الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العيوب في النكاح
مقدمة
العيوب: جمع عيب، والقصد: بيان العيب الذي يثبُت به الخيار، والعيب الذي لا يثبت به خيار.
والعيوب من حيث هي تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: عيوب جنسية تمنع الاستمتاع، كالجب، والعُنَّة، والخِصَاء في الرَّجل، والرَّتَق، والقَرَن، والعَفَل في المرأة.
الثاني: عيوب لا تمنع الاستمتاع، ولكنها أمراضٌ منفِّرةٌ من كمال العِشرة، بحيث لا يمكن معها بقاء الزوجية إلَاّ بضرورة، ذلك كالجنون، والبَرص، والزُّهري، والأمراض المُعْدِيَة.
أمَّا من حيث انقسام العيوب بين الزوجين، فهي تنقسم إلا ثلاثة أقسام:
أحدها: خاص بالرجل، الجب: وهو قطع الذكر، حتى لا يبقى منه ما يكفي للجِماع، والعُنَّة، والخِصاء، وهو قطع الخصيتين.
الثاني: خاص بالمرأة، وهو الرَّتق: أن يكون فرجها مسدودًا بأصل الخلقة، والقرَن، والعفل: ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة ممَّا يسبب ضيق فرجها، فلا يسلك فيه الذكر.
الثالث: مشتركٌ بين الجنسين، وهذا هو الجنون، والجذام، والبرص، وسيلان بول، أو غائط، وباسور، وناسور.
وقال ابن القيم: الصحيح أنَّ النكاح يُفْسخ بجميع العيوب، كسائر
العقود؛ لأنَّ الأصل السلامة، فكانت هذه الشروط في العقد نقص شيء من الأشياء، كالأطراف، أو العمى، أو الخرس، أو الطرش، وكل عيبٍ ينفِّر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة، فإنَّه يوجب الخيار.
قال في الإنصاف: وما هو ببعيد.
قال الشيخ تقي الدين: ولو بان الزوج عقيمًا، فقياس قولنا: ثبوت الخيار للمرأة؛ لأنَّ لها حقًّا في الولد، فالصحيح: أنَّ كل عيبٍ نَفَر منه أحد الزوجين، فلمن لم يرض به الخيار في الفرقة.
***
876 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَالِيَةَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَوَضَعَتْ ثِيَابَهَا، رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْبَسِي ثِيَابَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَفِي إِسْنَادِهِ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي شَيْخِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أخرجه أحمد بسنده إلى كعب بن زيد، أو زيد بن كعب، فذكر الحديث.
قال الألباني: وجملة القول أنَّ الحديث ضعيف جدًّا؛ لأنَّ فيه جميل بن زيد، وقد تفرَّد به، وقد أكثر العلماء من الطعن في جميل بن زيد، فقال البخاري: لا يصح حديثه، وقال ابن عدي: ليس بثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال البغوي: ضعيف الحديث؛ ولأجل اضطرابه فقد قال الحافظ: اضطرب كثير على جميل بن زيد، وقد صحَّ الحديث بلفظٍ آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري:"أنَّ ابنة الجون لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عُذْت بعظيم، الحَقِي بِأَهلِكِ".
* مفردات الحديث:
- عُجْرَة: بضم العين، وسكون الجيم المعجمة، وكعب بن عجرة صحابيٌّ،
(1) الحاكم (4/ 34).
أصله من قبيلة بلى، فحالف الأنصار، فعُدَّ منهم بالحلف، وقال الواقدي: إنَّه من الأنصار.
- غِفَار: بكسر الغين المعجمة، غفار: قبيلة من قبائل عدنان، هم بنو غفار بن مليل بن صخرة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنازلهم قرب مكة.
- كَشْحهَا: بفتح الكاف، وسكون الشين المعجمة، فحاء مهملة، هو بين الخاصرة والضلوع.
- بياضًا: المراد به البرص، وهو مرض يحدث في الجسد بياضًا.
- الحَقِي بِأهلِك: هذه الصيغة من كنايات الطلاق الظاهرة، يقع بها الطلاق مع نيته، أو قرينة تدل على إرادة الطلاق.
***
877 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَدَخَلَ بِهَا، فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ، أَوْ مَجْنُونَةً، أَوْ مَجْذُومَةً، فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا" أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).
وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه نَحْوَهُ، وَزَادَ:"وَبِهَا قَرَنٌ، فَزَوْجُهَا بِالخِيَارِ، فَإِنْ مَسَّهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا"(2).
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا قَالَ: "قَضَى عُمَرُ رضي الله عنه فِي العِنِّينِ، أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (3).
ــ
* درجة الحديث:
قال الحافظ: رجاله ثقات، وهو موقوف على عمر رضي الله عنه.
وأخرجه مالك، والدارقطني، وابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: فذكره، ورجاله ثقات، فهم رجال الشيخين، لكنَّه منقطع بين سعيد بن المسيب رحمه الله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ورواية علي رجالها ثقات، إلَاّ أنَّ الشعبي لم يسمع
(1) سعيد بن منصور (1/ 212)، مالك (2/ 526)، ابن أبي شيبة (2/ 4).
(2)
سعيد بن منصور (1/ 213).
(3)
ابن أبي شيبة (2/ 4).
من علي رضي الله عنه ولكن صحَّ عن ابن مسعود بلفظ: "يؤجل العنين سنة، فإن جامع وإلَاّ فُرِّقَ بينهما" رواه ابن أبي شيبة (2/ 4) بسند صحيح.
* مفردات الحديث:
- بَرْصَاء: بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء، ممدود، هو بياضٌ في الجسد يكون من أثر علَّة.
- مجنونة: الجنون: زوال العقل، أو فساده.
- مجذومة: الجُذَام بضم الجيم، علَّة تتآكل منها الأعضاء وتتساقط، وهو من الأمراض المُعدية.
- مَسِيسِه: كنايةٌ عن الجماع واستمتاعه بها، كما جاء في الرواية الآخرى:"فإن مسَّها، فلها المهر بما استحلَّ من فرجها".
- مَن غرَّه بها: من خدعه وغشَّه بها.
- قَرَن: بفتح القاف، وسكون الراء وفتحها، آخره نون، هو ورمٌ مدور، يخرج من رحم المرأة، فيكون بين مسلكيها يمنع الجِمَاع أو كماله.
- العِنِّين: العُنَّة عجزٌ يصيب الرَّجل، فلا يقدر على الجماع؛ لعدم انتشار ذكره، وهو مأخوذٌ من عنَّ الشيء إذا اعترض؛ لأنَّ ذكره يعن إذا أراد إيلاجه.
- يؤجَّل: بالبناء للمفعول من التأجيل، أي يُمهل، ويؤخَّر سنة؛ ليبين أمره بمرور الفصول الأربعة.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان يفيدان صحة عقد النكاح، مع وجود العيب في أحد الزوجين، ولو لم يعلم عنه الزوج الآخر، ذلك أنَّ العيب لا يعود على أصل العقد، ولا على شرط من شروط صحته.
2 -
ويفيد أنَّ إثبات خيار العيب للزوج الذي لم يعلم بعيب صاحبه إلَاّ بعد العقد، ولم يرض به العقد، فيثبت له حق فسخ النكاح.
3 -
الفسخ إن كان قبل الدخول فلا مهر للزوجة المعيبة، ولا متعة لها، سواء أكان الفسخ منه أو منها؛ لأنَّ الفسخ إن كان منها، فقد وُجِدت الفرقة من قِبلها، وإن كان منه، فإنَّما فسخ لعيبها الذي دلَّسته عليه، وإن كان الفسخ بعد الدخول أو الخلوة، فلها المهر؛ لأنَّه استقرَّ بالدخول، ولكنه يرجع به الزوج على من غرَّه من زوجةٍ عاقلةٍ، أو ولي، أو وكيلٍ.
4 -
الحديثان فيهما أنواعٌ من العيوب هي: البرص، والجذام، والجنون.
5 -
جمهور العلماء يحصرون العيوب في النكاح في نوعين:
أحدهما: عيوبٌ تمنع الوطء، ففي الرَّجل جب ذكره، وقطع خصيته، وعُنَّته، وفي المرأة الرَّتَق والقَرَن والعَفَل.
الثاني: عيوبٌ منفِّرة، أو مُعدية، وهي الجُذام، والبَرص، والجنون، والباسور، والناسور، والقروح السيالة في الفرج، فجمهور العلماء يقصرون عيوب النكاح على هذين النوعين، والاختلاف بينهم يسيرٌ في اقتصار بعضهم على بعضها، أو اعتبارها كلها عيوبًا.
6 -
قوله: "أيما رجل" ليس له مفهوم، فالرجل إذا وجد الزوجة معيبة فله الفسخ، والزوجة إذا وجدت الرجل معيبًا فلها الفسخ أيضًا.
7 -
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الصحيح أنَّ العُقم عيب؛ فإنَّ أهم مقاصد المرأة من النكاح تحصيل الولد، والمتبادر أن لا تكون الزوجة كالرجل لفروق؛ لأنَّ له التزوج بأخرى، ويبقيها معه.
8 -
أما ابن القيم فيرى أنَّ كل عيب ينفر منه الزوج الآخر، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة والألفة، فإنه يوجب الخيار، وأنه أولى من البيع الذي يجيز للمشتري الفسخ بكل عيب ينقص قيمة البيع، فمن تدبر مقاصد الشرع، وعدله، وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح، لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول، وقربه في قواعد الشريعة.
أما الاقتصار على عيبين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة، أو ثمانية، دون ما هو أولى منها، أو مساويها، فلا وجه له، فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين والرجلين، أو إحداهما من أعظم المنفرات، والسكوت عن بيانه من أقبح التدليس والغبن، وهو مخالف للدين، وهذا القول قال به الثوري، وشريح، وأبو ثور، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
9 -
أنَّ العيب إذا لم يعلم به إلَاّ بعد الدخول أو الخلوة، فإنَّ لها الصداق كما هو صريح الحديثين؛ لأنَّه استقرَّ بالدخول؛ لقوله:"بمسيسه إيَّاها"، وبقوله:"فإن مسَّها، فلها المهر بما استحلَّ من فرجها"، ولكنه يرجع به على من غرَّه بالعيب.
10 -
لابدَّ للتفريق بالعيب من أمور:
أولًا: طلب صاحب المصلحة ودعواه؛ فإنَّ الحق له وحده، فلا يفسخ إلَاّ بطلبه.
ثانيًا: الفسخ بالعيب مختلَف فيه بين العلماء، فلا ينظر فيه ولا يفسخه إلَاّ حاكم.
ثالثًا: ثبوت العيب بأحد وسائل الإثبات.
رابعًا: إذا ثبتت عُنَّة عند الزوج، أُجِّل سنة هلالية؛ لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن مرَّت عليه، ولم تزُلْ عُنَّتُهُ، عُلِم أنَّ ذلك خِلقة، فيفسخ النكاح.
***