الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجلس النيابة المالية (الوفود المالية). وهذا المجلس، الذي كان يسيطر عليه الكولون، هو الذي تردد في رصد ميزانية للتعليم الأهلي، بل عارضه بعض أعضائه بصراحة. ولذلك أصيب التعليم بنكسة قوية. وظل الأمر كذلك إلى 1908 حين اقترح جونار بناء 60 فصلا سنويا للتعليم الأهلي، وهي المدارس (الأقسام) التي سميت مدارس بورخيص أو (القوربي) كما سبق. وقد ارتفع القرض إلى 340.000 ولكنه لم يصل إلى المبلغ الذي حدد منذ 1892. وفي 1909 بلغ القرض 540.000 ف. لكن برنامج جونار لم ينجز كما خطط له.
وقد انتكس التعليم من جديد طيلة الحرب العالمية. ولكنه انتعش منذ العشرينات، ورصدت له ميزانية بلغت 13.458، 55 ف. لسنة 1924. وأضيف إليها حوالي خمسة ملايين فرنك لبناءات مدرسية جديدة أو إصلاح المتداعي منها. وقد ذكرنا أنه في سنة 1937 بلغت ميزانية التعليم الأهلي حوالي 35.000.000 ف. وكانت تقدم في شكل معونة (1). وذلك في فترة حكومة الجبهة الشعبية ومطالب الجزائريين الملحة بالتعليم من خلال الصحف والنيابات وكذلك من خلال المؤتمر الإسلامي الجزائري، الذي انعقد سنة 1936. وكان للحركة الإصلاحية منافسة شديدة في ميدان التعليم مع المدارس الرسمية.
التعليم المهني
ليس من غرض هذا الفصل الخاص بالتعليم أن ندرس فيه التعليم المهني لأن هذا التعليم أو التكوين المهني، خارج عن نطاق اهتمامنا، سواء تعلق الأمر فيه بالفرنسيين أو الجزائريين. وإنما نريد أن نبدي بعض الملاحظات المتعلقة بتوجيه التعليم المهني الخاص بالأهالي. والملاحظة الأولى هي أن
(1) انظر بوجيجا. S.G.A.A.N مرجع سابق، 61 - 62، ومارسيه (مؤتمر ..) مرجع سابق، 184، وشارل تيار (الجزائر في الأدب ..) مرجع سابق، 160، وإفريقية الفرنسية، عدد غشت/ سبتمبر، 1937.
التعليم عموما كان موجها لتخريج جزائريين (عاملين) في المصالح الفرنسية كالجندية والزراعة والمصانع. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. فقد كرر المسؤولون الفرنسيون أن غرضهم ليس تثقيف الجزائري وجعله مكتسبا للمعارف النظرية والعملية، وإنما غرضهم إذا فتحوا له قسما خاصا في مدرسة فرنسية أو أنشأوا له ورشة هو أن يجعلوا منه خادما صالحا أو فلاحا متعلما قليلا أو معلما في مدرسة ابتدائية يظل طول حياته (معاونا) أو ممرنا لأنه ليس مواطنا وإنما هو رعية.
أما الملاحظة الثانية فهي نشر ذلك النصيب القليل من التعليم باللغة الفرنسية البسيطة. ونقول (البسيطة) لأن المسؤولين الفرنسيين طالما كرروا أن غرضهم ليس جعل الجزائري يتذوق جمال اللغة أو يتمتع بأدبها ومعارفها وإنما غرضهم هو أن يجبروه على النطق بها والتعبير عن شؤون حياته والاتصال عن طريقها بالمستعمرين والإدارة الفرنسية. وبتعبير صريح فالغرض من تعليمها له هو أن تحل هي على لسانه وذهنه محل اللغة العربية فيتشوش ذهنه ويضطرب لسانه، ويبتعد عن تراثه، سيما وأن العربية التي تعطى له في المدرسة مع الفرنسية هي الدارجة، ومن ثمة لا يكون له اتصال كتابي مع لغة القرآن وفهم تراكيبها ومعانيها.
والملاحظة الثالثة هي التمييز بين الجزائريين والفرنسيين تمييزا عنصريا واضحا. فالتلاميذ الجزائريون لا يجلسون إلى جانب التلاميذ الفرنسيين ولا يتلقون نفس التعليم ولا يخضعون لنفس شروط الدخول والمسابقات ولا يحصلون على نفس الشهادات. وبالطبع لا يتولون نفس الوظائف. إن الجزائري في نظر الفرنسيين من سلالة منحطة، من مظاهرها التخلف العقلي والكسل والقذارة. ولا يليق بالفرنسي (الممتاز) والمتمدن وصاحب المواهب أن يجلس أو يخالط أو يتعلم مع إنسان أدنى منه. وقد شاعت هذه الفكرة خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ولم تأخذ في الاختفاء إلا بين الحربين، وهي في الواقع لم تختف. ومن أسباب التخفيف منها ظهور النظرية العرقية النازية فهي التي جعلت الفرنسيين يتظاهرون بأنهم
إنسانيون وديموقراطيون من دعاة المساواة بين الشعوب. والمثل يقول: رب ضارة نافعة.
حين أسس الفرنسيون مدرسة الطب سنة 1857 كان من أهدافها تخريج بعض الجزائريين في التمريض والتطبيب المحلي والمعالجة حسب الأمراض المنتشرة في الجزائر. وسموا هؤلاء احتياطيين يدفعون بهم إلى الأرياف بدل الفرنسيين، للاتصال بالأهالي والتغلب على بعض الأمراض واتباع أساليب الصحة هناك. ولكن ندرة المتخرجين من هذه المدرسة جعلت الفكرة في حد ذاتها مجرد خيال. فبعد أكثر من عشر سنوات على إنشائها لم يتخرج منها سوى ثلاثة من الجزائريين نال أحدهم شهادة طبيب ضابط في الصحة، ونال زميله شهادة صيدلي أو مركب أدوية من الدرجة الثانية. ولا نعرف شيئا عن اختصاص الثالث. وقد أخبرت جريدة المبشر أنه ليس في المدرسة الطبية سنة 1869 سوى ثلاثة من المسلمين .. وذكرنا أن المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي لم يخرج سنة 1869 (تأسس سنة 1857 أيضا) سوى 16 تلميذا تفرقوا على المدارس العسكرية والبيطرة، أما مدرسة ترشيح المعلمين التي تأسست سنة 1865 فلم يتخرج منها سنة 1869 سوى جزائريين اثنين (1).
وفي نفس الفترة تأسست مدرسة البحرية وأعلن أنها ستقبل بعض الجزائريين أيضا لأن هؤلاء أثبتوا في (عهد القرصنة) قدرتهم على ركوب البحر. وكان هدف الفرنسيين من السماح لهم بدخولها هو الاستفادة منهم في ميدان التجارة البحرية، كما يستفيدون منهم في الميادين العسكرية. ومن جهة أخرى الاستفادة منهم في عمليات النشاط البحري في المدن الجزائرية. وحين أنشئت المدرسة كانت عبارة عن بارجة راسية في ميناء الجزائر، وكان بها حوالي ستين تلميذا بين 12 - 15 سنة، وقد جيء بهم من الولايات الثلاث عندئذ. وبعد قضاء سنتين بالمدرسة يأخذون في التدريب على العمل بالسفن، وأثناء ذلك كانوا يوقعون عقدا للعمل ثلاث سنوات، على أن تتطور
(1) المبشر، عدد 21 أكتوبر، 1869.
علاقتهم بعد ذك بالملاحة البحرية (1). هذا هو المشروع الذي كان المارشال راندون، الحاكم العام، قد تبناه.
لقد أنشئت فعلا عدة مدارس وورشات للتأهيل، بعضها كان خاصا بالجزائريين ويجري في أقسام خاصة أيضا. ومن ذلك المدرسة المهنية في عين الحمام بزواوة، حوالي 1881، وعدة منشآت أخرى للمساعدات الاجتماعية كانت تصب في نفس الفكرة، ومعظمها كانت تحت إشراف جمعية الآباء والأخوات البيض في مناطق محددة مثل ميزاب وزواوة. وافتتحت ورشات عديدة في المدن الرئيسية لتعليم البنات المسلمات أشغال الإبرة والنسيج والطرز وغير ذلك مما كان الأوروبيون في حاجة إليه، تحت شعار تجديد الفن الأهلي وإحياء بعض الفولكلور كالزرابي وصناعة الفخار وضرب الفضة وغيرها. وفي 1896 تأسست بوهران مدرسة ضخمة للتكوين المهني. وكانت تجمع الفرنسيين والجزائريين تحت سقف واحد، ولكن برنامج كل فريق كان مختلفا عن الآخر. وكانت هذه المدرسة تعلم مختلف المهن كالحدادة والنجارة والطرز والنحت والنسيج، وقد توفرت على آلات دقيقة وحديثة. وكانت تجمع البنين والبنات (2).
وفي نفس الفترة كتب ريكار P.Ricard بحثا عن برامج مدارس التكوين المهني في الجزائر. وكان ذلك في زمن الحاكم العام شارل جونار الذي اجتهد في إحياء التراث الشعبي واهتم بالتعليم عموما. وبناء على مقالة ريكار فإن التعليم المهني كان يتكون من ثلاث نقاط وهي: دروس موجهة للعمل العادي، كصناعة الخشب والحديد ودبغ الجلود وصناعة الفخار، وأعمال البناء، والبناء بالحجر، ثم دروس موجهة لخدمة وبعث الصناعات الشعبية، كالرسم على الخشب والطرز والخزف، وألوان النجارة، أما الدروس الثالثة فكانت موجهة للفنون النسائية مثل التعليم المنزلي (الغسيل، والكي،
(1) زوزو (نصوص)، مرجع سابق، 220.
(2)
ريكار، في (مجلة العالم الإسلامي)، عدد غشت، 1908. مقال طويل ومصور للمدرسة والمعلمين والتلاميذ والأجهزة. من صفحة 663 - 682.
والخياطة، والطباخة) ثم أعمال التريكو والطرز ونسج الزرابي. وهناك مدارس كانوا يسمونها أساسية لهذه الدروس، وهي موزعة على وهران ومستغانم وتلمسان وقسنطينة.
وبناء على دراسة السيد ريكار فإن التلاميذ الجزائريين في مدارس التكوين المهني قد بلغوا أكثر من ثلاثين ألفا (29.000 بنين و 2، 000 بنات). وهناك ملاحظة أبداها ريكار وهي أن البنات هن اللائي يتوجهن غالبا إلى التعليم المهني بعد التخرج. ولذلك خصص لهن البرنامج من 10 إلى 15 ساعة أسبوعيا. أما البنون فلهم معدل ساعة واحدة أسبوعيا. ويجب التذكير بأن هذا التكوين كان يتلقاه التلاميذ العاديون في التعليم العام. أما التعليم المهني فلا يناله سنة 1907 سوى حوالي 300 من البنين و 400 من البنات (1).
وقد عرفنا أن التعليم بمدرسة ترشيح المعلمين كان قائما أيضا على تعلم جميع المهن الشائعة. يقول جان ميرانت الخبير في الشؤون الأهلية، لقد نظمت مديرية التعليم بالجزائر سنة 1910 نماذج للمدرسة/ المزرعة في عدة مناطق، ذكر منها مازونة، وعمي موسى، وتاوريرت وابن شيكاو. وحيث يكون للمدرسة أرض يذهب التلاميذ لممارسة الأعمال الزراعية، فإذا تخرجوا منها يصبحون مهتمين بالأشجار المثمرة وبالعمل عموما، وبذلك يصبحون عمالا زراعيين ناجحين. إن الحديقة النموذجية في المدرسة لا يراها التلاميذ فقط بل أولياؤهم أيضا، كما يأتيها الفلاحون لمشاهدة أشجارها وتقليدها. وقد أشرنا أيضا إلى أن القسم الخاص في مدرسة ترشيح المعلمين كان يتضمن دراسة الطب العادي والأمراض الشائعة وحفظ الصحة وممارسة الأعمال الزراعية والأشغال اليدوية والفنون التقليدية.
(1) ريكار (مؤتمر شمال إفريقية) ج 2، باريس، 1908، ص 256 - 257. وذكر أن مدرسة تلمسان المهنية فتحت سنة 1951 فقط بثلاثة تلاميذ، وفي 1907 بلغوا ثلاثين تلميذا.