعيل، وحماس الغيورين أمثال مصطفى حافظ، وابن باديس، والطيب العقبي، ومبارك الميلي، والتبسي والإبراهيمي والهادي الزروقي، وعشرات المعلمين الجنود الذين انتشروا في الجزائر، يعلمون القرآن واللغة العربية وعلوم الدين بأسلوب عصري وأماكن جديدة وروح متحمسة للمستقبل. وقد استفادوا، كما قلنا، من التجربة الفرنسية المجاورة لهم، وفيهم من سبق له دخول المدرسة الفرنسية أو من له أقارب بها، ولكن أغلبهم كانوا من خريجي المدارس والزوايا القديمة أو مدارس تونس والمشرق، وكانوا متشبعين بروح الإصلاح والنهضة فتطوروا بسرعة وواكبوا الحياة في سيرها الطبيعي.

والنموذج الذي تكرر في كل مكان هو هذا: جمعية محلية تنشأ من الأعيان في القرية أو الدوار، وتجمع المال بالتبرع ونحوه، وتحضر المكان الذي قد يكون دارا مكرية في البداية، ثم مدرسة عصرية في النهاية. وكانت الجمعية إما أن تبحث عن المعلم فتجده بنفسها وتعرض عليه التعليم والأجر والإقامة، وإما أن تراسل الشيخ ابن باديس، بعد اشتهار جمعية ومدرسة التربية والتعليم (1)، ليرسل إليها أحد المعلمين من طلابه. وبعد تأسيس

(1) وجدنا في سريانة ناحية باتنة وثيقة عند إحدى العائلات الدينية بقلم ابن باديس يطلب فيها سرا الإعانة لمشروعه التعليمي عن طريق الدين أو السلفة، على أن يرد ذلك في وقت ذكره، كما ذكر ابن باديس أسماء بعض الذين سلفوه أو تبرعوا له.

ص: 251

جمعية العلماء وإنشاء لجنة التعليم فيها أصبحت المطالب من الجمعيات المحلية تأتي إلى إدارة جمعية العلماء التي كانت تتولى اختيار المعلمين وتوجههم إلى الجهات الطالبة، ليدرسوا حسب البرنامج الذي أعدته جمعية العلماء نفسها، وهو برنامج وطني في صميمه، يقوم على هذا الشعار: الإسلام ديني، والجزائر وطني، والعربية لغتي. وبذلك تصبح جمعية العلماء هي الضامنة في المعلم وفي المستوى، أما التكاليف المادية فتتولاها الجمعية أو الشعبة المحلية المستقبلة.

والتعليم عند العلماء يقوم على مبدإ (الإحياء): إحياء الدين وإحياء اللغة وإحياء الوطنية. وهم كانوا يعتقدون أن مائة سنة من الاستعمار الفرنسي قد غيبت تلك المقومات الأساسية للهوية. واستعملوا عبارات أخرى مثل الطمس والمسخ كوسائل لجأت إليها الإدارة الفرنسية للقضاء على تلك المقومات. ولذلك كانت رسالتهم تتلخص في عملية الإحياء، وليس من غرضنا هنا دراسة فلسفة العلماء ومبادئهم الإصلاحية - وقد درسنا ذلك في غير هذا الكتاب - وإنما هدفنا الآن دراسة دورهم في التعليم العربي الحر المغطى بشعار الإحياء الإسلامي والوطني.

يذهب علماء الاجتماع الفرنسيين، أمثال أوغسطين بيرك A.Berque، إلى أن التعليم الذي نشره العلماء كان يقوم على ربط الجزائر بالمشرق حضاريا وسياسيا. وقد استعمل العلماء لذلك سلاح الهجوم اللغوي والهجوم العقدي ضد فرنسا. وتحول التاريخ عندهم إلى تمجيد للشرق ومعاداة للغرب. ونشروا بين أطفال المدارس فكرة الخروج عن التقاليد البالية والاقليمية الضيقة، والانتماء إلى الإسلام العالمي. وكان على تعليم الزوايا أن ينافس تعليم المدارس الحرة إما بالازدياد في (التعصب) وإما بالاندماج في نفس برنامج العلماء بكل صراحة. وهكذا تبينت فرنسا أن كلا التعليمين خطر عليها. ومرة أخرى عبر بيرك عن كون التعليم الذي نشره العلماء كان مشرقيا بالمكشوف - بصراحة -. واستشهد على ذلك بالتعليم الذي نشرته مدرسة دار الحديث في تلمسان ومدرسة الفلاح بوهران ومدرسة التربية

ص: 252

والتعليم في قسنطينة (1).

هذا من الناحية النظرية، أما عمليا فالمعروف أن زعماء العلماء كانوا في أغلبهم من خريجي المعاهد الإسلامية في تونس والمغرب والمشرق. وكانوا متمردين على الحكم الفرنسي لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية. فالتوظيف كان محتكرا من قبل خريجي المدارس الفرنسية، والجزائر كانت تفتقر إلى معهد عال للثقافة العربية والإسلامية. والإدارة كانت هي المستولية على الأوقاف والشؤون الإسلامية وتعيين الأيمة والمدرسين، بينما المرابطون ورجال التصوف قد وضعتهم الإدارة في خدمتها وسيطرت بهم على العامة. فكان ظهور زعماء العلماء قد خضخض هذا الوضع وأبان عن الاختلال الخطير في العلاقات. ورغم أن تعليم العلماء كان بعيدا عن اللغة الفرنسية فإنهم تسامحوا مع من تعلم هذه اللغة بل وجهوا أبناءهم إلى تعلمها في المدارس الفرنسية. وكان هذا من تناقضات حركة التعليم عند العلماء. وبتقادم العهد استطاعوا أن يجلبوا إلى صفوفهم أنصارا من المتعلمين في المدارس الفرنسية اقتناعا من هؤلاء الأنصار بالحداثة التي دعا إليها العلماء والتجديد الإسلامي، وربما كان في ذلك نوع من (الاختراق) أيضا، وقد حدث مثله في صفوف جبهة التحرير أثناء الثورة ثم الحركة الاسلامية المعاصرة.

وقد جمع العلماء بين التدريس التقليدي في المساجد، باسم دروس الوعظ والإرشاد، وبين التدريس في المدارس الحرة الحديثة. فهم في الواقع كانوا يمثلون مرحلة العبور في التعليم الحديث. وكانت دروس المساجد موجهة في أغلبها إلى العامة ولكن بمحتوى وأسلوب يختلف عن محتوى وأسلوب مدرسي المساجد الرسميين. فالعلماء كانوا يتناولون موضوعات معاصرة ويوظفون لها الشواهد من القرآن والسنة والتاريخ، وبأسلوب حي يهدف إلى التوعية والنهضة. أما التعليم في المدارس الحرة، وهو المقصود

(1) انظر مقالته الهامة (أسرى القداسة) في (مجلة البحر الأبيض) المجلد 10، 1951.

ص: 253

هنا، فقد كان يهدف إلى الإحياء الثلاثي الذي أشرنا إليه (الإسلام، الجزائر، العربية)، وهو موجه أساسا إلى الأطفال الذين حرموا من التعليم في المدارس الفرنسية. وكان العلماء ينافسون بمدارسهم المدارس الفرنسية، ولكنهم لا يعارضونها، فبرنامجهم كان يخضع لبرنامج وتوقيت هذه المدارس، وهم يعلمون التلاميذ الذين يذهبون إلى المدارس الفرنسية أيضا ويوفقون بين توقيتهم هنا وهناك. وكان ذلك على حساب التلاميذ أحيانا إذ كان عليهم أن ينهضوا أو يناموا ويعملوا في أوقات ضيقة جدا. أما التلاميذ الأحرار فليس هناك مشكل بشأنهم. غير أن التنافس بين التلاميذ في النوعين من المدارس قد أحدث غيرة وشعورا بالتعالي والتمايز من الطرفين.

ولم يكن العلماء قد وضعوا كتبا ومقررات جديدة تتلاءم مع طموحهم في حركة الإحياء. فاعتمدوا في البداية على تقليد المعاهد الإسلامية. كانت معظم الكتب التي تدرس في مدارس تونس ومعاهدها كالزيتونة، وبعض معاهد الشرق ومدارسه تطبق في مدارس العلماء أيضا. وكان العلماء قليلي العدد في البداية وإمكاناتهم في التأليف والطبع ضعيفة، ولذلك كانوا يلجأون إلى الإملاءات. وبمرور الزمن أصبحت مدارس العلماء تتوفر على معلمين قادرين على التأليف حسب التجربة المحلية. فالكتب تحتوي على تعابير وأمثلة لا تتلاءم مع المتعارف عليه في البيئة الجزائرية. وهكذا ظهرت - سيما بعد الحرب العالمية الثانية - مؤلفات مدرسية في مختلف الفنون من الإنتاج المحلي. على أن ذلك لا يعني الاستغناء تماما عن التأليف المشرقي.

بالإضافة إلى المواد التقليدية من علوم الدين وعلوم اللغة، اهتم العلماء بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الجزائر وجغرافيتها. وكان الفرنسيون قد أهملوا ذلك أو أدمجوا التاريخ والجغرافية في البرنامج الفرنسي على أن الجزائر جزء من فرنسا. أما العلماء فقد ركزوا على إحياء التاريخ الإسلامي ودور العرب والحضارة الشرقية، وخصائص الجغرافية الوطنية والسكان وارتباطاتهم اللغوية والعرقية والدينية والطبيعية على أنهم يمثلون وحدة وطنية. كما وظف العلماء في مدارسهم العلوم الحديثة المكملة مثل الرياضة

ص: 254

والموسيقى والتمثيل والأناشيد. ولا شك أن ذلك جاء من تنافس مدارسهم مع المدارس الفرنسية وتمشيا مع روح الحداثة، وربما كان ذلك نتيجة حالة الاختراق التي أشرنا إليها.

تطورت حركة التعليم في عهد رئاسة الإبراهيمي لجمعية العلماء، سيما منذ 1947 فأصبح للتعليم لجنة عليا تشرف عليه وتوجهه وتوظف المعلمين وترتبهم وتحدد رواتبهم وطبقاتهم وتعييناتهم وانضباطهم وترقياتهم. وكذلك تشرف على المدارس ومراسلاتها والمديرين ومسؤولياتهم. وهذه اللجنة هي التي تحدد أيضا الكتب المقررة وأوقات الراحة الفصلية والسنوية. وقد مجدت المدارس المواسم الدينية والتاريخية، وهو أمر داخل في عملية الإحياء المشار إليها. وعمل في هذه اللجنة عدد من مزدوجي اللغة مثل إسماعيل العربي والحفناوي هالي وإبراهيم مزهودي، كما عمل فيها وحيدو اللغة (العربية) مثل عبد القادر الياجوري ومحمد خير الدين والعربي التبسي. ومما يذكر أن الشيخ التبسي أصبح هو مدير معهد ابن باديس ونائبه هو محمد خير الدين. وذلك يدل على الاهتمام الذي أعطاه العلماء لهذا المعهد. كما كان الأديب المعروف، أحمد رضا حوحو (وهو مزدوج اللغة) هو الكاتب العام للمعهد.

وكان الشيخ التبسي قد ولد سنة 1895 في البادية (في خيمة من الشعر) وتعلم على والده، ثم حفظ القرآن وبعض العلوم في زاوية خنقة سيدي ناجي، ومنها إلى زاوية نفطة. وفي كل زاوية قضى نحو ثلاث سنوات. ومن نفطة توجه إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة، حوالي 1913، وهي السنة التي ذهب فيها ابن باديس إلى المشرق. وتعاصر الشيخ التبسي في الزيتونة مع زميل له، وهو مبارك الميلي الهلالي، وكان القدر قد خطط لكل منهما دورا في خدمة التعليم والإصلاح. ولا ندري لماذا لم يتجند التبسي للخدمة العسكرية الإجبارية عندئذ، هل لوجوده في تونس أو لأسباب أخرى. أما منذ 1920 فقد ذهب التبسي إلى مصر ودرس في الأزهر. وكان سفره بدون جواز سفر وفي حالة تخف. وقد قضى في مصر سبع سنوات وتخصص في الشريعة وحصل

ص: 255

على العالمية. وفي 1927 رجع إلى الجزائر دون أن يزور أي مكان آخر (1).

بدأ حركة التعليم في تبسة. وربما كان ذلك بإيعاز من ابن باديس. وقد وجد الشيخ التبسي حركة التعليم نشيطة. فاستعمل المسجد. ولما ضايقته الإدارة أشار عليه ابن باديس بالتوجه إلى سيق غربا، وهي المدينة التي طلب أهلها من ابن باديس إرسال معلم إليهم. وظل الشيخ التبسي يتردد بين تبسة وسيق بضع سنوات. وفي أثناء ذلك تبرع أحد أبناء تبسة المحسنين (الحاج الحواس) بدار له فحولها الشيخ التبسي إلى مدرسة وجلب إليها أربعة معلمين. وهكذا أصبحت مدرسة ابتدائية تضم حوالي 400 تلميذ. ولما ضاقت الدار، بنى أهل تبسة (مدرسة البنين والبنات) سنة 1934 تحت رعاية الجمعية الخيرية (تأسست سنة 1932)، وكان رئيسها هو الحاج الحواس نفسه. وقد واصل الشيخ التبسي إدارة هذه المدرسة إلى 1947 حين أصبح مديرا لمعهد ابن باديس (2). إن هذه ليست ترجمة لحياة الشيخ التبسي، ولكنها سطور تعكس مسيرة العلم والتعليم في عهد جمعية العلماء وكيف أصبح ابن الخيمة هو أحد أبرز أعضاء هذه الجمعية، فتولى نيابة رياستها وإدارة معهدها والتحدث باسمها أيام الثورة إلى أن استشهد.

وكان كفاح العلماء مريرا في مصارعة الإجراءات الإدارية ضد المدارس والمعلمين بالعربية. ولا نريد أن نتبع ذلك في كل مراحله لأن ذلك يطول، ولكننا نكتفي بالإشارة إلى منشور ميشيل سنة 1933 وقرار رينيه 1938 فكلاهما ضيق الخناق على المساجد الحرة والمدارس التي تعلم بالعربية، وكذلك على المعلمين بدون رخصة إدارية (3). وقد جند ابن باديس قلمه

(1) قام بزيارات للمشرق وأدى فريضة الحج في عهد لاحق.

(2)

يقول محمد علي دبوز (أعلام) 2/ 33 أن المدرسة استمرت إلى 1956 حين احتلها الجيش الفرنسي. وقد استشهد الشيخ التبسي سنة 1957 بعد اختطافه في العاصمة على يد مجهولين فرنسيين يظن أنهم من فرقة اليد الحمراء الإرهابية.

(3)

انظر ذلك في كتابنا الحركة الوطنية ج 3. وقد درس رابح التركي مسألة التعليم بتفاصيل كثيرة في كتابه (التعليم القومي)، فليراجع.

ص: 256

وحنكته وسمعته لرفع الضيم عن المدارس والمعلمين. فاحتج بأسلوبه الخاص، وخاطب (الديموقراطيق) الفرنسية بعبارات استنكارية، ونادى على كل الجزائريين مهما كانت مواقعهم ليتحركوا ضد ما يحاك لدينهم ولغتهم. فوجه كتابا مفتوحا إلى النواب (الأحرار)، وآخر إلى قضاة الشرع الإسلامي، وثالثا إلى معلمي الفرنسية الأحرار، ورابعا إلى جمعية قدماء المحاربين، طالبا منهم الوقوف ضد قرار رينيه (8 مارس 1938) القاضي بطلب الرخصة لمعلمي المكاتب (المدارس) العربية رغم أن طلب الرخصة لا يجاب، ولاستنجاد بهم، وتذكيرهم بدورهم أمام الله وأمام الأمة (1). وفي هذه الأثناء كتب ابن باديس مقالته (يالله للإسلام والعربية في الجزائر - كل من يعلم بلا رخصة يغرم، ثم يغرم ويسجن

كل من يطلب الرخصة لا يجاب، هذا عمل الإدارة الكثير المتكرر) (2). وقد اطلعنا على رسالة بعث بها ابن باديس إلى أحد المعلمين، اسمه محمد شوفان. يستأذنه في نشر جوابه بالبصائر ليكون عبرة ضد من يحاول منع الناس من تعلم لغتهم ودينهم. وأشار عليه ابن باديس بطلب الرخصة أولا فإن منعت عنه فليعلم وليستعد للمحاكمة (والمخالف للقانون حينئذ هو الذي يمنع الرخصة من أهلها)(3).

كما كتب ابن باديس مقالته (ماذا في الجنوب: اندجينا جديدة بعد 108 سنوات)، وهي عن منشور الحاكم العام إلى حكام الجنوب بالقبض وسجن كل طالب (معلم) منسوب إلى الجمعية حال جولانه باسمها أو دعوته إليها (4). وقد استمرت هذه المصارعة بين الجمعية والإدارة الفرنسية إلى قيام الثورة عام 1954، ولكن بدرجات متفاوتة وبأساليب مختلفة. وفي كتابات الإبراهيمي بعد 1947 ومحاضر الجمعية ما يلقى أضواء على هذه القضية.

(1) البصائر 22/ 4/ 1938.

(2)

نفس المصدر، 8 أبريل، 1938.

(3)

الرسالة بتاريخ 22 يوليو، 1939، وقد مكنني من نسخة منها علي امقران السحنوني، بتاربخ 9/ 3/ 1980.

(4)

البصائر 13 مايو 1938.

ص: 257

وقد اهتمت الجمعية بنشر التعليم العربي حتى بين أبناء الجالية في فرنسا. فأرسلت إليهم الوعاظ والمعلمين. وقام هؤلاء بتأسيس بعض المدارس والنوادي. ومنهم سعيد صالحي والفضيل الورتلاني وسعيد البيباني والربيع بوشامة. وتوجد أخبار نشاطهم في جريدة البصائبر. وبعد أن أسس الورتلاني مدرسة التهذيب في فرنسا حوالي 1938، هاجر إلى مصر والتحق بالأزهر وربما ارتبط بحركة الإخوان المسلمين. ولكن الجمعية أعلنت في جريدتها أنه هو رئيس البعثة الموجهة من طرف جمعية العلماء إلى الجامع الأزهر وأنه تقدم لنيل شهادة العالمية وحصل عليها. وفي نفس الخبر أن علاوة الجيجلي قد حصل أيضا على هذه الشهادة (1). ومن ذلك نعلم أن في مصر عندئذ نواة (لبعثة) لجمعية العلماء، ولكننا لا نعرف عدد أفرادها ولا كيفية إرسالهم. فهل كان ابن باديس يخطط في ذلك الوقت لتكوين إطارات في المشرق لتتولى المرحلة الثانية من التعليم الذي بدأه؟ لقد أشرنا إلى أنه كان ينوي أيضا توجيه (بعثات) نسائية إلى دمشق. وسبق له أن وجه تلاميذه إلى جامع الزيتونة. ومهما كان الأمر فإن إعلان الحرب ثم وفاته (1940) قد أوقف مشروع البعثات إلى المشرق. ولم تستأنفه الجمعية إلا في أوائل الخمسينات مع خريجي معهد ابن باديس. وقد أشرنا إلى ذلك.

ولا يفهم من هذا إن كل المدارس الحرة التي أنشئت كانت تحت لواء جمعية العلماء، إنما كان ذلك هو الغالب. فقد أنشئت مدارس حرة دون وضعها تحت جمعية العلماء إما لعدم اقتناع مؤسسيها بحركة الإصلاح، وإما لخوفهم أو الخوف على مشروعهم، من انتقام السلطة الفرنسية إذا انضموا للجمعية، وقد اضطهدت الإدارة الفرنسية من ينضم لجمعية العلماء ومن يطبق برنامجها ومن يقرأ جرائدها الخ. ولذلك فضل الآخرون العمل المستقل. وكانت الجمعية أحيانا تحرض على ذلك، لأن المهم عندها هو نشر التعليم ويقظة الناس، وكثيرا ما استعملت هي ومراسلوها التقية والتخفي

(1) نفس المصدر، 11 غشت، 1939.

ص: 258

والرمز في ذلك، فتكون المدرسة مستقلة عن الجمعية ومع ذلك تطبق برنامجها. وكانت الجمعية وصحفها تتولى الكشف عن اضطهاد المعلمين، سيما في الأرياف النائية حيث المتصرفون الإداريون المستبدون يحكمون بأمرهم، بقطع النظر عن كون المعلم تابعا أو غير تابع للجمعية.

في حدود 1931 كتب الشيخ أحمد توفيق المدني أن هناك حوالي 300 مدرسة قرآنية على النمط الجديد. وذكر أن من أحدثها المدرسة الخلدونية ببجاية التي أسسها الشيخ الهادي الزروقي، خريج الأزهر وحفيد الإمام أحمد زروق البرنوسي (1)، وكذلك مدرسة الإخاء في بسكرة. وكل هذه المدارس كانت من تبرعات المحسنين. وذكر نفس المصدر أن عدد التلاميذ كان يقدر عندئذ بحوالي ثلاثة آلاف تلميذ. ولكن هذا عدد ضئيل بالنسبة لمجموع التلاميذ الذين كانوا في سن التعليم، وهو 780 ألف، حسب الشيخ المدني نفسه (2).

انتشر التعليم التطوعي حتى أصبح ظاهرة ملفتة للنظر بين الحربين.

فكل من له القدرة على التدريس، وكان ذا نفس طموحة انتصب في مسجد، فإن لم يجد ففي منزل تبرع به صاحبه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك جلس في فناء داره. وقد رويت لنا قصص مدهشة على ذلك، أنها (حملة) للتنوير والضوء. وكم تحمل أصحابها في سبيلها الضنك والعناء. فالنظر الشزر من خصوم التعليم، والشبهات كانت كثيرة. وكذلك الحرمان من الوظيف والأجور، فهؤلاء ليسوا موظفين عند الدولة ولا مأجورين عند العامة لأنه ليس هناك جمعيات محلية دعتهم للتعليم. ومن الأمثلة التي يذكرها أهل بلدتنا قمار حركة التعليم التي نشرها الشيخ عمار بن الأزعر قبل هجرته إلى

(1) انظر ما كتبه عنه الشيخ أبو يعلى الزواوي الذي عرفه في القاهرة أثناء الحرب العالمية الأولى.

(2)

المدني (كتاب الجزائر). وقد ذكرنا أن عدد التلاميذ الذين كانوا في سن المدرسة سنة 1936 هو 620.000، حسب مجلة (إفريقية الفرنسية)، يوليو 938 1. انظر أيضا فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

ص: 259

الحجاز سنة 1935، فقد كان متطوعا بدروسه وكاد لا يجد المكان الذي يلتقي فيه بتلاميذه، وكان رغم علمه، وهو خريج جامع الزيتونة بشهادة التحصيل (التطويع)، مطاردا من الإدارة الفرنسية ومن بعض أهل الزوايا الذين يرفضون التغيير.

كان الفرنسيون يرقبون هذا التحول في المجتمع الجزائري: من الرفض للتعليم الفرنسي إلى الإقبال عليه، ومن التمسك بالتعليم العربي العتيق إلى المدرسة العصرية الحرة. ومن التردد واللامبالاة إلى الإقبال والعزم والاهتمام بالنهضة والحياة والمستقبل. كان بعضهم لا يرى أكثر من موقع رجليه، ولكن بعضهم كانوا دقيقين حذرين، لا يخطبون ولا يزمجرون، فهم يضعون أيديهم على المكامن ويفتحون أعين قومهم على مواضع الداء. ومن هؤلاء بدون منازع جوزيف ديبارمي الذي كان في هدوئه وملاحظاته من موقعه في متيحة وصلته بالمدرسة والتعليم يكتشف عمق التجربة الجزائرية وتحولاتها منذ أوائل القرن. وتشهد كتاباته كلها على ذلك. ومنها مقالته التي سماها (رد الفعل اللغوي) (1). كيف وقع هذا التحول من (المسيدات) إلى المدارس الحرة العصرية؟ أليس ديبارمي هو الذي علمه قومه (وهو تلميذ المستشرق رينيه باصيه) أن الجزائريين لا يريدون التعليم وليس لهم قابلية فيه ولا الإقبال عليه؟ يقول ديبارمي ما خلاصته: لقد تفطن المسلمون (الجزائريون) إلى أن الدولة الفرنسية لم تستجب لدعوتهم في التعليم الحر (نظرا لقيود قانون 18 أكتوبر 1892) فتنادوا للتخلص من مكاتبهم (مدارسهم القرآنية) التعسة حسب رأيه، ومسيداتهم القديمة وزواياهم البالية، ودعوا إلى تعليم يقوم على التبرع بالمال وتنصيب (طالب) في كل دوار يدفع له سكانه أجرة تعليم القرآن، كما كان الحال تقريبا في قديم الزمان.

والكثير من هذه المدارس الحرة كانت مدعومة من الجمعيات الخيرية

(1) نشر هذا البحث الطويل والعميق - رغم ما فيه من نقول واراء - في مجلة S.G.A.A.N (الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال افريقية)، سنة 1931 (بعد مائة سنة على

الاحتلال).

ص: 260

(المحلية) التي لا تهتم بالمعنويات كما هو الحال في الجمعيات الفرنسية (لأن الدولة هي التي توفر ذلك بما فيه التعليم)، ولكنها تهتم بالحالة المادية. كما أن هذه المدارس مدعومة بالجمعيات الأدبية والودادية والشبيبة الإسلامية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الحرب العالمية الأولى قد تولدت عنها أفكار حفزت الأهالي ونورت عقولهم. ومن ذلك ظهور أغنياء أمريكا وتبرعاتهم للجمعيات العلمية. كما أن الصحف قد ذكرتهم بأن الثروات في عهد الخلفاء الراشدين كانت تستعمل أيضا لنشر العلم. وهكذا فإن المؤسسات الإسلامية الخيرية القديمة قد تعصرنت بإنشاء المدارس الحرة، كما ظهرت شخصيات صغيرة الحجم في البلاد تفعل فيها ما يفعله روكفلر في أمريكا (يعني المحسنين الذين تبرعوا للعلم)(1).

وأضاف ديبارمي إن هذه المؤسسات العصرية (المدارس) تتميز عن القديمة بالفكرة والبرنامج والطريقة. وأن الغيورين عليها لا يسمونها اليوم (مسيدات) أو كتاتيب قرآنية، ولكن مدارس بالمعنى القديم (MEDERSAS)، أي مدارس عليا (2). وليس إنشاؤها اليوم بهدف ديني فقط بل من أجل هدف وطني وقومي. ألم تكتب جريدة (النجاح) (3) في عدد 5 يناير 1930 عند افتتاح (جمعية الصفاء) (4) بالعاصمة هذا العنوان:(من أجل نشر اللغة العربية) ثم قالت فيه: إن الهدف من إنشاء هذه الجمعية وطني وقومي، إن الأمة التي ليس لها لغة لذاتها ليست أمة بمعنى الكلمة

(نص طويل). وهاجمت الجريدة نفسها في عدد 9 مارس 1930 تعليم الكتاتيب الذي يبقى فيه التلميذ

(1) لا شك أن ديبارمي يقصد أمثال محمد علي دمارجي وعمر إسماعيل من المحسنين الذين كانوا وراء تأسيس مدرسة الشبيبة، ونادي الترقي ومدرسة السلام.

(2)

المقصود بها المدارس الإسلامية، كما كانت في بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية. وكان في الجزائر منها مدرسة صالح باي (الكتانية) ومدرسة القشاش بالعاصمة والمدرسة المحمدية بمعسكر، ومدرسة مازونة. وقد أبقى الفرنسيون كلمة (مدرسة) La Médersa بالنسبة للمدارس الشرعية الرسمية فقط، وهي ثلاثة، كما ستعرف.

(3)

كانت (النجاح) ذات اتجاه وطني في أول عهدها.

(4)

لا نعرف مصدرا آخر تحدث عنها.

ص: 261

عشر سنوات يحفظ القرآن ثم لا يعرف كيف يفهمه ولا كيف يكتب رسالة، ولا كيف يؤدي وضوءه وصلاته

واستشهد ديبارمي بمقالة أخرى للنجاح في أول مايو 1930 عنوانها (ليلة بدون سوابق في حوليات الجزائر) تحدثت فيها عن مسرحية مثلتها الشبيبة وظهر فيها طفلان بائسان أحدهما ماسح أحذية والآخر حمال، وقد جاءا لمعلم القرآن يطلبان منه الدخول إلى المدرسة فأجلهما لأنه لا يوجد فيها مكان لهما (1).

أما جريدة (البلاغ) فقد هاجمت في عددها الصادر في الثاني من يناير 1930، زوايا منطقة زواوة، وقالت أنها مراكز للجهل والخرافة، وأن الهدف من التعليم فيها هو حفظ القرآن وقراءته على الموتى، وكتابة الحروز، وكان الواجب هو تكوين معلمين بالعربية، ليكونوا أدباء قادرين على قراءة القرآن وكتب آبائهم، والقدرة على الدفاع عن تراثهم وحضارتهم في وجه الحضارة الغربية الغازية. ومن جهة أخرى أعلنت النجاح عن تبرع أحد الجزائريين بـ 350.000 فرنك لبناء مدرسة عليا بالعاصمة، كما تبرع آخر بـ 910555 فرنك لشراء محل واستعماله كمدرسة (2).

إن هذا التحول الذي يشير إليه ديبارمي لم يبدأ في العشرينات، ولكن منذ أوآخر القرن الماضي. وقد أخذ يظهر للعيان في أول القرن. ولكن وسائل الضغط السياسي والمعنوي عند الجزائريين لم تكن متوفرة إلا بعد الحرب العالمية. وكان التحضير للاحتفال المئوي بالاحتلال قد أيقظ النائمين ونبه الغافلين لمخططات الفرنسيين. وهكذا ظهرت الدعوة للإصلاح الاجتماعي والديني، والتربية والتعليم، ولإحياء اللغة العربية والهوية الوطنية. وضمن هذا الزخم ظهرت مدارس جمعية العلماء ببرنامجها الاصلاحي المتطور. ولا نريد أن نتوسع في ذكر هذه المدارس الآن. ويكفي أن نقول أنها أصبحت تعد بالعشرات خلال الثلاثينات. وكانت تشمل البنين

(1) المسرحية معروفة (انظرها في فصل آخر)، والغالب على الظن أنها من تأليف محمد العيد. وقد مثلت بالعاصمة 26 رمضان 1348 (25 فبراير 1930).

(2)

ديبارمي، مرجع سابق، ص 24 - 26.

ص: 262

والبنات. وكان ابن باديس يخطط لتكوين ما أسماه جامعة شعبية أو كلية تكون نواة لاستقبال الذين أنهوا دراستهم الابتدائية والمتوسطة، ثم يأخذ التعليم العربي مجراه في التطور نحو العالي.

وقد حقق خلفاؤه الفكرتين بعده، فأسسوا في قسنطينة (معهد عبد الحميد بن باديس) سنة 1947، كما أرسلوا البعثات نحو الشرق من طلاب المعهد نفسه منذ فاتح الخمسينات. ومن جهة أخرى ربطوا معهد ابن باديس بالجامع الأعظم (الزيتونة) في تونس من حيث الامتحانات والبرامج والشهادات. وإلى جانب ذلك تضاعف تأسيس المدارس الابتدائية العصرية التابعة للجمعية حتى وصل عدد التلاميذ سنة 1954، حسب المصادر الفرنسية إلى 25.000 تلميذ.

ولكن حملة التعليم لم يشارك فيها جمعية العلماء فقط، فقد كانت عامة، وكل على قدر علمه وإمكاناته. حتى بعض الأحزاب السياسية أسست المدارس العربية وملأتها بأنصارها من معلمي العربية، وكانت تتبع في غالبيتها برنامج جمعية العلماء. وسواء كان ذلك من باب التنافس على كسب الأنصار أو من أجل الإيمان برسالة التعليم الحر، أو البحث عن عمل للأعضاء، فإن النتيجة واحدة وهي نشر التعليم العربي والروح الإسلامية بين الجمهور. وقد قدرت المصادر الفرنسية سنة 1954 مجموع التلاميذ الذين يترددون على المدارس القرآنية الجديدة والقديمة بحوالى مائة ألف تلميذ (1).

وإلى جانب معهد الحياة في القرارة ومعهد ابن باديس في قسنطينة ظهر معهد جديد في قسنطينة أيضا سنة 1947. وقد سمي بمعهد الكتانية لأنه افتتح في مدرسة صالح باي الشهيرة بالكتانية، وهي التي آوت المدرسة الفرنسية الشرعية حوالي نصف قرن قبل تأسيس المدرسة الجديدة، في الشارع الوطني. وأحيانا يطلق على المعهد الجديد اسم معهد بلحملاوي (ابن

(1) دير منغام (لجزائر الدينية) في (مدخل إلى الجزائر)، 1956، ص 260.

ص: 263