المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الخلع مقدمة الخُلْع: بضم الخاء، وسكون الَّلام: الاسم، وبفتح الخاء: المصدر، - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الخلع مقدمة الخُلْع: بضم الخاء، وسكون الَّلام: الاسم، وبفتح الخاء: المصدر،

‌باب الخلع

مقدمة

الخُلْع: بضم الخاء، وسكون الَّلام: الاسم، وبفتح الخاء: المصدر، وأصله خلع الثوب، فأُخذ منه انخلاع المرأة من لباس زوجها، الذي قال الله تعالى عنه:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]؛ فيُقال: خلع ملبوسه، أي: نزعه، وخالعت المرأة زوجها، واختلعت منه إذا افتدت منه بمالها.

وتعريفه شرعًا: فراق الزوج امرأته بعوضٍ يأخذه الزوج من امرأته أو غيرها، بألفاظٍ مخصوصة.

فائدته: تخليص الزوجة من زوجها، على وجهٍ لا رجعة له عليها، إلَاّ برضاها، وعقدٍ جديد.

والأصل في جواز الخلع: الكتاب، والسنة، والإجماع:

قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

وقصة ثابت بن قيس الآتية إنْ شاء الله.

وإجماع الأمة عليه.

ويصح الخلع من كل زوج يصح طلاقه، سواء أكان رشيدًا أو سفيهًا، بالغًا أو صغيرًا، مميزًا بعقله.

ويصح بذلك العوضُ في الخلع من زوجة، أو أجنبي جائز التبرع، ومن لا يصح تبرعه فلا يصح بذله لعوضه؛ لأنَّه بذل في غير مقابلة مال ولا منفعة،

ص: 468

فصار كالتبرع.

والخلع تجري فيه الأحكام الخمسة:

1 -

يكره مع استقامة حال الزوجين، وعدم وجود خلاف، وشقاق بينهما؛ لما روى الخمسة إلَاّ النسائي عن ثوبان أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة".

2 -

يحرم ولا يصح إنْ عَضَلَها، وضارَّها بالتضييق عليها، أو منع حقوقها، وغير ذلك؛ لتفتدي نفسها؛ فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إنْ لم يكن الخلع بلفظ الطلاق؛ قال تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 91].

3 -

يسن للزوج إجابة طلبها؛ لِما روي البخاري عن ابن عباس: "أنَّ امرأة ثابت ابن قيس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنِّي ما أعيبُ على ثابت من دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمرها بردها، وأمره بفراقها".

4 -

ويجب إذا رأى منها ما يدعوه إلى فراقها، من ظهور فاحشة منها، أو ترك فرضٍ من صلاةٍ أو صوم، ونحو ذلك وحينئذٍ يباح له عضلها؛ لتفتدي نفسها منه قال تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].

5 -

ويباح لها الخلع إذا كرهت الزوجة خلق زوجها، أو خافت إثمًا بترك حقه، فإنْ كان يحبها، فيسن صبرها عليه، وعدم فراقها إيَّاه، والله أعلم.

***

ص: 469

927 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ امْرَاةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا".

وَلأبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ:"أَنَّ امرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِدَّتَهَا حَيْضَةً"(1).

وَفِي رِوَايَةِ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَن جَدِّهِ رضي الله عنهم عِنْدَ ابْنِ مَاجَه: "أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: لَوْلَا مَخَافَةُ اللهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ، لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ"(2).

ولأِحمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: "وَكَانَ ذلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الإِسْلَامِ"(3).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث في رواية أبي داود والترمذي عن ابن عباس: "أنَّ عدتها حيضة"

(1) البخاري (9/ 395)، أبو داود (2229)، الترمذي (1185).

(2)

ابن ماجه (2507).

(3)

أحمد (4/ 3).

ص: 470

حسَّنه الترمذي مسندًا مرفوعًا، وله شواهد كثيرة، وبعضهم ذكر أنَّه مرسل.

أما رواية ابن ماجه: فقال البوصيري في زوائده: في إسناده حجاج بن أرطأة، مدلس، وكثير الأوهام والإرسال، وقد عنعنه.

وأما رواية أحمد: فسكت عنها المصنف هنا، وكذلك في التلخيص الحبير، وهي أيضًا من رواية حجاج بن أرطاة.

* مفردات الحديث:

- امرأة ثابت: قيل اسمها جميلة، وقيل: زينب بنت عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول الأنصارية الخزرجية، وقيل: جميلة بنت سهل، وأكثر الروايات أنَّ اسمها حبيبة بنت سهل.

قال الحافظ: الذي يظهر لي أنَّهما قصتان واقعتان لامرأتين؛ لشهرة الخبرين، وصحة الطريقين، واختلاف السياقين.

- ما أعِيب عليه: ما أجد عيبًا فيه، لا في دينه، ولا في خُلُقه وعِشرتِهِ.

- خُلُق: بضم الخاء المعجمة، وضم الَّلام، آخره قاف؛ صفات حميدة باطنة، ينشأ عنها معاشرة كريمة.

- أكره الكفر في الإسلام: يعني أكره أنْ أقع فيما ينافي الإسلام من عملٍ، وعِشرةٍ لزوجي ينهى عنها الإسلام، ولكن كرهي له وبغضي إيَّاه، قد يحملني على الوقوع في ذلك وارتكابه.

- حديقته: هو البستان يكون عليه حائط، وكان قد أصدقها بستانًا.

- دَمِيمًا: بالدال المهملة، دمَّ الرجل يدمُّ، من باب ضرب، دمامة بالفتح، ولا يكاد يوجد رباعيًّا في المضاعف، ومعناه: قبح منظره، وصغر جسمه، وكأنَّه مأخوذ من الدِّمَّة بالكسر، وهي النملة الصغيرة، فيُقال: هو دميم، الجمع دمام، وهي دميمة، والجمع دمائم.

ص: 471

- لَبَصَقْتُ: بصق يبصق بصقًا وبصاقًا: لفظ ما في فمه من الريق.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ثبوت أصل الخلع أنَّه فرقة جائزة في الشريعة الإسلامية على الصفة المشروعة.

2 -

أنَّ طلب الزوجة إياه مباح إذا كرهت الزوج، إما لسوء عشرته معها، أو دمامته، أو نحو ذلك من الأمور المنفرة، التي لا تعود إلى نقصٍ في الدِّين، فإنْ عادت إلى نقصٍ في الدِّين، وجب طلب الفراق.

3 -

قيد بعض العلماء الإباحة للزوجة بالطلب بما إذا لم يكن زوجها يحبها، فإنْ كان يحبها، فيستحب لها الصبر عليه.

4 -

أنَّه يستحب للزوج إجابة طلبها إلى الخلع إذا طلبته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقْبِل الحديقة، وطلِّقها تطليقة".

5 -

يحرم إيقاع الخلع إذا كانت المرأة مستقيمة، ثم عضلها زوجها؛ لتفتدي منه؛ قال تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [البقرة:19].

6 -

إباحة عضلها لتفتدي إذا ظهرت منها الفاحشة، أو ترك شيء من الواجبات، قال تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [البقرة: 19]، والفراق في هذا الحال واجب بأي نوع من أنواع الفرقة الزوجية.

7 -

يجب أنْ يكون الخلع على عوض؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة".

8 -

يجوز أنْ يكون العوض أكثر من الصداق، وأنْ يكون أقل منه؛ لقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ولكن كره العلماء أنْ يكون بأكثر من الصداق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته"؛ ولقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة؛ 237].

وجواز الخلع بما اتَّفقا عليه، هو قول جمهور العلماء.

ص: 472

9 -

أنَّه لابد في الخلع من صيغة قولية؛ لقوله: "وطلِّقها تطليقة".

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء هل الخلع طلاقٌ محسوبٌ من الثلاث، أو أنَّه فسخٌ لا ينقص به عدد الطلاق؟

ذهب الإمام الشافعي: إلى أنَّه فسخ لا طلاق، وهو رواية عن أحمد، ولكنها ليست المشهورة في مذهبه.

اختار هذا الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكثير من المحققين، ومن متأخري الأصحاب ذهب إليها الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وذهب إليه جماعةٌ من السلف، منهم ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وإسحاق، وأبو ثور.

وذهب الأئمة الثلاثة -أبو حنيفة ومالك وأحمد- والثوري، والأوزاعي: إلى أنَّه طلقة بائنة.

وذهب إليه من السلف سعيد المسيب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والنَّخعي، والشعبي، والزهري، ومكحول، وهو مروي عن عثمان، وعلي، وابن مسعود.

استدل أصحاب القول بأنَّه فسخ بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة؛ 229]، فهاتان طلقتان فيهما الرجعة، ثم قال تعالى عن الطلقة الثالثة:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وبيْن الطلقتين الأوليين، وبين الطلقة الثالثة قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وهذا هو الخلع، فلو كان طلاقًا لكان هو الطلقة الثالثة، فلمَّا صار بين الأوليين وبين الثالثة، ولم يعتبر في العدد، علِمنا أنَّه مجرد فسخ.

وقال شيخ الإسلام مؤيدًا لقول الأول: ظاهر مذهب أحمد وأصحابه، أنَّه فرقة بائنة، وفسخ للنكاح، وليس من الطلاق الثلاث، وما علمتُ أحدًا من

ص: 473

أهل العلم بالنقل صحَّح ما نُقِل عن الصحابة من أنَّه طلاق بائنٌ محسوبٌ من الثلاث.

والنقل عن علي وابن مسعود ضعيف جدًا، وأما النقل عن ابن عباس أنَّه فرقة وليس بطلاق، فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار.

والذين استدلوا بما نقل عن الصحابة من أنَّه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولاً صحيحة، ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك.

وفائدة الخلاف بين اختيار الخلع فسخًا أو طلاقًا تظهر بأنَّنا: إن اعتبرناه طلاقًا، فهو من الطلقات الثلاث، وإنْ كان فسخًا، فإنَّه لا ينقص من عدد الطلاق.

* فوائد:

الأولى: المشهور من مذهب الإمام أحمد عدم إجبار الزوج على الخلع، وإنَّما تسن إجابتها إليه.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: والقول الآخر: جواز إلزام الزوج به عند عدم إمكان تلاؤم الحال بين الزوجين حسب اجتهاد الحاكم، قال في الفروع: وألزم به بعض حكَّام الشام المقادسة الفضلاء.

الثانية: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه يصح الخلع مع استقامة الحال بين الزوجين.

قال الشيخ تقي الدين: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أنْ تكون المرأة كارهة للزوج؛ فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدًا لصاحبه، فهذا خلع محدَث في الإسلام؛ فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربع، من حديث ثوبان أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة سالت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة"؛ فظاهر

ص: 474

الحديث التحريم.

إذا خلع زوجته فعلاً بأنْ جرى بينهما الفسخ، ولم يبق إلَاّ تسليم العوض، فهذا لا خيار فيه، ولو لم يقبض عوضه.

وإنْ كان قد تقاولا من دون أنْ يفسخها، وإنَّما اتَّفقا على أنْ يفسخها إذا سلمته العوض، فهذا لم يحصل منه فسخ، وإنَّما حصل منه وعد، فله الرجوع عما نواه ولم يفعله.

الثالثة: قال سيد قطب: مجموع الروايات التي وردت في قصة ثابت بن قيس مع زوجته تصوِّر الحالة النفسية التي قابلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجهها مواجهة من يدرك أنَّها حالةٌ قهريةٌ، لا جدوى من استنكارها، وقسر المرأة على العِشرة معها، فاختار لها الحل من المنهج الربَّاني، الَّذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية، ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرِك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقيَّة.

***

ص: 475