الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحملاوي)، وهو شيخ الطريقة الرحمانية بوادي العثمانية. ورغم الخلفية الصوفية لهذا المعهد وصلته بالإدارة الفرنسية، فإنه قام برسالة مهمة في خدمة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وضم في أول أمره ثلة من العلماء المعروفين والمشهود لهم بالعلم والتعلم. وكان مديره الأول هو المولود الحافظي عالم الفلك الشهير وخريج الأزهر الشريف. أما نائبه فكان أحمد الجلالي، وكان عمر الجيجلي هو نائب مؤسس المعهد، وشيخ الطريقة هو عمر بن الحملاوي. ومن العاملين في إدارة المعهد عند التأسيس: أحمد بن بسام والطيب كعبش. أما المدرسون فمنهم: الزواوي بن سيدي الشيخ (من عائلة الفكون) وعبد الحفيظ بن الهاشمي، مدير جريدة النجاح، وعبد العالي الأخضري، والطاهر بن زقوطة (1). وقد ربط معهد الكتاني أيضا نفسه بجامع الزيتونة.
معهد بني يسقن وشيخه أطفيش
هو المعهد الذي أسسه الشيخ محمد بن يوسف أطفيش في بني يسقن منذ حوالي 1850 وظل يسيره يسهر عليه إلى وفاته سنة 1914. ولكن قبل أن نتحدث عن هذا المعهد نريد أن نتحدث عن حياة مؤسسه، وهي حياة طويلة وذات شعب، وسنترك التآليف التي تركها الشيخ إلى جزء آخر. ونهتم هنا بنشأته وتعليمه ودوره الاجتماعي والديني والسياسي أيضا، ثم دوره في ميدان التعليم خاصة.
يقسم محمد علي دبوز مراحل النهضة العلمية والدينية في ميزاب إلى خمس، فجعل مرحلة الشباب فيها هي عهد الشيخ محمد بن يوسف اطفيش، أما البذرة فقد كانت للشيخ يحيي بن صالح الأفضلي، وأما النشأة ففي عهد
(1) أخذنا الأسماء المذكورة من أوراق علي امقران السحنوني من وثيقة هي الخطبة الافتتاحية للمعهد سنة 1947 - 1948. وهي في عشر صفحات، وضمنها قصيدة من 18 بيتا كانت ستلقى بالمناسبة. ولا ندري الآن من أين كانت ميزانية معهد الكتاني حتى نعتبره حرا فعلا بالمعنى الذي قصدناه في البداية.
الشيخ عبد العزيز الثميني. ثم تتواصل المراحل إلى عهدي النضج والتمام (1). وتهمنا هنا طبعا المرحلة الثالثة سواء اتفقنا مع الشيخ دبوز على هذا التقسيم أو لم نتفق معه.
ولد محمد بن يوسف سنة 1236 (1818). وهو ينتمي إلى أسرة شريفة ترجع بأصولها إلى بني عدي، القبيلة العمرية، ويقول هو عن نفسه في أرجوزة له:
مع اجتماع في عدي بعمر
…
وبالنبي في لؤي وزمر
وبعضهم يقول أنه من الأسرة الحفصية التي حكمت بعد الموحدين وكان مقر حكمها تونس. ومؤسس هذه الأسرة الحفصية هو أبو حفص عمر الهنتاتي (2)، وهو من قبيلة المصامدة المتوطنة جنوب المغرب الأقصى. وهاجر أحد أجداد اطفيش من الساقية الحمراء واستقر بورجلان (ورقلة). ومنها إلى ميزاب في القرن التاسع الهجري. وجده المعروف (بامحمد) هو الذي حل في بني يسقن وترك بها ذرية. واسم هذا الجد الحاج محمد بن عبد العزيز. أما والده فكان يتاجر بين غرداية ومدن الجزائر الشمالية على عادة أهل ميزاب. ولم تطب له الحياة في بني يسقن. وقد أدى فريضة الحج، ثم توفي في بني يسقن، وترك ابنه محمدا في الرابعة من عمره فتولته أمه وعهدت به إلى مؤدب فعلمه القرآن (3).
ظهرت عليه مخايل الذكاء وحب العلم منذ صغره. وقد درس على مشائخ منهم: محمد آزبار، وعمر بن سليمان والحاج سليمان بن يحيى، وأبو عيسى الداوي. ولكن مورد العلم كان لا يشفي غليله، مع ذلك.
(1) دبوز، نهضة 1/ 289.
(2)
عن أصل الهنتاتي انظر روبير برنشفيك (تاريخ افريقية في العهد الحفصي) ج 1 ترجمة حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986، ص 48.
(3)
فصل الشيخ دبوز حياة اطفيش، فمن أراد التوسع فليرجع إليه. وإنما نكتفي هنا منه ومن غيره بما نعتقد أنه ضروري لكتابنا.
فصادف رجوع أخيه إبراهيم من رحلة علمية في مصر وعمان. فوجد محمد في أخيه المزيد من المعارف التي تطمح نفسه إليها فلازمه حتى حصل منه على ما يعادل الآن المرحلة الثانوية. ومن العلوم التي أخذها عن أخيه علوم الدين والعربية والمنطق والحساب، والفلك والتاريخ. وكانت لمحمد بن يوسف ذاكرة قوية وموهبة عظيمة. وقد استفاد عندئذ من مكتبة أخيه ومكتبة الشيخ الثميني. ورغم صغر سنه فقد اعترف له شيوخه بالقدرة على التدريس ولما يتجاوز العشرين.
منذ حوالي 1840 إذن أخذ محمد بن يوسف يدخل الحياة العامة عن طريق التدريس. وقد ظهر على علماء البلدة ثم على علماء ميزاب، ثم شاع أمره حتى بلغ أقصى الأقطار الإسلامية. وقال بعضهم أنه بلغ درجة الاجتهاد وصار مرجعا في الفتاوى. وبدأ يؤلف وهو في سن العشرين أيضا. واهتم بعلم النحو على الخصوص، وهو علم عقلي يحصن صاحبه من الوقوع في الخرافات. فدرس أعمال المؤلفين المعروفين في النحو. ونظم هو كتاب مغني اللبيب لابن هشام في 5.000 بيت، وهو ما يزال مراهقا. وكان كثير القراءة والمطالعة، وهي عادة لم تفارقه مدى الحياة، وكان يستفيد من ذلك ويؤلف أيضا حتى وهو في حالة سفر.
أما حياة الشيخ محمد بن يوسف العامة فتميزت بإقامة أسرته، وتوليه شؤون العزابة والفتاوى، والتدخل لدى السلطات الفرنسية للمحافظة على تقاليد البلاد وحرمة الدين، والمراسلات مع الشخصيات العلمية والسياسية، كما سنعرف. تزوج الشيخ محمد بن يوسف ثلاث نساء، وقيل أن بعض زواجه منهن كان من أجل المكتبات التي كانت لأهلهن. وترأس العزابة في بني يسقن. وكان لا يتردد على الأسواق ولا يغشى الأفراح. وقد بدأ التدريس في المسجد. وكان له نظام حياة دقيق جدا: يدرس للعامة مع الفجر ويصلي الجماعة، ثم يذهب للتدريس لتلاميذه. وكان له أيضا درسان آخران: درس للعامة بين العصرين، ودرس لكبار التلاميذ المواظبين. وقد خصص وقتا من النهار للإجابة على الأسئلة الواردة إليه. وقال بعضهم أن هذه الأجوبة لو
جمعت لكانت في مجلدات.
يعتبر الشيخ محمد بن يوسف باني النهضة العلمية في المنطقة. وكل من يحاول ذلك تعترضه عراقيل ومثبطات. فقد ظهر أمره في الوقت الذي غشي الجزائر كلها ضباب الجهل والاحتلال. ولذلك كان الشيخ اطفيش ينكر على الناس البدع التي ليست من الدين في شيء. وقد شدد عليهم في ذلك فهددوه حتى بالقتل واتهموه بالزندقة. وانتقد الشيخ أساليب التربية القديمة للأولاد. واضطر إلى الخروج من بني يسقن، فأخذ يتنقل في مدن ميزاب الأخرى، واستقر في البداية في بونورة حيث رحب به عزابتها، كما خرج معه زميله محمد بن ادريسو الذي كان مثله في الرأي والاستقلال. وبعد غيبة عن بني يسقن دامت سنوات، رجع إليها وتولى بها العزابة كما قلنا. وقد زاده ذلك شهرة في المنطقة، وكان لا ينفك أثناء ذلك عن الكتابة والتدريس. ولكنه ليس ابن بني يسقن وحدها، ولذلك أحس أن عليه واجبا نحو المدن الأخرى في ميزاب فأخذ يزورها الواحدة تلو الأخرى: بريان، القرارة، الخ
…
وكان في زياراته يتصل بالعزابة ويلقي الدروس العامة على الرجال والنساء في الوعظ والإرشاد، وكان له درس خاص بالنساء.
كما زار غير مدن ميزاب في المناطق القريبة والبعيدة. زار ورقلة وجال خلال آثار سدراته. وكذلك زار بو سعادة وتوقف بزاوية الهامل وألقى بها بعض الدروس بطلب من شيخها محمد بن بلقاسم (أبي القاسم). وزار قسنطينة ولعله التقي فيها بالشيخ المجاوي وغيره من علمائها. وعرج على سطيف والبرج والجلفة، وعنابة، وقصر البخاري. وكان يلقي دروسا في هذه الأماكن. وقد أدى فريضة الحج مرتين. إحداهما سنة 1886، أي بعد احتلال ميزاب (1882). وقد ركب البحر من عنابة إلى تونس، وأقام في هذه المدينة أياما في ضيافة أهل ميزاب، ولعله لقى بها بعض علماء الزيتونة. وفي الحجاز التقى ببعض العلماء منهم الشيخ الزيني دحلان، وتعرف على أحوال العالم الإسلامي، وألقى دروسا في المسجد النبوي. ولا نعرف أنه زار مصر أو غيرها من عواصم المشرق غير الحجاز، وكان ذلك أيام ظهور الحركة
الإسلامية الجامعة وتأثيرات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
كانت للشيخ محمد بن يوسف مراسلات واتصالات مع عدد من علماء الوقت ورجاله. ويذكر مترجموه أنه التقى بالشيخ محمد بن بلقاسم، كما سبق، وكانت له مراسلات مع الشيخ محمد عبده وعبد الله الباروني (والد تلميذه سليمان الباروني) وشيوخ الجزائر أمثال المجاوي وابن الموهوب. وكانت له أيضا مقابلات مع بعض علماء الفرنسيين أمثال ايميل ماسكري MASQUERY الذي طلب منه كتابة تأليف عن تاريخ ميزاب ففعل.
وإن شيخا بلغ ما بلغه محمد بن يوسف لا يمكن إلا أن يكون له كثير من التلاميذ والأتباع. ولكنه لم يكن شيخ زاوية ولا من دعاة الولاية والتصوف حتى يكون له طريقة أو محفل أو قبة. إنه داعية سلفي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في وقت ساد فيه الجهل بدعم رسمي من الاحتلال. ومن تلاميذه البارزين إبراهيم امتياز وإبراهيم بن الحاج عيسى (أبو اليقظان)، وصالح بن عمر الذي خلفه في إمامة جامع بني يسقن، ويحيى بن عمر قاضي مدينة مليكة، وغيرهم. أما من غير الجزائر فنذكر من تلاميذه سليمان الباروني الزعيم الليبي خلال الحرب ضد إيطاليا وأحد رجال العالم الإسلامي في النصف الأول من هذا القرن (1).
قلنا أن ظهور الشيخ اطفيش صادف طغيان الاحتلال الفرنسي الذي امتد أيضا إلى منطقة ميزاب. فكان اتفاق الحماية معها سنة 1853 ثم الاحتلال الكامل لها سنة 1882. وقد استمر الشيخ محمد بن يوسف يحتج على انتهاك اتفاق الحماية ويطالب باحترامه أو بالحكم الذاتي. وفي 1888 طالب الحاكم العام البغيض، لويس تيرمان، الذي امتد الاحتلال إلى ميزاب في عهده، طالبه بتخفيف الغرامة على أهل ميزاب، كما طالب بترك إيجارات أملاك الأوقاف في يد مساجد الإباضيين. ونحن نعرف أن السلطات الفرنسية قد صادرت أملاك الأوقاف في الجزائر كلها، وحولت مداخيلها إلى مالية
(1) كتبنا عن الباروني مقالة منشورة في مجلة الثقافة، فانظرها.
الدولة. ولكن هذه السلطات صمت آذانها عن مطالب الجزائريين بمن فيهم أهل ميزاب. وفي نفس السنة أرسل الشيخ نسخة من كتابه (النيل) إلى القضاة الفرنسيين الذين أصبحوا يسيطرون على كل جوانب القضاء الإسلامي أيضا، ما عد الأحوال الشخصية التي تركوها للقضاة المسلمين. وكان هدف الشيخ أن يطبق أولئك القضاة الفرنسيون تعاليم الشريعة بالنسبة للإباضيين (1).
وحين استجاب الشيخ لطلب ماسكري وألف رسالته (الشافية) عن تاريخ ميزاب قال إنها تخدم الإسلام ولا تضره. وفي سنة 1886 كان الشيخ أطفيش في طريقه إلى الجزائر عن طريق قصر البخاري، فسبقته رسالة من أبي بكر بن الحاج قاسم، وربما هو أحد القضاة هناك، إلى ماسكري مدير مدرسة الآداب بالجزائر (نواة كلية الآداب) أخبره فيها بقدوم الشيخ أطفيش في آخر مايو، وأوصى ماسكري أن يحتفى بالشيخ بما يليق به وأن يكلم في ذلك الحاكم العام وقائد القطاع العسكري ورئيس المحكمة العليا (يسميه: الرئيس الشرعي) ليلتقوا بالشيخ بعد وصوله ويكلموه على شرح (النيل) بحضور ماسكري فقط دون ترجمان آخر (لتكون لك بذلك مزية لدى الدولة لأنك (أي ماسكري) رجل مليح، جيد ظريف أديب) (2).
والنهضة التي دعا إليها الشيخ أطفيش كانت تسير في اتجاه النهضة الإسلامية العامة. فقد عاصر حركة الجامعة الإسلامية، وكان يحس بها أكثر من علماء القطر الآخرين، ربما، لأنه اطلع بنفسه على نشاط الحركة في حجتيه، ومن جهة أخرى كانت منطقة ميزاب والجنوب عامة، مفتوحة على تيارات النشاط الإسلامي عن طريق تونس وليبيا وزنجبار وعمان. وهو لا
(1) بيير كوبيرلي P.Cuperly (محمد أطفيش ورسالته) في IBLA (معهد الآداب العربية)، تونس، 1972، ص 269. بالنسبة للغرامة والأحباس ذكر هذا المصدر أنه رجع إلى
رقم 15 H 22 من أرشيف أيكس (فرنسا).
(2)
بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل) مرجع سابق. ص 213، وتاريخ المراسلة هو 28 مايو، 1886 من قصر البخاري، وهي السنة التي أدى فيها الشيخ أطفيش فريضة الحج.
يخرج في دعوته عن الحركة السلفية التي تدعو لتنظيف الدين مما ينسب إليه وليس منه، والعودة إلى الاجتهاد إذا توفرت شروطه، وتنشيط العقل عن طريق التعليم والتربية واكتشاف الذكاء والمواهب. وكان الشيخ أطفيش من دعاة إحياء وتجديد اللغة العربية والثورة على الجمود، وكان يقف بصراحة ضد التأثير الأجنبي في الحياة الإسلامية. ومن ثمة يجد نفسه في تيار دعوة رشيد رضا وأمثالها (1).
وكانت للشيخ أطفيش أيضا مواقف لدعم الحركات الإسلامية واتصالات مع زعمائها كما أشرنا. إنه كان يتابع باهتمام حروب الدولة العثمانية في البلقان، وكان يتتبع أحوال العالم الإسلامي وهو يسقط القطعة بعد القطعة في أيدي المستعمرين. وعندما هاجمت إيطاليا ليبيا سنة 1911 دعا إلى التبرعات بالسلاح والمال لمساعدة المجاهدين. وفي 1950 توقف في غرداية سليمان بن ناصر، حاكم دار السلام (عاصمة تنزانيا اليوم)، ونزل في دار أطفيش، وهذه الزيارة تدخل في تمتين العلاقات مع الإباضيين. وكان ابن ناصر في طريقه إلى معرض باريس الدولي. وأهدى بعض سلاطين وأمراء الوقت أوسمة إلى الشيخ أطفيش، مثل السلطان عبد الحميد الثاني الذي كتب إليه أيضا رسالة شكر على حله لغز الماء، وكذلك أوسمة من سلطان زنجبار، وإمام عمان. وكان الشيخ يعتز بهذه الأوسمة ويضعها على صدره في المناسبات. كما أهدت إليه فرنسا وساما (نيشأنا) بمناسبة حله اللغز المذكور. وفي تقديرنا أن هذه الأوسمة كانت محاولة لشراء السكوت والرضى وليست تقديرا للعلم والعلماء.
وقد طبعت للشيخ عدة مؤلفات أثناء حياته فزادت من شهرته وعرفته للقريب والبعيد. وكشفت عن عقله النير وأفكاره البعيدة. وكانت بعض مؤلفاته قد طبعت في الجزائر وبعضها في تونس ومصر وعمان وزنجبار. أما بعد وفاته فقد تعاون الشيخان سليمان الباروني وإبراهيم أطفيش (الذي هاجر إلى مصر، وهو قريبه) على إصدار عدد منها أيضا. وهي مؤلفات كثيرة تبلغ
(1) كوبيرلي، مرجع سابق، ص 273.
الثلاثمائة بين الرسالة والمؤلف ذي الأجزاء.
كان الشيخ أطفيش يعلم في منزله أيضا. فلم يبن معهدا خاصا ولا مدرسة على الطراز القديم (كما كان يعلم في الجامع ببني يسقن أو في بونورة أيام إقامته الطويلة بها)، وكان للشيخ في بني يسقن ثلاثة منازل، خصص كل واحد منها لمهمة، ومنها منزل حوله إلى معهد، وبه عرف. وقد ورد عليه التلاميذ من مختلف أنحاء ميزاب ومن غيرها خارج الجزائر حيث الإباضية، مثل جربة ونفوسة وعمان وزنجبار. ومن الطبيعي أن يراقب الفرنسيون هذا النشاط غير العادي في المنطقة وأن لا يرتاحوا إليه. وقد عرفنا أنهم طالما قبضوا على أناس في آخر القرن الماضي بدعوى أنهم جاؤوا لشراء الإبل أو السياحة وردوهم على أعقابهم. لقد اشتهر الشيخ أطفيش كمدرس ومصلح ومؤلف. فزاد ذلك من تلاميذه ومن خوف الفرنسيين من تأثيره. وقد لقبه تلاميذه وأنصاره بالقطب بل قطب الأيمة.
ومن شروط قبول التلميذ في هذا المعهد حفظ القرآن الكريم، وقد جعله شرطا لا تحويل عنه. فالقرآن هو أساس كل العلوم الدينية واللغوية. يضاف إلى ذلك حفظ المتون الضرورية والاستقامة في السيرة والسلوك. وقسم التلاميذ إلى طبقات. وهو تقليد اتبعه القدماء وحتى بعض المعاصرين في الزوايا التعليمية، كما عرفنا، الأولى طبقة المبتدئين، والثانية طبقة المتوسطين. وكان يدرس لتلاميذ الطبقة الأولى المواد الآتية وهي متطابقة مع المواد المدروسة في الزوايا والمساجد الأخرى في القطر عدا كتب العقيدة والفقه. فالنحو على الأجرومية، والحديث والشعر والأدبيات والأخلاق والتربية. وفي العقائد عقيدة التوحيد للجيطالي أو عقيدة العزابة للشيخ عمر بن جميع. وفي الفقه رائية الشيخ ابن النظر، أما الطبقة الثانية فيدرسون القطر لابن هشام والحديث والأشعار والأدب ونحو ذلك، إضافة إلى نونية أبي النصر بن نوح في التوحيد. وأخيرا تأتي الطبقة الثالثة وهي كبار التلاميذ الذين كان عليهم أن يحفظوا ويتعلموا ألفية ابن مالك في النحو والصرف، والسمرقندية في البلاغة وأرجوزة في العروض، وكذلك الشعر والحديث
والأخلاق. أما في أصول التشريع فيدرسون ألفية السالمي.
وهكذا يتضح أن المواد الدراسة في معهد بني يسقن كانت ذات شقين أو ثلاثة: العلوم الدينية من تفسير وحديث وقراءات وتوحيد وفقه وأصول الفقه، والعلوم اللغوية والأدبية وتشمل النحو والصرف والبلاغة والعروض والأدب. وأما الشق الثالث فيشمل التربية والأخلاق من مبادئ الدين والقطع الأدبية التهذيبية ونماذج من المثل العليا. ويقول الشيخ دبوز، رواية عن تلاميذ الشيخ القطب، أنه كان يبدأ بالدرس الصعب في أول النهار، وكان لا يزيد عن الكتب المعروفة في غير العقائد والفقه سوى قناطر الخيرات للجيطالي وهو تأليف في الأدب والأخلاق. وكان الشيخ يعطي اهتماما خاصا لأدب الأندلس. وكان يؤلف لتلاميذه إذا لم يجد تأليفا في الموضوع. وكان لا يدرس لهم يومي الخميس والجمعة.
ولا نعرف كم كان عدد تلاميذه في الوقت الواحد. ويبدو أن شيخا في مثل شهرته وعلمه يكون قد استقبل بضع عشرات منهم ة وقد نغامر فنقول إنهم بين الثلاثين والخمسين في الموسم الواحد. وما دام قد علم طول حياته تقريبا (حوالي سبعين سنة من التعليم) فلنا أن نتصور أن تلاميذه قد بلغوا المئات. فإذا أضيف إلى ذلك فتاويه ومؤلفاته وزياراته عرفنا كم كان إشعاع هذا الرجل في عهد كاد ظلام الجهل يطمس كل المعالم في الجزائر. ولا شك أن وجوده في ميزاب، ووجود محمد بن بلقاسم الهاملي في نواحي بوسعادة، وعبد القادر المجاوي في قسنطينة ثم العاصمة، وحمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة، وعبد الحليم بن سماية ومحمد مصطفى بن الخوجة (1)، قد خفف من كثافة ذلك الظلام.
وكانت للشيخ أطفيش مكتبة غنية جمعها عبر السنين، وكان يستنسخ الكتب ويدفع المال عليها، وقد كان له أحد النساخ المعروفين في غرداية ينسخ له ما يشاء من الكتب. وتزوج بعض نسائه من أجل الكتب، كما قلنا.
(1) انظر عن هؤلاء فصل السلك الديني.
وكانت بعض الكتب ترد عليه أيضا من خارج الجزائر بالهدية ونحوها من تلاميذه وغيرهم. وسندرس مكتبته في الفصل الخاص بذلك. ولا شك أن مكتبته قد أفادت معهده وتلاميذه. وقد بقيت مكتبته ذخرا لبني ميزاب وللجزائر، وهي اليوم تحمل اسمه (1).
وقد توفي الشيخ القطب في 23 ربيع الثاني سنة 1332 (مارس 1914) عن 96 سنة (2). وترك تراثا عظيما من الكتب والتآليف والتأثير في المنطقة وخارجها. ولا نعلم أن أحدا من عائلته قد واصل مهمة هذا الشيخ في التعليم بالمنزل - المعهد. فنحن نعلم فقط أن ابن أخيه قد هاجر إلى تونس ومنها إلى مصر، وأن أحد تلاميذه وهو أبو اليقظان قد رحل في سبيل العلم إلى تونس على رأس أول بعثة ميزابية فيها. ولكن النهضة التي أرسى قواعدها القطب لم تمت بموته، بل تبناها تلاميذه والمتأثرون بأفكاره وبروح العصر، فأسسوا سنة 1925 أول معهد حقيقي في القرارة، وهو المعهد الذي أصبح منارة في الصحراء. وتجاوبت بذلك أصوات النهضة العلمية في قسنطينة وتلمسان والجزائر وميزاب.
سافرت البعثة الميزابية الأولى إلى تونس في مايو 1914، وكانت تضم حوالي عشرة تلاميذ. وتولاها أبو اليقظان وعمر العنق. وكان ذلك بعد غلق مدرسة تبسة المعروفة بالصديقية. ومن أبرز تلاميذ البعثة حمو بن عيسى المرموري. وكان الحرص على أخلاق التلاميذ وتوجيههم هو الذي جعل الأولياء والشيوخ لا يرسلون التلاميذ أحرارا. ولذلك جعل المشرفون على البعثة بعد استقرارها في تونس نظاما داخليا دقيقيا، يشمل الانضباط في الأكل
(1) اعتمدنا في دراستنا على ما ذكرنا، وكذلك على إبراهيم أطفيش (ابن أخيه) صاحب كتاب (الأقوال السنية في حياة قطب الأيمة) الذي أخبر أنه ينوي طباعته، وكتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين)، القاهرة، 1923، هامش، 107 - 159. وكذلك عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية) 198، ص 13 - 16، وأحمد توفيق المدني، (كتاب الجزائر)، ط. 2، ص 91.
(2)
يرى كوبيرلي أنه توفي في مارس سنة 1911. ولعل هذا خطأ مطبعي فقط.
والطبخ والدراسة والحياة الاجتماعية. وكان إمام البعثة هو أبو اليقظان. ووجدت البعثة طريقها إلى مدرسة السلام القرآنية التي أسسها في تونس الشاذلي المورالي. ويقول دبوز إن هذه البعثة قد رجعت إلى الجزائر في 1915 (1) ولا ننسى أن هذه كانت فترة حرجة في التنقل والمعاش نظرا لاندلاع الحرب وتجنيد الشباب الجزائري فيها وإعلان حالة الطوارئ. فهل ان رجوع البعثة المبكر يرجع إلى هذه الظروف؟ ومهما كان الأمر فإن أبا اليقظان قد أسس في هذه السنة (1915) مدرسة قرآنية حديثة في القرارة وجعلها على غرار مدرسة السلام بتونس وأدخل فيها العلوم العصرية والرياضة البدنية، ولعل ذلك كان من آثار رحلته إلى تونس.
وسافرت البعثة الثانية إلى تونس برئاسة أبي اليقظان أيضا. ومن ضمنها محمد علي دبوز وإبراهيم أطفيش ومفدي زكريا ورمضان حمود ومحمد الثميني. وكأنه كان مقدرا لها أن تكون بعثة مختارة لأن هؤلاء جميعا أصبحوا من زعماء الثقافة في الجزائر وتونس والمشرق. ثم سافرت بعثة أخرى إلى تونس برئاسة محمد الثميني (1919)، وأخرى برئاسة الحاج صالح بن باعلي، فأصبحت في تونس ثلاث بعثات ميزابية في وقت واحد. وفي سنة 1925 رجع أبو اليقظان إلى الجزائر واستخلف على البعثة قاسم بن الحاج عيسى (2). وفي الجزائر شرع أبو اليقظان في مشروعه التاريخي وهو إنشاء الصحافة العربية الحرة. وقد تحدثنا عن مشروعه هذا في فصل آخر.
وتواصلت البعثات الميزابية إلى تونس بين الحربين. فكان الطلبة يخبرون بعضهم البعض، وكانت النتائج العلمية ومشاركة الميزابيين في الحياة السياسية بتونس (سيما في الحزب الدستوري برئاسة الثعالبي) والمساهمة في الحياة الأدبية، كل ذلك جعل سيل البعثات الدراسية يزداد تدفقا. ولم يقتصر الأمر على بني ميزاب بل شمل مختلف المناطق ولكن بدرجات متفاوتة.
(1) دبوز (أعلام) 3/ 183، وهو رجوع مؤقت.
(2)
نفس المصدر، ص 206 - 250.
ولعل ما يلفت النظر في البعثات الميزابية هو الإشراف والتوجيه والانضباط. أما التلاميذ الجزائريون الآخرون فقد كانوا عادة يذهبون أحرارا وفرادى. على أن بعضهم، مثل تلاميذ أهل سوف، كانت لهم تنظيماتهم في تونس في شكل روابط وكذلك وسائل استقبال وتسهيلات الإقامة والدراسة (1)، نظرا لوجود جالية سوفية معتبرة.
وأنشئ في ميزاب معهد الحياة الذي أشرنا إليه. وبدأت ثماره تظهر عبر السنين إلى أن قرر مسؤولوه، وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم بيوض إرسال بعثة منه إلى تونس لمواصلة الدراسة الثانوية. ويذكر دبوز أنه كان أول تلميذ من هذا المعهد (2) وأنه رأس بعثته سنة 1942، ثم أخذ الطلاب يتواردون على تونس، فوصل بعضهم سنة 1943 وآخرون سنة 1944، وهكذا. ونحن نعلم أن ظروف الحرب الثانية كانت استثنائية في تونس، لأن هذه البلاد كانت مسرحا لتصارع قوات الحلفاء مع قوات المحور. فالسفر عندئذ كان مغامرة كبيرة. ومن تلاميذ معهد الحياة محمد العساكر وصالح خرفي وكلاهما التحق بتونس، وكذلك العالم الليبي علي بن يحيى معمر، وأصله من جبل نفوسة. وهكذا فإن معهد الحياة قد واصل رسالة معهد بني يسقن وربط النشاط التعليمي الحديث في ميزاب بنظيره في الجزائر وتونس والمشرق. فكان بحق رمزا لنهضة علمية قوية.
(1) كنت شخصيا ضمن حوالي عشرة طلاب من قمار سنة 1947 إلى تونس، ولم يكن لنا (مسؤول) بعينه، وإنما الطلبة القدماء هم الذين يشرفون على الجدد ويوجهونهم إلى أن تستقر أوضاعهم بالتعاون مع عناصر الجالية في تونس.
(2)
دبوز، مرجع سابق، ص 264 - 268. أخبر دبوز أنه كان ضمن البعثة الثانية سنة 1916، ثم أخبر أنه كان أول تلميذ من معهد الحياة يحل بتونس ويكون بعثته ويرأسها سنة 1942. ولم نستطع الربط بين التاريخين. كما أخبر أنه ذهب إلى مصر سنة 1944.