الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشفعة
مقدمة
الشفعة: بضم الشين، وسكون الفاء.
والشفع لغة: الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضممت فردًا إلى فرد فقد شفعته، ومن هنا اشتقت الشفعة، لأنَّ الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته.
والشفعة تطلق على التملك، وعلى الحصة المملوكة.
فتعريفها شرعًا على المعنى الأول، -وهي المرادة في هذا الباب- هي: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي.
وعلى المعنى الثاني هي: اسم للجزء المملوك المشفوع بملك الشريك الشافع.
والشفعة ثابتة بالسنة، وإجماع العلماء، ويقتضيها القياس.
أما السنة:
فأحاديث الباب وغيرها.
قال الموفق: ما كان عوضه المال، ففيه الشفعة بالإجماع.
* حكمتها:
لما كانت الشركة بالعقار يحصل منها أضرار عظيمة، ومشاكل جسيمة، وتطول مدة الشراكة فيها صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح.
فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشتري، منفعةٌ عظيمةٌ للشريك الشافع، ودفع ضرر كبير عنه بلا ضرر يلحق البائع ولا المشتري، فكل منهما أخذ حقه كاملاً غير منقوص، وبهذا يعلم أنَّ الشفعة جاءت على الأصل، ووفق القياس.
قال ابن القيم: هي من محاسن الشريعة وعدلها، وقيامها بمصالح العباد، ومنها يعلم أنَّ التحايل لإسقاطها مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له.
والشرع كله خير وبركة، فلا يأمر إلَاّ بما تكمل مصلحته، أو تزيد مصلحته على مفسدته.
ولا ينهى إلَاّ عمَّا فيه مضرة كاملة، أو مضرته ومفسدته تزيد على مصلحته، فتبارك الله أحسن الحاكمين.
***
772 -
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَاريِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ -وَفِي لَفْظٍ: لَا يَحلُّ- أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلى شَرِيكِهِ".
وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: "قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيءٍ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
رواية الطحاوي. قال عنها الحافظ وابن عبد الهادي: رجال سندها ثقات، وقال الحافظ أيضًا: لا بأس بها، ولها شواهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وقد أعلت بالإرسال.
* مفردات الحديث:
- قضى: القضاء له معنيان:
أحدهما لغوي: وهو الإلزام والإجبار والفراغ والتقدير.
الثاني: شرعي اصطلاحي: وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات على وجه خاص، صادر من ولاية عامة.
- بالشُّفْعة: بضم الشين وسكون الفاء، قال بعض أهل اللغة: وغلط من حرَّكها،
(1) البخاري (2257)، مسلم (1608)، الطحاوي (4/ 126).
واختلف في اشتقاقها في اللغة على أقوال.
وهي هنا: من الشفع وهو الزوج؛ لأنَّ الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا، فهى خلاف الفرد.
قال ابن حزم: هي لفظة شرعية لم تَعرِف العرب معناها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقعت: وقع الحق يقع وقوعًا ثبت.
ومعنى وقعت الحدود أي: عُيِّنَتْ وصُرِّفت.
- الحدود: جمع حد يقال: حد الشَّيء عن الشيء ميزه عنه، وهو هنا: ما تميز الأملاك بعضها عن بعض.
- صُرِّفت الطرق: بضم الصاد وكسر الراء مشددة ومخففة، فعل ماضٍ، مبني للمجهول، بمعنى بينت المصارف والطرق والشوارع فيما بين العقارات.
- رَبعْ: بفتح الراء وسكون الباء آخره عين مهملة، يقال: ربع المكان أي أقام واطمأنَّ، والربع: الدار بعينها حيث كانت، جمعها رباع وربوع.
- حائط: حاطه يحوطه حوطًا وحيطة: حفظه وصانه، والحائط الجدار؛ لأنَّه يحوط ما فيه، ويطلق الحائط هنا على البستان من النخيل المحاط بجدار منيع، وجمعه حوائط.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذه الشريعة الحكيمة الرشيدة جاءت لإحقاق الحق ووضع العدل، ولدفع الشر والضرر، ولتحقيق هذا المعنى السامي الكريم نُظُم مستقيمة، وأحكام عادلة.
2 -
الشركة في العقار تسبب أضرارًا كثيرة، وتولد مشكلات كبيرة بين الشريكين أو الشركاء، والقسمة شاقة، وربما سببت ضررًا إذا توزع العقار إلى قطع صغار لا يستفاد منها، وتنقص القسمة قيمتها.
لذا شرعت الشفعة للتخلص من الشركة وأضرارها، بأسهل طريق،
وأعدل منهج.
3 -
هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة ومشروعيتها، وهو مستند الإجماع عليها.
4 -
صدْر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في كل شيء حتى المنقولات، وأما آخره فيحدد مدلولها بالعقار، وما يتبعها من الشجر والبناء، إذا كانا في الأرض التي جرت بها الشفعة.
5 -
تكون الشفعة في العقار المشترك الذي لم تميز حدوده، ولم تعرف طرقه، لإزالة ضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع.
6 -
إذا ميزت الحدود، وصُرفت الطرق فلا شفعة؛ لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاف، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
7 -
بهذا يعلم أنَّ الشفعة لا تثبت لجارٍ ما لم يكن هناك مرافق مشتركة، فإنَّها تثبت، وسيأتي بيان الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
8 -
استدل بالحديث على أنَّ الشُّفعة لا تكون إلَاّ فى العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، وذلك أخذًا من قوله:"في كل ما لم يقسم"؛ لأنَّ الذي لا يقبل القسمة لا يحتاج إلى نفيه، وسيأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
9 -
أما رواية الطحاوي: "أنَّ الشفعة في كل شيء" فهي مقيَّدة بالروايات الأخر التي خصَّت الشفعة في العقار الذي تطول مدة شركته، ويطول ضررها ويكثر.
10 -
تثبت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة، ولذا اختصت بالعقارات؛ لطول مدة الشراكة فيها، وأما غير العقار فضرر الشراكة فيه يسير، ويمكن التخلص منه بوسائل كثيرة من القسمة التي هي فيه، التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع وغير ذلك.
11 -
الشفعة حق واجب للشفيع، والحقوق لا يجوز التحيل لإسقاطها، فمن أسقطها بطرق كاذبة، وتمويهات باطلة، فقد ظلم نفسه بارتكاب المعصية، وظلم الشفيع لحرمانه من حقه الذي أوجبه الله تعالى له، وتعدى على حدود الله تعالي التي شرعها لعباده، فأسقطها بأدنى الحيل.
قال الإمام أحمد: يحرم التحيل لإسقاط الشفعة، ولإبطال حق مسلم.
وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز باتفاق العلماء.
وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع، والراجح أنَّه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرَّم فهي باطلة.
12 -
فيه حسن أدب المشاركة، وهو أنَّ الشريك إذا أراد أن يبيع نصيبه، فيحسن أن يعرضه على شريكه، فإن رغب شراءه فهو أحق به من غيره؛ لحق الشراكة والجوار والصحبة بين الشريكين، ويزيل عن أخيه وشريكه عناء الشفعة.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم "قسمة إجبار"، وهو العقار الواسع الذي لا تمييز بين أجزائه فلا ضرر في قسمته، ولا رد عوض من أحد الشريكين أو الشركاء على الآخر، فهذا تثبت فيه الشفعة بالإجماع.
واختلفوا في الدار الصغيرة، والحمام، والحانوت، ممَّا مساحته قليلة، ولا تجب قسمته قسمة إجبار.
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد عدم جواز الشفعة فيها، لما روى أبو عبيد في الغريب أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا شُفعة في فِناء، ولا طريق، ولا منقبة".
وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى ثبوت الشفعة في هذه الأمكنة الضيقة، ولو لم تجب قسمتها "قسمة إجبار".
واختار هذا القول ابن عقيل، وابن الجوزي، وتقي الدين ابن تيمية، وشيخنا عبد الرحمن السعدي؛ لعموم الأخبار في ثبوت الشفعة، ولِما روى الترمذي والنسائي موصولاً ومرسلاً عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الشريك شفيع في كل شيء"؛ ولأنَّ الشُّفعة ثبتت لإزالة ضرر الشراكة، وهي في هذا النوع من العقار أكثر ضررًا.
* قرار مجلس هيئة كبار العلماء: رقم (44) في 3/ 4/ 1396 هـ ما نصه:
"كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار، كالبيت والحانوت الصغيرين ونحوهما لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع، ولأنَّ النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك".
أما الأماكن المذكورة في الحديث الذي رواه أبو عبيد فعلى فرض صحة الحديث، فإنَّ الفِناء هو الساحة العامة بين البيوت، والمنقبة هي الطريق الضيق بين الدارين، والطريق هو الدرب العام، وهذه الأشياء الثلاثة ليست مملوكة لتصح فيها الشفعة، وإنما هي مرافق مشتركة بين البيوت ينتفع فيها حسبما جرت به عادة السكان.
***
773 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بالدَّارِ" روَاهُ النَّسَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ عِلَّةٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث معلول، والصواب فيه أنَّه عن سمرة بن جندب.
قال الألباني ما خلاصته: الحديث روي من طريقين:
1 -
الحسن البصري عن سمرة بن جندب، أخرجه أبو داود (3517)، والترمذي (1368)، والبيهقي وأحمد، وغيرهم، وهو صحيح.
2 -
عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة عن أنس مرفوعًا، أخرجه ابن حبان والضياء، وعلقه الترمذي وقال: الصحيح عند أهل العلم، حديث الحسن عن سمرة، لا نعرف حديث قتادة عن أنس إلَاّ من حديث عيسى بن يونس.
وقال الدارقطني: عن الحسن عن سمرة، وهو الصواب.
…
(1) النسائي في الكبرى كما في "التحفة"(4/ 69) من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة.
774 -
عَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، وَفِيهِ قِصَّةٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- صقَبه: بفتح الصاد والقاف. قال في النهاية: الصَّقَب: القُرب والملاصقة، فهو ما قرب من الدار، فالصاقب: القريب.
ويقال سقب بالسين، قال ابن دريد: اللغتان فصيحتان.
أي تقاربت أبياتهم، وأبياتهم متساقبة: أي متدانية.
قال في جامع الأصول: وهو بالصاد أكثر، وهما مصدر أسقبت الدار وصقبتها.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
حق الجار على جاره كبير، فقد جاء في الحديث الصحيح أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
2 -
من تلك الحقوق أنَّ الجار إذا أراد بيع عقاره، فيحسن أن يعرضه على جاره، إن أراد شراءه فهو أحق به من غيره؛ لأنَّه قد يحصل عليه من المجاورة ضرر وأذى، لا يزول إلَاّ بالشراء، وربما يشتريه من لا يرغب جواره ولا قربه، وكما قيل:"الجار قبل الدار"، فبشرائه يندفع عنه كثير من الأذى والضرر.
* خلاف العلماء:
ذهب أبو حنيفة إلى ثبوت الشفعة للجار مطلقًا، سواءٌ كان له مع شريكه مرافق مشتركة أو لا، لظاهر هذين الحديثين.
(1) البخاري (2258).
وذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم إذا صرفت طريقه، لما في الصحيحين:"فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، ولأنَّ الشُّفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر، والجار ليس عنده من الضرر ما يحتم إثبات الشفعة له.
وأما الحديثان فلا يقاومان الأحاديث المعارضة لها كثرة وقوة، ويمكن أن يراد بهذين الحديثين الجار الذي له مع جاره مرافق مشتركة من طريق واحد، أو مسيل، أو بئر مشتركة، أو نحو ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء، والراجح ثبوت الشفعة له، كما سيأتي تحقيقه قريبًا إن شاء الله تعالي.
***
775 -
وَعَن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِباً، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي من طرق عن عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبد الملك عن عطاء عن جابر، وعبد الملك ثقة، رُوِي عن ابن المُبَارك عن الثوري، قَال: عبد الملك بن أبي سليمان ميزان في العلم.
قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر، قال الشافعي: يخاف ألا يكون محفوظًا، ومال البخاري إلى أنَّه منكر، لمعارضته حديث جابر في قوله:"إذا كان طريقهما واحدًا".
قُلتُ: واعتبار هذا الحديث منكرًا من الأئمة المتقدم ذكرهم هو لهذه الزيادة، وهي لا توجب نكارته، فهي زيادةُ قيد ثابتة مقبولة، وجاءت مقيِّدة لطرفين من أحاديث الشفعة متباعدين:
أحدهما: يثبت الشفعة للجار مطلقًا، والآخر: يمنع الشفعة عن الجار مطلقًا، فجاء هذا القيد يجمع بين الأحاديث، وبهذا فلا نكارة فيه، والله أعلم.
(1) أحمد (3/ 303)، أبو داود (3518)، الترمذي (1369)، النسائي في "الكبرى"(2/ 229)، ابن ماجه (2494).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يُثْبت حق الشُّفعة للجار، لأنَّ الجار له حق كبير على جاره، ومن تلك الحقوق تقديمه وإيثاره ببيعه ما يليه من عقار جاره، ليزول عنه أذى الجوار ومزاحمته.
2 -
ومثل هذا الحكم الرشيد يعلم به ما في الإسلام من رعاية كريمة للحقوق، ورغبة في إطفاء الشر والفتنة التي قد تقع بين الجارين، وذلك بحسم مادة الخلاف بينهما، حينما يكون العقاران المتلاصقان لشخصٍ واحد.
3 -
كما أنَّ في الإسلام وفاءً وآدابًا سامية وحقوقًا فيما بينهم قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].
فهذه حقوقٌ عشرة ابتدأت بأهمها وهو حق الله تعالي.
4 -
مشروعية انتظار بيع العقار حتى يحضر جاره الغائب؛ لأنَّ في بيعه على غيره تفويتَ كثيرٍ من مصالحه، وإلحاق ضرر به، قد لا يتمكن من تلافيه، فاستحب للجار الذي يريد البيع انتظاره، فإنْ بِيع العقار في غيبة الشريك فهو على شفعته إذا حضر.
5 -
إذا كان بين الجارين مرفق مشترك، كأن يكون طريقهما واحدًا، أو يكون مسيلهما واحدًا، أو بينهما فناء مشترك، أو نحو ذلك من المنافع والمرافق التي هم فيها شركاء، فهذه تؤكد حق الانتظار، وتوجب حق الشفعة للجار، سواء كان حاضرًا، أو إذا قدم وعلم.
وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
6 -
قوله: "وإن كان غائبًا" قال الطيبي في شرح المشكاة: الواو أثبتها الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، وصاحب جامع الأصول، وسقطت في
نسخ مصابيح السنة، والأوَّل أوجه.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في ثبوت الشفعة إذا كان بين الجارين مرفق أو مرافق مشتركة من طريق واحد أو مسيل أو فِناء أو غير ذلك.
فذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا شفعة للجار بشيء من هذه المرافق، فإنَّه مما وقعت الحدود وصُرفت الطرق فلا شفعة، ولو وجد شراكة في الانتفاع بشيء منها.
ودليلهم على هذا القول ما في الصحيحين: "فإذا وقعت الحدود، وصُرفت الطرق فلا شفعة".
قال الإمام: إنَّه أصح ما روي في الشفعة.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى ثبوت الشفعة بوجود شيء من هذه المرافق، واختار هذا القول شيخ الإسلام، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي، -رحمهم الله تعالى-.
وهذا القول يجمع الأدلة كلها: فحديث: "فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق" منطوقه انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده، وإنَّ منطوق حديث:"الجار أحق بشفعة جاره يُنْتَظر بها، وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحدًا" إثبات للشفعة بالجوار عند اشتراك في الطريق، وانتفاؤها عند تصريف الطريق، فتوافق منطوقا الحديثين.
قال شيخ الإسلام: أعدل الأقوال أنَّه إذا كان شريكًا في حقوق الملك ثبت له الشفعة، وإلَاّ فلا.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن الشفعة للجار:
وقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا برقم (44) في 13/ 4/ 1396 هـ جاء فيه ما نصه:
"وبعد الاطلاع على البحث المعد لذلك من قِبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء، وبتبادل وجهات النظر قرَّر المجلس بالأكثرية: أنَّ الشفعة تثبت فيما لا يمكن قسمته من العقار كالبيت والحانوت الصغيرين، ونحوهما، لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع، ولأنَّ النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك".
***
776 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشُّفْعَةُ كَحَلِّ العِقَالِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالبَزَّارُ، وَزَادَ:"وَلَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ" وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال في التلخيص: رواه ابن ماجه والبزار من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف جدًّا، وقال البزار: رواه محمَّد بن عبد الرحمن بن السليماني ومناكيره كثيرة، وحكى ابن عدي تضعيفه، وتضعيف شيخه.
وقال ابن حبان: لا أصل له، وقال أبو زرعة: منكر، وقال البيهقي: ليس بثابت.
* مفردات الحديث:
- كحَلِّ العِقَال: الحل بالفتح والتشديد، هو ضد الشدّ.
- العِقَال: العقال بكسر العين وفتح القاف، وهو الحبل الذي يعقل به البعير، وغالباً يكون أنشوطة، وحل عقال البعير إطلاقه، والمراد أنَّ الشفعة على الفور.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهر الحديث يدل على أنَّ الشفعة تكون على الفور، فإذا علم بها من يستحقها، ولم يبادر بطلبها فاتته، وبطل حقه فيها.
قال فقهاؤنا: الشفعة على الفور وقت علمه بها، فإن لم يطلبها إذا علم
(1) ابن ماجه (2500).
بلا عذر بطلت.
2 -
أما حديث: "لا شفعة لغائب" فهو ضعيف، ولا يعارض الحديث الصحيح المتقدم "يُنْتَظر بها، وإن كان غائباً"[رواه الأربعة ورجاله ثقات].
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا كان الشفيع غائبًا؛ فله إذا قدم المطالبة بالشفعة، ولأنَّها حق مالي وُجِدَ سببه، فتعين له كالإرث.
3 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ حق الشفعة كغيره من الحقوق لا يسقط إلَاّ بما يدل على الرضا بإسقاطه؛ لأنَّ الشارع أثبته لدفع الضرر عن الشريك في العقار، فلا يسقط ما أثبته الشارع إلَاّ بما يدل على إسقاطه من قولٍ أو فعلٍ دال على الرضا بالإسقاط، فمن له حق الشفعة بحاجة إلى أن ينتظر في أمره ويتروى، وأما الحديثان:"الشفعة كحل العقال" و"الشفعة لمن واثبها" فلا يثبت بهما حكم، ولا يبقى الاحتجاج بهما على هدم حكم أثبته الشارع.
4 -
قال شيخ الإسلام: وما وُجِد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل؛ لأنَّ الشفعة شرعت لدفع الضرر، فلو شُرع التحيل لإبطالها، لكان عوْداً على إبطال مقصود الشريعة.
وقال ابن القيم: من له معرفة بالآثار، وأصول الفقه ومسائله، لا يشك أنَّ تقرير الإجماع من الصحابة على تحريم الحِيَل وإبطالها، ومنافاتها للدين، أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس.
وقال ابن القيم أيضا: ومن الحيل الباطلة أن يهب الشقص للمشتري، ثم يهبه ما يرضيه، وهذا لا يسقط الشفعة، فهو بيع وإن لم يتلفظا به، وأنواع الحيل كثيرة والعبرة بالمقاصد.
5 -
ذهب الأئمة الأربعة إلى أنَّ الشفيع لو أسقط شفعته قبل البيع لم تسقط، لأنَّه إسقاط حق قبل وجوبه، فلم يصح.
أما ابن القيم فقال؛ إسقاط الشفعة قبل البيع إسقاط لحقٍّ رَضِيَ صاحبه بإسقاطه، فالحق له وقد أسقطه، فإن أذن في البيع، أو قال: لا غرض لي فيه، لم يكن له بعد البيع حق الشفعة، وهذا مقتضى حكم الشرع، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به.
وقال في حاشية المقنع: وهو الحق الذي لا ريب فيه.
***