المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الهبة والعمرى والرقبى - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب الهبة والعمرى والرقبى

‌باب الهبة والعمرى والرقبى

مقدمة

الهبة: بكسر الهاء، وتخفيف الباء، يقال: وهبت له شيئًا وَهْبًا، -بإسكان الهاء وفتحها- وهبة، والاسم الموهوب.

وهي مشتقةٌ من هبوب الريح، أي مرورها.

وشرعًا: تمليك جائز التصرف غيره مالاً معلومًا، أو مجهولاً مقدورًا على تسليمه، غير واجب في الحياة، بلا عوض.

قال النووي: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع، أنواع من البر متقاربة، يجمعها:"تمليك عين بلا عوض".

العُمْرى: بضم العين نوع من الهبة مأخوذة من العُمُر، لأنَّها توهب مدة عمر الموهوب له.

الرُّقْبى: بضم الراء، مأخوذة من المراقبة، قال في النهاية: هو أن يقول الرجل للرجل: قد وهبت لك هذه الدار، فإن متَّ قبلي رجعت إليَّ، وإن مُتُّ قبلك فهي لك، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه.

وهي نوع من الهبة أيضًا يعلق الرجوع بها بموت الموهوب، فهو يترقب وفاته، وهذا مأخذ اشتقاقها.

والهبة أنواع:

1 -

الهبة المطلقة: ما قصد بها التودد.

ص: 110

2 -

الصدقة: ما قصد بها محض ثواب الآخرة.

3 -

العطية: هي الهبة في مرض الموت المخوف، وتشارك الوصية في أكثر أحكامها.

4 -

هبة الدَّين: هو الإبراء من الدَّين.

5 -

هبة الثواب: يقصد بها ثواب الدنيا، وعوضها في الدنيا، وهي نوع من البيع، ولها أحكام البيع.

وإذا أطلقت الهبة فالمراد بها الأولى من هذه الأنواع.

وللهبة فوائد كثيرةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، من إسداء المعروف، وجلب المحبة والمودة، لاسيَّما إذا كانت على قريب، أو جار، أو ذي عداوة، فإنَّها تحقق من المصالح والمنافع الخير الكثير، وتكون من أنول العبادات الجليلة المتعدي نفعها، والجالبة لكل خير.

فالشارع الحكيم حينما قال: "تهادوا تحابوا" إنَّما قصد كل ما فيه الخير والصلاح، والله الموفق.

***

ص: 111

800 -

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه "أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غَلَامَا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَال: لَا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَرْجِعهُ".

وَفِي لَفْظٍ: "فَانْطَلَقَ أَبِي إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ: افَعَلْتَ هَذَا بولَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لا، فَقَالَ: اتَّقُوا الله واعْدِلُوا بينَ أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: "فَأَشْهِدْ عَلى هَذَا غَيْرِي، ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي البِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَلَا إِذَنْ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- نحلت: نحلته نُحلاً، بضم النون وسكون الهاء المهملة، أعطيته شيئًا من غير عوض بطيب نفسٍ، والاسم النِحل بكسر النون، والمراد بها هنا: عطية يخص الرجل بها أحد أولاده.

- غلامًا: رقيقًا شابًّا.

- أكُلَّ وَلدك نَحَلْتَه: الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، و"كل" منصوب بفعل محذوف تقديره:"نحلت" مفعول به.

وقال بعض النحاة: الأفضل فيه الرفع على أنَّ "كل" مبتدأ.

(1) البخاري (2586)، مسلم (1623).

ص: 112

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جاء بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي بابنه النعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليُشْهِدَه على أنَّه نحله غلامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أكل ولدك نحلته غلامًا، مثل هذا الابن؟ فقال: لا، فقَال النَّبي-صلى الله عليه وسلم: اتَّقُوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع والده، وردَّ تلك النِّحلة ولم يُمْضِهَا".

2 -

وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم تفضيل بعضهم على بعض، أو تخصيص بعضهم دون بعض.

3 -

أنَّ التخصيص أو التفضيل من الجَوْر والظلم، لا تجوز الشهادة فيه، لا تحمُّلاً ولا أداءً.

4 -

قال العلماء: يجب الإنكار على من خالف، ففضَّل بعض أولاده على بعضهم في الهبة؛ لأنَّه حيْفٌ وظلمٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير.

5 -

هذا ما لم يكن التخصيص أو التفضيل لمسوغٍ شرعيٍّ يدعو إلى ذلك، فإن كان ثَمَّ مسوغ فلا بأس، كأن يكون أحد الأولاد فقيرًا، والباقون أغنياء، أو يكون ذا عاهةٍ، لا يعمل معها، أو يكون متفرِّغًا لطلب العلم، والباقون منشغلون بالدنيا، ونحو ذلك، فهذا يجوز فيه التخصيص، فقد فضَّل أبو بكر عائشة بجذاذ عشرين وسقًا، نَحلها إياها دون سائر أولاده، وفضَّل عمر ابنه عاصمًا بشيءٍ أعطاه، وفضَّل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم، وكان هذا على علمٍ من الصحابة فلم ينكروا، فكان إجماعًا، وهم لم يفضلوهم إلَاّ لمعنًى رأوه، وإنما الذي لا يجوز التفضيل أو التخصيص به إذا كان على سبيل الأثَرة فقط.

قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا فضَّل بعض أولاده لمعنًى فيه، كفقرٍ أو زمانةٍ فهذه المسألة فيها خلاف، واختار الموفق الجواز، واستدل عليه بقضية عائشة مع أبيها، وقوَّى هذا القول في "الإنصاف".

ص: 113

6 -

قال شيخ الإسلام: ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، فإنْ خصَّ بعضهم لمعنًى يقتضي ذلك من حاجةٍ، أو زمانة، أو لانشغاله بالعلم، أو صرف عطيته عن بعض ولده؛ لفسقه، أو بدعته، فقد روي عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنَّه قال: لا بأس إذا كان التخصيص لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة.

قال في الإنصاف: وهذا قويٌّ جدًّا.

واختاره علماء الدعوة السلفية.

7 -

أنَّ الحكم الذي يجري على خلاف الشرع، فإنه محرَّمٌ غير نافذ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل من بشير ما نفذ من الوصية، وإنما زجره، وردها.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".

8 -

قال شيخ الإسلام أيضًا: الحديث والآثار تدل على وجوب العدل، ثم هنا نوعان:

- نوعٌ يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير.

- نوع حاجتهم إليه متساوية من عطية أو تزويج، فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه بينهم.

- نشأ نوعٌ ثالث: هو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة، مثل أن يقضي عن أحدهم دينًا وجب عليه من أرش جناية، أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك.

ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر. اهـ من الاختيارات.

9 -

ظاهر الحديث التسوية بين الذكر والأنثى، "سوِّ بينهم" وهو قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل والحارثي.

والمشهور من مذهب أحمد أن يقسمه بينهم على حسب ميراثهم، للذَّكَر مثل حظ الأُنثيين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، والشيخ

ص: 114

محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمهم الله تعالى-.

10 -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الابن في عمل والده له حال عالية، وهي: أن يسعى في خدمة والده، والقيام بأعماله، يرجو ثواب الله تعالى، والبر بوالده وإخوانه، وله حالة أخرى لا حرج عليه فيها هي: أن يعقد مع والده عقد إجارة، فهذا يكون مثل الأجير.

وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: أما إذا كان ابنه يعمل معه فيجعل له أجرة مقابل عمله، فلا أرى بأسًا، وليس هذا من باب التخصيص بل هو إجارة.

11 -

قال الموفق والشيخ تقي الدين وغيرهما: لا يجب على الإنسان التسوية بين أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم؛ لأنَّ الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء، ولا يصح قياسهم على الأولاد.

قال الحارثي: وهو المذهب عند المتقدمين، أما المشهور من المذهب عند المتأخرين: فيجب إعطاؤهم بقدر إرثهم، قياسًا لحال الحياة على حال الموت.

والقول الأول أرجح.

* خلاف العلماء:

أجمع العلماء على مشروعية العدل، والتسوية بين الأولاد في الهبة.

واختلفوا في وجوب التسوية بينهم.

فذهب أحمد والبخاري وإسحاق والثوري وجماعة إلى وجوبها، وإلى تحريم التفضيل بينهم، أو تخصيص بعضهم دون بعض، أخذًا بظاهر الحديث.

وذهب الجمهور إلى أنَّ التسوية بينهم سنة وأنَّها غير واجبة، وأطالوا الاعتذار عن الأخذ بالحديث بما لا مقنع فيه.

والحق الذي لا شكَّ فيه وجوب التسوية بينهم؛ لظاهر الحديث، ولما فيه

ص: 115

من المصالح الكبيرة، ودفع المضار والمفسدة الوخيمة.

واختلفوا فيما إذا خصَّ الوالد بعض أولاده دون بعض، أو فضله دون البعض الآخر، بلا مسوِّغٍ شرعي، ثمَّ مات الوالد قبل أن يرجع فيما خصَّ به، ولا بما زاد به بعضهم على بعض، فهل تمضي العطية لمن أُعطِيَها، والإثم على الوالد المفضل بينهم؟ أم يرجع الورثة على المُعْطَى، ويكونون فيها سواء؟

ذهب جمهور العلماء إلى القول الأول، ومنهم الأئمة الأربعة.

والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، أنَّ العطية لا تثبت، وللباقين الرجوع، واختاره ابن عقيل، والعكبري، والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، واختاره الشيخ عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهاب، وهو قول عروة بن الزبير، وإسحاق.

***

ص: 116

801 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "العَائِدُ فِي هِبِتَهِ كَالكَلْبِ، يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ"(1).

ــ

* مفرادت الحديث:

- العائد في هبته: الراجع في الهبة التي أعطاها.

- قيْئه: القيء ما قذفته المعدة، والتشبيه من حيث إنَّه ظاهر القبح مروءةً وخُلُقًا.

- ليس لنا مثل السوء: أي لا ينبغي لنا نحن المسلمين، أن نتصف بصفةٍ ذميمة، يساهمنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحواله.

- ليس: فعل ماض جامد ناقص للنفي، ترفع الاسم وتنصب الخبر، فاسمها "مثل السَّوء" وخبرها متعلق الجار والمجرور "لنا".

***

ص: 117

802 -

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعطِيَ العَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيْهَا، إِلَاّ الوَالِدَ فِيْمَا يُعْطِي وَلَدَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال في التلخيص: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث طاووس عن ابن عباس.

وقد رواه الشافعي عن طاووس مرسلاً، وقال: لو اتصل لقلنا به.

قال الحافظ: صحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

تحريم العَوْد في الهبة والصدقة، وأنَّ هذا من لُؤم الطبع والدناءة، مما يدل على أنَّ قلبه متعلق بما أخرج، وأنَّه لم يعطه من نفس سمحة طيبة.

2 -

التعبير عن ذلك بهذا المثل الكريه المستقذر، الذي هو الغاية في البشاعة والدناءة والخسة، للإقلاع عن هذا الخلق اللئيم.

3 -

الإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، ورفيع الصفات، ويحذِّر وينهى عن سفاسف الأمور ووضيعها، فهو دين الكمال والسمو.

4 -

استثنى جمهور العلماء من تحريم العود في الهبة ما يهبه الوالد لولده، فإنَّ له

(1) أحمد (2/ 27)، أبو داود (3539)، الترمذي (2132)، النسائي (6/ 267)، ابن ماجه (2377)، ابن حبان (5101)، الحاكم (2/ 46).

ص: 118

الرجوع في ذلك؛ عملًا بالحديث رقم (802)، ولأنَّ هذا ليس فيه دناءة، فمال الأب والابن واحد، فكأنه نقل ماله من مكان إلى مكان آخر.

5 -

قال الفقهاء يشترط لصحة رجوع الأب فيما وهبه لولده أربعة شروط:

- أن يكون ما وهبه عينًا باقية في ملك الولد.

- أن تكون باقية في تصرفه ببيع، أو رهن لم ينفك، أو غير ذلك.

- أن لا تزيد عند الولد زيادة متصلة كسِمَن وحمل، فإنَّ الزيادة للموهوب له، فيمتنع الرجوع فيها حينئذٍ، كما يمتنع الرجوع في الأصل.

- أن لا يكون الأب قد أسقط حقه من الرجوع، أو أفلس الابن، وحجر عليه، فلا رجوع، قال الحارثي: هو الصواب بلا خلاف، وصرَّح به الموفق.

***

ص: 119

803 -

وَعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبلُ الهَدِيَّهَ، وَيُثِيِبُ عَلَيْهَا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

804 -

وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: لَا، فزَادَهُ فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (2).

ــ

* درجة الحديث (804):

الحديث صحيح.

قال في التلخيص: رواه أحمد وابن حبان من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم وصححه، وقال: على شرط مسلم، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل.

* مفردات الحديث (804):

- يُثيِبُ عليها: يقال: أثاب الرجل مثوبة: أعطاه إيَّاه.

قال في المحيط: والثواب مطلق الجزاء على أعمال خيرًا أو شرًّا وأكثر استعماله في ثواب الأخرة، فالمراد في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يكافىء على الهدية صاحبها بمثلها أو بأحسن منها.

(1) البخاري (2585).

(2)

أحمد (2/ 295)، ابن حبان (1146).

ص: 120

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الهبة نوعان:

أحدهما: هبة مطلقة لا تقتضي عوضًا؛ لأنَّها عطيَّة على وجه التبرع، يقصد بها التودد، سواء كانت لمن دونه، أو أعلى منه، أو مثله، وهي الأصل.

الثاني: هبة يقصد بها ثواب الدنيا، فهذه حكمها حكم البيع، والغالب أنَّ المهدي يقصد بها أن يُعطى أكثر مما أهدى، وفيها نزل قوله تعالى:{لَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر] أي لا تعط شيئًا؛ لتأخذ أكثر منه.

2 -

النبي صلى الله عليه وسلم يثيب على الهدية بأكثر منها وأفضل، فقد روى ابن أبي شيبة عن عائشة:"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يثيب عليها ما هو خير منها"، لما جُبِل عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وحسن المكافأة.

3 -

وفيه مشروعية قبول الهدية؛ لأنَّ في قبولها إرضاء للمهدي، وإفهامه بوجود المحبة والصلة، وفي ردها عليه كسر قلبه، وإضعاف نفسه، ويحمل الرد على محامل كثيرةٍ، وظنونٍ بعيدةٍ.

4 -

مشروعية الإثابة عليها بما يناسب الحال والمقام، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"من صنع إليكم معروفًا فكافئوه".

5 -

وفيه أنَّ المهدي إذا قصد بهديته الثواب والعوض، فالأفضل أن يُعطى حتى يرضى؛ لأنَّه لم يقدم هديته إلَاّ رجاءً لأفضل منها، والغالب أنَّ المهدي فقير وصاحب حاجة، وأنَّ المهدى إليه في سعة وفي غنًى.

6 -

تمام الحديث: "لقد هممت أن لا أقبل إلَاّ من قرشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثقفيٍّ" وهو يشير بهذا إلى أهل المدن والحاضرة، فهم أطيب نفوسًا من البادية المصابين بداء الطمع، ففيه دليلٌ على استحباب القناعة، وأنَّ المهدي إذا أُعطي مقابل هديته أىَّ شيء عليه أن يقنع بذلك، ولا يجعل الهدية طريقًا إلى ابتزار أموال الناس.

ص: 121

805 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "العُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ" مُتَّفَقٌ عَليْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَميِّتًا، وَلِعَقبِهِ".

وفَي لَفْظٍ: "إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقُولَ: هيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا".

ولأَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: "لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

رواية أبي داود والنسائي: قال عنها ابن عبد الهادي في المحرر: رواته ثقات، وقال ابن دقيق العيد: صحيح على شرط الشيخين.

* مفردات الحديث:

- العُمْرَى: بضم العين، وسكون الميم على الأشهر، وحكي بضم الميم، مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، مقصورة، مأخوذة من العمر.

- الرُّقْبى: بزنة العمرى، مأخوذة من المراقبة؛ لأنَّ كل واحد منهما يرقب موت الآخر؛ لترجع إليه.

(1) البخاري (2625)، مسلم (1625)، أبو داود (3556)، النسائي (6/ 273).

ص: 122

- حيًّا وميتًا: أي في حال حياته، وبعد مماته تكون إرثًا لمن خلفه، ولا ترجع إلى الأول أبدًا.

- عقبه: بفتح العين، وكسر القاف، هو الولد وولد الولد ما تناسلوا، وله معانٍ أخرى.

- أجازها: يقال: أجاز العطية يجيزها إجازة، والمعنى: نفذها، وجعلها جائزة.

- ما عشت: "ما" مصدرية ظرفية يقال: عاش يعيش عيشًا: صار ذا حياةٍ، فهو عائش.

والمعنى: مدة عيشك في هذه الحياة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

العمرى ثلاثة أنواع:

- أن تؤبد كقوله: هي لك، ولعقبك من بعدك.

- أن تطلق كقوله: هي لك عمرك أو عمري.

- أن يشترط الواهب الرجوع فيها بعد موت أحدهما.

فهل يصح الشرط، أو يلغى، وتكون مؤبدة؟

أما النوعان الأولان: فمذهب جمهور العلماء على صحة الهبة، وتأبيدها للموهوب له، ولورثته من بعده.

أما النوع الثالث: فذهب إلى صحة شرط الرجوع جماعة من العلماء، منهم الزهري، ومالك، وأبو ثور، وداود، وهو رواية عن أحمد، اختارها الشيخ تقي الدين، وغيره من الأصحاب، لحديث "المسلمون على شروطهم".

والمشهور من مذهب الإمام أحمد إلغاء الشرط، ولزوم الهبة، وتأبيدها، قال الشيخ عبد الله بن محمَّد: وأما العمرى والرقبى ففيهما خلاف مشهور، والأحاديث فيهما متعارضة، والذي نختاره أنَّه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها.

ص: 123

806 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ انَّهُ بَائِعُهُ برُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ، فَقَالَ: لَا تَبتْعْهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ الحَدِيثَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- حمَلْتُ عَلى فرس: أي جعلت فرسًا حمولة لمن لم يكن له حمولة من المجاهدين، وملكته إيَّاه، ولذا ساغ بيعه.

- في سبيل الله: المراد به جهة الغزاة، والجهاد.

- فأضاعه صاحبُهُ: أساء سياسته بإهماله، ترك علفه، وخدمته حتى هزل، فصار كالشيء الهالك.

- لا تبتعه: لا تشتره.

- وإن أعطاكه بدرهم: متعلق بـ"لا تبتعه" مبالغة في رُخصه، وكان رخصه هو الحامل على الشراء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

وهب عمر رضي الله عنه رجلًا من المجاهدين فرسًا؛ ليجاهد عليه، فأهمل الرجل الفرس، وأضاعه حتى هزل، فأراد أن يشتريه منه؛ لأنَّه بهذه الصفة سيكون رخيص الثمن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم ذلك، فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد.

2 -

ففي الحديث أنَّه لا ينبغي للواهب والمتصدق أن تتعلَّق نفسه بما وهب

(1) البخاري (2622)، مسلم (1620).

ص: 124

وأعطى، أو تصدق به، فهو من الترفع والتنزه المحمود.

3 -

وفيه أنَّ صاحب الخُلق الكريم، وصاحب الإخلاص في العمل لا ينتظر من الموهوب له، أو المحسَن إليه أي مكافأة على إحسانه، ولا ردّ معروف، وإنما يجعل فعله خالصًا لله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان].

4 -

ظاهر النَّهي التحريم في شراء الصدقة، وإليه ذهب بعض العلماء، والجمهور حملوه على الكراهة والتنزيه.

أما الرجوع في الهبة أو الصدقة، فإنَّه محرَّم، كما تقدم في الحديثين السابقين.

5 -

أما هبة الثواب فتقدم أنَّها نوع من البيع، وبهذا فإن الواهب إذا لم يرض بالعوض الذي يكافئه به الموهوب له، فإنَّ له الرجوع بهبته.

6 -

الإسلام في أحكامه وآدابه يريد أن يرفع من نفوس وأخلاق متبعية، حتى يصل بهم إلى قمة الفضائل، ويسمو بهم في أجواء عالية كريمة، من الخلق الرفيع، والمستوى العالي الحميد.

***

ص: 125

807 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأدَبِ المُفرَدِ، وَأَبُو يَعْلَى بِإسْنَادٍ حَسَنٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

إسناده حسن.

رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه أبو يعلى بإسنادٍ حسن.

وله شاهدٌ من حديث أنس، عند ابن منده، وفيه بكر بن بكار، وهو ضعيف، ولكن قال ابن القطان: ليست أحاديثه بالمنكرة.

وقال الحافظ في التلخيص: حديث حسن.

وللحديث شواهد: عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعائشة.

* مفردات الحديث:

- تهادوا: فعل أمر جاء من باب المفاعلة التي هي في الأصل المشاركة بين اثنين.

الهدية: ما قصد بها المودة والمحبة.

قال في المصباح: أهديت الرجل كذا "بالألف"، بعثت به إليه إكرامًا، فهو هدية بالتثقيل لا غير.

قال الفقهاء: الهدية ما قصد بها إكرامًا وتوددًا.

(1) البخاري في الأدب (594)، أبو يعلى (6148).

ص: 126

808 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَهَادَوْا، فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ" رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف؛ لأنَّ في سنده بكر بن بكار، وهو ضعيف، على أنَّ أحاديثه ليست منكرة، كما ضعَّفه في مجمع الزوائد برواية عائذ بن شريح.

وللحديث شواهد كلها ضعيفة.

* مفردات الحديث:

- الهدية: بتشديد الياء من أهدى هدية، ولا يأتي الفعل إلاّ متعديًا بالهمزة، وهي العطية يقصد بها الإكرام والمودة.

- تسل: سلَّ الشيء يسله سلاًّ، من باب قتل، بمعنى نزعه وأخرجه برفق وخفية، قال في النهاية: سل البعيرَ وغيره في جوف الليل إذا انتزعه من بين الإبل، فمعناه -هنا- إزالة الحقد بطرقٍ خفيَّةٍ رقيقة.

- السَّخيمة: اسم مصدر جمعها سخائم، والأصل في السُّخْمَة أنَّها السواد، والمراد هنا الحقد والضغينة، ولعلَّ هناك علاقة بين السواد الحسي، وبين ما تسببه هذه المعاني القلبية من أثر يكون في الوجوه.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديث رقم (857) يدل على أنَّ الهبة وثيقة في جلب المودة والمحبة بين الناس، ذلك أنَّ النفوس مجبولةٌ على حب من أحسن إليها.

2 -

لذا فإنَّ الهدية مشروعة لما تجلبه من الخير والألفة، فإنَّ دين الإِسلام هو

(1) البزار (1937).

ص: 127

دين الألفة والمحبة قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

3 -

ينبغي للمهدي أن ينظر إلى حال المهدى إليه؛ لتقع الهدية موقعها، فالفقير له هدية يقصد بها نفعه، وإعانته على مؤنته ونفقاته.

والغني له هديةٌ تناسب حاله من التحف اللطيفة، كالطيب، ونحوه، فكلٌّ يقدَّم إليه ما يناسبه ويناسب مقامه.

4 -

أما الحديث رقم (808) فهو يدل على أنَّ الهدية تُذْهب الحقد والعداوة بين المتعادين، وتجلب السرور والمودة في نفس المهدي إليه، فصار من فوائدها: جلب المودة ورفع العداوة، وكفى بهذا فائدة، فإنَّ هذا هو هدف الإِسلام في نهجه إلى جلب الخير ومنع الشر، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

5 -

ومحاولة سل السخائم والعداوات بين الناس لاسيَّما بين الأصدقاء والأقرباء هذا خلق سام كريم، وهو صعب على النفوس، لا يوفق له إلَاّ أصحاب النفوس العالية، والقلوب الكريمة الطيبة.

قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]، والله الموفق.

***

ص: 128

809 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "يَانِسَاءَ المُسْلمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتهَا، وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا تحقرنَّ: لا تقَالّ الشيء وتستصغره.

- فِرْسَن: بكسر الفاء الموحدة، وسكون الراء المهملة، ثم سين مهملة، آخره نون، الفرسن من البعير كالحافر من الفرس والقدم للإنسان، وربما يستعار للشاة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في الحديث الترغيب في فعل الخير، والحث عليه، وأنَّ هذا من خلُق المسلمين، والمسلمات، فهم الذين ينبغي أن يتَّصفوا بهذه الصفة الكريمة.

2 -

وفي الحديث فضل الهدية لما تُحْدِثه في نفوس المتهادين من سل السخائم والعداوات، وجلب المودة والمحبة.

3 -

وفيه أنَّ المهدي لا يستحقر تقديم الهدية، وإن كانت قليلة حقيرة، فالمدار على معناها، والمقصود منها أثرها المعنوي لا ذاتها ونفعها المادي فقط، لأنَّها مهما قلَّت وضؤُلت فإنَّها تشعر بالمودة والإخاء.

4 -

وفيه دليل على أنَّ المعروف والعمل الصالح إذا قصد به وجه الله تعالى، وقصد منه معانيه الكريمة، فإن أثره عند الله عظيم.

قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة].

(1) البخاري (2566)، مسلم (1030).

ص: 129

5 -

وإذا كانت صدقةً على فقير، فإنَّها تنفع الفقير، وإن قلَّت، وتزيد حسنات المحسِن بحسب ما يصحبها من نية صالحة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79].

وجاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة".

6 -

وفيه بيان حق الجار وما ينبغي له من البر والإحسان، فإنَّ له حق الجوار، فإن كان مسلمًا فله -أيضًا- حق الإِسلام، وإنْ كان قريبًا فله -أيضًا- فله أيضًا حق القرابة، فللأول حقٌّ واحدٌ، وللثاني حقان، وللثالث ثلاثة حقوق.

قال تعالى: {ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36].

وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثِر ماءَها وتعاهد جيرانك".

7 -

وفي الحديث جواز المبالغة في الكلام إذا ناسب مقتضى الحال، فإن القصد هنا هو التهييج على البر والإحسان إلى الجار، وأنَّ المهدي لا يحتقر شيئًا يقدمه، ولو قليلاً.

8 -

جواز تصرف المرأة في بيت زوجها بالأشياء اليسيرة التي جرت العادة بإعطائها، كالرغيف، وقليل الطعام والشراب، ونحو ذلك، إلَاّ أن يمنعها من ذلك، أو تعلم منه الشح فلا يجوز إلَاّ بإذنه.

***

ص: 130

810 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا" رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، والمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: قَولُهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح موقوف على عمر رضي الله عنه.

قال ابن حجر في التلخيص: رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه، وروي مرفوعًا، وهو وهم، وصححه الحاكم، وابن حزم.

وروى الموقوف: مالك في الموطأ (2/ 754)، بسند صحيح:"من وهب هبة لصلة الرحم، أو على وجه الصدقة، فإنَّه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يُرضَ منها".

* مفردات الحديث:

- من وهب هبة: وهب يهب هبةَ، ووَهبًا بفتح فسكون، إعطاءٌ بلا عوض، وأصل الهبة معلولة الفاء، فلما حذفت الواو تبعًا لفعله عُوِّض عنها الهاء فقيل: هبة.

واصطلاحًا: تمليك المال بلا عوض.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدَّم أنَّ الهبة نوعان:

الأوَّل: هبة لمحض الثواب الأخروي مع قصد الواد والتآلف، كما جاء في الحديث:"تهادوا تحابوا" وهذا هو الأصل في الهبة، وهذه تلزم بالقبض، فلا يجوز الرجوع فيها.

(1) الحاكم (2/ 52).

ص: 131

الثاني: هدية يقصد بها مهديها ثواب الدنيا، والمكافأة عليها، وصاحبها هو المراد بقوله تعالى:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر]، يعني لا تعط العطية تطلب بإعطائها أكثر منها عوضًا.

2 -

إذا فعل الإنسان هذا بأن وهب الهبة، لأجل أن يُثاب عليها من المهدي إليه، فإنَّ هذه حكمها حكم البيع، فإن أُعطي عنها ما يرضيه، وإلَاّ فله الرجوع فيها، بخلاف الهبة المطلقة الأولى، فليس له الرجوع فيها، كما تقدم.

3 -

الهبة في هذا الحديث من النوع الذي أباح الشارع لصاحبها أن يستردها، إذا لم يُثَب عليها، فهي من النوع الثاني، هبة الثواب الدنيوي والله أعلم.

***

ص: 132