المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٣

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

أما الجيل الذي توظف للفرنسيين في الفترة الحالكة، فترة إهمال التعليم مطلقا، ومصادرة أوقافه وهدم مؤسساته، ومحاربة العلماء والمفكرين، فليس فيه أمثال هؤلاء، وقد انقطع عنهم السند العلمي، كما لاحظ محمد بيرم الخامس، فكانوا يكتفون بالكتب الصغيرة والملخصات، والإجازات السمعية، دون أن يرحلوا في طلب العلم أو يتلقوه على يد فحول متصلي السند واسعي المعارف. وسنذكر أنهم، حسب التنظيمات والتصنيفات الفرنسية، كانوا فقراء الجيب والعقل أذلاء العين والرأس، باستثناء النادر الذي لا يقاس عليه. ومن غير الممكن ذكر قائمة بهؤلاء المدرسين الذين تعينهم الإدارة الفرنسية لتدريس مادتي التوحيد والفقه عادة، للعامة وأشباههم. وحسبنا أن نذكر بعضا ممن اشتهر أمره:

1 -

مصطفى القديري: المعروف بمصطفى بن أحمد، حسب ختمه الرسمي. تولى القديري سنة 1259 (1843) وظيفة المفتى المالكي في الجامع الكبير بالعاصمة، مكان الشيخ مصطفى الكبابطي، الذي عزله بوجو Bugeaud لرفضه فتح المدرسة القرآنية للمعلم الفرنسي لكي يعلم فيها اللغة الفرنسية للأطفال. وقد عثرنا للقديري على بعض الرسائل الإدارية التي كانت تصدر عنه إلى السلطات الفرنسية طالبا فيها منها توظيف شخص أو الإعلان عن غيابه أو وفاته، ونحو ذلك مما يدخل في عنايته كمسؤول عن شؤون موظفي الديانة الإسلامية، كما كانت تسمى. وآخر رسالة منه تحمل تاريخ 1852. وكان قد تولى الوظيفة المذكورة وهو كبير السن، ولم يكن معروفا بعلمه السابق ولا بوظائف أخرى تولاها مثل زملائه. ولعله كان من (ناس الحضور) في الجامع الكبير أو من قراء البخاري قبل أن يتولى الوظيفة الرسمية. كان الشيخ القديري، كما وصفته المصادر الفرنسية، طوع بنان إدارة الشؤون الأهلية. وهي تصفه بالمتسامح، أي الذي لا يقف ضد رغباتها أو يعترض على بعض التصرفات المنافية لاتفاق 1830. وكان له ابن أكثر منه تسامحا،

ص: 73

وقد طلب المفتي من السلطات الفرنسية تسهيل مهمة ابنه للدراسة في فرنسا وزيارتها، الخ. ولخموله لا نعرف للشيخ القديري موقفا سوى قبوله أوامر بوجو، ولا مؤلفا ولا درسا شهيرا، ولم يرجع إليه أحد فيما نعلم، للإجازة (1).

2 -

محمد الأرناؤوط: ليس لهذا الشيخ مصادر كثيرة عندنا، إنما نعرف من جريدة (المبشر) الرسمية التي أبنته أنه تولى عدة وظائف ومنها الافتاء والتدريس بالعاصمة. وكان على المذهب الحنفي، وهو من أصول عثمانية (ألبانية). ولد بالجزائر حوالي 1791 وتوفي في 28 رمضان الموافق 24 أكتوبر، 1865، عن 74 سنة. وكان معاصرا لزميله القديري. ويبدو أنه أوسع من زميله علما وعملا. فقد درس بالجزائر على جيل ابن الأمين وابن الشاهد، وأصبح فيها مدرسا إلى سنة 1835 حين ولاه الفرنسيون وظيفة القضاء. ونادرا ما كان الفرنسيون يثقون عندئذ في العلماء ذوي الأصول العثمانية، ويبدو أنه كان استثناء بينهم. وقد بقى كذلك في القضاء إلى سنة 1842.

ولأسباب مجهولة ربما هي نفس الأسباب التي جعلت الكبابطي يعزل من منصبه، استقال الأرناؤوط من وظيفته في هذه السنة وطلب الرخصة للحج، وهي الطريقة الوحيدة للهجرة بدون اتخاذ موقف سياسي. واغتنم هذه الفرصة، حسب الجريدة، فبقي في القاهرة والاسكندرية ثلاث سنوات، وربما لقي زميليه ابن العنابي والكبابطي، ثم رجع إلى الجزائر وتولى فيها وظيفة التدريس، سنة 1845، ثم الفتوى أيضا سنة 1848، وقد بقي في الوظيفة الأخيرة إلى وفاته. ولا ندري إن كان قد تلقى العلم في الأزهر أثناء إقامته في القاهرة، والغالب أنه قد فعل، ولم تتحدث (المبشر) عن حجته، فلعله قد أتمها. ولكنها تحدثت عن أبنائه الذين كانوا يخدمون فرنسا، تمويها منها على الناس ليفعلوا مثلهم، وقالت أنه كان (خزانة علم) وأنه دفن في

(1) انظر دراستنا عنه في أبحاث وآراء ج 3، ط 3، 1991، مع ذلك المصادر التي أخذنا عنها.

ص: 74

ضريح الشيخ الثعالبي (1).

3 -

أحمد بوقندورة: عائلة بوقندورة لها صيت وشأن في العهد الفرنسي. تولى الشيخ أحمد وظيفة الفتوى على مذهب الإمام أبي حنيفة بالعاصمة. وقبل ذلك عمل معاونا قضائيا في محكمة الجزائر مدة طويلة، من الخمسينات إلى الثمانينات، حسب السيد ألان كريستلو، ولكننا وجدنا في (المبشر) أنه تولى وظيفة الفتوى في نوفمبر سنة 1877 بالجامع الجديد. وكان يتقن الفرنسية. وربما هو الأول الذي ألقى خطبة بالفرنسية بالجامع أمام الحاكم العام سنة 1882، وهو الحاكم البغيض لويس تيرمان L.Tirman. وأشادت (المبشر) به لأنه أول من فعل ذلك. أما محمد بيرم الخامس فقد لقيه بالعاصمة ودخل داره، وشهد له بالدهاء السياسي و (التبحر في المعارف السياسية)، واتقان الفرنسية، وأخبر عنه أنه كان أيضا، عضوا في مجلس الحاكم العام (المجلس الأعلى للحكومة)، وله (مشاركة في الفقه والحديث). وهذه عبارة تعني عند العلماء أنه لم يصل إلى درجة الاتقان والتبحر في هذين العلمين وإنما له اطلاع وثقافة عامة فيهما. يقول عنه الشيخ بيرم، وكان على مذهبه الحنفي، أن بوقندورة كان إماما وخطيبا في أحد الجوامع (الجامع الجديد)، وأنه زاره في مقصورة الجامع، ودعاه بوقندورة لتناول العشاء في وليمة أقامها إكراما له في منزله. ووصف بيرم داره وبستانة بالجبل (؟)، فقال (وهو بستان ظريف، جامع للشكلين العربي والأروباوي، وبناؤه ظريف ونظيف، على النحو العربي المتقن)(2).

ولعل تدجين العلماء على النحو الذي كان عليه بوقندورة هو الذي

(1) المبشر، 2 مارس، 1865 (كذا وجدت في أوراقي مع التأكيد على أن تاريخ الدفن هو 25 أكتوبر 1865، ويبدو أن هناك خلطا في التاريخ فانتبه).

(2)

انظر عنه الآن كريستلو (المحاكم الإسلامية)، ط. 1985، ص 275. والمبشر، نوفمبر 1882 (؟) (وجدت عندي نوفمبر 1877، وهو غير دقيق ما دامت قد أشارت إلى خطبته سنة 1882). ومحمد بيرم الخامس (صفوة

)، مرجع سابق، ص 16. وربما كان المقصود (بالجبل) ضاحية الأبيار أو بوزريعة.

ص: 75

جعل بعض الفرنسيين يندبون حظهم بعد ذلك إذ نزع الناس ثقتهم من (علماء فرنسا) ومالوا إلى المرابطين والطرق الصوفية. ذلك أن هؤلاء العلماء في نظر الرأي العام قد أهانوا الدين، وانفصلوا عن المسلمين، وأصبحوا طلاب عيش وخبز. ومن الذين تنبهوا إلى ذلك، ولكن بعد فوات الأوان، ديبون وكوبولاني، ولوشاتلييه وأوغسطين بيرك وديبارمي. أن الشيخ بوقندوة قد اشتهر أيضا بالخطبة التي ألقاها أمام جول كامبون J.Cambon، الحاكم العام الآخر، أثناء تأبين الشيخ أحمد التجاني في الجامع الجديد بالعاصمة، سنة 1897. وكانت الخطبة هذه المرة بالعربية وبحضور شيوخ الطرق الصوفية والعلماء والأعيان الفرنسيين والمسلمين. ولعل الحاكم العام نفسه، وهو من الأذكياء الدهاة، هو الذي أمر الشيخ أن يلقى خطبته بلغة دينه لأن فرنسا إنما جعلته في ذلك المنصب ليخاطب باسمها المواطنين لا يخاطبها هي بلغتها. ولا نملك الآن تاريخ وفاة الشيخ بوقندورة الذي ظل سنوات طويلة في الخدمة الرسمية، ولكننا نعرف من بعض المصادر أن أحد أبنائه، وهو محمد، قد خلفه في منصب الفتوى والتدريس أيضا، وهو لا سمعة له أيضا في ميدان العلم والتأليف رغم أنه عاش فترة اليقظة والحث على التعليم، وقد ذكر السيد كريستلو، أن محمد بوقندورة عارض التجنيد الإجباري سنة 1911 (1).

4 -

حميدة العمالي: يختلف حميدة العمالي عن زملائه المعاصرين من عدة وجوه. فقد كان من أعمقهم فقها، وكان قد ترك بعض التآليف وله سند في شيوخ كثيرين، كما كان له تلاميذ اشتهر بعضهم حتى كاد يغطى عليه. فالعمالي من نوادر هذا العهد، رغم وظائفه الرسمية وعيشه فترة الجدب العلمي التي أشرنا إليها. ولعل سر قوته يرجع إلى تواضعه وإلى أخذه

(1) كريستلو، مرجع سابق، ص 275. وجدنا في آثار الشيخ حميدة العمالي أن أحد أفراد عائلة بوقندورة، وهو حسن قد طلب سنة 1280 (1863) الذهاب إلى بلاد الشام (بقصد الهجرة؟) بعد أن كان حزابا في الجامع الكبير. انظر رسائل العمالي في (أبحاث وآراء) ج 3 ط 3. وسنشير إلى أحمد بوقندورة في أماكن أخرى من الكتاب.

ص: 76

عن بقية صالحة من سلف المدرسين والعلماء.

ولد بالعاصمة سنة 1227 (1813)، وهو من جبل عمال من سلسلة جبال الأطلس التلية القريبة من العاصمة، ومن ذلك نسبته (العمالي)، وكان أبوه رحمانيا من أتباع وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري. وكان مقدما له. وحفظ حميدة العمالي القرآن على المؤدب الشيخ سيدي عمرو، الذي ذكرناه سابقا، وقد نوه به العمالي في كناشه حين وفاته سنة 1275. وأخذ العلم عن شيوخ بقيت أسماؤهم وآثارهم محفورة، منهم مصطفى الكبابطي ومحمد بن الشاهد (1)، ومحمد واعزيز، ومحمد العربي، إمام الجامع الكبير في وقته. وقد أجازه محمد الصالح الرضوي البخاري، وحمودة المقايسي، وأحمد بن الكاهية، ومعظم هذه الإجازات في الحديث والصحاح الستة.

وكانت أوليات حميدة العمالي في عهد بوجو وعهد راندون Randon، وكانت وظيفته الأخيرة، وهي الفتوى في عهد بيليسييه Pelissier وماكماهون Mac-mahon، وهي العهود الصعبة من حياة الجزائر، ويسميها الفرنسيون عهد الاحتلال والتهدئة. وقد عاصر ثورة 1871 أيضا، وكانت بقيادة رحمانية. وقد تولى العمالي عدة وظائف للفرنسيين منها القضاء 1849 والفتوى 1856، وكان الوظيف الأول أكثر خطورة لأنه عملي ومتصل بمصالح الناس ومصالح الفرنسيين التي كثيرا ما تتعارض، أما الفتوى فقد كانت شرفية فقط - له ولغيره - كما سنرى. وله رسائل إدارية وجهها إلى السلطات أثناء توليه الفتوى، وهي لا تخرج عن اقتراحات بشأن تعيين أو عزل بعض الموظفين في السلك الديني.

انتصب العمالي للتدريس في الجامع الكبير. وكان متمكنا من عدة علوم، كالحديث والفقه والتوحيد، ولكنه لم يسمح له بتدريس ما يتقنه

(1) يذكر المشرفي (أبو حامد) أن محمد بن الشاهد كان (شيخ الجماعة) في وقته. انظر (ذخيرة الأوآخر) كما نقل الحفناوي بن الشيخ في (تعريف الخلف)، 2/ 547. وقد اطلعنا نحن على الجزء الثاني من (الذخيرة).

ص: 77

ويرغب فيه، إذ كانت له مهارة في الأدب والبلاغة أيضا. وكان يدرس أحيانا ذلك على مختصر السعد. وتخرج على يديه ثلة من الطلبة أصبح بعضهم صاحب شهرة مثل حسن بن بريهمات، ومحمد بن عيسى الجزائري الذي انتقل إلى تونس وتولى فيها الكتابة بالوزارة الكبرى. وقرأ عليه أيضا علي بن عبد الرحمن الذي تولى الفتوى في وهران فترة طويلة، ومحمد القزادري، ومحمد بن العطار إمام ومدرس جامع سيدي رمضان، وكذلك محمد بن زاكور الذي تولى الفتوى فيما بعد، وعلي الفخار الذي تولى الفتوى في المدية. ولذلك كان العمالي يوصف بشيخ الجماعة قبل ظهور الشيخ عبد القادر المجاوي. ويذكر أصحاب التراجم أن حميدة العمالي قد حج ولقى أحد العلماء بالحجاز (في رحلته؟)، وهو عبد القادر بن يوسف القادري المعروف بحجة الإسلام. كما ورد عليه في درسه بالجزائر عبد الرحمن النابلسي فحضر مجلسه ثم سأله عن إحدى المسائل النادرة.

قلنا أنه تولى الفتوى سنة 1856، وهي السنة التي شغر فيها المنصب بوفاة الشيخ مصطفى القديري. وفي رسائله تواريخ كثيرة أولها تاريخ الختم وهو 1856 وآخرها 1867. وفي هذه السنة والتي بعدها حدثت المجاعة الشهيرة والجوائح في الجزائر. ولكن الشيخ ظل في الفتوى إلى وفاته سنة 1873 في عهد ديقيدون البغيض، الذي حارب المدارس القرآنية وحتى المدارس العربية - الفرنسية التي تأسست سنة 1850. وتولى الشيخ أيضا وظائف أخرى كعضوية المجلس القضائي والتعاون على ترجمة نصوص تنظيم القضاء الإسلامي مع زميله محمد بن مصطفى وأحمد البدوي و (أحمد) بن الحاج موسى، إلى اللغة العربية (سنة 1859) (1).

وقد رسخ العلم في أسرة العمالي أيضا فترك ابنا أصبح مثله من المدرسين. وهو علي العمالي. وأول إشارة وردت حوله كانت سنة 1867

(1) انظر عن ذلك فقرة القضاء من فصل السلك الديني، وعبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام)، ج 4، ص 279 - 282، ورسالة إبراهيم الونيسي.

ص: 78

في رسالة والده إلى السلطات الفرنسية إذ اقترحه من بين ثلاثة لتولي وظيفة مؤذن في الجامع الكبير بدل عمر بن البحار الذي رقى إلى وظيفة القضاء. وقد أصبح علي العمالي هذا من المدرسين، وممن تتلمذ له في النحو الشيخ أبو القاسم الحفناوي (ابن الشيخ) صاحب (تعريف الخلف)، وأصبح علي العمالي إماما في الجامع الكبير حيث أفنى معظم وقته، كما يقول الحفناوي، في الإقراء والاستفادة من العلوم، وكان يدرس الصرف بشرح الزنجي، والتوحيد بمتن الجوهرة، والعقائد السنوسية. وبالإضافة إلى ذلك تولى علي العمالي التدريس في المدرسة الثعالبية، ولذلك خرج أساتذتها في جنازته (علي) إثر وفاته سنة 1326 (1908)(1).

اختلف حميدة العمالي عن المدرسين المعاصرين في كونه ترك بعض التآليف، ولعلهم ألفوا ولكن لم تصلنا مؤلفاتهم. وقد رأينا له كناشا في مجلد كان في مكتبة المرحوم الشيخ المهدي البوعبدلي وقد أعاره لنا مدة. وهو محشو بالفوائد والنقول والتواريخ والنصوص النادرة، إضافة إلى بعض الأخبار عن حياة الشيخ العلمية والعائلية. وهم يذكرون له أيضا العمل المشترك حول القضاء الإسلامي سنة 1859، ثم مجموعة فتاوى ونوازل فقهية في حدود 300 مسألة، وله رسائل في أحكام المياه بالبادية، وأخرى في ترتيب محاكم القضاء (ولعلها هي العمل المشترك المشار إليه آنفا). ويقول الشيخ الحفناوي:(اتصلت بتأليف من تآليفه في القضاء، وتتبع فصوله وأنواعه، وحلية القاضي، وشروط القضاء). ولا ندري إن كان للشيخ العمالي تآليف في الحديث الذي قيل أنه اشتهر فيه، خصوصا صحيح البخاري الذي كان يدرسه دراية ورواية. كانت وفاة الشيخ العمالي سنة 1873 (1290 أو 1293)(2). ونحن لم نقف على آراء الشيخ العمالي في

(1) حسب كناش حميدة العمالي أن ولده عليا قد ولد سنة 1274 وحفظ القرآن 1282. وذكر الحفناوي أن لعلي هذا ولدا اسمه محمد اشتغل أيضا بالعلم ولازم الجامع الكبير، وله نسل أيضا، الخ. انظر تعريف الخلف 2/ 546.

(2)

التاريخان الهجريان مذكوران في تعريف الخلف 2/ 154، 539. وفي مراسلة مع =

ص: 79

النوازل الفقهية ولا في القضاء. ويبدو أنه كان ناقلا لعدد من الفتاوى مثل فتاوى ابن العنابي، كما نقل ابن حمادوش وثائق جاءت في رحلته حول النكاح. وما نظن أن الفرنسيين كانوا يسمحون (بالاجتهاد) لأمثال الشيخ العمالي، فقد كان هو وأمثاله مجرد ناقلين ومترجمين ومفسرين لإرادة السلطة الفرنسية. وأن رجلا في علم الشيخ العمالي لا يخلو، فيما نعتقد، من أدب ومراسلات، ولكن أين هي؟.

5 -

علي بن الحفاف: سيرة ابن الحفاف هي سيرة العالم الجزائري المخضرم زمن الاحتلال. فقد كان أجداده من أهل العلم والفتوى في الجزائر منذ عهود طويلة. وكان علي بن عبد الرحمن بن الحفاف من الأسر المعتبرة لعلمها. وكان شابا عند وقوع الاحتلال فخرج مع من خرج انتظارا للفرج وجلاء العدو، وانضم إلى حركة الأمير عبد القادر، في مليانة، حيث كان الحاج محي الدين بن مبارك وقريبه محمد بن علال على رأس حكومة الأمير هناك. فما كان من الفرنسيين إلا أن صادروا أملاكه وأملاك أسرته، ومنها أملاك أخته زوجة قدور بن رويلة. وعند وقوع زمالة الأمير في قبضة الفرنسيين 1843 وتشرد العائلات التي كانت فيها وموت ابن علال خليفة الأمير والقبض على الفتى أحمد بن رويلة، ابن أخت علي بن الحفاف، ونقله رهينة إلى فرنسا، عندئذ رجع علي بن الحفاف إلى مدينة الجزائر ليجد نفسه في حالة بؤس شديد، فهو عاطل عن العمل، وأملاكهم مصادرة، وفي نفس الوقت كان متهما بمعاداة الفرنسيين والانضمام إلى عدوهم. وقد كتب عدة رسائل تبريرية للسلطات الفرنسية، كما كتب إلى ابن أخته في فرنسا، رغم صغر سنه (13 سنة) يرجوه التدخل لصالحه مع شيوخه الفرنسيين والجهات العليا الأخرى. وبعد أن تبادل الفرنسيون فيما بينهم الآراء عن مصيره تغلب عندهم الرأي القائل بأن الرجل معاد لهم لا محالة ولكنه ما دام على حرمانه، وهو رجل مثقف فإنه يمكن لفرنسا أن تستفيد منه ما دام هو قد طلب

= المرحوم البوعبدلي (30 يناير 1976) إن الوفاة كانت سنة 1290. كان الشيخ العمالي على مذهب أبيه في التصوف، إذ كان رحمانيا أيضا.

ص: 80

ذلك. والغالب عندهم أن ابن الحفاف سيتوب توبة نصوحا رغم عدائه السابق لهم، وكان ذلك هو رأي (دي لا بورت) مسؤول الشؤون الداخلية عندئذ.

سمح الفرنسيون للمفتي عندئذ (1845) وهو مصطفى القديري أن يعطيه وظيفة حزاب وحضور بالجامع الكبير ليعيش منهما، وأظهروا له العفو والتغاضي (1). ولكن قضيته بقيت بدون حل. ففي 1844 كتب إلى ابن أخته في فرنسا يقول له أخبرهم أن (خالي عالم يقرأ وليس له شيء يدخله، وليس عنده وظيف، وليس الآن بيده شيء يعيش به). وكان ابن الحفاف يطالب بمسجد سيدي رمضان الذي كانت أسرته تتولاه منذ ستين سنة مضت، ولكن تولاه الشيخ قدور بن المسيسني إثر خروج ابن الحفاف من الجزائر. وفي 1847 ذكر في طلبه الجامع المذكور وألح على أنه عندئذ لا دخل له سوى عشرة فرنكات شهريا، مع أنه صاحب أولاد. ويبدو أن السلطات الفرنسية استجابت لطلبه فعينته سنة 1848 وكيلا لجامع سيدي رمضان. وفي سنة 1859 عينوه مفتيا في البليدة.

معلوماتنا الأخرى عن علي بن الحفاف مفرقة وضعيفة رغم شهرة أسرته وشهرته هو بين المعاصرين. من رسائله نعرف أنه كان ضعيف الأسلوب والثقافة. ولكن الرسائل تنتهي عند توليه وظيفة الفتوى، وهو تاريخ مبكر نسبيا. ذلك أن حياته قد امتدت بعد ذلك. فهل اكتسب علما جديدا، ومن أين؟ يقول مترجموه أنه من تلاميذ إبراهيم الرياحي التونسي، ولا ندري كيف تمت هذه التلمذة، ذلك أن الرياحي لم يزر الجزائر فيما نعلم (2). وكان ابن

(1) جاء في رسالة المفتي القديري إلى السلطات الفرنسية أن ابن الحفاف (طالب عظيم). انظر مقالتنا (من رسائل علماء الجزائر) في (أبحاث وآراء) ج 3.

(2)

جاء في كتاب (الحقيقة) لمحمد البهلي النيال، ص 330 أن إبراهيم الرياحي قد زار الحاج علي التماسيني سنة 1238، وكان التماسيني قد تولى مشيخة التجانية بعد وفاة أحمد التجاني بالمغرب. فإذا صح ذلك فإن زيارة الرياحي قد وقعت قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر بحوالي عشر سنوات. ولعله زارها وهو في طريقه إلى المغرب سنة 1218 هـ. وقد يكون زارها بعد ذلك.

ص: 81

الحفاف ممن أخذوا الإجازة عن الشيخ محمد الصالح الرضوي البخاري ولكنها كانت إجازة في الاسم الأعظم فقط وليس في العلوم. ولعل ابن الحفاف قد درس على بقايا الشيوخ في عهد الأمير عبد القادر، وقد عرفنا أن من أصهاره قدور بن رويلة كاتب الأمير الشهير وواضع اسمه على كتاب (وشائح الكتائب). ولم يترجم أبو القاسم الحفناوي في تعريف الخلف لابن الحفاف رغم قربه منه ومعرفته له وأخذه إجازة عنه يوما واحدا قبل وفاته سنة 1307.

ويبدو أن ابن الحفاف تولى الفتوى المالكية والتدريس في الجامع الكبير على إثر وفاة الشيخ حميدة العمالي سنة 1873. وبذلك يكون قد تولى في فترة الحاكمين العامين شأنزي ولويس تيرمان، وكلاهما حكم في فترة حالكة السواد من تاريخ الجزائر بالنسبة لاضطهاد العلماء والتعليم، كما عرفنا. ولذلك لا نستغرب أن يمل ابن الحفاف المقام في الجزائر وأن تحدثه نفسه بالهجرة إلى المشرق. فقد رأى وسمع بما حدث لمواطنيه على أثر ثورة 1871 وثورة بو عمامة. وشاهد غطرسة الكولون في عهد الجمهورية الثالثة المتنمرة وتجنيس اليهود الجماعي، وإهانة القضاء الإسلامي بإلغاء صلاحيات المحاكم الإسلامية إلا في الأحوال الشخصية. ونحو ذلك من أنواع الإذلال والغطرسة. وكانت في ابن الحفاف رواسب حركة المقاومة البكر التي انضم إليها. وقد حدثته نفسه حتى بالانضمام إلى الطريقة الشاذلية، طريقة الشيخ محمد الموسوم بقصر البخاري. ويقال أنه هو الذي اقترح هذا الرجل الصوفي إلى منصب مدير المدرسة الشرعية - الفرنسية الرسمية على السلطات. ولكن الشيخ الموسوم رفض العرض. وكان الشيخ ابن الحفاف يبحث عن ولي وصديق يشد به أزره ويشاوره في أمره.

وجاء هذا في شخص محمد بيرم الخامس سنة 1878. فقد ساره بسره وخلجات نفسه، وهي الرغبة في الهجرة. وكان بيرم رحالة جواب آفاق، يعرف العالم الإسلامي والأروبي. فنصح ابن الخفاف بالبقاء لخدمة العامة لا الخاصة، في دروسه في الفقه والتوحيد وبعض المعارف الدينية المسموح

ص: 82

بها من قبل فرنسا منجاة للعامة ومحافظة على الدين، وقد أخبره الشيخ بيرم، وكان صادقا بأن أمثاله قليلون في القطر، وأن بقاءه أنفع للعامة وله عند الله، من خروجه برأسه، تاركا الأمة خالية عن مثله. بالإضافة إلى أن خروجه قد يحمل الغير على تقليده أيضا، وبذلك تبقى العامة بلا معلمين للدين، وتندثر الديانة الاسلامية من العامة بالتدرج. أما بقاؤه فيؤدي، في نظر بيرم، إلى نشر للعلم والعقائد والفقه وحفظ هذه الديانة. وذكره بأن الأسرى إذا لم يتمكن الفادون من افتدائهم جميعا يؤخر العلماء، حسب كتب الفقه. والمعروف أن ابن الحفاف قد شارك في موضوع الهجرة الجماعية التي أثارها صهره قدور بن رويلة مع الشيخ الكبابطي حوالي سنة 1844، وها هو يثير الموضوع فرديا سنة 1878.

وصفه الشيخ بيرم بأوصاف العلماء (الأسرى) فعلا. فهو من الأخيار عنده. وهو يمتاز بالسكينة والتقوى والتفقه والسعة في الحديث، وأنه إمام وخطيب الجامع الكبير. وقد زاره في مقصورة الجامع حيث يستقبل خاصة الزوار. وهذا التنويه كان في محله لأننا نعرف أن لابن الحفاف تقاييد ومؤلفات وأشعارا. وله إجازات إلى بعض المعاصرين أمثال بلقاسم الحفناوي، والمكي بن عزوز، والقاضي شعيب بن علي (1).

6 -

محمد بن مصطفى بن الخوجة المعروف بالمضربة وبمصطفى الكمال. قضى حياته العلمية بين المسجد وجريدة المبشر والتأليف. وأثناء أدائه لمهمة التدريس والخطابة جاء تنظيم الدروس بالمساجد سنة 1898 ثم 1955 و 1905. فكان من المدرسين المشار إليهم بالبنان، رغم قلة تلاميذه. ولعل قدرته على التأليف قد فاقت قدرته على التدريس، رغم فصاحة لسانه وقلمه، على ما قيل عنه. وكان يجمع الشعر إلى النثر،

(1) انظر عنه من رسائل علماء الجزائر في (أبحاث وآراء) ج 3، ط. بيروت، ومحمد بيرم الخامس (صفوة الاعتبار

) مرجع سابق، 4/ 16. وتعريف الخلف، 2/ 269. وكذلك أرشيف ايكس (فرنسا)11.22 (رسالة وجهها إلى مدير الشؤون المدنية). وكذلك رسائل مصطفى القديري. وعن تآليفه وإجازاته انظر الأجزاء اللاحقة.

ص: 83

والتمسك بالتراث إلى الإيمان بالإصلاح على طريقة الشيخ محمد عبده. وباعتباره أحد مدرسي هذه الفترة في العاصمة استحق منا هذه اللفتة. أما مؤلفاته فسنعالجها في موضوعها إن شاء الله، وكذلك سنتناول دوره في جريدة المبشر في موضعه.

من الذين عرفوه عن كثب وترجموا له هو الشيخ عمر راسم، الصحفي والرسام وقد اعتبره شاعر الجزائر وقال إن له ديوانا ضاع وأنه كان هجاء، الخ. ونحن لا يهمنا شعر محمد بن مصطفى خوجة الآن ولكن هذه الميزة التي عرف بها بين معاصريه. كما وصفه عمر راسم بأنه كان خبيرا بشؤون المشرق حتى كأنه عاش فيه مائة سنة. ونحن نفهم من هذا أنه كان يتابع تطورات المشرق في الفكر والسياسة والأدب نتيجة عمله في جريدة المبشر، ولعله كان مكلفا فيها بقسم المشرق وإنتاج المطابع هناك وشخصيات الشرق وتياراته الفكرية. ألم يسند هو حركة الشيخ محمد عبده ويؤمن بطريقتها في التعليم والتحديث والابتعاد عن السياسة؟ ألم يراسل الشيخ محمد رشيد رضا ويقرأ مجلة المنار ويعجب بمبادئها؟ وتشهد تآليفه عن المرأة وعن التسامح الديني وعن الدفاع عن الإسلام وغيرها على متابعته للقضايا الاجتماعية والثقافية والدينية التي كانت تتفاعل في المشرق.

ولد الشيخ محمد بن مصطفى خوجة سنة 1281 (1865)، أي زمن الحديث عن المملكة العربية في عهد نابليون الثالث، وزمن المرسومين الشهيرين اللذين أثرا على مستقبل الجزائر (الفرنسية): أولهما مرسوم تمليك الأرض العرشية للأفراد، ومرسوم فتح التجنس بالجنسية الفرنسية لمن يشاء بشرط التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية. لقد نشأ هذا الشيخ في مرحلة انتقالية من سيطرة العسكريين إلى سيطرة المدنيين الفرنسيين، وضياع حقوق الجزائريين بين هؤلاء وأولئك. ولا ندري إن كان الشيخ قد درس في إحدى المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، والظاهر أنه لم يفعل لأن المترجمين يذكرون من شيوخه المفتي علي بن الحفاف وهو لم يكن من مدرسي هذه المدارس. وبدون شك أنه قرأ على آخرين مثل الشيخ محمد

ص: 84

السعيد بن زكري، وكان هذا من خريجي الزوايا وليس من خريجي المدارس. ولا نعلم أن ابن خوجة قد درس في غير العاصمة، لا في الزوايا الداخلية ولا المعاهد الإسلامية في الخارج، ولذلك يمكننا القول إنه كان عصاميا في اكتساب ثقافته.

ويبدو أنه بدأ العمل في جريدة المبشر كمحرر فيها قبل العمل في التدريس بجامع صفر. وقد تعلم من المبشر العمل مع المستشرقين الفرنسيين وعرف عن كثب ماذا كانوا يريدون منه ومن الشعب، وكيف يحرفون الأخبار لتناسب أهواءهم وسياستهم، وعرف اهتماماتهم بالمشرق، زمن حكم السلطان عبد الحميد والثورة الإيرانية، واحتلال مصر، وثورة المهدي السوداني، فكان له ذلك في حد ذاته ثقافة عملية واسعة في فن الصحافة الاستعمارية وأحوال العالم الإسلامي. ولا نستبعد أن تكون بعض مؤلفاته من وحي هذه الظروف. وقد يكون بعضها من دافع الفرنسيين أنفسهم، مثل كتاب الصحة. وكانت الموضوعات التي عالجها حية وذات صلة بوقائع الساعة كالتعليم والمرأة وموقف الإسلام من العلم والتقدم. ولكن الرجل كان يراسل رجال الشرق مثل الشيخ محمد عبده ورشيد رضا ومحمد فريد ويراسلونه، وهذا لا يرضي الفرنسيين، لأنه كان في موقع، كما قلنا، حساسا جدا إذ كانت الجريدة التي يعمل بها هي لسان حال الإدارة الفرنسية للجزائريين - المسلمين عامة. وقد يكون ذلك هو سبب تفريغه لدروس المسجد والتأليف بدل التحرير في الجريدة.

وقد وصف عمر راسم الشيخ ابن خوجة عندئذ بأبي النهضة الجزائرية. ولا شك أن ذلك كان انطلاقا من الأفكار المتسامحة والواعية التي كان ينشرها حول الإسلام والمسلمين واللغة العربية. ولنا أن نقول أيضا إن هذه الأفكار هي التي كان يبثها في دروس المساجد أيضا وفي خطب الجمعة. فهو إذن داعية إصلاح وتقدم اجتماعي بمفهوم ذلك الوقت. وقد وصفه المترجمون بأنه دعا إلى نبذ البدع والخرافات وتحرير العقل، وهذا يتماشى تماما مع دعوة الشيخ محمد عبده الذي يشايعه.

ص: 85

لا ندري ما العمل الذي مارسه الشيخ ابن خوجة قبل 1896. فقد كان عمره عندئذ حوالي 31 سنة. هل درس بالمدارس الشرعية بعد إصلاحها سنة 1895؟ هل مارس وظائف في القضاء؟ لا نملك الآن الوثائق على ذلك. إنما نعرف أنه بين 1896 و 1951 قد عمل في المبشر. ومنذ التاريخ الأخير جلس للتدريس في المسجد، كما ذكرنا، ولا نعرف أنه درس في غير العاصمة. وكان بالإضافة إلى التدريس يعمل في المطابع مصححا ومحققا لبعض الكتب. من ذلك أنه هو الذي صحح تفسير (الجواهر الحسان) للشيخ الثعالبي الذي نشرته مكتبة ومطبعة رودوسي حوالي سنة 1904. كما بدأ في تحقيق كتاب للشيخ السيوطي حول الاجتهاد. وكان في المساجد يدرس للعامة الفقه والتوحيد وبعض التفسير مما تسمح به السلطات الفرنسية. وقد وصفه عمر راسم بأنه كان حلو الكلام فصيح اللسان، وأنه كان يستشهد بالحديث والقرآن، وكأن الكتب القديمة مرآة بين عينيه يتذكرها ويستشهد منها بدون تكلف. وفي تقرير ويليام مارسي، مدير مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، الذي فتش دروس محمد بن مصطفى خوجة في المسجد، إشادة كبيرة به إذ قال عنه إنه أفضل من يعرف العربية، ويتكلم بها بطلاقة، كما أشاد بليبراليته. (أي اتساع أفكاره وتسامح آرائه) واعتبره من أفضل الدعاة (الوسائل) لنشر التحرر الفكري بين المسلمين. وكان ذلك بناء على تقرير سنة 1905 - 1906، وهي أول سنة أصبح فيها المدرسون المسلمون تحت رقابة المستشرقين الفرنسيين، مدراء المدارس الشرعية - الفرنسية.

لا يختلف تقرير 1906 - 1907 عن سابقه حول مكانة الشيخ محمد بن مصطفى خوجة. فقد كان يدرس خمس ساعات أسبوعيا. ويبدو أن الشيخ قد أصيب بمرض خطير أعاقه عن التدريس فترة طويلة (دام أشهرا). ثم استأنف دروس النحو والقواعد العربية. وكان التلاميذ الذين يحضرون درسه هم: عمال المسجد، وتلاميذ السنة الخامسة من مدرسة الجزائر (أي القسم العالي)، ثم بعض الخواص من سكان مدينة الجزائر. ووصفه المفتش الفرنسي بأنه صاحب ذاكرة عجيبة، وأنه نابغة وخطيب، وهو يفرض قدرته

ص: 86

على الإفصاح والإبانة. وأنه يدعو التلاميذ إلى (حرية الفكر في موضوع العقيدة). ولا ندري ماذا يقصد المفتش بذلك، ولكن يبدو أن الشيخ كان غير متزمت - كما نقول اليوم - ولعله كان يدعو إلى التخلص من الدجل والخرافة. وأضاف المفتش أن ابن الخوجة كان يفيد التلاميذ كثيرا وأن له القدرة على التأثير في مستمعيه. وقد أضاف إلى ذلك مؤهلا آخر وهو كونه مؤلفا ورجل دين. ومن ثمة فإن الفرنسيين سيجنون من دروسه فائدة كبيرة إذ كان (نصيرا قابلا للاستعمال لعملنا الحضاري).

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولي دخلت الجزائر في عهد من المحاصرة والحصار وتوقف الحياة الفكرية، واختفاء الصحف والنوادي التي ظهرت خلال العشرية الأولى من هذا القرن. فما الذي فعله ابن الخوجة؟ لقد أشرنا إلى أن تقرير سنة 1907 يذكر أن مرضه خطير. ويبدو أنه قد قاوم المرض وظروف الحرب إلى 1915. فقد وجدنا تقريرا آخر لمفتش فرنسي جديد هو (سان كالبر)، الذي أصبح مديرا لمدرسة الجزائر بعد ديستان ومارسيه (ويليام)، يشير في سنة 1914 إلى الشيخ ابن الخوجة على أنه من الطبقة الأولى (راتبه 1800 فرنك سنويا) من المدرسين، ويسميه محمد الكمال، وأنه من مدرسي جامع صفر وخطبائه. ولكن تقرير 1916 يذكر أن مدرس وخطيب هذا الجامع لم يعد محمد الكمال (ابن الخوجة) وإنما هو حمود دحمان. وهكذا يكون ابن الخوجة قد توفي سنة 1915. وليس هناك عندئذ صحافة وطنية (أهلية) تنعاه ولا إذاعة، اللهم إلا جريدة المبشر لسان حال الإدارة الفرنسية والتي سبق له العمل فيها.

إن هدف الفرنسيين من التعليم المسجدي الجديد ليس دروس الفقه والتوحيد، كما كان الحال سابقا، أو رفع مستوى العامة في شؤون دينهم وتراثهم، ولكن نشر الأفكار الفرنسية والترقي بالدراسات الإسلامية، كما يقول تقرير والي ولاية الجزائر عندئذ إلى الحاكم العام. كان تعليم النحو والأدب وقواعد اللغة إلى التلاميذ الذين يدرسون في المدارس الابتدائية العربية/ الفرنسية الخاصة بالأهالي، أو المترشحين لدخول إحدى المدارس

ص: 87

الشرعية - الفرنسية الثلاث. ولا شك أن تحرر أفكار ابن الخوجة وقلمه وفصاحة لسانه كانت تخدم هذا الاتجاه الفرنسي الجديد. ولكن بعض الجزائريين، مثل عمر راسم، كانوا يرون فيه داعية إصلاح وأبا لنهضة، فهو من مستوى عبد القادر المجاوي والشيخ أطفيش المعاصرين له، رغم صغر سنه نسبيا، إذ توفي عن خمسين سنة فقط (1).

7 -

الحفناوي بن الشيخ: خلافا لزميله محمد بن مصطفى خوجة. كان الحفناوي بن الشيخ يمتاز بعدة أمور، منها أنه ابن بادية، ثم انتقل إلى الحاضرة، وأنه تعلم في الزوايا ثم لدى الفرنسيين، وأنه جمع إلى التحرير في المبشر التدريس في الجامع الكبير، ثم أنه تولى الفتوى المالكية وطال عمره حتى نضج بل هرم.

ولد بقرية الديس قرب بوسعادة سنة 1850. وكانت المنطقة عندئذ ما تزال تحت تأثير ثورة الزعاطشة، التي أدت إلى احتلال بوسعادة ونواحيها وانتصاب المكتب العربي بها (الإدارة الفرنسية الجديدة)، ونفي أبرز الشيوخ الذين أيدوا الثورة مثل محمد علي بن شبيرة وأخيه. ولم تكن زاوية الهامل قد تأسست بعد. والزاوية المعروفة والقريبة عندئذ هي زاوية علي بن عثمان

(1) هناك عدة مصادر رجعنا إليها حول ابن الخوجة. منها تقارير المفتشين ويليام مارسي، وديستان، وسان كالبر، وبعض هذه التقارير ضاعت منا سنة 1988، ولم نستطع تعويضها. ومن الأوراق الباقية الأرقام التالية: أرشيف ايكس (فرنسا) 47 H 14، (1905 - 1906)، و (12/ 9 - 1907)، و 1914، 1915، 1917، كذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 225، ودبوز، نهضة، 1/ 128 - 132 سيما ما نقله عن (تراجم بعض أعلام الجزائر) لعمر راسم. انظر أيضا رسالة الباحث عبد المجيد بن عدة (مظاهر الإصلاح)، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. وتوجد مؤلفات ابن الخوجة في رقم 81 H 10 بأرشيف ايكس (فرنسا). وسنتناول مؤلفاته في جزء آخر.

ص: 88

بطولقة. فذهب إليها الفتى الحفناوي، بعد أن تعلم على والده مجموعة من المبادئ في النحو والصرف والعروض والفقه والتوحيد والمنطق والحساب والبلاغة. كانت تلك أول غربة للفتى الحفناوي حيث قضى في زاوية طولقة أربع سنوات. ولكن ذلك لم يشبع نهمه العلمي فتوجه بعد ذلك إلى زاوية ابن أبي داود بتاسلنت في زواوة، وهي الزاوية التي تخرج منها أيضا محمد بن بلقاسم مؤسس زاوية الهامل. وقد أشاد الحفناوي بزاوية ابن أبي داود في مؤلفاته، فقال إنها أم الزوايا العلمية. ولا ندري كم بقي هناك، إذ رجع ليدرس الحديث على الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي في زاويته الجديدة. ولكن تعطشه للعلم أبى عليه أن يرضى بما عنده، فذهب إلى نفطة حيث الزاوية العزوزية الشهيرة بالعلم والطريقة الرحمانية. ومن الملاحظ أن الزوايا التي تردد عليها الشيخ الحفناوي كلها رحمانية. ولا ندري إن كان قد اكتفى بنفطة أو ذهب أيضا إلى حاضرة تونس.

وبعد سنوات من الرحلة في سبيل العلم والتلقي عن شيوخ كثيرين، توجه إلى العاصمة سنة 1883 في ظروف غير معروفة. وتولى بها وظيفة رسمية بعد سنة من وصوله، يقولون أنه جاء العاصمة ليبحث عن مسائل في كتب التراث. ولكن العاصمة عندئذ كانت مدينة أروبية، فهل أرسلته بعض الجهات في المكتب العربي لهذا الغرض (1)؟. ومنذ وصوله لاحظ عليه المستعرب (الشيخ آرنو)، مدير جريدة المبشر النباهة فأخذه عنده ليخلف الصحفي الشهير أحمد البدوي. وكان آرنو Arnaud متوليا أيضا وظيفة (رئيس المترجمين) بالإدارة الفرنسية، فلازمه الحفناوي فترة طويله، وتعلم على يده اللغة الفرنسية، والعلوم العصرية، كما يقول الحفناوي عن نفسه، وظل الحفناوي في جريدة المبشر إلى أن توقفت عن الصدور سنة 1927. وكان يقوم فيها بدور المحرر والمصحح، ولكن الموضوعات كانت من اختيار

(1) كان لويس رين L.RINN عندئذ يجمع مادة كتابه (مرابطون وإخوان). وكان رين وهو من الضباط، مديرا مركزيا للشؤون الأهلية. فهل مجيء الحفناوي عندئذ إلى العاصمة له صفة بهذا الموضوع؟.

ص: 89

الفرنسيين، فكان يترجم من الوثائق الفرنسية، وكان يشيد بالآثار العلمية الفرنسية ترغيبا للجزائريين وإرضاء للفرنسيين، فمدح باستور وأبرز دوره في اكتشاف داء ودواء الكلب ولكنه ربط بين ذلك ودور العرب في الطب.

كان الشيخ الحفناوي واسع المعارف، جماعا للكتب والوثائق، قوي الذاكرة. وقد ازدوجت لغته وتعمقت ثقافته العربية والفرنسية بالمطالعة والاتصال بأعيان المترجمين الفرنسيين. وقد استغل هؤلاء قدرته اللغوية ومعارفه العربية الإسلامية، لصالحهم، وكان أول من استغله هو (الشيخ آرنو) - كما يسميه. وقال عنه أنه الترجمان الأكبر بالحكومة العامة وأنه هو شيخه في العلوم العصرية واللغة الفرنسية، وأنه هو الذي رباه عقليا وعلميا فارتقى إلى (درجة أفتخر بها على أبناء وطني)(1)، وقال أنه قد علمه أيضا التواضع القلبي والترفع القالبي على أهل الكبرياء، ووصفه بأنه رجل حكيم، وقد لازمه اثني عشر سنة.

هذه العلاقة قد نوه بها الحفناوي نفسه. وهناك علاقة أخرى لم يذكرها هو وإنما ذكرها الفرنسيون أنفسهم. يقول ديبون وكوبولاني Copolani و Dupont إن الشيخ الحفناوي قد وضع نفسه تحت تصرفهما أثناء تأليف كتابهما الضخم (الطرق الدينية الإسلامية). وأنه صحح بمعارفه الغزيرة Prodegue ترجماتهما في موضوع الطرق الصوفية. وقد خصاه بالشكر، وهو الوحيد الذي نوها به من علماء الجزائر، على مساعدتهما (2). ومن الشخصيات الأخرى التي عمل معها الحفناوي بن الشيخ مدراء الشؤون الأهلية المحنكين مثل دومينيك لوسياني وجان ميرانت J.Mirante أما الأول فقد نشر كتابه (تعريف الخلف) في عهد

(1) الحفناوي بن الشيخ (تعريف الخلف)، 2/ 409. والمعروف أن (آرنو) اسم مستعار، ولا ندري الآن اسمه الحقيقي. فهل كان ذلك يغيب عن الحفناوي؟.

(2)

لعل الحفناوي قد استوحى مشروع (تعريف الخلف) أثناء عمله مع هذين المؤلفين، إذ رجعا إلى الموسوعات وكتب التراجم مثل ابتسام العروس لعمر الجزائري، والدرر الكامنة، وروض القرطاس، وابن خلدون، الخ. انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية

)، ط الجزائر، 1897، المقدمة، ص 27 (بالأرقام الرومانية).

ص: 90

إدارته، وهو الذي وفر المال لطبعه على نفقة حكومة جونار. وأما الثاني (ميرانت) فقد نشر بالتعاون معه كتابا في حفظ الصحة مترجما إلى العربية من تأليف الفرنسي (دركل)، وغير ذلك. وبالإضافة إلى ذلك كان الشيخ الحفناوي يكتب في جريدة (كوكب افريقية) التي أسستها حكومة جونار وأسندت إدارتها إلى زميله الشيخ محمود كحول (1).

فأين كل ذلك من التدريس الذي نحن بصدده؟ منذ 1897 تولى الشيخ الحفناوي أيضا التدريس في الجامع الكبير بالعاصمة. إنه لم يكن من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية وإنما من خريجي الزوايا المرابطية والصوفية. ومع ذلك وجد طريقه إلى الوظيف الديني التعليمي الذي كان من المفروض أن يقوم به المفتى نفسه. وإلى جانب ذلك نلاحظ أنه قد جمع بين العمل في إدارة المبشر والتدريس في المسجد. فهل هذا امتياز له؟ إن أفكاره الظاهرية تتماشى مع الأفكار التي يريد الفرنسيون ترويجها بين الجزائريين. ويبدو أنه لم يكن له طموح سياسي ولا تطلع إلى زعامة، بل كان كما قال عن نفسه، متواضعا يحب العمل، وقد وجده في الثقافة، وقد غرق فيها باللغتين، ولا يهمه ما إذا كانت هذه الثقافة تخدم بلاده أو بلاد الآخرين. إن محيط الشخصيات الفرنسية التي ذكرناها والتي كان يتعايش معها قد وضع الضباب على عينيه، فلم يعد يرى أبعد من يومه. والغريب أننا نجده متأثرا بثقافته الصوفية في كتابه (تعريف الخلف) ولا نكاد نجده متأثرا بالعلوم العصرية التي افتخر أنه تعلمها على يد ارنو. وسنرى ذلك في حديثنا عن كتابه في جزء لاحق من موسوعتنا هذه.

إذا كان كثير من القضاة والمدرسين يفتحرون بأنهم تلاميذ عبد القادر المجاوي، فإننا لا نجد إلا القليل النادر من الذين يفتخرون بأنهم تتلمذوا على الشيخ الحفناوي بن الشيخ، رغم طول عمره. حقا إن المجاوي كان مدرسا بالمهنة في مدرسة قسنطينة ثم الجزائر، أما الحفناوي فكان مدرسا

(1) عن الشيخ كحول انظر الفصل الخاص بالمنشآت الثقافية.

ص: 91

بالهواية. فابتداء من سنة 1897 أخذ يدرس مواد لغوية ودينية في الجامع الكبير. ومن تلاميذه فيها الشيخ والمؤرخ عبد الرحمن الجيلالي الذي ترجم له في كتابه (تاريخ الجزائر). وبين توقف جريدة المبشر عن الصدور سنة 1927 وتوليه وظيفة الفتوى سنة 1936 بقى الشيخ الحفناوي مدرسا للعامة من جهة ولتلاميذ المدارس العربية - الفرنسية من جهة أخرى. ويبدو أنه لتواضعه أو لحيائه كان، كما يقول عنه تلميذه الجيلالي، ينيب عنه تلاميذه في الخطابة على المنبر منذ توليه الفتوى، إلا مرة واحدة. ومن الجدير بالذكر أنه تولى الفتوى خلفا للشيخ محمود كحول (ابن دالي) الذي اغتيل في ظروف غامضة سنة 1936.

أما التدريس فلدينا بعض تقارير المفتشين الذين قيموا تجربة الشيخ الحفناوي، حسب الرغبة الفرنسية من دروس المساجد التي استحدثت حوالي 1955. وكان من أهل الطبقة الأولى كزميله ابن الخوجة. وكنا قد جمعنا عدة تقارير فيها اسمه من بين المدرسين لكنها للأسف ضاعت منا. ولم يبق لنا إلا التقرير الذي أشار إليه عبد الحميد زوزو، وهو يرجع إلى سنة 1906 - 1907. واسمه فيه هو أبو القاسم الحفناوي، وكان يدرس خمس مرات أسبوعيا، ويحضر إليه عمال الجامع، وبعض خواص المسلمين القاطنين مدينة الجزائر، لتوسيع معارفهم الدينية، وكان درسه في الفقه، رغم أن ذلك ليس من مهمات الدروس الجديدة. ولعل الجامع الكبير كان استثناء في ذلك، لصلته بالعامة، ولذلك لم نجد من بين الحضور تلاميذ المدارس الفرنسية. ويهمنا حكم المفتش وهو ويليام مارسيه، على الشيخ الحفناوي. فقد قال عنه أن له ثقافة واسعة، وفكرا حرا، وأسلوبا واضحا. وهو يعطي المستمعين إليه مبادئ العلوم الأروبية، وأنه ناجح في طريقة تقديمها إليهم دون مصادمتهم، وهم يستفيدون منه. وهذا يعني أن مهمته قد تحققت في نظر الفرنسيين (1).

(1) عن الحفناوي توجد مراجع عديدة منها كتاب زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 225، إضافة إلى ما ذكرنا قبل هذا، هناك سعد الدين بن شنب (النهضة العربية) =

ص: 92

توفي الشيخ الحفناوي بمسقط رأسه الديس، سنة 1942 عن أكثر من 95 سنة. ولعله عجز وتقاعد قبل تاريخ الوفاة. ولقد عاش أحداثا جساما مرت بالجزائر، وتداول عليها عدد من الحكام والقيادات الجديدة. وقد عاش حتى رأى سقوط فرنسا سنة 1940. ترى هل غير رأيه فيما كان يقول ويكتب في بداية القرن؟ (1) إن كل كتاباته المعروفة إنما ظهرت بين 1955 - 1915. فلماذا توقف قلمه بعد ذلك؟ وهل دون به ما لم يصلنا؟.

8 -

عبد الحليم بن سماية: من أسرة علمية بالعاصمة. كان أبوه علي بن سماية من المدرسين في مدينة الجزائر مدة طويلة، وكان أيضا من محرري جريدة المبشر (2). ولد عبد الحليم في 15 يوليو، 1866، حوالي نفس التاريخ الذي ولد فيه معاصره وبلديه محمد بن مصطفى خوجة. ولعل لكليهما أصولا عثمانية بالمصاهرة أو بارتباطات أخرى. يبدو أنه درس في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية بعد إصلاحات 1877، وهي التي كان والده أستاذا بها. فهو يحسن الفرنسية أيضا، وفي نفس الوقت تمكن من اللغة العربية والعلوم الإسلامية. فهو من ذلك الجيل الذي درس في المدرسة بعد فرنستها بقرارات شأنزي، على ما نعتقد. ونعرف أيضا من مصادر مختلفة أنه زار بلاد الشام، ولعله أدى فريضة الحج، وانتقل إلى تونس حيث أقام أياما من أجل أخذ الإجازة عن أحد العلماء وهو: محمد بن عيسى الجزائري

= في مجلة كلية الآداب، ص الجزائر 1964. ولنفس المؤلف أيضا بحث عن المؤرخين العرب (الجزائريين) في المجلة الإفريقية R.A، 19. انظر أيضا ورقة للباحثة رقية شارف، قسم الماجستير 1993، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. انظر فصل التاريخ والتراجم لاحقا.

(1)

شارك الحفناوي أيضا ببعض المحاضرات في الجمعيتين الرشيدية والتوفيقية أوائل هذا القرن. انظر كتابنا (الحركة الوطنية)، الجزء 2 ط 4.

(2)

من الرسائل التي ضاعت منا سنة 1988 رسالة حررها بأسلوب جيد وإداري علي بن سماية يشكو فيها حاله إلى السلطات الفرنسية ويذكر فيها عدد السنوات التي قضاها بالمبشر. وقد ذكره إيميل ماسكري في كتابه (رؤى أفريقية) وتعلم العربية على يده ونوه به.

ص: 93

الأصل والذي هاجر وأصبح من كتاب الدولة التونسية.

واتسعت ثقافة ابن سماية نتيجة لظروف أخرى يطول بنا الحديث لو ذكرناها بالتفصيل، فقد تبنى مذهب الشيخ محمد عبده في الإصلاح، وكان مواظبا على الاطلاع على مجلة المنار، وحين زار الشيخ عبده الجزائر سنة 1903 نزل بدار الشيخ عبد الحليم، وكان هو مرافقه الدائم، وله صور معه، ومراسلات، ومدح ورثاء له بالشعر ونحوه، سنذكرها في فصل الجزائر والمشرق. والأمر الثاني هو حضور ابن سماية مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905، وإلقاؤه بحثا فيه عن وضع الإسلام عندئذ. والثالث هو دوره في معارضة التجنيد الإجباري، وتزعمه للتيار الرافض له على أساس ديني وأخلاقي، وفهم الفرنسيون منه أنه موقف مؤيد للدولة العثمانية وحركة الجامعة الإسلامية. وقد وجد ابن سمايه مساندة قوية في ذلك من عمر راسم وعمر بن قدور وغيرهما من أعيان الصحفيين الوطنيين.

رغم ثقافته المزدوجة، فإن إنتاجه العلمي غير قوي. فلم يبلغ إنتاجه مبلغ إنتاج ابن أبي شنب ولا ابن الخوجة ولا الحفناوي. له مقالات في الصحف المعاصرة، ومشروع كتاب لم يظهر، فيما نعلم، ويدل شعره ونثره على قدرة كبيرة لو أحسن توظيفها. ولعل مهنة التدريس قد استأثرت به، كما هو حال الكثير من المدرسين الذين تفرغوا لتكوين التلاميذ بدل الكتب. وقد كان متأثرا بروح العصر التقليدية أيضا، وهي البحث عن أسانيد العلم، عن طريق الإجازات. فإلى جانب رحلته إلى تونس لهذا الغرض حيث حصل على الإجازة في كتاب (المواقف) للعضد، هناك رحلته إلى زاوية الهامل حيث لقى الشيخ محمد بن بلقاسم، وبقى عنده أياما وأجازه، وله إجازة أيضا من قاضي تلمسان في وقته: شعيب بن علي. وقد يكون له إجازات أخرى بالمراسلة أو بالاجتماع أثناء رحلته إلى المشرق (1).

(1) لابن سماية جوانب عديدة سنتناولها في موضوعها، مثلا ولعه بالموسيقى سنتناوله في فقرة الموسيقى، ومكتبته في فقرة المكتبات، وتآليفه في مكانها من الفن الذي نعالجه.

ص: 94

تولى ابن سماية التدريس بمدرسة الجزائر التي أصبحت تسمى الثعالبية، منذ حوالي 1896، عند إعادة تنظيم المدارس على أثر إصلاحات 1895. وهذا التدريس لا يعنينا هنا، إنما يعنينا التدريس في المسجد الذي تولاه في الجامع الجديد. وكانت تقارير المفتشين الفرنسيين تشيد به وبعلمه وبطريقته في التدريس وفصاحة لسانه. وكان من الذين نالوا أوسمة علمية تشجيعأ لهم أو اعترافا بفضلهم في أداء مهمة التدريس في الجامع والقسم العالي في المدرسة. وكانت الأوسمة توصى بها تقارير المفتشين، وقد نالها في عهد جونار عدد من الأساتذة، سيما الذين بدأوا حياتهم في المدرسة الفرنسية.

بعض المترجمين لابن سماية لا يقدمون معلومات موثقة يمكن الاعتماد عليها دون مراجعة ومقارنة. من ذلك أن الشيخ الكبابطي كان جد ابن سماية لأمه، وأن والده (علي) أو جده (عبد الرحمن) قد درس في مصر ثم رجع إلى الجزائر. وأن عبد الحليم قد بدأ قراءته بالمدرسة القرآنية، ثم انهمك يقرأ من مكتبة والده. وأنه درس الكيمياء والطبيعة على الأستاذ جولي (الإسكندر A.Joly) في المدرسة الشرعية - الفرنسية. وأنه تعلم الفلك على عارف باي، وهو نجل عارف باشا حاكم بغداد، حين زار الجزائر. كما تذكر بعض المصادر أنه تعلم أيضا اللغة العبرية، وكان يلبس اللباس العربي الإسلامي ويعتز به، كما كان يفعل ابن أبي شنب والمجاوي وابن الكبابطي وغيرهم. وهذا التقليد كانت تشجع عليه الإدارة أيضا لأنه في نظرها يزيد من تأثيرهم على العامة والتلاميذ بخلاف ما إذا قلدوا الفرنسيين في ذلك إذ تذهب هيبتهم وينتفي تأثيرهم (1).

هناك تقريران عن ابن سماية كمدرس ناجح في الجامع الجديد. الأول كتبه ويليام مارسيه، ووصفه فيه بفصاحة اللسان وحرية الفكر وسلامة اللغة، وقال عنه أنه من المتعاونين البارزين في المدرسة أيضا (القسم العالي)، كما أن مستوى درسه في الجامع كدرسه في المدرسة. أما المادة

(1) انظر عن ذلك فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

ص: 95

التي حضر له فيها المفتش فهي النحو والبلاغة، وكان الشيخ عبد الحليم ولوعا بالأدب العربي ونصوصه. أما الحاضرون له فهم عمال المسجد وبعض الخواص من أعيان المدينة، إضافة إلى طلبة القسم العالي من المدرسة الثعالبية.

وفي تقرير آخر للمفتش ديستان، وصفه بالمثقف المتمكن والمتنفذ في مدينة الجزائر. وكان ذلك على أثر حملة التجنيد الإجباري (1912). وقال التقرير أن له درسين في المسجد عام وخاص. وهو يستعمل دفتر المناداة. وعدد الحضور يتراوح بين العشرة والثلاثين. مع نفس تصنيف التلاميذ السابق. غير أن الدروس الخاصة يحضرها تلاميذ السنة الأولى للمدرسة مع تلاميذ أحرار مترشحين لدخول نفس المدرسة. وكان الدرس الخاص (للتلاميذ) في مادة النصوص الأدبية من كتاب (المستظرف) وغيره. أما الدرس العام فهو في التفسير وشرح الأحاديث. وأما عدد الساعات الأسبوعية في كلا التقريرين فواحد، وهو خمسة لقاءات. ولكن التقرير لاحظ أن الشيخ كان متغيبا في عطلة منذ 15 أبريل 1912. وإذا كان عدد المواظبين عليه حوالي 12 في الدرس الخاص وحوالي 20 في الدرس العام، فإن حركة التعليم المسجدي كانت غير قوية، إذ لا يوجد في العاصمة سوى أربعة مساجد تجري فيها الدروس على النحو المشار إليه. وهو عدد سنوي تقريبا، لأن التفتيش يجري سنويا (1). وباعتبار ابن سماية من الطبقة الأولى كان راتبه 1800 ف سنويا، ابتداء من سنة 1915.

(1) ارجع إلى تقرير ويليام مارسي المذكور سابقا (1906 - 1907) وإلى تقرير ديستان 1912. وكذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 226 - 227. ودبوز (نهضة

) 1، مرجع سابق، ص 106 - 127، وقد نقل عن تراجم عمر راسم أيضا. انظر أيضا عبد الرحمن الجيلالي (جوانب من كفاح الشيخ عبد الحليم بن سماية السياسي والثقافي)، مجلة الأصالة عدد 13 مارس - إبريل، 1973، ص 199 - 212. وابن عدة، مرجع سابق، مخطوط. وتزوج ابن سماية سنة 1887، وكان له سبعة أولاد. عن أوسمة الشيخ ابن سماية انظر دبوز (نهضة

)، مرجع سابق، 121 - 122.

ص: 96

9 -

محمد السعيد بن زكري: من أبرز مدرسي العاصمة في الفترة التي نتناولها. وقد تولى ابن زكري بالإضافة إلى التدريس، الإمامة والإفتاء. ولكننا لا نجده في تقارير المفتشين، فهل انقطع عن التدريس قبل وفاته سنة 1914 بفترة؟ إن مكانته وتلاميذه وآثاره تجعله من مشمولات هذا الفصل.

وقد كان الشيخ ابن زكري من المتعلمين العصاميين. لم يدرس دراسة منتظمة، وإنما تخرج من المساجد والزوايا، فكان من القلائل الذين وصلوا بعد ذلك إلى أكبر منصب تخصصه فرنسا لرجال الدين الإسلامي. ولد 1267 (1851) في بني زكري بمنطقة زواوة أثناء ثورة الشريف بو بغلة وفتح عينيه على الانتفاضة التي استمرت في عهد لاله فاطمة نسومر والحاج عمر. ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى وقعت الثورة الرحمانية بقيادة الشيخ الحداد والباشاغا المقراني. ولكنه مع ذلك حفظ القرآن في جامع القرية ثم التحق بزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي التي بقى بها سنوات. وظل يتنقل بين الزوايا أو المعمرات لإتمام دراسته، إلى أن وصل إلى العاصمة سنة 1297 (1890). وقد قال عن نفسه أنه منحدر من نسل أحمد بن زكري المغراوي التلمساني المتوفى سنة 900 (1494) بتلمسان (1). ويعتبر ابن زكري نفسه من الأشراف.

ولعله قد درس بالعاصمة في أماكن غير رسمية قبل أن يصبح إماما في جامع سيدي رمضان سنة 1896. وفي هذه السنة حصل على وسام الأكاديمية (التعليم). وكان لابن زكري علاقة مع مدير الشؤون الأهلية، دومينيك لوسياني الذي يعرف كيف يختار ضحاياه. وقد ذكر لوسياني نفسه أنه استعان بالشيخ ابن زكري في ترجمة قصائد الشاعر الشعبي إسماعيل أزيكيوي. كما استعان بغيره في ترجمة كتاب (أعز ما يطلب) لابن تومرت، والسلم المرونق للأخضري، الخ. ويبدو أن ابن زكري كان من الفقهاء المتمكنين من علمهم. وكان عارفا بعلم الكلام أيضا، ولكن مادته فيه هي

(1) محمد الحاج صادق في مادة (ابن زكري)، دائرة المعارف الإسلامية، ص 23.

ص: 97

عقيدة السنوسي (أم البراهين). ويقول تلميذه وصديقه الشيخ أبو يعلى إنه كان يتبع سيرته في ذلك، إذ كان ابن زكري يقرئ أم البراهين وتعاليق السنوسي عليها ثم شروح وحواشي الدسوقي والباجوري عليها أيضا (1).

ولابن زكري بعض المؤلفات المطبوعة، مثل (أوضح الدلائل) الذي سنتناوله. في جزء آخر. وله مراسلات مع معاصريه أمثال بلقاسم بن سديرة. وابتداء من 1896 عين ابن زكري أيضا أستاذا للفقه في المدرسة الشرعية - الفرنسية بالجزائرة ويغلب على الظن أن ترشيحه إلى ذلك كان على يد لوسياني نفسه. وفي سنة 1908 عين مفتيا للمذهب المالكي في العاصمة في الوقت الذي عين فيه ابن الموهوب في قسنطينة. وقد روى تلميذه أبو يعلى أن حديثا دار بين لوسياني وابن زكري حول ثورة 1871 وحول منع الفرنسيين لتدريس باب القتال (الجهاد) في الفقه، فأيد ابن زكري ذلك المنع، فاستغرب لوسياني منه ذلك. ولما استفسره أجابه بذكاء وحسن تخلص قائلا: إن للقتال شروطا في الإسلام وقواعد وآدابا وأحكاما، لم تتوفر للقائمين بتلك الثورة (1871) التي جرت على الوطن مصائب لا تحصى، وأن الذين قاموا بها هم الجهلة وأن الدين والعلماء لا دخل لهم فيها. وقد تبنى أبو يعلى هذا الرأي أيضا (2).

وتظهر الصلة بين ابن زكري ولوسياني في حادثة أخرى، وهي أزمة التجنيد الإجباري سنة 1912. كانت أزمة حقيقية، لأنها هزت المجتمع الجزائري وحصحصت الحق من الباطل، وكشفت عن أوجه الذين كانوا مع الإدارة والذين كانوا مع الشعب، مع فرنسا أو مع العالم الإسلامي. وقد تصدى عبد الحليم بن سماية معارضا باسم الشعب الجزائري، وهو ليس مفتيا ولا قاضيا ولكن مدرسا رسميا. وكان موقف ابن زكري حرجا لأنه كان على كرسي الفتوى، فإما أن يؤيد فيسقط في أعين المعارضين والشعب وينضم إلى

(1) أبو يعلى الزواوي، (درسي)، البصائر، 2 ديسمبر 1938.

(2)

البصائر، 9 سبتمبر 1938.

ص: 98

(حزب فرنسا) الذي كان زعماؤه من النخبة، وإما أن يعارض فتغضب منه السلطات الفرنسية ويكون بذلك قد وقف موقفا سياسيا لا يقفه من كان متوليا وظيفة رسمية. وقد رأى لوسياني أن ينقذ جلد ابن زكري فنصحه بالسفر إلى الخارج أثناء الأزمة. وهكذا سافر الشيخ إلى بلاد الشام سنة 1911. وقد حضر لوسياني الاجتماع الذي انعقد بمدينة الجزائر لمناقشة موضوع التجنيد علنا مع والي الجزائر، كما حضره ابن سماية، كما ذكرنا، وكان اجتماعا صاخبا، نقله قلم عمر بن قدور في وقته (1).

وفي هذه الأثناء كان لوسياني ومارسيل موران (أستاذ وعميد كلية الحقوق) يعدان أيضا مشروعا آخر وهو تدوين الفقه الإسلامي. وكان لوسياني في حاجة إلى خبرة ابن زكري في الفقه. فاستعان به، كما استعان بغيره. وقد ذكرنا أن بعض المدرسين قد تخرجوا على يدي ابن زكري. فقد جمع بين تدريس الفقه في مدرسة الجزائر والتدريس في الجامع الكبير، والإمامة في جامع سيدي رمضان. وكلها وظائف لا تكاد تخرج عن الفقه. وقد بقي ابن زكري في وظيفة الفتوى إلى وفاته سنة 1914. ولا ندري إن كان قد حج أثناء رحلته المشرقية، وكم بقي هناك، ومدى صلته بالشيخ طاهر الجزائري الذي كان عندئذ هاربا إلى مصر خوفا من الشبان الأتراك. وكانت بين ابن زكري والشيخ طاهر مراسلات وصلات قبل ذلك (2). وأننا إذا عدنا إلى حياة ابن زكري وإالى حياة الشيخ أبي يعلى الأولى توقفنا علامات استفهام كثيرة. ولكن ما أكثر علامات الاستفهام أمام الآخرين أيضا!.

15 -

محمد العاصمي: ومن هؤلاء الشيخ محمد العاصمي فقد كان من المثقفين العصاميين، أمثال ابن زكري والحفناوي بن الشيخ. جاب المساجد

(1) انظر كتابنا (الحركة الوطنية الجزائرية)، ج 2. وكذلك فصل المنشآت الثقافية من كتابنا هذا.

(2)

انظر بحثنا (مشروع تاريخ زواوة) في (أبحاث وآراء) ج 2. وكذلك جريدة (كوكب أفريقية) 3 مايو 1914، وسعد الدين بن شنب (نهضة الجزائر

) ورسالة الباحث ابن عدة، مرجع سابق. وسنذكر تدخل ابن زكري لصالح الشاعر عاشور الخنقي.

ص: 99

والزوايا والبادية والحاضرة، وحصل على علم غزير، وكانت له نفس بعيدة الهمة تواقة إلى المناصب فوجد ما يريده، ولكن على أي طريق؟ ولد محمد العاصمي حوالي 1888 بأولاد إبراهيم نواحي بوسعادة. وقد درس في قسنطينة (على من؟) ثم رحل إلى تونس فدخل جامع الزيتونة، ونال الإجازات وليس الشهادات. ومن شيوخه فيه أحمد الأمين بن عزوز، وهو من آل ابن عزوز جهة طولقة ومؤسسي زاوية نفطة الشهيرة. وبعد ذلك رجع العاصمي إلى زاوية الهامل، فدرس على الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، عمدة هذه الزاوية في وقته، ثم سافر إلى القرويين أيضا، فأخذ بها عن بعض المشايخ، وهكذا امتلأ وطابه بعلوم العصر الإسلامية وعلوم الحياة والسياسة أثناء العقد الأول من هذا القرن، وهو فترة دقيقة من حياة الجزائر وحياة العالم الإسلامي كله.

وكما تنوعت دراساته تنوعت أيضا وظائفه. بدأ مساعدا (كاتبا؟) عند الباشاغا ابن الأحرش في الجلفة من 1912 إلى 1919، أي فترة التجنيد الإجباري والحرب الأولى. وكانت المنطقة ما تزال تحت نفوذ المكاتب العربية عندئذ، فالذي يوظف في الحقيقة ليس الباشاغا ولكن السلطات الفرنسية. ثم أصبح الشيخ العاصمي إماما في أحد مساجد العاصمة (جامع بورقيسة (؟)) عام 1920. وأخذ بعد ذلك ينشط في الأدب والدين، فنجده في جمعية تسمى (المهذبة)، وهي جمعية أدبية لا تهتم بالسياسة ولكن تهتم بالأدب والمسرح. وشارك مع الشيخ أحمد توفيق المدني في تحرير (تقويم المنصور) فكتب له فصلا، ووصفه الشيخ المدني بأنه كاتب كبير وجوالة. والكلمة التي كتبها العاصمي للتقويم عنوانها (المجتمع الجزائري وعماد نهضته الراهنة). وقد امتدح فيها الشعب الجزائري على تمسكه بالوطنية (التقاليد) ومعارضته لموجة التحضر. ورأى أن الإسلام من أقوى دعائم هذا التمسك الخ. وهو شعب، في نظره، يحب الحرية واللغة العربية، ويكره الجمود كما يكره الطفرة. وهذه خلاصة رأي رجل لا شك أنه استخلصه بعد تجربة.

ص: 100

وقد تطورت الحياة بالشيخ العاصمي، فرغم علمه وقلمه الظاهري وابتعاده عن الشعوذة والدجل، كما قال، فإننا نجده قد انضم إلى الجهة التي تساند الإدارة الفرنسية سنة 1932. فكان يكتب في جريدة (الإخلاص) لسان حال جمعية علماء السنة التي عارضت اتجاه جمعية العلماء الإصلاحي. ولعل وظيفته الرسمية، وليس قناعته، هي التي أملت عليه ذلك الموقف. وهذا الموقف أيضا هو الذي جعله يبقى في إطار الوظائف الرسمية ويتدرج فيها، فكان يعطي دروسا في اللغة العربية في جامعة الجزائر، وتولى الإمامة بجامع سيدي رمضان، ثم بالجامع الكبير، ومنذ 1944 تولى الفتوى بالجامع الجديد. وكان الشيخ العاصمي، موهوبا، وله قلم بارع، وفكر ناصع، وطموح يشبه الغرور. ومن الصعب على أمثاله أن يعيش في ظل الاستعمار الحرور، فهو إما أن يحترق معه أو يحترق خارجه (1). ولا ندري كيف سيكون موقف العاصمي من ثورة 1954 لو أدركها. وسنتحدث عن بعض إنتاجه في مكان آخر.

بدون شك هناك غير هؤلاء من المدرسين في العاصمة موظفين وأحرارا، سيما في فترة ما بين الحربين. ومن أبرزهم الشيخ العقبي الذي غطى على الجميع بين 1929 - 1940. وقد نتناول حياته في موضوع آخر. وما أردنا بذكر الذين أتينا عليهم إلا لنعرف مدى هذه السياسة التي تبنتها السلطة نفسها وسمتها تنشيط المساجد. فهل حققت الهدف منها؟ وهل كان نوع التدريس يتماشى مع تقاليد التعليم المسجدي؟ قبل أن نجيب على ذلك

(1) عنه انظر رسالة الباحث أحمد مريوش عن (الشيخ الطيب العقبي)، وقد جاء فيها أن الشيخ العاصمي قد تولى إدارة مجلة (صوت المسجد) التي كانت لسان حال رجال الدين الموظفين، وقد بقي في الفتوى إلى وفاته في حادث سيارة في 14 نوفمبر 1951. عن مقالته في (تقويم المنصور) السنة الخامسة (1348 هـ)، انظر ص 276 - 282.

ص: 101