الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود. والوجه الأول أوفى بحق المقام، فتدبر كما في "الإرشاد".
والمعنى (1): أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن، وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم. وكيف تسخرون منه، وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} . وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقي اللاهي الساهي المعرض عما يسمع غير المكترث بما يلقى إليه.
أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)} الآية، بكى أصحاب الصفة، حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنّة مصر على معصيته، ولو لم تذنبوا .. لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم". وروي: أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ضاحكًا بعد نزول هذه الآية. وفي قوله: {وَلَا تَبْكُونَ} حث على البكاء عند سماع القرآن.
62
- ثم بين ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم، فقال:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} ؛ أي: صلّوا مخلصين لله. {وَاعْبُدُوا} ؛ أي: أفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات، والعزى، ومناة، والشعرى، وغيرها من الأصنام.
والفاء في قوله: (4){فَاسْجُدُوا} لترتيب الأمر، أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار، والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والإذعان مع كمال الخضوع والخشوع؛ أي: وإذا كان الأمر من الكفّار كذلك، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: اسجدوا لله الذي أنزله، واعبدوه، ولا تعبدوا غيره من ملَكٍ أو بشر، فضلًا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع كالأصنام، والكواكب. قال في "عين المعاني": فاسجدوا؛ أي: في الصلاة. والأصحّ: أنه على الانفراد. وهي
(1) المراغي.
سجدة التلاوة، انتهى.
والمعنى: أي فاخضعوا، وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به. فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديًا وبشيرًا لكم لعلكم ترحمون. ودعوا ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، والأصنام التي لا تغني عنكم شيئًا، لا تدفع عنكم ضرًّا، ولا تجديكم نفعًا، كما قال آمرًا رسوله أن يقول لهم:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} .
وهذا محل السجود عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم، فسجد فيها وسجد من كان معه غير أنّ شيخًا من قريش أخذ كفًّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرًا. زاد البخاري في رواية له قال: أول سورة نزلت فيها السجدة النجم، وذكره، وقال في آخره: وهو أميّة بن خلف.
وروى البخاري عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم؛ وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن والإنس. ولم يرها مالك لما روى الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها. نفي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب. وهو قول الشافعي، وأحمد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. وذهب قوم إلى وجوبها على القارىء، والمستمع. وهو قول سفيان، وأصحاب الرأي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإعراب
{أَفَرَأَيْتَ} الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة
على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكرت يا محمد في شأن هؤلاء المعاندين فرأيت الذي تولى. {رأيت} فعل، وفاعل، {الَّذِي} اسم موصول في محمد النصب، مفعول أول لـ {رأيت} ، وجملة {رأيت} معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. {تَوَلَّى} فعل، وفاعل مستتر، يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، {وَأَعْطَى} معطوف على {تَوَلَّى} ، {قَلِيلًا} صفة لمصدر محذوف؛ أي: عطاء قليلًا، ولك أن تجعله مفعولًا به لـ {أعطى} ؛ لأنه بمعنى وهب. {وَأَكْدَى} معطوف على {أعطى} . {أَعِنْدَهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، {عنده} خبر مقدم، {عِلْمُ الْغَيْبِ} مبتدأ مؤخر. والجملة في موضع نصب على أنها مفعول ثان لي {رأيت}. {فَهُوَ} الفاء: عاطفة سببية، {هو} مبتدأ، وجملة {يَرَى} خبره. والجملة معطوفة على جملة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} ، فهي داخلة في حيّز الاستفهام. {أَمْ} ، منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار، {لَمْ} حرف نفي وجزم، {يُنَبَّأْ} فعل مضارع، مغير الصيغة، مجزوم بلم، ونائب فاعله ضمير مستتر يعود على {الَّذِي تَوَلَّى} . {بِمَا} جار ومجرور، متعلق بـ {يُنَبَّأْ} ، على أنه مفعول ثان له. والجملة الإضرابية مستأنفة. {في صُحُفِ مُوسَى} جار ومجرور، صلة الموصول، {وَإِبْرَاهِيمَ} معطوف على {مُوسَى} ، {الَّذِي} صفة لـ {إبراهيم} ، و {وَفَّى} صلة الموصول، {أَلَّا تَزِرُ} أن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة {لا تزر} خبرها، {وَازِرَةٌ} فاعل {تَزِرُ} ، {وِزْرَ أُخْرَى} مفعول {تَزِرُ} . وجملة {أن} المخفّفة من اسمها وخبرها في محل الجرّ، بدل من {مَا} في قوله:{بِمَا في صُحُفِ مُوسَى} ، أو في محل رفع خبر لمتدأ محذوف، أي: هو أن لا تزر وازرة. {وَأَنْ} الواو: عاطفة، {أَنْ} مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لِلْإِنْسَانِ} خبرها مقدم، {إِلَّا} أداة حصر، {مَا} اسم موصول، في محل الرفع اسم ليس مؤخر، {سَعَى} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على {الإنسان} . والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: إلا ما سعاه، ويصح أن تكون {مَا} مصدرية، وجملة ليس في محل الرفع خبر أن المخفّفة، وجملة أن المخفّفة معطوفة على جملة قوله:{أَلَّا تَزِرُ} . {وَأَنَّ سَعْيَهُ} ناصب واسمه، {سَوْفَ} حرف تنفيس واستقبال، وجملة {يُرَى} في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أنّ معطوفة على جملة {أَلَّا تَزِرُ} . {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {يُجْزَاهُ} فعل مضارع، مغير
الصيغة، ومفعول ثانٍ له، ونائب فاعله ضمير يعود على {الإنسان} ، {الْجَزَاءَ} مفعول مطلق، {الْأَوْفَى} صفة له، أو هو بدل من الضمير الذي وقع مفعولًا ثانيًا. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله:{سَوْفَ يُرَى} .
{وَأَنَّ} عاطف، وناصب، {إِلَى رَبِّكَ} خبره مقدم، {الْمُنْتَهَى} اسمه مؤخر. والجملة معطونة على جملة قوله:{أَلَّا تَزِرُ} . {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {أَضْحَكَ} فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله. والجملة في محل الرفع خبر هو، وجملة هو في حل الرفع خبر {أنّ}؛ وجملة أنّ معطوفة على قوله:{أَلَّا تَزِرُ} . {وَأَبْكَى} معطوف على {أَضْحَكَ} ، {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، وجملة {أَمَاتَ} خبره، {وَأَحْيَا} معطوف على {أَمَاتَ} . والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنَّ} ، وجملة {أنَّ} معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ} . {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فعل وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أنّ} ، وجملة {أنّ} معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ} . {الذَّكَرَ} بدل من الزوجين، {وَالْأُنْثَى} معطوف عليه، {مِنْ نُطْفَةٍ} متعلق بـ {خَلَقَ} ، {إِذَا} ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بخلق، {تُمْنَى} فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على {نُطْفَةٍ} . والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ {إِذَا}؛ أي: خلق من نطفة وقت إمنائها في الرحم. {وَأَنَّ} عاطف وناصب، {عَلَيْهِ} خبر مقدم لـ {أنَّ} ، {النَّشْأَةً} اسمها مؤخر، {الْأُخْرَى} صفة لـ {نشأة} . وجملة {أنَّ} معطونة على ما تقدم. {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، وجملة {أَغْنَى} خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنّ} ، وجملة أن معطوفة على ما تقدم. وجملة {وَأَقْنَى} معطوفة على {أَغْنَى} . {وَأَنَّهُ} ناصب واسمه، {هُوَ} مبتدأ، {رَبُّ الشِّعْرَى} خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر {أنّ} ، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {وَأَنَّهُ} ناصب
واسمه، {أَهْلَكَ عَادًا} فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، {الْأُولَى} صفة لـ {عَادًا} ، وجملة {أَهْلَكَ} خبر {أنّ} ، وجملة {أنّ} معطوفة على ما تقدم. {وَثَمُودَ} معطوف على {عَادًا} {فَمَا} الفاء: عاطفة، {ما} نافية، {أَبْقَى} فعل ماض، وفاعل مستتر، والجملة معطوفة على {أَهْلَكَ} . {وَقَوْمَ نُوحٍ} معطوف على {عَادًا} ، {مِنْ قَبْلُ} جار ومجرور، حال من {قوم نوح} . {إِنَّهُمْ} ناصب واسمه، {كَانُوا} فعل ناقص واسمه، {هُمْ} ضمير فصل، لا محل له، أو تأكيد للضمير في {كَانُوا} ، {أَظْلَمَ} خبر {كَانُوا} . {وَأَطْغَى} معطوف على {أَظْلَمَ} ، وجملة {كان} في محل الرفع خبر {إنّ} ، وجملة {إنّ} تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} مفعول مقدم لـ {أَهْوَى} ، و {أَهْوَى} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَهْلَكَ عَادًا}. {فَغَشَّاهَا} الفاء: عاطفة، {غشاها} فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به أول. والجملة معطوفة على جملة {أَهْوَى} . {مَا} اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ {غَشَّاهَا} ، وجملة {غَشَّى} صلة {ما} الموصولة، ويجوز أن تكون {ما} الموصولة فاعلًا لـ {غشاها} .
{فَبِأَيِّ} {الفاء} : فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات، وكنت شاكًّا فيها على سبيل الفرض .. فأقول لك في أيّ نعمة من نعم ربّك تشكك بأنها ليست من عند الله تعالى، أو في كونها نعمة من عند الله تعالى. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {بأي آلاء ربك} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعق بـ {تَتَمَارَى} ، و {تَتَمَارَى} فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة في محل النصب؛ مقول لجواب إذا المقدرة. {هَذَا نَذِيرٌ} مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. {مِنَ النُّذُرِ} نعت لـ {نَذِيرٌ} ، {الْأُولَى} صفة لـ {النُّذُرِ} ، {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. {لَيْسَ} فعل ماض ناقص، {لَهَا} خبرها مقدم {مِنْ دُونِ اللهِ} حال من {كَاشِفَةٌ} ، و {كَاشِفَةٌ} اسم {لَيْسَ} مؤخر. وجملة {لَيْسَ} في محل النصب، حال من {الْآزِفَةُ} . {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على
ذلك المحذوف، {من هذا الحديث} متعلق بـ {تعجَبُونَ} وجملة {تعجَبُونَ} معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أتكذّبون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فتعجبون من هذا الحديث. والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. {وَتَضْحَكُونَ} فعل، وفاعل، معطوف على {تَعْجَبُونَ} ، {وَلَا تَبْكُونَ} معطوف على تضحكون، أو الجملة حال من فاعل {تَضْحَكُونَ} . {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب، حال من فاعل {تَبْكُونَ}. {فَاسْجُدُوا} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان شأن المشركين وحالهم ما ذكر، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم اسجدوا لله. {اسْجُدُوا} فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، {لِلَّهِ} متعلق بـ {اسْجُدُوا} . والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأتفة. {وَاعْبُدُوا} فعل، وفاعل، معطوف على {اسْجُدُوا} من عطف العام على الخاص.
التصريف ومفردات اللغة
{تَوَلَّى} ؛ أي: أعرض عن اتباع الحق، والثبات عليه. {وَأَكْدَى}؛ أي: قطع العطاء، وأمسك بخلًا، من أكدى الحافر؛ أي: حافر البئر إذا بلغ الكدية؛ أي: الصلابة كالصخرة، فلا يمكنه أن يحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئًا فلم يصل إليه، فلم يتممه، ولم يبلغ آخره. وفي "القاموس": أكدى بخل، أو قل خيره، أو قل عطاءه. وأصل {تَوَلَّى} تولي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وكذلك أصل {أَعْطَى} أعطى قلبت الياء التي أصلها واو ألفًا لتحركها بعد فتح، وإنما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة. وكذلك أصل {أَكْدَى} أكدي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)} جمع صحيفة. قال الراغب: الصحيفة: المبسوطة من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها. وجمعها صحائف، وصحف. والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة. وقال القهستاني: المصحف مثلث الميم ما جمع فيه قرآن، والصحف.
{وَفَّى} يقال: أوفاه حقه، ووفاه بمعنى؛ أي: أعطاه تامًّا وافيًا. ويجوز أن يكون التشديد فيه للتكثير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله.
{إِلَّا مَا سَعَى} والسعي: المشي السريع. وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًّا. {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)} أصله: يرأي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت تخفيفًا، فوزنه يفل.
{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} أصله: يجزي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. {الْأَوْفَى} اسم تفضيل، وزنه أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
والمعنى: يجزى سعيه. يقال: جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، وجزاه عمله.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء؛ أي: إليه الانتهاء، والرجوع في المعاد. وأصله: المنتهي بوزن مفتعَل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} والضحك: انبساط الوجه، وتكشر الأسنان من سرور النفس. ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك. والبكاء بالمد: سيلان الدمع عن حزن وعويل. ويقال: البكاء بالمد إذا كان الصوت أغلب كالرغاء ، وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت. وبالقصر يقال: إذا كان الحزن أغلب. وأصل {أَبْكَى} أبكي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
{أَمَاتَ} فيه إعلال بالنقل والتسكن والقلب، أصله: أموت بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. {وَأَحْيَا} أصله: أحيي بوزن افعل، قلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها بعد فتح.
{مِنْ نُطْفَةٍ} والنطفة: الماء الصافي. ويعبر بها عن ماء الرجل، كما في "المفردات". {إِذَا تُمْنَى}؛ أي: تصب في الرحم. وفي "القاموس": مني وأمني ومنَّي بمعنًى، يقال: أمنى الرجل ومنى: إذا صب المني، أو معنى {تُمْنَى} يقدر منها الولد من مناه الله يَمْنِيه قدره. إذ ليس كل مني يصير ولدًا. وأصل {تُمْنَى} تمني بوزن تفعل، فأعل كنظائره السابقة. {أَغْنَى وَأَقْنَى}؛ أي: أغنى من شاء، وأفقر من شاء.
وأصلهما: أغني وأقني بوزن أفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا.
{الشِّعْرَى} هي الشعرى العبور. وهي النجم الوضاء الذي يقال له: مرزم الجوزاء. وقد عبدته طائفة من العرب. وعادًا الأولى: هم قوم هود، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعاد الأخرى: هم من ولد عاد الأولى، وهم قوم صالح.
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} وهي قرى قوم لوط. سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي: انقلبت بهم. ومنه: الإفك. لأنه قلب الحق. {أَهْوَى} ؛ أي: أسقطها على الأرض مقلوبة.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} الآلاء: النعم. واحدها إلى بوزن معى. وفيه إعلال بالإبدال. أصله: ألاى، أبدلت الياء همزة لظرفها بعد ألف زائدة. والمدة فيه بدل من همزة، إذ أصله: أألاى، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مد من حسن حركة الأولى. وقوله:{تَتَمَارَى} فيه إعلال بالقلب. أصله: تتماري بوزن تتفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والتماري، والمماراة، والامتراء: المحاجة فيما فيه مرية، أي: شك وتردد.
{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57} يقال: أزف الترحل كفرح أزفًا وأزوفًا إذا دنا. والأزف محركًا: الضيق. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزوفًا من باب تعب، وأزفًا أيضًا دنا وقرب، وأزفت الآزفة دنت الدانية؛ أي: قربت القيامة. {كَاشِفَةٌ} من كشف الضر إذا أزاله.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)} قال الراغب: العجب، والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب: ما لا يعرف سببه. {وَلَا تَبْكُونَ} أصله: تبكيون، أستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت فحذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم ضمت الكاف لمنسبة الواو.
{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} السمود: اللهو. وقيل: الإعراض، وقيل: الاستكبار. وقال أبو عبيدة: السمود: الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا؛ أي: غني لنا. وقال الراغب: والسامد: اللاهي الرافع رأسه من قولهم: بعير سامد في مسيره ، وقيل: سمد رأسه وجسده؛ أي: استأصل شعره. وفي "المختار":
والسامد: اللاهي، بابه دخل. وفسر الزمخشري السمود بالبرطمة. وهي عامية فصيحة. ففي "الصحاح": البرطمة: الانتفاخ من الغضب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأنه استعار التولي والإدبار والإعراض لعدم الدخول في الإيمان. فاشتق من التولي بمعنى عدم الإيمان تولى بمعني أعرض عن الإيمان على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ويمكن أن يكون هذا ضابطًا لذكر التولي في القرآن، فحيث ورد في القرآن مطلقًا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)} حيث شبه من يعطي قليلًا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي: يمسك عن الحفر بعد أن حيل دونه بصلابة كالصخرة على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الطباق بين: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} وبين: {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وبين: {أعطى وأكدى} وبين: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . وهو في السورة جميعها متعدد، ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنًا أنه أتى في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي.
ومنها: التضعيف في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} لإفادة الكبير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله.
ومنها: الجناس المغاير، وجناص الاشتقاق في قوله:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} .
وجناس الاشتقاق بين: {سَعَى} ، و {سَعْيَهُ} في قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)} .
ومنها: الكناية في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} لأنّهما كنايتان عن الفرح والسرور، كأنّه قيل: وأنه هو أفرح وأحزن، لأنَّ الفرح يجلب الضحك،
والحزن يجلب البكاء.
ومنها: تقديم الذكر على الأنثى في قوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} رعاية للفاصلة، ولشرفه الرتبي.
ومنها: فن التنكيت في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتةٍ في المذكور ترجح مجيئه على غيره. وقد خص الله سبحانه هنا الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم. وهو رب كل شيء وخالفه لما تقدم في مبحث التفسير من أن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى، ودعا الناس إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
ومنها: الإبهام في قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} إفادة للتهويل الشديد، والتفظيع البليغ.
ومنها: إسناد فعل التماري إلى الواحد مع إفادته الماركة نظرًا لتعدده بحسب تعدد متعلقه.
ومنها: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {تَتَمَارَى} على طريق الإلهاب والتعريض للغير.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)} ؛ لأنّه شبه إنذار القرآن أو الرسول بإنذار الكتب الماضية، أو الرسل المتقدمة.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)} .
ومنها: وصف القيامة بالآزفة للتأكيد، وتقرير الإنذار.
ومنها: فن التمثيل في قوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)} فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في الوقائع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من الأسرار والأحكام
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
1 -
إنزال الوحي على رسوله.
2 -
أن الذي علمه إياه هو جبرئيل شديد القوى.
3 -
قرب رسوله من ربه.
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبرئيل على صورته الملكية مرتين.
5 -
تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
6 -
توبيخهم على جعل الملائكة إناثًا، وتسميتهم إياهم بنات الله.
7 -
مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
8 -
أوصاف المحسنين.
9 -
إحاطة علمه تعالى بما في السموات والأرض.
10 -
النهي عن تزكية المرء نفسه.
11 -
الوصايا التي جاءت في صحف إبراهيم وموسى.
12 -
النعي على المشركين في إنكارهم الوحدانية، والرسالة، والبعث، والنشور.
13 -
التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه، وغفلتهم عن مواعظه.
14 -
أمر المؤمنين بالخضوع لله، والإخلاص له في العمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *