الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: لا يلزم من كتابته في كتاب حلوله فيه كما لو كتب على شيء ألف دينار لا يلزم منه وجودها فيه، ومثله قوله تعالى:{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . فثبت أنه ليس حالًّا في شيء من ذلك، بل هو كلام الله تعالى، وكلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه.
فإن قلت: إذا لم تفارقه فكيف سمّاه منزلًا؟.
قلت: معنى إنزاله تعالى له: إنه علمه جبريل، وأمره أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يعلمه لأمته مع أنه لم يزل، ولا يزال صفة لله تعالى قائمة به لا تفارقه.
79
- وقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} إمَّا (1) صفة لكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون من الكدورات الجسمانية، وأوضار الأوزار أو للقرآن، فالمراد المطهرون من الأحداث مطلقًا. فيكون نفيًا بمعنى النهي؛ أي: لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث والجنابة ونحوهما على طريقة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه"؛ أي: لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه. فالمراد من القرآن: المصحف، سماه قرآنًا على قرب الجوار والاتساع، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وأراد به: المصحف.
وفي الفقه: لا يجوز لمحدث بالحدث الأصغر - وهو ما يوجب الوضوء - مس المصحف إلا بغلافه المنفصل الغير المشرز كالخريطة ونحوها؛ لأن مسه ليس مسًّا بالقرآن حقيقة إلا المتصل في الصحيح. وهو المجلد المشرز؛ لأنه من المصحف يعني: تبع له، حتى يدخل في بيعه بلا ذكر، وهذا أقرب إلى التعظيم، وكره المس بالكم؛ لأنه تابع للحامل، فلا يكون حائلًا، ولهذا لو حلف لا يجلس على الأرض، فجلس وذيله بينه وبين الأرض حنث، وإنما منع الأصغر عن مس المصحف دون تلاوته؛ لأنه حل اليد دون الفم، ولهذا لم يجب غسله في الوضوء، والجنابة كانت حالة كليهما. ولا يرد العين؛ لأنّ الجنب حل نظره إلى مصحف بلا قراءة، وكذا لا يجوز لمحدث مس درهم فيه سورة إلا بصرته، ولا لجنب دخول
(1) روح البيان.
المسجد إلا لضرورة، فإن احتاج إلى الدخول تيمم، ودخل؛ لأنه طهارة عند عدم الماء، ولا قراءة القرآن، ولو دون آية لأن ما دونها شيء من القرآن أيضًا إلا على وجه الدعاء أو الثناء أو التبرك كالبسملة والحمدلة.
وفي "الأشباه": لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة على قول الشعبي، ومن وافقه إن قصد الدعاء والثناء لم يكره، وإن قصد التلاوة كره، وفيه إشارة إلى أن حكم القراءة يتغير بالقصد، ويجوز للجنب الذكر والتسبيح، والدعاء. والحائض والنفساء كالجنب في الأحكام المذكورة، ويدفع المصحف إلى الصبيّ؛ إذ في الأمر بالوضوء حرج بهم، وفي المنح تضييع حفظ القرآن؛ إذ الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، وفي "الأشباه": ويمنع الصبي من مس المصحف، انتهى. والتوفيق ظاهر.
وفي "كشف الأسرار": وأما الصبيان فلأصحابنا فيهم وجهان:
أحدهما: أنهم يمنعون منه كالبالغين.
والثاني: أنهم لا يمنعون لمعنيين:
أولًا: أن الصبي لو منع ذلك .. أدى إلى أن لا يتعلم القرآن، ولا يحفظه. لأن وقت تعلمه، وحفظه حال الصغر.
ثانيًا: أن الصبي وإن كانت له طهارة .. فليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح مه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهر كامل جاز أن يحمله محدثًا، انتهى.
هذا وقد ذهب جمهور العلماء (1) إلى منع المحدث، وكذا الجنب والحائض من مس المصحف، وحمله، وبذلك قال عليُّ، وابن مسعود، وسعد ابن أبي وقّاص، وعطاء، وطاوس، وسالم، والقاسم، وجماعة من الفقهاء منهم: مالك، والشافعي، ويدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا تمس القرآن إلا طاهرًا". أخرجه مالك مرسلًا. وقد جاء موصولًا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل
(1) الخازن.
اليمن بهذا، والصحيح فيه الإرسال. وروى الدارقطني بسنده عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر". والمراد بالقرآن: المصحف. وقال الحكم، وحماد، وأبو حنيفة: يجوز للمحدث، والجنب حمل المصحف، ومسه بغلافه، فإن قلت: إذا كان الأصح: أن المراد من الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأن المراد من لا يمسه إلا المطهرون هم الملائكة. ولو كان المراد نفي الحدث .. لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، من التطهر، كيف يصح قول الشافعي: لا يجوز للمحدث مس المصحف؟.
قلت: من قال: إن الشافعي أخذه من صريح الآية حمله على التفسير الثاني. وهو القول: بأن المراد من الكتاب هو المصحف. ومن قال: إنه أخذه من طريق الاستنباط قال: المس بطهر صفة دالة على التعظيم، والمس بغير طهر نوع استهانة، وهذا لا يليق بمباشرة المصحف الكريم، والصحيح: أنه أخذه من السنة. ودليله ما تقدم من الأحاديث. والله أعلم.
ومعنى الآيات: فأقسم بمساقط النجوم، ومغاربها، وإنَّ هذا القسم قسم عظيم لو تعلمون عظمته .. لانتفعتم بذلك، أو فاعلموا عظمته؛ أي: أقسم بمواقعها إنه لقرآن كريم؛ أي: عزيز مكرم مستقر في كتاب مكنون؛ أي: مصون مستور عند الله تعالى؛ أي: في لوح محفوظ من أن يناله الشيطان بسوء، أو في مصحف مصون محفوظ من التبديل والتحريف. والقول الأول أصح. لا يمس ذلك الكتاب المكنون أعني: اللوح المحفوظ إلا الملائكة المطهرون. وهذا مروي عن ابن عباس، وأنس. وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية، وقتادة، وابن زيد. أو لا يمس ذلك المصحف إلا المطهرون من الشرك. يعني: لا يمكن أهل الشرك من قراءته. قال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، أو لا يمسه إلا المطهرن من الأحداث والجنابات. وقال الحسين بن الفضل: المراد: أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وفي حرف ابن مسعود (1): {ما يمسه إلا المطهرون} .
وقرأ الجمهور {الْمُطَهَّرُونَ} بتخفيف الطاء، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول من طهر مشددًا، وقرأ عيسى كذلك مخففًا اسم مفعول من أطهر. ورويت عن نافع
(1)، البحر المحيط.