الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السائحي. وقد كان شاعرا وعالما متمكنا. وكان متنور العقل متأثرا بحركة النهضة والإصلاح. ولعله هو الذي نفخ روح الهجرة في سبيل العلم لأبناء الزاوية. وكان الشيخ اللقاني من علماء الزيتونة ومن مواليد نفطة، وله قصائد سياسية في الحث على النهضة الوطنية (1).
ولكن ما قلناه عن الزاوية التجانية بفرعيها - عين ماضي وتماسين - وكذلك فرع قمار وفرع تاغزوت، لا ينفي عدم اهتمامها كمؤسسة بشؤون التعليم للجزائريين. إن الاهتمام الذي ذكرناه إنما هو فردي أو عائلي أو خاص بأبناء الزاوية. ولم يشترك فيه مشائخ الزاوية أنفسهم ليعطوا المثل لأبنائهم وخلفائهم ولعامة الناس، كما فعل بعض شيوخ الزوايا الأخرى. إن حديثنا يجب أن يكون عن مساهمة هذه الزاوية العتيدة في إنهاض الجزائريين والمحافظة على اللغة العربية والدين الإسلامي ومقاومة تيار الفرنسة الذي غزا البلاد وطغى على عقول الناس، وكاد يمسخ حتى المعالم والملامح ويمحو الهوية الوطنية للبلاد. هذه المساهمة غير متوفرة، عند الزاوية التجانية أو هي غير معلومة للباحثين حتى الآن (2).
زاوية قصر البخاري
لم تبلغ زاوية قصر البخاري أو زاوية الشيخ الموسوم ما بلغته زاوية الهامل من الشهرة العلمية. أما الشهرة الدينية فقد نافستها فيها وربما فاقتها في عهد الشيخين. وقد تحدثنا عن الشيخ الموسوم متصوفأ (3)، فلنتحدث عنه متعلما ومعلما.
(1) انظر سيرته في كتاب (شعراء الجزائر) للهادي السنوسي.
(2)
ستعرف أن بعض العلماء كانوا منتمين للطريقة التجانية، مثل المفتي علي بن عبد الرحمن في وهران، الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، ولكن حديثنا عن دور الزاوية نفسها وليس عن أفراد العلماء.
(3)
انظر فصل الطرق الصوفية.
فهو محمد بن محمد بن أحمد بن رقية المعروف بالموسوم (أو الميسوم حسب النطق الشعبي). ولد حوالي 1820 في غريب بين قصر البخاري ومليانة. وأمه هي فاطمة بنت العربي، من أعيان العائلات بالشلف الشرقي، ومنها عائلات سيدي العريبي، وسيدي الحاج محمد الأحمر، ومولاي العربي بن عطية، وكل هذه العائلات اشتهرت في عهد الأمير عبد القادر. وكان أبوه منحدرا من نسل الشيخ عبد العزيز الذي أسس قصر الشرف (أو الشارف) في جبال أولاد نائل حوالي القرن 16.
درس محمد الموسوم على الحاج الشافية بن سي العربي بن سي الطيب الهادفي، ثم درس على الحاج يعقوب. كلاهما علمه القرآن ومبادئ الفقه. وأظهر منذ طفولته ميلا للدراسة، وهذا ما وضع ثقة شيوخه فيه. ثم درس سيدي خليل على الشيخ ابن علي البريشي، الذي قد يكون من المغرب الأقصى، ولكنه استقر في غريب لتحفيظ القرآن لأبناء الناحية. ومن غريب توجه محمد الموسوم إلى مازونة التي كانت لها سمعة كمركز علمي وما تزال فيها آثار أبي راس وأحفاده. فتابع الدراسة بها على الشيخ أحمد بن هني وعلى غيره. ثم رجع إلى غريب دون أن نعرف كم بقي في مازونة ولا المستوى الذي وصل إليه، ولكنه رجع بزاد علمي وبشهرة شأن العائدين من رحلة طلب العلم. لقد أصبح عارفا بالعلوم العربية كالنحو والصرف وكذلك المنطق والعروض، بالإضافة إلى العلوم الدينية.
وتمشيا مع هوايته، افتتح الشيخ الموسوم عهد التعليم - ربما في نهاية الأربعينات - وهو عهد أخذت فيه ينابيع المعرفة تجف من البلاد بعد حروب المقاومة الطويلة وسياسة التجهيل المقصودة، كما ذكرنا. قبل الشيخ التلاميذ من كل الأعمار، وقسم دروسه إلى طبقتين أو مستويين، مبتدئين ومتوسطين. وبنى مسجدين صغيرين للتعليم، كان يعلم في أحدهما علوم الدين كالفقه والقرآن والتوحيد، وفي الآخر يعلم علوم اللغة والأدب كالمنطق والنحو والعروض. ويبدو أنه كان يحلم بمشروع كبير لو وجد الظروف والمناخ المناسب.
عاش على تلك الحال - أكثر من عشر سنوات في ظننا - إلى سنة 1269 (1860). فكر في الطرق الصوفية شأن متعلمي الوقت. فهي الغطاء السياسي وهي المأوى الروحي. كانت الرحمانية والشاذلية والمدنية والتجانية والوزانية (الطيبية) هي الطرق النشطة. فخطرت كلها على خاطره. فكر في الذهاب إلى وزان، ولكنه اكتفى بزيارة ضريح الشيخ الثعالبي بالجزائر والتجول في هذه المدينة (الأوربية) التي كان فيها (غريب الوجه واليد واللسان). وقد نصحه بعضهم بالذهاب إلى الشيخ عدة بن غلام الله بجبل اللوح بأولاد الأكراد، ولعل هذا الناصح كان من إخوان الدرقاوة الذين يمثلهم الشيخ عدة. وقد ترافق مع الشيخ عبد الرحمن العصنوني إلى زاوية الشيخ عدة. وبعد مدة نال منه الإجازة الصوفية والعلمية، لأن الشيخ عدة كان أيضا من علماء الظاهر والباطن. ثم رجع الشيخ الموسوم إلى غريب.
أثناء فترة قلق، كان الشيخ الموسوم يطبق التعاليم الصوفية على نفسه بقسوة. كان يصوم ويتعبد، ويتهجد. وعرف بين الناس بذلك، فكثر المعتقدون فيه البركة والعلم معا. وكان يميل إلى الزهد والتقشف (وذلك شعار الدرقاوة). وفكر في الدخول في الطريقة الخلوتية (الرحمانية)، واستمر قلقه فترة أخرى. ثم قرر أن يكتب إلى الشيخ عدة طالبا منه إجازة مقدم. ودام انتظاره بعض الوقت. ثم وصله التقديم في الدرقاوية - المدنية، وهي فرع للشاذلية. وهكذا بدأ نشاطه الصوفي والتعليمي واستقراره الروحي أيضا. وكان قد أسس في بادئ الأمر زاوية في غريب. ولكنه بعد 1865 أسس زاوية أخرى في قصر البخاري. وكانت هذه في البداية فرعا للأولى، ثم أصبحت هي الأصل. وقد بنيت زاوية قصر البخاري على أنقاض زاوية قديمة أو قصر قديم ينسب إلى سيدي البخاري. وهكذا أصبح الشيخ يقضي الصيف في غريب والشتاء في قصر البخاري.
فعل الشيخ الموسوم في زاويته ما فعله أيضا شيوخ التعليم الآخرون.
فكان يدرس ويعطي الورد والإجازات. ولكنه اختلف عن زميله محمد بن
بلقاسم في كونه غير مستقل في إعطاء البركة، إذ نازعه فيها أحمد بن الشيخ عدة، بينما الشيخ محمد بن بلقاسم لم ينازعه أحد في منح البركة بعد وفاة شيخه المختار بن خليفة. وتوفي الشيخ عدة في 24 جمادي الثاني 1283 (1866). فأصبح الشيخ الموسوم هو الوريث (الشرعي) لبركة شيخه وبوصية منه. وكان مجاله واسعا يمتد عبر مناطق الجزائر والشلف والونشريس. لكن منازعة الشيخ أحمد بن عدة له جعلت سكان الونشريس تابعين لزاوية أولاد الأكراد، أما السكان القريبون من قصر البخاري، مثل أولاد عنتر وأولاد هلال، فقد اتبعوا الشيخ الموسوم. وقد شهدت عدة طرق هذا النوع من التنازع فكان الفرنسيون يوسعون من شقته إذا أرادوا أو يضيقون منه إذا كان ذلك يخدم مصلحتهم.
وكان للشيخ الموسوم مقدمون متعلمون، منهم محمد بن عبد الله في معسكر وقدور بن سليمان في مستغانم. وكلاهما اشتهر أمره واستقل عن شيخه أثناء حياته (1). وهذه الشهرة للشيخ الموسوم وكثرة الأتباع والزوار للزاوية لفتت إليه أنظار السلطة أيضا. و (يا ويح من أشارت له الأصابع، ولو بالخير). فقد ورد اسمه مرشحا لإدارة مدرسة الجزائر الشرعية الرسمية. وكان الفرنسيون يرغبون في احتواء نفوذ الشيخ ويخشون من تأثيره الديني والتعليمي الذي قد يمهد لانتفاضة كما فعل الشيخ الحداد. ولذلك استدعاه الحاكم العام وعرض عليه المنصب المذكور فاعتذر (2) بالبقاء في خدمة الدين والعلم. وقد ازدادت شكوك الفرنسيين من حوله، خصوصا وإن أحد الجواسيس جاءهم بخبر كاذب وهو أن الشيخ يعد العدة لثورة وإن بزاوية غريب أسلحة. فداهمت القوات الفرنسية الزاوية أثناء غياب الشيخ فلم تجد
(1) قدور بن سليمان كان من المؤلفين وأصحاب النظرة الصوفية. وقد هاجر إلى الحجاز واستقر بالمدينة. وله آثار نعرض إليها في مكان آخر. وله مراسلات وتبادل إجازات مع عدد من شيوخ العصر في الجزائر وغيرها، ومنهم القاضي شعيب بن علي في تلمسان.
(2)
انظر ذلك في فصل الطرق الصوفية.
أسلحة وإنما وجدت أوراق الشيخ فحملتها. وبعد 1870 اتهمه الفرنسيون بمعارضة الحكم المدني، فهاجموا الزاوية أيضا وفتشوا أوراقه فوجدوا أن جنرالا فرنسيا كتب إليه رسالة، ربما لتوريطه، يطلب منه معارضة التغيير (من الحكم العسكري إلى المدني) الذي حدث في الجزائر، ولكن الشيخ كتب على هامش الرسالة بالرصاص أنه لا يتدخل في مثل هذه الأمور. كما خشيت منه السلطات الفرنسية يوم زار (سيرقين) أو الحمام الساخن جهة قصر الشلالة، فتجمع حوله الناس وأقاموا له حفلا كبيرا وصاخبا. ولكن الحفل مر بدون عواقب سياسية، كما يقولون (1).
رأينا أن الشيخ الموسوم كرس حياته للتعليم والدين والتصوف والتربية الروحية. وأنه كان مثالا للرجل المتفرغ لهذه الأمور فلم تغره المناصب الدنيوية التي عرضها الفرنسيون عليه، وكان في إمكانه أن يجعل علمه ودينه وشهرته مطية للدنيا، كما فعل بعض المعاصرين له. ورغم تشكك الفرنسيين فيه وشهادتهم بأنه كان يحاول الإبقاء معهم على الحد الأدنى من العلاقات وتهدئة الأوضاع زمن الثورات، فإنه تعرض إلى الإهانة واغتصاب أوراقه والاتهام بإخفاء السلاح. فما أصعب الحياة الكريمة في تلك السنوات البائسة من الحكم الاستعماري!.
توفي الشيخ الموسوم في 3 فبراير 1883 في قصر البخاري. وترك تأثيرا كبيرا في المناطق القريبة والبعيدة. ويذكر الدارسون أن نفوذه الروحي قد وصل إلى معسكر وندرومة وتلمسان ومستغانم ومليانة والمدية والقلعة وغيلزان والجزائر وما بين ذلك. ثم إلى الجلفة وأولاد إبراهيم، والبليدة وشرشال. ومن العائلات والأعيان الذين تأثروا به دون الدخول في طريقته:
1 -
عائلة سيدي علي بن مبارك، وهم مرابطو القليعة، ولهم فيه محبة خاصة.
(1) تصرف الفرنسيون نفس التصرف مع زاوية طكوك السنوسية وشيخها عدة مرات. انظر حديثنا عن هذه الزاوية، فصل الطرق الصوفية.
2 -
عائلة أولاد حمو، بمليانة، وهم خدم زاوية أحمد بن يوسف الملياني، وفيهم المدرسون.
3 -
أهل ميزاب، وهم ليسوا على طريقته، ولكنهم يكنون له احتراما خاصا، وكانوا يقدمون إليه الهدايا (التبرعات).
4 -
محمود بن مصطفى الذي كان يعلم القرآن في الزاوية بقصر البخاري. وهو أخ زوجة الشيخ.
5 -
الأخضر بن مبارك، وهو إمام الزاوية. وكان هذا والذي قبله من أتباع الشيخ.
6 -
سيدي علي بو حقة، قاضي المدية على المذهب المالكي.
7 -
الشيخ المراشلي، قاضي المذهب الحنفي بالمدية أيضا.
8 -
الشيخ محمد بن الطيب الذي تولى القضاء في المكتب العربي بالمدية أيضا. وهو من المؤلفين.
9 -
الشيخ علي بن الحفاف، مفتي المذهب المالكي بمدينة الجزائر، وله مكانة علمية خاصة في وقته، وله تأليف هام في القراءات.
10 -
الشيخ محمود الحرار، من علماء وأعيان مدينة الجزائر. من عائلة مصطفى الحرار (من صنعة الحرير) المتصاهرة مع عائلة ابن بريهمات.
11 -
الشيخ الحرشاوي، قاضي تلمسان عندئذ.
12 -
عائلة ابن رحال بندرومة، وهي عائلة علم وتصوف ووظائف رسمية، ومنهم محمد بن رحال الذي برز في أوآخر القرن الماضي كرجل سياسي (1).
(1) اعتمدنا على دراسة الاسكندر جولي (دراسة عن الشاذلية) في المجلة الافريقية، R.A، 1907، ص 5 - 22. وهو قد اعتمد في سرد حياة الشيخ الموسوم على كتاب يسمى (شرح التحفة المختارة)، مخطوط. وقد يكون من وضع الشيخ نفسه أو أحد أتباعه، ونحن لم نطلع عليه. وقد رجعنا أيضا إلى ما كتبه جولي نفسه في (مجلة العالم الاسلامي)،. R.M.M، 1908 عن الشاذلية، والطرق الصوفية عامة، ص 370 -
ولم يكن الشيخ أحمد بن محمد الموسوم، الذي خلف أباه على رأس الزاوية في المستوى الذي تتطلبه المرحلة، مرحلة الثمانينات من القرن الماضي وعهد الظلام الدامس الذي أشرنا إليه. فتوارى تأثير الوالد والولد، وخبا نور الزاوية العلمي، وصفق الفرنسيون على أشلائها قائلين مع الاسكندر جولي: لا تخافوا منها ومن الطرق الصوفية عموما والزوايا، لأن مصيرها جميعا إلى التحلل والاندثار، شأن كل كائن حي في هذا الوجود.
ومن زوايا التعليم بالمسيلة الزاوية التي أنشاها محمد بن عبد الله الديلمي، وهي رحمانية. وصاحبها هو الحاج محمد بن عبد الله بن عبد القادر بن أبي زيان بن مبارك بن الموهوب. وقد يكون نسبه متصلا بالشيخ محمد بن عزوز الديلمي المسيلي الذي ذكره صاحب (البستان). وهم يقولون أنهم من الأشراف. ولد محمد بن عبد الله في المسيلة، سنة 1264 ونشأ بها ودرس على والده، ثم رحل إلى بجاية لطلب العلم فأخذ بها عن الشيخ السعيد الحريزي. ولكن بجاية كانت عندئذ قليلة العلماء فليست هي بجاية الحماديين وإنما هي بجاية الفرنسيين، وكان العلم ما يزال خاما في منطقة زواوة فتوجه محمد بن عبد الله إلى زاوية الشيخ اليلولي ثم إلى زاوية أحمد بن يحيى. ومن زواوة (القبائل) قصد قسنطينة حيث كانت شهرة الشيخ المجاوي فجلس إليه أيضا. كما نال إجازة من الشيخ الحداد في الطريقة الرحمانية وأخذ التصوف على الشيخ عمارة بن أبي الديار، متصوف جبل الناظور.
وسيرا على نفس التقليد، أحس الشيخ محمد بن عبد الله أنه الآن قادر على فتح زاوية ونشر العلم فيها. فذلك غاية ما توصل إليه علمه واجتهاده، وغاية ما تسمح به ظروف الحياة والسلطات الفرنسية. فهو لا يرغب في خدمة الفرنسيين، وكانت الأبواب الأخرى كلها مغلقة في وجهه. وبعد سنوات من التعليم، أدى فريضة الحج مرتين. وجاور بالحرمين، وأخذ عن بعض العلماء هناك، وطالع كتب التصوف، ولا سيما إحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال