الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلقه. وقال السهرودي رحمه الله تعالى: من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفًا أهلك خصمه، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده؛ فإنهم ينهزمون.
26
- ولما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالًا أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} وكرر القسم للتأكيد؛ أي: وعزّتي وجلالي .. لقد بعثنا {نُوحًا} إلى قومه. وهم (1) بنوا قابيل، وهو الأب الثاني للبشر. {وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قومه أيضًا، وهم نمرود ومن تبعه. ذكر الله رسالتهما تشريفًا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل وأبوان للأنبياء عليهم السلام، فالبشر كلهم من ولد نوح. والعرب والعبرانيون كلهم من ولد إبراهيم. {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا}؛ أي: في نسلهما {النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} بأن استنبأنا بعض ذريتهما، وأوحينا إلهم الكتب مثل: هود، وصالح، وموسى، وهارون، وداود، وغيرهم، فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدل إليهما بأمتن الأنساب، وأعظم الإنسان.
أي: جعلنا فيهم النبوّة، والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء، وجعل بعضهم يتلون الكتاب.
والمعنى: ولقد بعثنا نوحًا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده إلى قوم آخرين، ولم يرسل بعدهما رسلًا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين {فَمِنْهُمْ} ؛ أي: فمن ذريتهما {مُهْتَدٍ} إلى الحق مستبصر {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ؛ أي: ضلال خارجون عن طاعة الله تعالى، ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسون أنفسهم باجتراح الآثام، وفي الآية إيماء إلى أنهم خرجوا من الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ في الذم وأشد في الاستهجان لعملهم.
والمعنى: أي فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم. وقيل: المعنى: فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى، وكثير منهم خارجون عن طاعتنا.
27
- {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ} ؛ أي: (2) أتبعنا على آثار الذرية، أو
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.
على آثار نوح، إبراهيم {بِرُسُلِنَا} الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم. فالضمير (1) لنوح وإبراهيم، ومن أرسلا إليهم من الأمم؛ أي: أرسلنا بعد نوح هودًا وصالحًا، وبعد إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف مثلًا. وفي "الروح": الضمير لا يرجع إلى الذرية؛ فإن الرسل المقفى بهم من الذرية. يقال: قفا (2) أثره أتبعه، وقفى على أثره بفلان؛ أي: أتبعه إياه وجاء به بعده. والآثار جمع إثر بالكسر، كما سيأتي. تقول: خرجت على إثره؛ أي: عقبه. فالمعنى: أتبعنا من بعدهم واحدًا بعد واحد من الرسل.
والخلاصة (3): أي ثم بعثنا بعدهم رسولًا بعد رسول على توالي العصور والأيام.
ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته في عصر التنزيل ولوجود أتباعه في جزيرة العرب وغيرها، فقال:{وَقَفَّيْنَا} ؛ أي: أتبعنا أولئك الرسل الذين قفيناهم بعد نوح إبراهيم {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} ؛ أي: أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، فأتينا به بعدهم؛ أي: جعلناه تابعًا لهم؛ أي: متأخرًا عنهم في الزمان. فأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى عليهما السلام، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه. ونسبه إلى أمه على حقيقة الإخبار. {وَآتَيْنَاهُ}؛ أي: أعطينا عيسى {الْإِنْجِيلَ} دفعة واحدة، وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدَّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران، وقرأ الجمهور (4) {الْإِنْجِيلَ} بكسر الهمزة. وقرأ الحسن بفتحها. قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، انتهى، وهي لفظة أعجمية فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري: أمره أهون من أمر برطيل، يعني: أنه بفتح الباء، وكأنّه عربيّ، وأما الإنجيل فأعجمي.
والمعنى: أي ثم أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملًا لما في القوراة، ومخفِّفًا بعض أحكامها التي شرعت تغليظًا على بني إسرائيل
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
(3)
روح البيان.
(4)
البحر المحيط.
لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} .
ثم بين صفات أتباع عيسى، فقال:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} ؛ أي: اتبعوا عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم. {رَأْفَةً} ؛ أي: لينًا. وقرىء {رآفة} بوزن فعالة، كما في "البيضاوي". {وَرَحْمَةً}؛ أي: شفقة؛ أي (1): جعلنا في قلوبهم رأفة؛ أي: أشد رقة ولين على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم، والاتباع لهم ورحمة؛ أي: رقة وعطفًا وشفقة على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم والاتباع لهم، أي: يعطفون على جميع الناس من وافقهم في الدين، ومن لم يوافقهم، كما كان الصحابة رضي الله عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة، فهم أعزة على الكافرين. قيل: أمروا في الإنجيل بالصفح، والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى. وقيل: لهم من لطم خدك الأيمن فوله خدك الأيسر، ومن سلب ردائك فاعطه قميصك، ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف. فاتبعوا هذه الأوامر، وأطاعوا الله تعالى، وكانوا متوادين ومتراحمين. ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة.
وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب (2) على الاشتغال بفعل مضمر يفسره المذكور بعده؛ أي: وابتدع أتباع عيسى رهبانية {ابْتَدَعُوهَا} ؛ أي: اخترعوها من قبل أنفسهم، وباختيارهم لا بأمر من الله، فيكون الكلام مستأنفًا؛ أي: حملوا أنفسهم على العمل بها. والرهبانية: المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم، ولبس المسوح، وترك أكل اللحم، والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والمنكح، والتعبد في الغيران، والتخلي في الصوامع. ومعناها: ابتدعوا الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بفتح الراء: وهو الخائف، فإن الرهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في "المفردات"، وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقيل: معطوفة على ما قبلها، وجملة {ابْتَدَعُوهَا} صفة لها؛ أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة مخترعة من عندهم؛ أي: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية، واستحداثها لينجوا من
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
فتنة بولس اليهودي. والأوّل أولى (1)، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره.
وجملة {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} صفة ثانية لـ {رَهْبَانِيَّةً} أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم. والمعنى: ما فرضنا عليهم تلك الرهبانية في كتابهم، ولا على لسان رسولهم.
وسبب ابتداعهم إياها (2): أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى، فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل، فخافوا أن يفتتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال، فارين بدينهم، مخلصين أنفسهم للعبادة، منتظرين البعثة النبوية التي وعدها لهم عيسى عليه السلام، كما قال تعالى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية.
وروي: أن الله تعالى لما أغرق فرعون وجنوده استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السلام في الرجوع إلى الأهل والمال بمصر، فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا في رؤوس الجبال، فكانوا أول من ترهب، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله تعالى؛ ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب عيسى عليه السلام.
والرهبانية (3) بفتح الراء وضمها، وقد قرىء بهما، وهي بالفتح من الرهب. وهو الخوف. وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا. ذكر معناه الضحاك، وقتادة وغيرهما.
وحاصل المعنى (4): أن اتباع عيسى الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتي:
1 -
الرأفة بين بعضهم وبعض فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيل، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
(1) الشوكاني.
(2)
الشوكاني.
(3)
روح البيان.
(4)
المراغي.
2 -
الرحمة فيجلب بعضهم لبعض الخير، كما قال تعالى في حق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} .
3 -
الرهبانية المبتدعة فقد انقطعوا عن الناس في الفلوات والصوامع معتزلين الخلق، وحرموا على أنفسهم النساء، ولبسوا الملابس الخشنة تبتلا إلى الله وإخباتًا له، ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية ولكنهم استحدثوها طلبًا لمرضاة الله والزلفى إليه.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا} منقطع؛ أي؛ لكن ابتدعوها {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} تعالى؛ أي: لطلب رضا الله تعالى. وقال الزجاج (1): ما كتبناها عليهم معناه: لم نكتب عليهم شيئًا البتة. قال: ويكون قوله: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلًا من الهاء في {كَتَبْنَاهَا} .
والمعنى: ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. فيكون الاستثناء متصلًا. {فَمَا رَعَوْهَا} ؛ أي: فما حفظ العيسويون الرهبانية {حَقَّ رِعَايَتِهَا} ؛ أي: حق حفظها؛ لأنهم أتوها لطلب الدنيا والرياء والسمعة؛ أي: فما رعوا (2) جميعًا حق رعايتها، بل أفسدوها بضم التثليث والقول بالاتحاد، وقصد السمعة، والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونحوها إليها. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "من آمن بي وصدقني .. فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي .. فأولئك هم الهالكون". قال مقاتل: لما استضعفوا بعد عيسى عليه السلام التزموا الغيران فما صبروا وأكلوا الخنازير، وشربوا الخمور، ودخلوا مع الفساق، اهـ. وفي "المناسبات" {فَمَا رَعَوْهَا}؛ أي: لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما أوجبوا على أنفسهم حق رعايتها؛ أي: بكمالها، بل قصروا فيها ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين عيسى عليه السلام إلا قليلًا منهم، ذمهم الله تعالى بذلك من حيث إن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه سيما إذا قصد رضاء الله تعالى.
{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} ؛ أي: فأعطينا الذين آمنوا إيمانًا صحيحًا {مِنْهُمْ} ؛ أي: من العيسيين، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها؛ فإنها بعد البعثة لغو محض، وكفر بحت، وأنى لهم استتباع الأجر. قال في "كشف
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
الأسرار": لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل حط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به صلى الله عليه وسلم، وهم المرادون بقوله:{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} . والصومعة: كل بناء متصومع الرأس؛ أي: متلاصقه. والدير: خان النصارى، وصاحبه ديار.
أي: فآتينا الذين آمنوا منهم {أَجْرَهُمْ} الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى؛ أي: أعطيناهم ما يحسن، ويليق بهم من الأجر، وهو الرضوان الذي طلبوه برهبانيتهم، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} ؛ أي: من العيسيين، وهم الذين ابتدعوا فضيعوا، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم {فَاسِقُونَ}؛ أي: خارجون عن حد الاتباع، وهم الذين تهودوا وتنصروا؛ أي: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به؛ ووجه (1) الذم لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع، أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها، وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه دينًا، وأما على القول: بأن الاستثناء متصل؛ وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها، فوجه الذم ظاهر.
والمعنى (2): أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا بما التزموه حق القيام، بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا. وفي هذا ذم لهم من وجهين:
1 -
أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر به.
2 -
أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم بما زعموا أنه قربة يقربهم إلى ربهم. وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله قال: "اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.