المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب المُساقاة مقدمة المساقاة: من السقي فهي مأخوذة من أهم أعمالها، فحاجة - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب المُساقاة مقدمة المساقاة: من السقي فهي مأخوذة من أهم أعمالها، فحاجة

‌باب المُساقاة

مقدمة

المساقاة: من السقي فهي مأخوذة من أهم أعمالها، فحاجة الشجر إلى السقي أكثر من غيره، ذلك أنَّ الماء في جزيرة العرب شحيح، فما كانوا سابقًا يسقون إلَاّ بالنضح، فسميت بأهم وأشق عمل فيها.

وتعريفها شرعًا: أنَّها دفع شجر إلى آخر ليقوم بسقيه، وعمل سائر ما يحتاج إليه، بجزء مشاع معلوم من ثمره.

والأصل في جوازها السنة، والقياس الصحيح.

أما السنة: فمساقاته صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين من بعده أهلَ خيبر، بشطر ما يخرج منها من ثمر.

وأما القياس: فإنَّ المساقاة أقرب إلى العدل والحل، فإنَّهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة فإنَّ صاحب الشجر تسلم له الأجرة، وأما المستأجر فقد يحصل له الثمر، وقد لا يحصل.

والمساقاة من المشاركات التي مبناها العدل بين الشريكين، فإنَّ صاحب الشجر والأرض كصاحب النقود التي دفعها للمضارب في التجارة، والعامل الساقي كالعامل المضارب الذي يتجر بالمال، فهما داخلتان في أبواب المشاركات، فالغنم بينهما، والغُرم عليهما.

وبهذا عُلِمَ أنَّها أحلُّ من الإجارة، وأقرب إلى القياس والعدل، ولذا فإنَّها جاءت على الأصل، لا كما زعم بعضهم أنَّها على خلاف القياس، لظنهم أنَّها من باب الإجارات التي يشترط فيها العلم بالعمل والأجرة، فهذا وهم

ص: 36

منهم.

والمساقاة ومثلها المزارعة من أحل المكاسب وأفضلها، لمن ابتغى فضل الله تعالى ولم تشغله عن الأمور المطلوبة منه لربه ولأهله، والسنة مليئة بفضلها، ومن ذلك ما جاء في البخاري (6012) ومسلم (1553)، من حديث أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسانٌ، أو طيرٌ، أو دابةٌ إلَاّ كان له صدقة".

***

ص: 37

779 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلى أَنْ يَكْفُوا عمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمْرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذلِكَ مَا شِئْنَا، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه".

وَلِمُسْلِمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلى أنْ يعْتَمِلُوهَا مِنْ أمْوَالِهِمْ، وَلَهُمْ شَطْرُ ثَمَرِهَا"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- عامَل: عمل يعمل عملًا: فعل ومَهَنَ.

قال في الكليات: العمل يعم أفعال القلوب والجوارح.

قال في المحيط: المعاملة المساقاة في لغة الحجازيين وهي المراد هنا.

- بشطْر: بفتح الشين المعجمة وسكون الطاء آخره راء، يطلق على معان، والمراد به هنا النصف، ويستعمل في الجزء منه، فإنَّه يطلق ويراد به البعض، جمعه أشطر وشطور.

- من ثمر: بالثاء المثلثة، والمراد هنا ثمر النخيل؛ لأنَّها شجر خيبر.

- فقرُّوا: يقال: قرَّ في المكان يقرُّ قرارًا: إذا ثبت وسكن.

قال في المحيط: قرَّر العامل على عمله تركه قارًّا فيه.

- أجلاهم: جلا عن البلد جلاء بالفتح والمد: خرج منها، وجلا القوم عن

(1) البخاري (2329، 2338) ، مسلم (1551).

ص: 38

الوطن: خرجوا من الخوف أو الجدب، وجلوته وأجليته أتى لازمًا ومتعديًّا.

- يعتملوها: يقال: اعتمل الرجل أي عمل عملًا متعلقًا بنفسه والمعنى أن يسعوا فيها بما فيه عمارة أرضها، وإصلاحها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جواز المساقاة والمزارعة بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الزرع والثمر، قال الطيبي: لم أر أحدًا من أهل العلم منع من المساقاة مطلقًا غير أبي حنيفة.

والدليل على جوازها ما تواتر، أو كاد أن يتواتر، من أنَّه صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر بنخيلها على الشرط.

وأما المزارعة فهي عندنا جائزة تبعًا للمساقاة؛ لحديث خيبر، ولا يجوز إفراده؛ لحديث رافع بن خديج أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ومنع منها الإمام مالك وأبو حنيفة مطلقًا، وذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى جوازها مطلقًا؛ لظاهر الحديمث، وعليه جمهور المحدثين.

2 -

ظاهر الحديث أنَّه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض في المزارعة وسيأتي كلام ابن القيم قريبًا، وهو الصحيح خلافًا للمشهور من مذهبنا باشتراطه.

3 -

أنَّه إذا علم نصيب العامل، أغنى عن ذكر نصيب صاحب الأرض والشجر، لأنَّ الغلة لا تخرج عنهما.

4 -

جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستانٍ واحدٍ، بأن يساقيه على الشجر بجزء معلوم من الثمر، وبزرعه الأرض بجزء معلوم من الزرع.

5 -

جواز معاملة الكفار بالفلاحة والتجارة والمقاولات على البناء والصنائع ونحو ذلك من أنواع المعاملات.

6 -

ظاهر الحديث عدم اشتراط العلم بقدر مدة المساقاة أو المزارعة.

ص: 39

وقال الجمهور: لا تجوز المساقاة والمزارعة إلَاّ في مدة معلومة وتأولوا قوله "ما شئنا" على مدة العهد، وأنَّ المراد: نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا، ثم نخرجكم إذا شئنا.

7 -

وأما المساقاة فإنَّ مدتها معلومة، وقد اتَّفقوا على أنَّها لا تجوز إلَاّ بأجلٍ معلوم.

8 -

قال ابن القيم: في قصة خيبر دليل على جواز المزارعة بجزء من غلة الزرع، فإنَّه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك، واستمر على ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ ألبتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرَّق بين متماثلين، فإنَّه صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم، ولم يدفع إليهم البذر، فدلَّ على أنَّ هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، كما أنَّه وفق القياس، فإنَّ الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة، والبذر يجري مجرى سقي الماء؛ ولهذا يموت في الأرض، ولا يرجع إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة؛ لاشتراط عوده إلى صاحبه، وهذا يفسد المزارعة، فعلم أنَّ القياس الصحيح هو الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.

9 -

ذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنَّ المزارعة والمساقاة فاسدتان مطلقًا.

وذهب أكثر أهل العلم إلى جوازهما مجتمعتين، ومنفردتين.

قال النووي: هذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر ولا تقبل دعوى كون المزارعة في خيبر، إنما جاءت تبعًا للمساقاة، بل إنَّها مستقلة، ولأنَّ المعنى الموجود في المساقاة موجود في المزارعة، وقياسًا على القراض "المضاربة" فإنَّ القراض جائز بالإجماع وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأنَّ

ص: 40

المسلمين في جميع الأعصار والأمصار مستمرون على العمل بالمزارعة.

وأما الأحاديث الناهية عن المخابرة فأجيب عنها: بأنَّها محمولة على ما إذا اشترط لكل واحد قطعة معيَّنة من الأرض.

10 -

وفيه دليل على جواز بقاء الكفار في بلاد المسلمين مدة الحاجة إليهم، فإذا استغني عنهم وعن أعمالهم أُبعِدوا عن بلاد المسلمين، لأنَّ لهم تأثيرًا على العقائد، والأخلاق.

***

ص: 41

780 -

وَعَن حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَن كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَقَال: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَاّ هَذَا، فَلِذلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الأرْضِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- خديج: قال في المغني للفتَّني: خديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة.

- كراء الأرض: بكسر الكاف، وفتح الراء، ثم ألف، بعدها همزة.

قال في المصباح: الكِرَاء بالمد: الأجرة، وهو مصدر في الأصل، من كريته، من باب قتل.

- إنَّما كان إلخ: تعليل لجواز كراء الأرض، وعدم جواز إجارتها بجزء معيَّن منها، كما مثَّل.

- المَاذِيَانَات: بذال معجمة مكسورة، وحكى عياض فتحها، ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية، جمع ماذية، وهي ما ينبت على حافة النهر ومسايل المياه، وليست الكلمة عربية ولكنها سوادية.

(1) مسلم (1547).

ص: 42

- أقبال الجداول: بفتح الهمزة، فقاف، فباء موحدة، الأقبال: أوائل المسايل ورؤوسها، ومجاري المياه الصغار تُشَق في الأرض.

- زجر عنه: زَجَره عن كذا يزجره زجرًا: منعه، ونهاه عنه نهيًا مؤكدًا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في الحديث بيان جواز الإجارة الصحيحة للأرض، وبيان الإجارة الفاسدة، فأما الفاسدة فهي الكراء الجاهلي الذي يجعلون لصاحب الأرض ما على الجداول والسواقي، أو يجعلون له جانبًا معيَّنًا من الزرع، فهذه إجارة فاسدة؛ لأنَّ فيها غررًا وخطرًا وجهالة، فقد يصلح هذا، ويهلك هذا.

2 -

هذا النوع من الإجارة الفاسدة التي تحفُّها الجهالة، والغرر، والمخاطرة محرَّمة لا تصح، فهي التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأولى فهي بأجرٍ معلومٍ فهي صحيحة.

3 -

عموم الحديث يجيز الأجر بالنقدين أو ما قام مقامهما من عملة نقدية، ويجيزه أيضًا ولو كانت الأجرة من جنس ما أخرجته الأرض أو مما أخرجته بعينه.

4 -

النَّهي عن إدخال شروط فاسدة في الإجارة، كاشتراط جانب معيَّن من الزرع، وتخصيص ما على الأنهار ونحوها لصاحب الأرض أو لصاحب الزرع، فهي مزارعة، فاسدة لجهالتها وخطرها.

5 -

كل الغرر والجهالات والمخاطرات محرَّمة باطلةٌ؛ لأنَّها نوعٌ من القمار والميسر، ففيها ظلم أحد الطرفين وتسبب العداوة والشحناء، والشرع الشريف جاء بالعدل والمساواة بين الناس، كما جاء بما يجلب المحبة والمودة والصفاء.

6 -

ذهب عامة العلماء إلى جواز إجارة الأرض الزراعية بالذَّهب والفضة والعروض والطعام، إذا كان غير خارج منها، ومنهم الأئمة الثلاثة.

وذهب الإمام مالك إلى المنع بالطعام مطلقًا، سواء كان من الخارج منها، أو من غيره؛ لحديث:"فلا يكريها بطعام".

ص: 43

781 -

وَعَنْ ثَابِتِ بْن الضَّحَّاكِ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالمُؤَاجَرَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ أيْضًا (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- بالمؤاجرة: أي يستأجر الأرض فيحرثها ويستغلها، ويدفع لصاحبها أجرةً وكراءً من النقود لا جزءًا مما يخرج منها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

المزارعة هي إعطاء الأرض الزراعية لمن يزرعها، بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ ممَّا يخرج منها، يُشْتَرط لصاحب الأرض أو للعامل.

2 -

الحديث نهى عن المزارعة، والنَّهي يقتضي التحريم، كما يقتضي فساد العقد.

3 -

ويدل الحديث على جواز إعطاء الأرض للزراعة بأجرةٍ معلومةٍ، وعمومه يفيد الجواز بأي أجرة كانت، ولو مما يخرج منها، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وأحمد والشافعي.

4 -

يحمل هذا النَّهي على المزراعة الفاسدة التي يدخلها كثير من الجهالة، والغرر، والظلم لأحد الطرفين، كما جاء في حديث رافع بن خَدِيج، من أنَّهم كانوا في الجاهلية وصدر الإسلام "يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلَاّ هذا، فلذلك زجر عنه".

5 -

أما المزارعة المعلومة فلم ينه عنها، ولذا جاء في حديث رافع أنَّها جائزةٌ؛

(1) مسلم (1549).

ص: 44

وذلك بقوله: "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به".

هذا هو التوجيه الحسن المستقيم لبيان المزارعة الجائزة من المزارعة الممنوعة، وهذا هو الجمع الصحيح بين الأحاديث المتعارضة في ظاهرها بين جوازها ومنعها، والله أعلم.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم المزارعة:

فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم جوازها.

ودليلهم على ذلك أحاديث رافع بن خديج منها:

1 -

"كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع".

2 -

حديث حنظلة بن قيس، وهو حديث الباب السابق.

3 -

ما في البخاري (2343) ومسلم (1547) عن ابن عمر: "ما كنَّا نرى بالمزارعة بأسًا، حتما سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها".

4 -

ما جاء في صحيح البخاري (2340) ومسلم (1566) عن جابر أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له أرض فليزرعها إن لم يزرعها أخاه".

فهذه الأحاديث حجة الذين يذهبون إلى عدم جواز المزارعة، ويرون أنَّها محرَّمة باطلة، وللأئمة على التحريم دليلٌ آخر، هو أنَّهم يعتبرون المزارعة إجارة، والإجارة لابد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا العوض مجهول معدوم، فتحرم ولا تصح.

وذهب الإمام أحمد وأتباعه إلى جوازها، وأنَّها عقدٌ صحيحٌ ثابتٌ، كما ذهب إلى جوازها طوائفٌ من الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث، المتقدمين والمتأخرين، وكثير من الفقهاء.

ص: 45

فممَّن يرى جوازها علي بن أبي طالب، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وطاووس، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن سيرين، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والثوري، والبخاري، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن سريج، والخطابي، والظاهرية.

قال النووي: هو الراجح المختار، والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار جارون على العمل بالمزراعة.

أدلة المجوِّزين:

1 -

الأصل في العقود الجواز والصحة، فلا يمنع منها إلَاّ ما وجد فيه محذورٌ شرعيٌّ من جهالةٍ، أو غررٍ، أومخاطرةٍ، أو ظلمٍ لأحد الجانبين، أما العقود الواضحة السالمة من تلك المحاذير، فإنَّ الشرع يجيزها، ولا يمنع منها شيئًا.

2 -

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر منذ أن استولى عليها حتى توفي، ثم مِن بعده أقرَّهم أبو بكر، وصدرًا من خلافة عمر، حتى أجلاهم منها، بمشهد من عموم الصحابة، وهذا دليلٌ على جوازها، وأنَّها لم تنسخ.

ومن تلك الأحاديث ما في الصحيحين عن ابن عمر: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمرٍ أو زرعٍ، وقال نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر".

2 -

أجابوا عن أحاديث رافع بن خديج بأنَّها مضطربة السند، فإنَّه تارةً يروي عن عمومته، وتارةً أخرى روى عن رافع بن ظهير، وثالثةً يحدث عن سماعه هو، وهي أيضًا مضطربة المتن، فإنَّه تارةً يروي النَّهي عن "كراء الأرض"، وتارةً "ينهي عن الجعل" وثالثةً "من الثلث والربع والطعام المسمى".

ص: 46

وبهذا حصل الاضطراب في المتن والسند، وحصل فيها الشك، حتى قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان وضروب، وقد أنكره الصحابة، ولم يعلم به عبد الله بن عمر إلَاّ في خلافة معاوية، فكيف مثل هذا الحكم يخفى عليهم، وهم يتعاطونها، وسيأتي قريبًا معنا آخر لهذا الاضطراب.

وعلى فرض صحة أحاديث رافع، فقد أجاب العلماء عنها، وعن حديث جابر بأجوبةٍ مقنعةٍ.

وأحسن تلك الأجوبة الجمع بين أحاديث رافع، وأحاديث خيبر، وذلك بحمل النَّهي عن المزارعة في أحاديث رافع على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيءٌ من الغرر والجهالة، وصار فيها شبه من الميسر والقمار والمغالبات المحرَّمة.

وهو حملٌ وجيهٌ، بل قد صرَّح رافع بذلك في بعض طرق أحاديثه.

قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرٌ إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال، والحرام علم أنَّه لا يجوز؛ لما فيه من المخاطرة.

وقال ابن المنذر: قد جاءت أخبار رافع بعللٍ تدل على أنَّ النَّهي لتلك العلل.

وقال الخطابي: قد أعلمك رافع أنَّ المنهي عنه هو المجهول، دون المعلوم، وأنَّه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطًا فاسدة، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول، فيكون خاصًّا لربِّ المال، وقد يسلم ما على السواقي، ويهلك سائر الزرع، فيبقى المُزارع لا شيء له، وهذا غررٌ وخطرٌ.

والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المقصود أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام، إذا اشترط لرب الأرض منها زرعُ مكانٍ بعينه، والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد، فقد بيَّن أنَّ الذي نهى عنه النبي

ص: 47

-صلى الله عليه وسلم إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علِمَ أنَّه حرام.

وقال ابن القيم: إنَّ من تأمل حديث رافع بن خذيج وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مُجمَلها على مفسّرها، ومُطْلَقها ومقيّدها، علِمَ أنَّ الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة، فإنَّه قال:"كنا نكري الأرض على أنَّ لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه".

وفي لفظ له: "كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما على الماذِيَانَات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلَاّ هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به".

وهذا من أبين ما في حديث رافع وأوضحه، وما فيها من مجملٍ أو مطلقٍ أو مختصر فيُحمل على هذا المفسَّر المبيَّن المتَّفق عليه لفظًا وحكمًا. اهـ كلامه رحمه الله.

قال الطيبي في شرح المشكاة: أحاديث النَّهي عن المزارعة في ظاهرها تباينٌ واختلاف، وجملة القول في الجمع بينها أنَّ رافع بن خديج سمع أحاديث في النَّهي عن المزارعة متنوعة، فنظمها في سلك واحدٍ، ولهذا تارةً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارةً يقول: حدَّثني عمومتي، وتارةً يقول: أخبرني عماي، والعلة في بعض الأحاديث أنَّهم يشترطون شروطًا فاسدة، وفي بعضها أنَّهم كانوا يتنازعون في الكراء، وفي بعضها أنَّه كره لهم الافتتان بالحراثة، فيقعدوا عن الجهاد.

وعلى هذا المعنى يجب أن يحمل الاضطراب المروي عن الإمام أحمد، لا على الاضطراب المصطلح عليه عند أهل الحديث، فإنَّه نوعٌ من أنواع الضعف، وحاشا لصاحبي الصحيح البخاري ومسلم أن يوردا شيئًا من هذا النوع.

ص: 48