المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإيلاء مقدِّمة الإيلاء: بالمد مصدر آلى يُوْلِي إيلاء، والألِيّة وزن عطية: - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الإيلاء مقدِّمة الإيلاء: بالمد مصدر آلى يُوْلِي إيلاء، والألِيّة وزن عطية:

‌باب الإيلاء

مقدِّمة

الإيلاء: بالمد مصدر آلى يُوْلِي إيلاء، والألِيّة وزن عطية: اليمين، وجمعها ألايا، بوزن خطايا.

والإيلاء لغة: الحلف.

وشرعًا: حلف زوج قادر على الوطء بالله تعالى أو صفة من صفاته، على ترك وطء زوجته في قُبُلِها، مدةً تزيد على أربعة أشهر.

وهو محرَّم؛ لأنه يمين على ترك أمرٍ واجبٍ عليه.

وهو ثابتٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226].

وأمَّا السنَّة: فقد آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا، والإيلاء المحرم أكثر من أربعة أشهر.

وقد أجمع عليه العلماء في الجملة.

وللإيلاء أربعة شروط:

أحدها: أن يحلف على ترك الوطء في القُبُل؛ فإن تركه بلا يمين، لم يكن موليًا.

الثاني: أن يحلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، فإن حلف بنذرٍ، أو تحريمٍ، أو ظهارٍ، ونحو ذلك فليس بِمُولٍ.

ص: 525

الثالث: أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر، أو يعلقه على شرط يغلب على الظن ألا يوجد في أقل منها، وإلَاّ فليس بمول.

الرابع: أن يكون الإيلاء من زوج يمكنه الوطء، فلا يصح من صبي غير مميز، ولا من عاجز عن الوطء بنحو جَبّ.

***

ص: 526

944 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ نِسَائِه وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الحَلالَ حَرَامًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث: الصواب فيه أنه مرسل عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الترمذي: "حديث مسلمة بن علقمة عن داود، رواه علي بن مسهر وغيره، عن داود، عن الشعبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وليس فيه: عن مسروق، عن عائشة، وهذا أصح من حديث مسلمة بن علقمة".

* مفردات الحديث:

- آلى من نسائه: آلى يؤلى، والألية اليمين، والجمع ألايا، كعطية وعطايا، وإنما عدي بكلمة "من"، وهو لا يعدى إلَاّ بكلمة "على"؛ لأنه ضمن فيه معنى البعد، ويجوز أن تكون "من" للتعليل.

قال العيني: ومعنى إيلائه صلى الله عليه وسلم من نسائه: أنه حلف ألَاّ يدخل عليهن شهرًا، وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء، وهو الحلف على ترك جماع امرأته أربعة أشهر أو أكثر.

(1) الترمذي (1201).

ص: 527

945 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وُقِّفَ المُولِي حَتَى يُطَلِّقَ، وَلَا يقعُ الطَّلَاقُ حَتَى يُطَلِّقَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- وُقِّف: وقَّف وأوقف لغتان، والفصيح: وقَّف بدون ألف، وللتوقيف معانٍ كثيرة، والمراد هنا: منع القاضي المولي عن التمادي في إيلائه؛ فإما أن يطأ، وإما أن يطلق.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

جاء في الصحيحين من حديث عائشة: "أن النبى صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين".

واختلف العلماء في سبب إيلائه، والذي في صحيح مسلم عن جابر أنه بسبب طلبهن منه النفقة.

2 -

والنبي صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأوسعهم خلقًا، وأحسنهم عشرة لأهله؛ ولذا فإنه لم يؤل منهن إلَاّ لتأديبهن، ليكنّ أكمل النساء استقامة وخلقًا، فالصغيرة من الفاضل كبيرة.

3 -

إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من الإيلاء المباح؛ لأنه لم يؤل إلَاّ شهرًا.

4 -

إذا آلى الرجل من زوجته أربعة أشهر، فعليها أن تصبر هذه المدة، وليس لها مطالبته بالفيئة.

فإذا مضت الأربعة الأشهر، فلها عند انقضائها مطالبته بالفيئة، فإن فاء

(1) البخاري (5291).

ص: 528

بالوطء فذاك، وإن لم يَفِىءْ، أجبره الحاكم بطلب الزوجة على الوطء أو الطلاق.

5 -

في الحديث جواز الإيلاء من الزوجتين فأكثر بإيلاء واحد؛ فإنه لم يَرِدْ أن النبي صلى الله عليه وسلم كرره على نسائه.

6 -

وفيه أن ترك جِماعه وهجره إياها في المضجع المدة المباحة جائز؛ لتأديبها وزجرها.

7 -

إذا فاء المولي قبل أربعة أشهر إذا حلفها، فعليه الكفارة؛ عملاً بحديث:"من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت التي هي خير، وليكفّر عن يمينه"، وأما إذا لم يفىء إلَاّ بعد الأربعة، فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يحنث بيمينه.

8 -

وفي الحديث جواز الإيلاء لغرض صحيح؛ لأننا نعلم يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤل إلَاّ لغرض صحيح؛ من ذلك تأديب الزوجة وتربيتها؛ فإن الإيلاء من أعظم العقوبات على الزوجة، وكل عاصٍ يؤدَّب بما يردعه.

9 -

مدة إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم هنا مطلقة، ولكن بينها الحديث الذي في الصحيحين من أنه آلى شهرًا.

10 -

وفي جعله الحلال حرامًا ما يعني أن جماع الرجل زوجته حلال، فحرّمه على نفسه بيمينه، وهو تحريم معتبر شرعًا؛ فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1].

11 -

قوله: "جعل لليمين كفارة" يعني أن إيلاءه بتحريم زوجته يمين، ولكن الكفارة تجعل هذا اليمين المحرم حلالًا، قال تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].

12 -

الكفارة هي تخيير الحالف المكفِّر بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، قال تعالى: {وَلَكِن

ص: 529

يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].

13 -

ويدل حديث (945) على أن مدة الإيلاء المباح هي أربعة أشهر، وأن ما زاد عليها، فغير مأذون فيه، وإنما يجب على المولي أن يفيء أو يطلق.

14 -

ويدل أيضًا على أن الطلاق أو انفساخ النكاح، لا يكون بمجرد مضي أربعة أشهر قبل الفيئة، وإنما النكاح باقٍ، ولا يقع الطلاق حتى يطلق الزوج، ولو بإجباره من الحاكم؛ لأن هذا إكراهٌ بحقٍّ.

***

ص: 530

946 -

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: "أدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَقِفُونَ المُؤلِي" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه الشافعي فقال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار

فذكره.

وبهذا الإسناد أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في مسائل ابنه عنه، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

* مفردات الحديث:

- بضعة عشر: البضعة بكسر الباء، ما بين الثلاث إلى التسع.

يقفون: أي: يحدِّدون له مدة الإيلاء المباحة أربعة أشهر.

(1) الشافعي (2/ 42).

ص: 531

947 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ إيلَاءُ الجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَلَيْسَ بِإِيلَاءً" أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال الشوكاني في تفسيره: أخرجه سعيد بن منصور، وعَبْد بن حُمَيد، والطبراني، والبيهقي، عن ابن عباس، قال:"كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر"، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

* مفردات الحديث:

- فَوَقَّت الله: من التوقيت، أي: حدَّد الله وقته.

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

المؤلي يمهل أربعة أشهر، فلا تطلبه زوجته بالفيئة، وعند انقضاء مدة الأربعة الأشهر، فلها مطالبته بالفيئة، فإذا طالبته، أمره الحاكم بالوطء، فإن امتنع بلا عذرٍ يمنع الوطء، أجبره الحاكم على الطلاق، فإن لم يطلق، طلَّق عليه الحاكم.

2 -

إن كان هناك عذرٌ من الوطء في الزوج أو الزوجة، أمره الحاكم أن يفيء بلسانه، بأن يقول: متى قدرت على الوطء، وطئت.

3 -

أما الحديث رقم (947) فيدل على سماحة هذه الشريعة وعدالتها، وتهذيبها

(1) البيهقي (7/ 381).

ص: 532

العادات الجاهلية، إن كانت قابلة للتهذيب، أو إبطالها إن كان مفسدة محضة.

4 -

الإيلاء فيه تأديب للنساء العاصيات الناشزات على أزواجهن؛ فأبيح منه بقدر الحاجة وهو أربعة أشهر، أما ما زاد على ذلك، فإنه ظلمٌ وجَوْر، وربَّمَا حمل المرأة على ارتكاب المعصية، إن لم يَحْمِل الزوجين كليهما؛ فألغته الشريعة الإسلامية.

5 -

الجاهليون فيهم قسوة وظلم على الضعيف منهم، من امرأة أو بنت؛ فكان من قسوتهم إيلاؤهم السنة والسنتين، يحلفون أن لا يجامعوا المرأة فيها، وهذا ظلمٌ كبيرٌ، وجورٌ عظيمٌ، ربما يجُزُّ إلى المفاسد، ويدعو إلى الفراق والشقاق؛ فأبطله الإسلام، وأبقى منه ما تدعو الحاجة إليه، وهو توقيته بأربعة أشهر؛ قال تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية [البقرة: 226].

6 -

معنى قوله: "يقفون المؤلي" أي: يحدِّدون له مدة الإيلاء المباحة أربعة أشهر، فإذا مضت، أوقفوه عند هذا الحد، إما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يضار الزوجة بترك الجماع، فمن ضارَّ، ضارَّه الله.

7 -

قوله: "فإن كان أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء" مع ما سبق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، فمراده: ليس بإيلاء محرَّم.

فالإيلاء: هو الحلف على ترك وطء الزوجة، فإنْ كان أقل من أربعة أشهر، فهذا إيلاءٌ مباحٌ، وليس بالإيلاء الَّذي تجري فيه أحكامه: من المطالبة، والترافع إلى الحاكم، وإجبار الزوج على الفيئة أو الطلاق

***

ص: 533