المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإجارة مقدمة الإجارة: بكسر الهمزة، مصدر أجره أجرًا، فهو مأجور، هذا - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الإجارة مقدمة الإجارة: بكسر الهمزة، مصدر أجره أجرًا، فهو مأجور، هذا

‌باب الإجارة

مقدمة

الإجارة: بكسر الهمزة، مصدر أجره أجرًا، فهو مأجور، هذا هو المشهور، وحكي آجره بالمد، فهو مؤجر، وهي مشتقةٌ من الأجر، وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرًا؛ لأنَّ الله تعالى يعوض العبد على طاعته، أو صبره عن معصيته، فهي لغة: المجازاة.

وشرعًا: عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ معلومةٍ، تُؤخَذ شيئًا فشيئًا.

وتكون على ضربين:

أحدهما: على مدَّةٍ معلومةٍ، من عينٍ معلومةٍ معيَّنةٍ، أو من عينٍ موصوفةٍ في الذمة.

الثاني: عملٌ معلومٌ بعوضٍ معلومٍ، راجعٌ للفرق بين الضربين.

وهي ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع والقياس.

قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].

وفي قصة الهجرة: "استأجر رجلًا من بني الديل".

وقال ابن المنذر: اتَّفق على جواز الإجارة كل من نحفظ قوله من علماء الأمة.

وأما القياس: فإنَّ الحاجة داعيةٌ إلى الحصول على المنافع، كما دعت الحاجة إلى الحصول على الأعيان، فهي من الرُّخص المستقر حكمها على وفق القياس.

ص: 49

وتنعقد بلفظ "الإجارة"، وبلفظ "الكراء"، وما في معناهما.

قال الشيخ تقي الدين: التحقيق أنَّ المتعاقدين إنْ عرفا انعقدت بأي لفظ كان، من الألفاظ التي عرف بها المتعاقدان أنَّه مقصودهما، وهذا عامٌّ في جميع العقود، فإنَّ الشارع لم يحدّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: العقود ثلاثة أقسام:

أحدها: عقودٌ لازمةٌ، وهي نوعان:

الأول: يثبت بمجرد عقده، فلا خيار فيه، كالوقف، والنكاح، ونحوهما.

الثاني: لازمٌ، لكن جعل الشارع فيه خيار مجلس وخيار شرط، ذلك كالبيع، والإجارة، والصلح، ونحوها.

القسم الثاني: جائزٌ من الطرفين، لكلٍّ منهما فسخه، وذلك كالوكالة والولاية والجعالة والشركات.

القسم الثالث: لازمٌ من أحد الطرفين، جائزٌ في حق الآخر، وضابط هذا أن يكون الحق لواحد على الآخر، كالرَّاهن، والضامن، والكافل، فإنه لازمٌ بحق هؤلاء، جائزٌ بحق المرتهن، ولمضمون عنه، والمكفول له، والله أعلم.

***

ص: 50

782 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذي حَجَمَهُ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أعطى الذي حجمه: "أعطى" تنصب مفعولين، الأول:"الذي حجمه"، والثانى:"أجره".

- الحجامة: مأخوذٌ من الحجم: أي المص، والحجَّام: المصاص، والحجامة صنعته، والحجامة في كلام الفقهاء قيدت عند البعض بإخراج الدم من القفا بواسطة المص بعد الشرط، ومنهم من قال: لا تختص بالقفا، بل تكون من سائر البدن.

***

ص: 51

783 -

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- كسْب الحجام: كسب يكسب كسبًا: طلب المال فجمعه، فكسب الحجام: ما يكسبه من عمله في الحجامة.

- خبِيث: خبث يخبث خبثًا ضد طاب، الخبيث ضد الطيب من الرزق وغيره، وجمعه خباث وخُبثاء، ويطلق على الحرام، ويطلق على المباح الدنيء وهو المراد.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

يدل الحديثان على أصل جواز الإجارة، وأنَّها من العقود المباحة النَّافعة وهي ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.

قال ابن المنذر: اتَّفق على جوازها كل من نحفظ عنه من علماء الأمة.

والحاجة داعيةٌ إليها؛ لأنَّ الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان.

2 -

الحديث رقم (782) يدل على إباحة كسب الحجام، وأنَّه غير محرَّم، ولو كان محرَّمًا لم يعط صلى الله عليه وسلم الحاجم أجرته على الحجامة.

3 -

أما الحديث رقم (783) فيدل على أنَّ كسب الحجام خبيث.

4 -

لكن الخبيث يطلق على الرديء من الطعام، كما قال تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].

كما يطلق على الكسب الدنيء، فالخبيث هنا دناءة الكسب، ولذا صحَّ

(1) مسلم (1568).

ص: 52

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر الحاجم أن يعلفه ناضحه، أو رقيقه.

5 -

فالخبيث لا يراد به خبيث الحرمة، وإنما يراد به خبث الدناءة.

قال ابن القيم في زاد المعاد ما خلاصته: صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه حكم بخبث كسب الحجام، وأمر الصحابي أن يعلفه ناضحه، أو رقيقه، وصحَّ عنه أنَّه احتجم وأعطى الحجام أجره، فإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره لا يعارض قوله:"كسب الحجام خبيث" فإنَّه لم يقل إن إعطاءه خبيث إلى آخذه وآكله، ولا يلزم من ذلك تحريمه، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثَيْن، ولم يحرِّم أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره حِل أكله، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارًا" وقد أعطى المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفيء، مع غناهم وعدم حاجاتهم؛ ليبذلوا للإسلام والطاعة ما يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض، وهذا أصلٌ معروفٌ من أصول الشرع أنَّ العقد والبذل قد يكون جائزًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا، من أحد الطرفين، مكروهًا أو محرَّمًا من الطرف الآخر، فيجب على الباذل أن يبذل، ويحرم على الآخذ أن يأخذ.

وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل، لكن هذا خبيث الرائحة، وهذا خبيث لكسبه.

6 -

قال ابن القيم: اختلف الفقهاء في أطيب المكاسب على ثلاثة أقوال: التجارة، أو الزراعة، أو عمل الرجل بيده.

والراجح أنَّ أحلَّها كسب الغانمين، وما أبيح للغانمين على لسان الشارع.

7 -

وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الحجامة من العلاج النافع لبعض الأمراض.

8 -

وفي الحديث دلالةٌ على إباحة التداوي بالأدوية النافعة المباحة، وأنَّ هذا لا ينافي التوكل على الله تعالى.

ص: 53

9 -

وفيه تفاوت المكاسب من حيث الطيب والخبث، ومن حيث الرفعة والدناءة، وأنه ينبغي للإنسان أن يتلمس معالي الأمور.

10 -

جاء في رواية أحمد وأصحاب السنن بسند رجاله ثقات من هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للحجام عن كسبه: "أعْلِفْه نَاضِحك" فدلَّ على أنَّ الحجام إذا كان مستغنيًا، فإنَّه يتخلص من هذا الكسب بإنفاقه، بطرقٍ بعيدةٍ عن نفقاته، وحاجاته الخاصة به، وعلى أهله، وإنما يتخلص منه بإنفاقه على دوابه، أو وضعه في مشروع مفيدٍ، غير ديني، لا أنَّه مكروه شرعًا، ولكن التماسًا لمعالي الأمور، وابتعادًا عن وضيعها ودنيئها.

قال شيخ الإسلام: المشتبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة، فالأبعد فالأقرب ما دخل في البطن، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما عرض من الركوب، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أن يطعم كسبه الرقيق والناضح.

***

ص: 54

784 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل: ثلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الِقيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُل بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ثلاثة: أي ثلاثة أنفس، وذِكر الثلاثة ليس للتخصيص؛ لأنَّ الله تعالى خَصْمٌ لجميع الظالمين ولكن لمَّا أراد التشديد على هؤلاء صرَّح بهم.

- خصمهم: خصمه يخصمه خصمًا: غلبه في الخصومة، فالخصم مصدر، والمخاصم جمعه خصوم، وقد يطلق الخصم للاثنين، والجمع، والمؤنث.

- أعطى بي: حذف فيه المفعول، وتقديره: أعطى العهد والأمان باسمي، وحلف بي.

- غدر: يغدر غدرًا: ضد وفى، أي نقض عهده وخان.

قال في المحيط: قيل: الغدر موضوع لمعنى الإخلال بالشيء وتركه، ومعنى نقض العهد مأخوذ منه.

- حُرًّا: الحر خلاف العبد، والحرَّة خلاف الأمة، ولفظ الحر موضوع لغة لمن لم يمسه رق، وهو حقيقة في بني آدم، وقد يستعمل في غيرهم مجازًا.

- فأكل ثمنه: خصَّ الأكل بالذكر؛ لأنَّه أعظم مقصود.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على تحريم فعل هذه الأمور الثلاثة، وبيان أنَّها من أشد ما

(1) لم يروه مسلم، بل البخاري (2227).

ص: 55

حرَّم الله تعالى؛ ذلك أنَّه تعالى هو الذي سيتولى يوم القيامة مخاصمة هؤلاء الثلاثة، ثم يخصمهم، وما ذاك إلَاّ لشدة جرمهم، وقبح فعلهم، وعظم ما اقترفوه.

الأول: حلف بالله تعالى، وعاهد باسمه، وأعطى الأمان والعهد بالله، ثم خان عهد الله وأمانته، فغدر، وفَجَرَ، ونكث العهد، والميثاق.

وقد أجمع العلماء على تحريم الغدر، وأنَّه من كبائر الذنوب، ولقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

كما نهى عن نكث العهد والميثاق، فقال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لبعض قواد الجنود: "وإذا حاصرت أهل الحصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، فإنَّكم أن تخفروا ذممكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله".

الثاني: من باع حرًّا، فأكل ثمنه، فاسترقاق الأحرار بلا موجبه الشرعي حرام، وفي بيعهم كما تباع السلع وأكل ثمنهم، إثمٌ مضاعف.

وعبَّر بالأكل؛ لأنَّه الغالب، وإلَاّ فغير الأكل مثله.

الثالث: من استأجر أجيرًا فاستوفى منه ما استأجره عليه من عمل، ولم يعطه أجره، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يَجِفَّ عرقه"[رواه ابن ماجه (2443)]، مبالغةً في سرعة إعطائه حقه، وأجر تعبه وعمله.

وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يُغْفر لأمتي لآخر ليلةٍ من رمضان، قيل يا رسول الله: أهِي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنَّما يوفَّى أجره إذا قضى عمله".

2 -

ويدل الحديث على أنَّ تسليم الأجرة يكون عند فراغ الأجير من عمله، فهذا

ص: 56

هو زمن استقرارها في الذمة.

3 -

في الحديث دليلٌ على أصل جواز الإجارة، وأنَّها من العقود الجائزة المفيدة النافعة.

4 -

وفيه إثبات الجزاء في الآخرة، وإثبات يوم القيامة، وهو ممَّا عُرِف من الدِّين بالضرورة.

5 -

وفيه جواز معاهدة الكفار، وإعطائهم الأمان، لمصلحةٍ تخصُّ الإسلام والمسلمين.

6 -

وفيه أنَّ الأحرار من بني آدم لا تثبت عليهم اليد الغاصبة.

7 -

قوله: "ثلاثة" العدد لا مفهوم له، فيوجد من يتولى الله تعالى خصومتهم، غير هؤلاء من أصحاب الذنوب الكبار.

8 -

قوله: "رجل" لا مفهوم له، وإنما جرى مجرى الغالب في الخطاب، فالوعيد للذكر والأنثى من المكلفين.

9 -

فيه أنَّ الأجير لا يستحق أجرته حتى يتم ما استؤجر عليه من عملٍ أو مدةٍ.

***

ص: 57

785 -

وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ أَحقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كتَابُ اللهِ" أَخْرَجَهُ البُخَاريُّ (1)،

ــ

* مفردات الحديث:

- أجرًا: هو جزاء العامل على عمله، يسمَّى الكراء، ومنه قولهم في التعزية:"آجرك الله": أي أعطاك الله أجره.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لاسيَّما إذا كان قصد المعلم الخير، وأخذ الأجرة؛ للتقوي بها على القيام بهذا العمل وأمثاله، ممَّا فيه طاعةٌ لله تعالى، ونشر العلوم النافعة.

2 -

قال شيخ الإسلام: وقد اتَّفق الفقهاء على الفرق بين الاستئجار على القُرب، وبين رزق أهلها، فرزق المقاتلة، والقضاة، والمؤذنين، والأئمة، جائزٌ بلا نزاع، وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم.

3 -

قال في الروض المربع: ويجوز أخذ رزق على ذلك الحج، والإمامة، والأذان، وتعليم القرآن، من بيت المال وجعالة وأخذ بلا شرط.

قال الشيخ: ما يؤخذ من بيت المال ليس عوضًا وأجرة، بل رزقًا للإعانة على الطاعة.

ومثله الموقوف على أعمال البر، والموصى به، والنذور له، ليس كالأجر.

(1) البخاري (5737).

ص: 58

* خلاف العلماء:

ذهب الإمامان: أبو حنيفة وأحمد وأتباعهما إلى عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وعلى أي عمل يختص أن يكون القائم به مسلمًا كالقضاء وإمامة الصلاة، والأذان.

مستدلين بما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت، قال: علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة القرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن سرَّك أن يقلدك قوسًا من نار فاقبلها".

وذهب جمهور العلماء، ومنهم الإمامان مالك والشافعي، إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأخذ الأجرة على إمامة الصلاة، والأذان، ونحو ذلك من أعمال القُرب.

مستدلين بحديث الباب، وبما في البخاري من حديث أبي سعيد في الرُّقية، ولِمَا جاء في الصحيحين من أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا امرأةً بما معه من القرآن.

وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وبه أفتى متأخرو الحنفية، وجوَّزه الشيخ تقي الدين للحاجة، وتبعه شيخنا عبد الرحمن السعدي.

وأما حديث عبادة فلا يقاوم ما جاء في الصحيحين من هذه الأحاديث الثلاثة وغيرها.

على أنَّ العلماء طعنوا في هذا الحديث، فقالوا في راوية "المغيرة بن زياد" قال في التقريب: له أوهام، واستنكر أحمد حديثه.

***

ص: 59

786 -

وَعَنِ ابنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ انْ يَجِفَّ عرَقُهُ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (1).

وفي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَالبَيْهَقِيِّ (2) وَجَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ (3) وَكُلُّهَا ضِعَافٌ.

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده.

قال الطحاوي: وحديث عبد الرحمن عند أهل العلم بالحديث، في النهاية من الضعف، ورواه الطبراني من حديث جابر، وفيه شرقي بن قطامي، وهو ضعيف، ورواه أبو يعلى وابن عدي والبيهقي من حديث أبي هريرة.

قال في البلوغ: وكل طرقه ضعاف.

أما الشيخ الألباني فإنه استعرض طرقه وناقشها، ثم انتهى به القول إلى أن قال: وجملة القول أنَّ الحديث صحيح الإسناد عندي من الطريق الأولى طريق أبي هريرة، فإذا انضم إليه مرسل عطاء بن يسار، وبعض الطرق الأخر الموصولة التي لم يشتد ضعفها، فلا يبقى عند الباحثين العارفين بهذا العلم أي شك في ثبوت الحديث، وهو ما أفصح عنه المنذري في الترغيب بقوله:

(1) ابن ماجه (2443).

(2)

البيهقي (6/ 121)، أبو يعلى (6682).

(3)

الطبراني في الصغير (34).

ص: 60

وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرفه قوَّة، والله أعلم.

ولهذا قال المناوي في فيض القدير: وبالجملة فطرقه كلها لا تخلو من ضعيف أو متروك، بمجموعها يكون حسنًا.

* مفردات الحديث:

- قبل أن يجف عَرَقُه: ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو حثٌّ على المسارعة في إعطائه أجرته، التي هي مقابل عمله وتعبه.

- عرقه: عرِق الرجل يعرق عرقًا، من باب علم، شح جلده فهو عرقان، والعَرَق -بفتحتين-: ما رَشَحَ من مسام الجلد من غدد خاصة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

وجوب إعطاء الأجير أجره بعد أن أدَّى العمل الذي استؤجر عليه.

2 -

المبادرة والسرعة بإعطائه أجره؛ لأنَّه لم يعمل إلَاّ من الحاجة إلى الأجرة، ولأنَّ نفسه تائقة إلى استلام عوض عمله وجهده.

فالتأخير في إعطائه حقه من أعظم المَطل، ومن أشنع أنواع الظلم.

3 -

فيه جواز المبالغة في الكلام من أجل الحث، والتهييج على فعل الخير، أو الكف عن فعل الشر، وقد جاء في نصوص كثيرة.

4 -

أما عدم إيفائه أجرته، فهو يسبب غضب الله تعالى، بحيث يتولى مخاصمة من استأجر أجيرًا، فاستوفى منه ولم يعطه أجره، كما جاء في الحديث المتقدم.

5 -

وإذا من الوفاء بالعهود والعقود، وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

ومن الأمانة التي يأمر الله تعالى بأدائها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

6 -

الله تعالى أمر بأداء الحقوق، وينهى عن أكل أموال الناس بالباطل، ولكنه

ص: 61

يشدد في ذلك، ويكثر منه في جانب الضعيف، من امرأة، أو يتيم، أو فقير، فهنا الغالب أنَّ الأجير فقيرٌ ضعيف، وأنَّ صاحب العمل غنيٌّ قوي، فحثَّ الله تعالى على ذلك، كما في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم

" إلخ، وهنا أمر علما لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: "أن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وهذا كله من عناية الله تعالى بالضعفاء، وإنصافهم من الأقوياء.

***

ص: 62

787 -

وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنِ اسْتأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ" رَوَاهُ عبدُ الرزَّاقِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ البَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أِبي حَنِيفَةَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

قال في التلخيص: رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، ورواه أيضًا من طريق إبراهيم النَّخعي عن أبي سعيد، وهو منقطع، وهو عند أحمد وأبي داود في المراسيل من وجهٍ آخر، وعند النسائي غير مرفوع. اهـ.

قال أبو زرعة: الموقوف هو الصحيح.

ومع وإذا فالإجماع قائمٌ على اشتراط كون عوض الإجارة معلومًا.

* مفردات الحديث:

- فليُسَم: من التسمية، أي: فليعين له أجرته ويبينها؛ لئلا تكون مجهولة فتفضي إلى النزاع والخصومة، وفي بعض نُسَخِ سبل السلام:"فليتم أجرته" من الإتمام، ومعناه: فليعطها إيَّاه كاملة، من غير نقص.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه دليل على وجوب معرفة قدر الأجرة؛ لأنَّ الجهالة بها بين المؤجر والمستأجر تُفْضي إلى النزاع، والشقاق الذي ينافي الإسلام.

2 -

وكما تجب معرفة الأجرة، تجب أيضًا معرفة المنفعة المعقود عليها. لأنَّها أحد العوضين المعقود عليهما، فاشترطت معرفتها.

(1) عبد الرزاق (8/ 235)، البيهقي (6/ 120).

ص: 63

3 -

قال فقهاؤنا: وتصح الإجارة بثلاثة شروط:

أحدها: معرفة المنفعة كسكنى دار، أو خدمة آدمي.

الثاني: معرفة الأجرة بما تحصل به معرفة الثمن؛ لأنَّه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا.

الثالث: الإباحة في نفع العين، فلا تصح على نفع محرَّم، كالغناء، وجَعل داره كنيسةً أو لبيع الخمر.

4 -

الخلاصة: إنَّ الإجارة عقدٌ على المنافع، كما أنَّ البيع عقد على الأعيان والمنافع أيضًا، فاشترط في الإجارة شروط البيع، من رضا العاقدين، وكونهما جائزي التصرف، ومن إباحة العين، وكونها مشتملة على المنفعة المقصودة منها، وكون العين المؤجرة ملكًا للمؤجر، ومن القدرة على تسليمها ومعرفتها، ومعرفة قدر الأجرة، وانتفاء الشروط الفاسدة بنفسها، والشروط المفسدة للعقد، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرها الفقهاء أحكامًا للبيع.

5 -

أفتى الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: أنَّ التأجير مدة غير معلومة، وهو ما يسمى في الحجاز بالحكر، ويسمى في نجد بالصُّبرة، يعتبر بيعًا لرقبة الأرض، لا إجارة، فهي ملك لمن اشتراها أرضًا وبناءً، وأنَّ له التصرف فيها.

* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الإيجار المنتهيى بالتمليك: قرار رقم (110):

إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورته الثانية عشرة بالرياض، في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ الموافق "23 - 28 سبتمر 2000".

ص: 64

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع "الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء. قرَّر ما يلي:

الإيجار المنتهي بالتمليك:

أولًا: ضابط الصور الجائزة، والممنوعة ما يلي:

(أ) ضابط المنع: أن يرد عقدان مختلفان في وقت واحد، على عين واحدة في زمن واحد.

(ب) ضابط الجواز:

1 -

وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر، زمانًا لحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة والخيار يوازي الوعد في الأحكام.

2 -

أن تكون الإجارة فعلية، وليست ساترة للبيع.

(ج) أن يكون ضمان العين المؤجرة على المالك، لا على المستأجر، وبذلك يتحمل المؤجر ما يلحق العين، من غير ناشيء من تعد المستأجر، أو تفريطه، ولا يلزم المستأجر بشيء إذا فاتت المنفعة.

(د) إذا اشتمل العقد على تأمين العين المؤجرة، فيجب أن يكون التأمين تعاونيًّا إسلاميًّا، لا تجاريًّا، ويتحمله المالك المؤجر، وليس المستأجر.

(هـ) يجب أن تطبق على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة وأحكام البيع عند تملك العين.

(و) تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجر، لا على المستأجر، طوال مدة الإجارة.

ص: 65

ثانيًا: من صور العقد الممنوعة:

(أ) عقد إجارة ينتهي بتملك العين المؤجرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة، دون إبرام عقد جديد، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعًا تلقائيًّا.

(ب) إجارة عينٍ لشخصٍ بأجرةٍ معلومةٍ، ولمدةٍ معلومةٍ، مع عقد بيعٍ له معلَّق على سداد جميع الأجرة المتَّفق عليها، خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت في المستقبل.

(ج) عقد إجارة حقيقي، واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر، ويكون مؤجلًا إلى أجلٍ طويلٍ محدَّدٍ، "هو آخر مدة عقد الإيجار".

وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من هيئاتٍ علميةٍ، ومنها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.

ثالثًا: من صور العقد الجائزة:

(أ) عقد إجارة يُمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به عقد هبة العين للمستأجر، معلقًا على سداد كامل الأجرة، وذلك بعقد مستقل، أو وعد بالهبة بعد سداد كامل الأجرة، وذلك وفق ما جاء في قرار المجمع بالنسبة للهبة رقم 13/ 1/ 3 في دورته الثالثة.

(ب) عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة، وذلك وفق قرار المجمع رقم (44) 6/ 5، في دورته الخامسة.

(ج) عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به وعد ببيع العين المؤجرة للمستأجر بعد

ص: 66

سداد كامل الأجرة، بثمن يتَّفق عليه الطرفان.

(د) عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة، في مدة معلومة، ويعطي المؤجر للمستأجر حق الخيار في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء على أن يتم البيع في وقته بعقد جديد بسعر السوق، وذلك وفق قرار المجمع السابق رقم:(44) 6/ 5، أو حسب الاتفاق في وقته.

رابعًا: هناك صور من عقود التأجير المنتهي بالتمليك محل خلاف، وتحتاج إلى دراسة، تعرض في دورة قادمة إن شاء الله تعالى.

صكوك التأجير:

يوصي المجمع بتأجيل موضوع صكوك التأجير لمزيد من البحث والدراسة ليطرح في دورة لاحقة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بدل الخلو عند خروج المستأجر: قرار رقم (31):

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 18 - 23 جمادي الآخرة 1408هـ، الموافق 6 - 12 فبراير 1988م، بعد اطلاعه علما الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع، بخصوص "بدل الخلو" وبناءً عليه.

ص: 67

قرَّر ما يلي:

أولًا: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور، هي:

1 -

أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد.

2 -

أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.

3 -

أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.

4 -

أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد، وبين كل من المالك والمستأجر الأول، قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها.

ثانيًا: إذا اتَّفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغًا مقطوعًا، زائدًا عن الأجرة الدورية "وهو يسمى في بعض البلاد خلوًّا"، فلا مانع شرعًا من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءًا من أجرة المدة المتَّفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.

ثالثًا: إذا تمَّ الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة، على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغًا مقابل تخليه عن حقِّه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإنَّ هذا بدل خلو جائز شرعًا؟ لأنَّه تعويضٌ عن تنازل المستأجر برضاه، عن حقه في المنفعة، التي باعها للمالك.

أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة، أو ضمنًا عن طريق التجديد التلقائي، حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأنَّ المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.

رابعًا: إذا تمَّ الاتفاق بين المستأجر الأول، وبين المستأجر الجديد، أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد، لقاء مبلغٍ زائدٍ عن الأُجرة الدورية، فإنَّ بدل الخلو وإذا جائزٌ شرعًا، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة

ص: 68

المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.

على أنَّه في الإجارات الطويلة المدة، خلافًا لنص عقد الإجارة، طبقًا لما تصوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها، إلَاّ بموافقة المالك.

أما إذا تمَّ الاتفاف بين المستأجر الأوَّل، وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. والله أعلم.

***

ص: 69