المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأولالتعليم في المدارس القرآنية والمساجد

- ‌مدخل

- ‌حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

- ‌التعليم في المدارس القرآنية

- ‌التعليم في المساجد

- ‌بعض أعيان المدرسين في العاصمة

- ‌التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

- ‌مدرسو المساجد في إقليم وهران

- ‌مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

- ‌مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

- ‌المرتبات والتلاميذ والبرامج

- ‌الفصل الثانيالتعليم في الزوايا والمدارس الحرة

- ‌التعليم في الزوايا

- ‌زوايا الجنوب

- ‌زاوية طولقة

- ‌زاوية الخنقة

- ‌زاوية الهامل

- ‌الزاوية التجانية

- ‌زاوية قصر البخاري

- ‌زوايا أخرى

- ‌المدارس الحرة

- ‌معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

- ‌الفصل الثالثالتعليم الفرنسي والمزدوج

- ‌مدخل

- ‌آراء حول تعليم الجزائريين

- ‌ التعليم الفرنسي

- ‌نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية:

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌مدخل إلى التعليم المزدوج

- ‌المدرسة الابتدائية المزدوجة

- ‌المدارس الشرعية الثلاث

- ‌المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

- ‌ مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

- ‌البرنامج والميزانية

- ‌التعليم المهني

- ‌حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

الفصل: ‌التعليم في المساجد

الأحجبة لأنهم لم يتعلموا تعليما صحيحا على الطريقة العصرية الفرنسية. فهو يقول: أنه من النادر أن تجد عارفا بالقرآن يواصل دراسته. ومن الأندر أن يستطيع من واصل دراسته التخلص من رواسبه على مخه، تلك الرواسب التي تركها فيه التعليم القرآني (1). أما كون العارف بالقرآن تندر مواصلته للدراسة فذلك هو (فضل) فرنسا على الجزائر، كما يعرف ألفريد بيل. وأما تأثير التعليم القرآني على مخ المتعلم، فذلك طبيعي، وذلك ما يريده المسلمون، ولكن بيل يريد أن يقول: علينا أن نخلص الجيل من الرواسب بالتخلص من التعليم القرآني بتاتا. وقد أشار إلى ذلك في البداية.

‌التعليم في المساجد

بعد انتهاء الأطفال من المدرسة القرآنية يتوجه الراغبون منهم إلى المساجد والزوايا لمواصلة تعليم متوسط وثانوي. وقد تصل بعض الدروس فيه إلى مستوى التعليم العالي في مراحل متقدمة. وقد درسنا هذا الموضوع في الجزء الأول وقلنا أن من نقائص التعليم في الجزائر خلال العهد العثماني هو انعدام مؤسسة قارة وقوية للتعليم الاسلامي ذات إشعاع وطني مثل القرويين في فاس والزيتونة في تونس والأزهر في مصر. كانت دروس التعليم الثانوي والعالي مبعثرة في الجزائر وليس لها منهج أو مراحل تقطعها. كانت اجتهادية وظرفية، فهي خاضعة لمهارة وشهرة المدرسين ومناسبة الظروف السياسية والاقتصادية. وقد عرفنا أن بعض المدرسين البارزين كانوا يأتون من البلدان المجاورة إلى الجزائر للتدريس ونحوه فعوضوا بعض النقص، كما أن أذكياء الطلبة والطموحين منهم كانوا يهاجرون، في سبيل الحصول على العلم، ولكن بعد الاحتلال وقعت أمور أخرى أثرت على مسيرة التعليم الثانوي والعالي.

فإذا كانت المدارس القرآنية قد استمرت في المدن، كما ذكرنا، رغم الصعوبات، فإن مراحل التعليم الأخرى قد عرفت تدهورا كبيرا لأسباب.

(1) الفريد بيل، (مؤتمر

) مرجع سابق، ص 209.

ص: 57

منها نفي أو هجرة العلماء، ومنها تدجين الباقين إذ أنهم أصبحوا موظفين يتقاضون أجورهم ومرتباتهم من الإدارة الفرنسية بعد أن كانوا مستقلين يتقاضون ذلك من مداخيل الأوقاف. وقد عرفنا أن هذه المداخيل قد استولت عليها الدولة الفرنسية وصادرت أملاك المساجد والزوايا نفسها التي كانت أماكن للعبادة والتعليم وإدارة القضاء. وكان التعليم الثانوي والعالي أول ضحايا هذه التطورات، من يدرس؟ أين يدرس؟ من يدفع؟ من يسمى؟ الخ. ولقد دامت هذه الحالة من الذبذبة والفوضى والإهمال إلى حوالي 1851.

ولكن بين 1830 وذلك التاريخ (1851) انقرض جيل كامل من العلماء والطلبة والوكلاء. انقرضوا أو تبددوا نتيجة الحروب المتواصلة، وتقطعت بهم السبل في المنافي والمهاجر، أفرادا وعائلات: ولنذكر من الأفراد ابن العنابي والكبابطي والسكلاوي وحمدان خوجة، والقاضي عبد العزيز، وعائلة المشرفي وعائلة الأمير عبد القادر وعائلة ابن المرابط الخ

وكثير من الأفراد والعائلات لم تهاجر من الوطن وإنما انتقلت إلى الأماكن التي لا يسيطر عليها الفرنسيون مثل عائلة ابن الحفاف، وابن رويلة، وأحمد البدوي والشريف الزهار وسيدي علي مبارك. ونحن لا نذكر هنا إلا العائلات والأسماء العلمية التي كان فيها التدريس والمكتبات.

من جهة أخرى عرفنا أن هدم عشرات المساجد أو تحويلها إلى كنائس ومستودعات أو منحها للجيش والجمعيات الدينية الفرنسية، كل ذلك حرم العلم من مقراته ومن موارده أيضا، لأن كل بناية كان لها ريعها ووكيلها ومدرسها.

ولا نريد أن نعود للحديث عن مصير المساجد أوائل الاحتلال، وحسبنا القول أن الدروس التي كانت تلقى في أغلبها قد توقفت نتيجة هدم العشرات منها أو تعطيلها. فدروس مساجد الحاج حسين باشا وعبد ي باشا، وجامع السيدة، كلها قد توقفت. وكذلك دروس مسجد كتشاوة ومسجد علي بتشين وجامع القصبة

فقد توقفت لأنها قد تحولت إلى كنائس. وكذلك

ص: 58

جامع سوق الغزل بقسنطينة وجامع خنق النطاح بوهران وجامع العين البيضاء بمعسكر. وهناك دروس أخرى قد توقفت أيضا لأن المساجد قد حولت إلى ثكنات ومخازن واسطبلات. وحتى الجامع الكبير والجامع الجديد بالعاصمة لم يسلما من العبث والإهانة، إذ كلاهما استنقص منه وأغلقت منه بعض الأبواب ثم حجبا عن الأنظار من جهة البحر، وأخيرا هددا بالزوال تماما سنة 1905. وقل مثل ذلك في مساجد قسنطينة وبجاية وعنابة ووهران والمدية ومعسكر الخ. إن المدينة الوحيدة التي سلمت مساجدها تقريبا هي تلمسان، ومع ذلك فقد منحت مداخيلها أيضا كغيرها إلى أملاك الدولة وحول بعضها إلى متحف أو اعتراه البلى.

أمام هذه المعاملات للمساجد لا أحد كان ينتظر استمرار الدروس فيها. فلا العلماء ولا الفقهاء كانوا مستعدين لمواصلة مهمتهم في جو من الارهاب والبطش وعدم الاستقرار، ولا الفرنسيون كانوا سيسمحون بذلك وهم يحاولون وضع أيديهم على كل شيء في البلاد، ولا الطلبة الذين لم يعد يطيب لهم المقام في مدن تحت قبضة العدو. وهكذا كان الاحتلال وما تلاه من إجراءات وإرهاب ومصادرة سببا في توتف دروس المساجد في المدن. وما دام الفرنسيون قد وضعوا أيديهم على المساجد منذ اللحظة الأولى للاحتلال، فإنهم قد وضعوا أيديهم أيضا على فئة العلماء والفقهاء الذين كانوا يدرسون فيها. ويبدو أن الفرنسيين لم يسمحوا باستئناف الدروس في المساجد إلا خلال الأربعينات، ولكن في حدود ضيقة جدا. فحوالي 1843 سمحوا لثلاثة فقط من (الطلبة) بإعطاء دروس في المساجد الثلاثة (؟) بمدينة الجزائر (1). ولا تخرج هذه الدروس عن الفقه وقواعد الدين للعامة وليس للراغبين في العلم، كما كان الحال. ولا ندري الآن أسماء المدرسين، ونعتقد أن الكبابطي قد كان أحدهم قبل نفيه.

وقد جرت تعيينات مشابهة في قسنطينة أيضا. فعين الشيخ مصطفى بن

(1) السجل (طابلو)، سنة 844 1 - 1845، ص 80.

ص: 59

جلول مدرسا بجامع سيدي الأخضر (يناير 1850)، وعين الشيخ المكي البوطالبي مدرسا بالجامع الكبير هناك في نفس الوقت، كما عين الطاهر بن النقاد على مدرسة جامع سيدي الأخضر، ومحمد بن أحمد العباسي على مدرسة جامع سيدي الكتاني. بالإضافة إلى وظائف أخرى في الإفتاء والقضاء (1).

وقد شعرت السلطات الفرنسية بهذا الفراغ في الدراسات الإسلامية ابتداء من وسط الأربعينات. وقال بعضهم أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الفرنسيين لن يجدوا من يعينوه قاضيا، وهو ما كان يهمهم أكثر من التدريس. ولذلك عكفوا على دراسة الوضع. وقد خرجوا بتوصيات شملت القضاء والتعليم وتنظيم المساجد، أو بعبارة أصح شملت الدين والتعليم والعدل. ويهمنا هنا التعليم. فقد لاحظوا أنه لا توجد لشباب الجزائريين مؤسسة للتعليم فوق الابتدائي، وليس هناك رجال أكفاء يقومون بالفتوى والقضاء ويمكنهم كسب النفوذ للسياسة الفرنسية، وهذا أمر ضروري (لسياستنا)(2). ولاحظوا أيضا أن إهمال التعليم الإسلامي في المدن قد نتج عنه تقوية المرابطين والزوايا في الأرياف. فقد كانت زوايا المرابطين تستقبل الراغبين في التعلم بدل الذهاب إلى المساجد في المدن التي استولى عليها الفرنسيون. كان المدرسون في الماضي يعينهم الداي باقتراح من الناظر من بين أفضل العلماء. وكانوا يتقاضون مرتباتهم من الأوقاف. وهي تبلغ بين 60 و 200 فرنك سنويا، وكانت لهم سكنى مجانية، كما يجوز لهم الجمع بين وظائف التدريس والقضاء والافتاء. وكانوا يتمتعون باحترام كبير. وبالإضافة إلى رواتبهم فأن لهم امتيازات أخرى تتمثل في الزيت والماء والحلويات خلال شعهر رمضان. ولكن منذ الاحتلال توقف كل ذلك عليهم للظروف التي ذكرناها. وكان التعليم العالي مزدهرا في بعض المدن مثل قسنطينة إلى

(1) حسب سجل قائد البلاد المنشور في مجلة (روكاي) لسنة 1859، 1. ومحمد بن العباسي هو نجل الشيخ أحمد العباسي الذي اشتهر أمره.

(2)

زوزو، (نصوص)، مرجع سابق، 208 عن تقرير يرجع إلى حوالي 1846.

ص: 60

الاحتلال. فقد كان فيه حوالي 700 طالب، من بينهم حوالي 150 يتقاضون منحا. ولهم سكنى مجانية، إضافة إلى امتيازات أخرى في رمضان والمواسم. وكان حوالي ثلثي الطلبة من خارج المدينة (غرباء). فماذا بقي من هؤلاء بعد الاحتلال؟ لقد توجه الطلبة إلى زوايا منطقة زواوة وزوايا الجنوب طلبا للعلم نظرا لاستيلاء الفرنسيين على جميع الموارد في المدينة. أنه لم يبق بها منهم سوى 60 طالبا. كما أن العلماء أنفسهم قد تشتتوا أو هاجروا، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من انقطعت عنه الموارد.

أما برنامج الدراسة للتعليم الثانوي والعالي فلا يخرج عن المواد العربية والإسلامية. فالثانوي يشمل عادة النحو والتفسير وحفظ المتون والمطالعة ومبادئ الفقه والتوحيد، والحديث، ومبادئ الفلك والحساب. ويقضي التلميذ فيه حوالي سبع سنوات. أما دروس التعليم العالي فتتألف من الفقه وأصول الدين والتوحيد والحديث، والحساب والفلك، والجغرافية والتاريخ الطبيعي والطب العام.

هذا بصفة عامة، ولكن الأمير عبد القادر مثلا شجع الدروس بين المواطنين في المساجد وغيرها، وكان هو نفسه يقوم بإلقاء درس عمومي عندما لا يكون في حالة حرب مع العدو. وقد رتب في مختلف المدن علماء لهذا الغرض، وجعلهم طبقات وعين لكل طبقة راتبا عينيا أو نقديا. واستثنى العلماء من الضرائب. وكان يقوم هو نفسه باختبار المترشح، فكان يكرم الجيد ويعرض عن الجاهل. وكان التلاميذ يجدون المدرسين الجيدين والمكتبات للمطالعة ومحلات السكن. وقد عفا الأمير عدة مرات على مدرسين استحقوا عقوبة الموت، تقديرا للعلم. وكانت هذه السياسة سببا في ازدهار حركة التعليم في دولة الأمير وتنافس العلماء في تحصيل العلم وحفظ التراث، رغم ظروف الحرب القاسية (1). وكان معظم خلفائه من المدرسين

(1) محمد باشا، (تحفة الزائر)، ط 1، ج 1، ص 309. وكذلك بيلمار، مرجع سابق، ص 237.

61

ص: 61

والمتفقهين أمثال مصطفى بن التهامي ومحمد بن عيسى البركاني، وأحمد الطيب بن سالم، والحاج سيدي علي السعدي، والحاج محيي الدين بن مبارك.

وفي ميزاب حيث المساجد هي أساس التعليم الثانوي، ولا وجود للزوايا، نجد التلميذ ينتقل من التعليم القرآني الابتدائي إلى المتوسط فالثانوي، وعادة كان التعليم يعطى في دار العلم أو دار التلاميذ تحت إشراف العزابة. وبرنامج هذه المرحلة غني بالنسبة إلى غيره في أنحاء القطر. فهو يشمل العلوم الدينية من فقه وتوحيد وأصول الفقه، والتفسير والحديث والفرائض. ثم العلوم العربية والعقلية كالنحو والبلاغة والعروض والمنطق والحساب. وكانوا يعتنون بالحساب لعلاقته بالفرائض، وكذلك التجارة والمحاسبات. وكان التلاميذ يواظبون على الدروس في المساجد التي كانت مجانية لهم وكذلك بالنسبة للمعلمين (1). ولا يكاد يوجد رجل أمي في ميزاب لعناية أهله بالتعليم العربي الإسلامي من الأساس. أما التعليم العالي فيتلقونه على بعض الشيوخ البارزين أمثال الشيخ أطفيش ثم تلاميذه في مرحلة لاحقة، أو يهاجرون من أجله إلى تونس والمشرق.

ابتداء من 1851 وقع تنظيم خاص للمساجد والمدرسين فيها. والتنظيم جاء بعد دراسة شاملة للدراسات الإسلامية وموظفيها عموما. وقد رتبت المساجد إلى خمس درجات، ولم يختص بالتدريس إلا مساجد الدرجة الأولى. وهذه المساجد لا تكون إلا في المدن الرئيسية. فكان ستة فقط في كل القطر من الدرجة الأولى ثلاثة في العاصمة واثنان في قسنطينة وواحد في تلمسان. وقد سمى المدرس (مفسرا للقرآن) فقط. فلم يعد تدريس اللغة والنحو والأدب والتاريخ وما إليها جائزا للمدرس، وإنما كان الفرنسيون هم الذين يختارون له موضوعات في الفقه وأخرى في التوحيد لا يخرج عنها (2). وكان

(1) دبوز، نهضة، 1/ 212. وهنا وهناك.

(2)

انظر تصنيف وترتيب المساجد في فصل السلك الديني والقضائي.

ص: 62

وكان مرتب المفتي والإمام على حساب الدولة، ومن المفهوم أن المدرس هو أحد هذين. أما الموظفون الآخرون في المساجد فعلى حساب الميزانية المحلية والبلدية. وبذلك تخلت الدولة عن مهمتها نحو المساجد رغم أنها هي التي استولت على أوقافها وصادرت أموالها. وفي مكان آخر وصف دور المدرسين بأنه تعليم شؤون الدين للأطفال والتلاميذ البالغين (1). وهذا في الواقع هو مستوى التعليم الذي بقي معترفا به (التعليم القرآني).

وفي سنة 1897 وصف المدرسون بأنهم هم الذين يقومون بالتعليم العالي في المواد الآتية: التوحيد والفقه والنحو والأدب وعلم الفلك، وعرفوا بأنهم العلماء أكثر تقدما في التعليم، وبذلك تطور مفهوم المدرس عما كان عليه منذ سنة 1850 في نظر الفرنسيين. فالعلماء أصبحوا يكونون التلاميذ لوظائف الديانة، ومن بينهم تختار الدولة عادة المفتين والقضاة (2). ولا شك أن هذا خلط بين وظيفة المدرس في المساجد ووظيفة المدرس في المدارس الشرعية الفرنسية التي تأسست هي أيضا سنة 1850. أما مدرسو المساجد في العهد الفرنسي فلا يعلمون الأدب ولا البلاغة ولا علم الفلك. أنهم يلقون درسا في التوحيد للعامة، كما قلنا، أو في مبادئ الدين، بأسلوب تراقبه السلطة، وهي التي تجعل عليهم عيونا راصدة. وهذا التعليم المبسط جدا أصبح يقوم به المفتون الذين كانوا على رأس مساجد الدرجة الأولى في المدن الكبيرة (3). في هذه المرحلة أيضا - الخمسينات - كان عدد المدرسين حوالي ستة في المساجد وحوالي تسعة في المدارس الشرعية الثلاث. فتكون الجملة حوالي خمسة عشر مدرسا رسميا في الجزائر كلها.

(1) السجل (طابلو) سنة 1846 - 1849، ص 205، وكذلك لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر 1884، ص 13.

(2)

ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 13.

(3)

في إحصاء صدر في كتاب بعد الاستقلال أن عدد المدرسين في الجزائر خلال العهد الفرنسي كان 21 مدرسا، وعدد المفتين (وهم مدرسو المساجد) كان 25 مفتيا. انظر قوانار Goinard (الجزائر)، باريس، 1984. ص 296.

ص: 63

وإذا كان مدرسو المدارس الشرعية لا يهمنا أمرهم هنا (انظر فصلا آخر) فإن مدرسي المساجد على النحو المذكور كانوا لا تأثير ولا أثر لهم. فعلمهم كان ضئيلا وكان بعضهم لا يكاد يحسن الكتابة الصحيحة كما لاحظ المعاصرون، وكانوا موظفين طائعين يعملون على إرضاء الفرنسيين بكل الطرق، وهم في أغلبهم البقية التي لم تهاجر أو لم تغضب السلطات الفرنسية. وبعضهم كان مجهولا تماما فلم يكن له اسم ولا رسم بين العلماء السابقين ولا في العائلات العلمية التي كانت عادة تتوارث العلم أبا عن جد.

وفي سنة 1878 زار الجزائر الشيخ محمد بيرم الخامس التونسي وتحادث مع بعض علمائها كالشيخين أحمد بوقندورة (المفتي الحنفي) وعلي بن الحفاف (المفتي المالكي) وأخبرنا أن في العاصمة وحدها عشرة مدرسين. ولا شك أنه قد جمع مدرسي المساجد والمدارس الشرعية الرسمية أيضا، لأنه لم يكن في العاصمة سوى أربعة مساجد للخطبة عندئذ. وأخبرنا أن معظم الدروس كانت في الفقه المالكي (مختصر الشيخ خليل) وقليلا فقط في الحديث وغيره. وكأنه أراد أن يقول أن دور المسجد في التعليم قد انتهى في العاصمة، إذ أن العناية بالعلم في رأيه إنما هي في قسنطينة وتلمسان وفي الجنوب. ونوه بالتعليم في الجنوب بالذات لوجود السند عند علمائه - كما يقول ابن خلدون - لأنهم يرحلون إلى طلب العلم إلى فاس وتونس وحتى إلى مصر ليأخذوا عن علمائها، لذلك لم ينقطع (العلم) في هذه الجهات ممن له اطلاع جيد ومشاركة. والقليل منهم فقط يتضلعون في العلوم لعدم وجود العلماء الفحول في أوطانهم، وإنما هم يقرأون صغار الكتب. وإذا مهر واحد ممن رحل في سبيل العلم فإنه لا يرجع إلى وطنه إلا نادرا (1). وهذا نتيجة هيئة التدريس الجديدة التي نصبتها السلطات الفرنسية في المساجد، إنها هيئة جاءت لتبارك العمل الفرنسي وتختم على أوراق الإدارة، وتصدر الفتاوى المناسبة والدروس الفاترة على من بقي من التلاميذ. ومن عادة الجزائريين عدم الثقة فيمن تعينه السلطات الفرنسية ولو كان من أنبغ العلماء، وهو ما لا يكون.

(1) محمد بيرم الخامس (صفوة الاعتبار. ..) 4، ص 19.

ص: 64

ومنذ أوآخر القرن الماضي بدأ التفكير في توسيع دروس المدرسين تبعا لإصلاح المنظومة التعليمية الذي جاء سنة 1895. وكان هدف المسؤولين الفرنسيين امتصاص عدد من خريجي المدارس الشرعية (الفرنسية) الذين بقوا بدون عمل بعد تقليص دور القضاة المسلمين وحصره في الأحوال الشخصية فقط، كما أن غرضها كان محاولة استقطاب عدد من خريجي الزوايا الذين بقوا مهمشين مشكلين في نظر الفرنسيين خطرا عليهم. ومن جهة أخرى فإن توسيع دروس المساجد سيدعم حركة التعليم الابتدائي التي جاء بها إصلاح 1895. وهكذا شرع منذ حوالي 1955 في إحداث دروس في المساجد لم تكن من قبل، ووقع تجنيد عدد من المدرسين في مساجد كانت مهملة منذ عشرات السنين، في مختلف أنحاء القطر. وتتحدث المصادر على وجود واحد وعشرين مدرسا (21) فقط سنة 1955 (1)، ولكن هذا العدد تضاعف خلال عشر سنوات، كما سنرى من تقارير المفتشين. وكان هؤلاء المدرسون مقسمين كالآتي: أربعة في العاصمة: الجامع الكبير والجامع الجديد وجامع سيدي رمضان وجامع صفر (2)، واثنان في قسنطينة: الجامع الكبير وجامع سيدي الكتاني، ومدرس واحد في كل من المدن الآتية: البليدة، المدية، مليانة، تيزي وزو، الأغواط، مستغانم، وهران، تلمسان، سيدي بلعباس، جيريفيل، معسكر، بجاية، عنابة، طولقة، بسكرة، وهؤلاء المدرسون يتقاضون مرتباتهم من الميزانية الرسمية، وهم معينون من قبل الحكومة في هذه المسؤوليات.

وفي 5 يونيو (جوان) 1955 صدر برنامج موحد للمدرسين في جميع أنحاء الجزائر، وهو صادر عن إدارة الشؤون الأهلية بالحكومة العامة، وكان على رأس الإدارة المذكورة عندئذ المستعرب دومينيك لوسياني D.Luciani، الخبير في شؤون الجزائريين والعرب والإسلام وناشر عدة مؤلفات بالعربية

(1) أبو بكر بن أبي طالب (روضة الأخبار)، الجزائر، 1951، ص 58.

(2)

وهذه الأربعة هي كل ما بقي من مساجد الجزائر المائة، إضافة إلى جامع سيدي عبد الرحمن الثعالبي.

ص: 65

والبربرية بعد ترجمتها إلى الفرنسية (1). ويحتوي البرنامج على مواد إجبارية ومواد اختيارية، أما الإجبارية فهي مادة النحو طبقا للاجرومية، والعطارية (حسن العطار؟) ولامية الأفعال. وعدد ساعاتها الأسبوعية ثمانية، والهدف منها كما قيل هو التمكن من مادة النحو العربي واللغة. أما المواد الاختيارية فهي علوم الدين والأدب مثل الفقه على مختصر خليل والحديث من صحيح البخاري، والتوحيد من السنوسية (أم البراهين)(2)، إضافة إلى مادة الأدب العربي. وكانت المواد الاختيارية تدرس بعد الظهر ولها ست ساعات أسبوعية عدا الأحد.

ولكن المدرسين فيما يظهر لم يلتزموا بهذا البرنامج رغم المراقبة. فقد كانوا يقدمون الفقه على النحو، وكانوا يتناولون موضوعات خطيرة على الفرنسيين مثل باب الجهاد. ذلك أن الهدف من تنظيم هذه الدروس سنة 1898 و 1955 هو تكوين مترشحين أكفاء في اللغة العربية لدخول المدارس الشرعية الثلاث، ولكن الطريقة التي سلكها المدرسون لذلك لا تحقق هذا الهدف، حسب نقد الفريد بيل. فالمنظمون عهدوا بالمراقبة على المدرسين إلى مترجمين قضائيين أو مترجمين عسكريين في المراكز التى فيها مدرسون، لعدم تنقل مدراء المدارس الشرعية للقيام بهذه المهمة. وكانت المراقبة للدروس قد وضعت تحت مسؤولية الولاة في المناطق المدنية، والضباط في المناطق العسكرية. وكان الخوف من عدم التزام المدرسين بالخط المرسوم لهم. وإذا كان تنظيم المدارس الشرعية الثلاث قد عهد به إلى مستشرقين فرنسيين أصبحوا هم المدراء، كما عرفنا، (فطهروا)، حسب تعبير الفريد بيل، هذه المدارس من المواد الخطرة، فإن زملاءهم المترجمين القضائيين والعسكريين لا يقدرون، في نظره على القيام بهذه العملية - التطهير - لغربتهم عن التعليم الإسلامي ولكثرة عددهم التي كانت تفوق عدد المدرسين

(1) انظر حياته في فصل الاستشراق.

(2)

وهي من المؤلفات التي ترجمها ونشرها لوسياني. وتسمى أيضا عقيدة السنوسي، أو العقيدة الصغرى.

ص: 66

أنفسهم، ولكونهم مختلفين حول النظر في توجيه هذا التعليم. ومن ثمة ليس في قدرتهم (المترجمين) مراقبة المدرسين المسلمين في المساجد الذين يقدمون الفقه على النحو ويتناولون أبواب الجهاد والرق ونحوهما. ولماذا يفضل المدرسون الفقه؟ يقول بيل أنهم يفعلون ذلك لسببين: ارتباط الفقه بالدين، وهم فيه يظهرون براعتهم أمام تلاميذهم، وكون التلاميذ أنفسهم يرغبون في دخول المحاكم لوجود الأماكن الشاغرة فيها (1).

وكان الحاكم العام نفسه، وهو شارل جونار CH. Jonnart، أثناء عهده الأول، قد افتتح هذا النوع من التدريس وشجعه. وقد أصدر بيانا إلى جميع المسؤولين في القطر الجزائري طالبا منهم حث الناس، ولا سيما من يرغب منهم في إحدى الوظائف المخصصة للجزائريين كالتعليم والقضاء، على حضور دروس المساجد التي يقوم بها موظفون رسميون، وخصوصا دروس النحو والصرف والحساب والفرائض والأدب والحديث والتفسير. وقد ذكر الحاكم العام بأن هذه الدروس المسجدية تخدم نفس الهدف الذي وضعه الإصلاح سنة 1895 (2).

وقد استمر شارل جونار في تشجيع هذا النوع من التعليم المسجدي حتى أثناء عهدته الثانية والطويلة كحاكم عام للجزائر. ففي 6 مايو 1905، وعشية انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 بالجزائر أصدر قرارا بتنظيم التعليم المذكور وتوسيعه، ولكنه استجاب للنقد السابق، فوضع الرقابة على الدروس في أيدي مدراء المدارس الشرعية، وهم بالطبع مستشرقون فرنسيون مهرة يخدمون الإدارة قبل خدمتهم لمهنة التعليم أو فائدة الجزائريين منه. وقد جعلت الرقابة (التفتيش) سنوية وبطريقة فعالة. وسندرس ذلك بعد قليل في الحياة التطبيقية. وفي منشوره إلى الولاة المدنيين والحكام العسكريين أشار جونار إلى الهدف من تدريس المدرسين في المساجد: أن مهمتهم هي تكميل

(1) الفريد بيل (مؤتمر

)، مرجع سابق، ص 264.

(2)

(المبشر)، 24 نوفمبر، 1955.

ص: 67

التعليم الأدبي لأولئك الذين لا يحاولون تولي الوظائف العامة، أو أولئك الذين لا يقدرون أو لا يريدون متابعة دروسهم في المدارس، ولكنهم يرغبون في تنمية معارفهم التي حصلوا عليها في المدارس الابتدائية. وهذا في الحقيقة هدف واحد فقط من المخطط، وهو نشر ثقافة عامة ابتدائية بين المتعلمين وحتى غير المتعلمين، وكان ذلك هو غرض التعليم في المساجد منذ ما قبل الاحتلال. ولكن التجربة انقطعت وثقافة المدرسين أنفسهم صعفت، كما عرفنا.

ولكن ليس ذلك فقط. فمنشور جونار أشار أيضا إلى هدف آخر، وهو في الواقع المقصود بالذات في تلك الأثناء. ونعني به (إعداد الشبيية الأهلية في المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية، لدخول مؤسسات التعليم العالي الإسلامي. وعليهم أيضا (أي المدرسين) في كلمة واحدة، أن يساهموا، في نطاق وسائلهم، في اليقظة العقلية والمعنوية للسكان الأهالي، ومن ثمة فإنهم لا يدرسون الفقه للعامة في المساجد أو للراغبين في وظيفة عمومية إلا بعنوان ثانوي فقط) (1).

وهكذا بدأ مدراء المدارس الشرعية - الفرنسية في ممارسة تفتيشهم السنوي على دروس المساجد. وكانوا يقدمون تقاريرهم إما إلى الوالي في المناطق المدنية أو إلى الحاكم العسكري في المناطق العسكرية، وانتزعت الرقابة من أيدي المترجمين. وأخذ المراقبون الجدد في "تطهير) الدروس المسجدية من المواد الخطرة، كما قال الفريد بيل، وتحكموا في الأفكار وراقبوا سيرة المدرسين وقيمة طريقتهم ودرسهم، وحضور تلاميذهم الخ. وكانوا في كل تقرير يوصون بالعزل أحيانا والترقية أحيانا أخرى، ويبدون ملاحظات هامة على الأشخاص والمناهج والأفكار.

إن هذا التعليم المسجدي الجديد كان يقوم به مدرسون جزائريون

(1) واضح من هذا النص استجابة جونار لنقد مدراء المدارس الشرعية، فهو إلى جانب الرقابة يقلل من أهمية تدريس الفقه في دروس المساجد.

ص: 68

تسميهم الحكومة الفرنسية وتدفع إليهم أجورهم عليه. وهو تعليم يشبه في محتواه التعليم السائد في بعض الزوايا والذي كان موجودا من قبل في المساجد أيضا. ولقد كان المدرس في الماضي هو الذي يختار مادته التي يجيدها ويحضر إليه التلاميذ فإذا أعجبهم بقوا معه وتوسعت حلقته وذاع صيته في اختصاصه وترقى بمعارفه. أما خلال العهد الفرنسي الأول فقد عينت للمدرس، مهما كانت قدرته، مادتان لا يخرج عنهما، وهما التوحيد والفقه. وحتى في تدريس هاتين المادتين لم يكن حرا، فقد كان تحت المراقبة الشديدة وكانت بعض الأبواب ممنوعة عليه، في الفقه، كما أن مادة التوحيد قد ألغيت بعض الأحيان. أما الطريقة فهي الطريقة الإسلامية المعهودة، انتقاء المسألة وتقريرها وشرحها والاستشهاد لها وجلب مختلف الآراء حولها، ثم الخلاصة والاستنتاج. ولكن الفرنسيين ينعتون هذه الطريقة بطريقتهم هم في العصور الوسطى حين يقضي المدرس وقتا طويلا في شرح كلمة ومرادفها، والتلميذ لا يتبعه في ذلك).

أما الحضور لهذه الدروس في الوقت الذي نعالجه (بعد 1905) فهم عادة يعرفون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن أو أجزاء منه. ولكنهم يجهلون أبسط قواعد النحو. فهم يجلسون هامدين دون فهم شيء مما يلقيه عليهم المدرس من النص الأدبي خلال بضعة أشهر، وأحيانا خلال عدة سنوات، رغم شرح المدرس لهم. فالتلاميذ ينظرون إلى الكتب على أنها مقدسة، وهم بهذه النظرة إليها إنما يرضون الله في الدنيا والآخرة، حسب نقد النقاد الفرنسيين. لأنها كتب تخدم الدين. أما الأستاذ فهو يحاول فقط إظهار قوته الأدبية والخطابية ولا يكلف نفسه سؤال التلاميذ ومدى متابعتهم لدرسه. وإذن فالمدرسون لا يتبعون برنامج التدريس ولا المنهاج السليم في نقل معارفهم إلى تلاميذهم. وما دام التدريس خاليا من منهج التعليم الحقيقي فلا سبيل إلى تصنيفه حسب مستويات محددة كالابتدائي والثانوي والعالي. وإنما هو تعليم مصنف حسب مكانه: المسيد أو الشريعة، والزاوية ثم المسجد. هذا هو النقد الذي وجه إلى تدريس المدرسين بالمساجد. وفيه كثير

ص: 69

من الصحة. وقد كان يمكن أن يوجه إلى المدرسين سنة 1830 أو 1850 عند تصنيف المساجد ورجال الدين والقضاء. وكان يمكن للفرنسيين أن يفيدوا الجزائريين في هذا المجال، كما أفادوا تونس حين أدخلت عدة إصلاحات لتطوير التعليم في جامع الزيتونة، دون أن يتضرر التعليم من أساسه ولا الهدف منه. ولكنهم بالنسبة للجزائر قد أهملوا ذلك سبعين سنة إلى أن انقرضت أجيال وضحلت الحياة العلمية وتدجن العلماء، ثم نفخ الفرنسيون في الصور، ونادوا: حي على التعليم في المساجد. فأين التواصل في التجارب؟ وأين الإطارات المؤهلة لذلك؟ وأين الكتب المتطورة؟ إن البقية الباقية من المدرسين قد قدموا ما عندهم، وكان الكثير منهم ممن تخرجوا من المدارس الشرعية - الفرنسية، أي على يد الفرنسيين أنفسهم. وقليل منهم فقط درسوا في الزوايا أو تخرجوا من المعاهد الإسلامية (الأجنبية) في نظر الفرنسيين. وقد اضطهد الفرنسيون الجيدين منهم أمثال محمد الصالح بن مهنة والمولود الزريبي وعاشور الخنقي، لأنهم قد تخرجوا من غير المدارس الفرنسية (1).

ومهما كان الأمر فإن المفتشين المذكورين انطلقوا في أعمالهم منذ 1905. وأصبح المدرسون تحت رقابة شديدة، وكان عليهم أن يطوروا دروسهم حسب رغبة الإدارة وليس حسب اختصاصهم وموهبتهم. وقبل البعض هذا الاضطهاد الفكري على مضض لأسباب مادية، ورفضه آخرون فاختاروا الهجرة مثل حمدان الونيسي. وأرغم المدرسون على تسجيل تلاميذ المدارس العربية - الفرنسية (الابتدائية) والاهتمام بالذين درسوا الفرنسية من قبل، وليس نشر الثقافة العامة أو اليقظة العقلية والمعنوية كما قال جونار. وكان على المدرسين أن يسلكوا منهجا آخر فيسجلون التلاميذ في الدفاتر بطريقة معينة، ويستعملون السبورة في المساجد، ويتبعون طريقة المساءلة والحوار، ويقدمون النحو على الفقه والعملي على النظري. وبذلك حدد هدف جديد لهؤلاء المدرسين وهو المساعدة على تخريج جيل مزدوج اللغة،

(1) سندرس بعضهم بعد حين. انظر عن الزريبي دراستنا المستقلة عنه.

ص: 70

وهو ما يعني، أمام سيطرة اللغة الفرنسية في كل المجالات، جيلا أحادي اللغة، وهي الفرنسية، مع رفع الأمية فقط بالعربية.

يقول ألفريد بيل، وهو أحد المفتشين البارزين الذين سنتعرف على تقاريرهم بعد قليل، إن هذا التطور في دروس المسجد قد حقق الهدف. فالتلاميذ المسجلون في المساجد أصبحوا هم خريجي المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية، وأصبحت الطريقة مراقبة، وكذلك البرنامج. وأصبح المدرسون يسألون التلاميذ عن درس اليوم وتطبيقاته. وحلت الدراسات النحوية مكان الفقه والتوحيد في التعليم، وانفتح عقل التلميذ، فأصبح يفكر ويتأمل حتى ولو تخرج صاحبه من (المسيد). وأصبح المدرسون يعدون المترشحين لدخول المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، ويقدمون من جهة أخرى، إلى الشباب الأهلي الذي سبقت له دراسة اللغة الفرنسية، دروسا في اللغة العربية الأدبية. وبذلك يصبحون قادرين على القراءة والكتابة بالعربية ومعرفة آدابها، وكذلك بالفرنسية التي تعلموها (في مدارسنا الابتدائية) وسيكونون مسلحين لخوض معركة الحياة في هذا البلد بإتقانهم اللغتين. وسيحل تعليم المدرسين محل (التعليم السيء) الشائع في المدارس القرآنية (المسيد والشريعة) والزوايا (1). ذلك إذن هو هدف المستشرقين أمثال بيل، وهدف الإدارة أيضا: القضاء على التعليم القرآني، وتعليم الزوايا، وتعليم المساجد التقليدي، ثم تكوين جيل مزدوج في الظاهر ولكن تسيطر عليه الفرنسية باعتبارها اللغة الرسمية ولغة السيادة والعلم، أي تخريج جيل لا يعرف من العربية إلا ما يعرفه عنها بعض المستشرقين.

إن المدرس الذي يعنينا هنا هو أحد ثلاثة: مدرس المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، وهذا تناولناه في فصل آخر. والمدرس ما قبل تنظيمات 1898 و 1900 ثم مدرس ما بعد هذه التنظيمات. وقبل أن نتحدث عن المدرسين بعد 1955 نذكر جملة من الذين عاشوا التجربة الصعبة في

(1) بيل، (مؤتمر

)، مرجع سابق، ص 212 - 214.

ص: 71

التدريس منذ 1830. كان هؤلاء في مدينة الجزائر قد عانوا أكثر من غيرهم، ربما لمواجهتهم الاحتلال في عنفوانه وقبل أن يختار للجزائر النموذج الذي ستعيش عليه. أما الآخرون من المدرسين فقد كان عليهم أن يسيروا في المسار وأن يطبقوا ما فعل زملاؤهم.

من أبرز المدرسين أوائل الاحتلال في مدينة الجزائر محمد بن الشاهد، ومحمد بن العنابي، وعلي المانجلاتي، ومحمد السفار، ومصطفى الكبابطي. وتلا هؤلاء جيل آخر مثل حميدة العمالي وعلي بن الحفاف وعبد القادر المجاوي. وكان بعض هؤلاء يجمعون بين التدريس في المساجد وفي المدارس الرسمية الثلاث.

وقد تناولنا حياة بعضهم في دراسات خاصة فليرجع إليها من شاء (1). وقد بكى ابن الشاهد، وهو المفتى والمدرس، ما آل إليه أمر التدريس والعلم في العشرية الأولى من الاحتلال فقال:

ولثم درس العلم والجهل عسعس

ونادى بتعطيل العلوم عن النشر

كان هؤلاء وأمثالهم من فحول العاصمة، لم ينقطع منهم سند العلم الذي أخذوه عن كبارهم بالإجازة والدرس والحضور وليس بالسماع، كما صار الحال فيما بعد. فقد درس كل من ابن العنابي وابن الأمين وحمودة المقايسي في الأزهر ثم رجعوا إلى بلادهم للتعليم والإجازة فيه. وكان حمدان خوخة ممن انتصب للتدريس (حسب رواية عمر راسم)(2) وسافر طويلا في البلاد الإسلامية والأوربية، وكانت له معارف واسعة.

(1) انظر (رائد التجديد الإسلامي، ابن العنابي) ط 2، 1995 و (قضية ثقافية بين الجزائر وفرنسا: موقف ابن الكبابطي 1843) في أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 2. وعن محمد بن الشاهد انظر (تجارب في الأدب والرحلة)، 1983.

(2)

أخذ محمد علي دبوز، نهضة 1، عن كراسة بخط عمر راسم فيها تراجم بعض الجزائريين، ومنهم حمدان خوجة.

ص: 72