المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب القسم 917 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب القسم 917 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ

‌باب القسم

917 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ" رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَلكِنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث مرسل.

أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طرق، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، به.

وهذا إسنادٌ ظاهره الصحة، وعليه جرى الحاكم، فقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وابن كثير، لكن المحققين من الأئمة أعلّوه، فقال النسائي: أرسله حماد بن زيد، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا، وأيَّده ابن أبي حاتم فقال: الحديث مرسل.

(1) أبو داود (2134)، الترمذي (1140)، النسائي (7/ 64)، ابن ماجه (1971)، ابن حبان (1305)، الحاكم (2/ 187).

ص: 447

* مفردات الحديث:

- يقسم بين نسائه: قسم يقسم، من باب ضرب يضرب، قَسْمًا، بفتح، فسكون: مصدر قسمت الشيء فانقسم، فيعطي كل واحدة نصيبها.

- فيعدل: عدل يعدل عدلاً، ضد جار؛ فالعدل ضد الجور.

- فلا تلمني: لام يلوم لومًا وملامة: عذل؛ فاللوم العذل، قال في الكليات: اللوم مما يحرِّض؛ كما أنَّ العذل مما يُغري.

***

ص: 448

918 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُخرَى، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال المصنف: رواه أحمد والأربعة، وإسناده صحيح.

وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طرق، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، به.

قال الحاكم؛ صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، وابن دقيق العيد، وابن حجر، قال عبد الحق: عِلَّته أنَّ همامًا تفرَّد به، ولكنها علة غير قادحة؛ ولذلك تتابع العلماء على تصحيحه.

* مفردات الحديث:

- شِقُّهُ: بكسر الشين المعجمة، وتشديد القاف، أي: جانبه ونصفه.

- مائل: مال يميل ميلًا، والميل: ضد الاعتدال والاستقامة.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

تقدم لنا أنَّ القسم ليس واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]؛ ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يقسم بينهن في النفقة والمبيت والطواف عليهنَّ

(1) أحمد (2/ 347)، أبو داود (2133)، الترمذي (1141)، النسائي (7/ 63)، ابن ماجه (1969).

ص: 449

ثم يقول: "اللَّهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يشير إلى المودة، ثم ما يتْبَعُهَا.

2 -

أنَّ القَسْمَ واجب على الرجل بين زوجتيه أو زوجاته، ويحرم عليه الميل إلى إحداهنَّ عن الأخرى، فيما يقدر عليه من النفقة، والمبيت، وحسن المقابلة، ونحو ذلك.

3 -

أنَّه لا يجب على الرجل القَسْمُ فيما لا يقدر عليه، وهو ما يتعلَّق بالقلب من المحبة، والميل القلبي، ولا ما يترتب عليه من رغبة في جماع واحدة دون الأخرى؛ فهذه أمور ليست في طوق الإنسان، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وقال تعالى:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]، ففيه دليلٌ على السَّماحة في بعض الميل، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وقال تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].

4 -

العدل مطلوب من الإنسان في كل ما هو تحت تصرفه من الزوجات، والأولاد، والأقارب، والجيران، وغير ذلك؛ فهو أجمع للقلوب على محبته، وأصفى للنفوس على مودته، وأبعد عن التُّهمة في التحيز والميل.

5 -

وفي الحديث رقم (918): إثبات عذاب الآخرة، وهو ممَّا عُلِمَ من الدِّين بالضرورة.

6 -

وفيه تعظيم حقوق العباد، وأنه لا يسامح فيها؛ لانَّها مبنيةٌ على الشح والتقصي.

7 -

وفيه أنَّه ينبغي للإنسان أن يستحل من حوله من زوجات، وأقارب، وأصحاب، وجيران؛ خشية أن يكون مقصرًا في حقوقهم، أو قصَّر بشيء منها، وتلحقه التبعة بعد مماته.

8 -

وفي الحديث رقم (917) بيان أنَّ القلوب بين يدي الله تعالى، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]؛ فيجب على الإنسان

ص: 450

أن يتعلَّق بربه، ويلح عليه في الدعاء بأن يهديه الصراط المستقيم، وأن يُثبِّته بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يثبت قلبه على دينه، وأن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه.

9 -

وفي الحديث رقم (918): أنَّ الجزاء يكون من جنس العمل فإنَّ الرجل لما مال في الدنيا من زوجةٍ إلى أخرى، جاء يوم القيامة مائلاً أحد شِقيه عن الآخر؛ فكما تدين تدان.

10 -

في الحديث رقم (917): دليل على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية القلوب والتوفيق، وإنَّما الذي يملكها الله وحده؛ كما قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، وإنَّما هو عليه الصلاة والسلام يهدي بإذن الله تعالى، هداية إرشاد وتعليم؛ كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى].

11 -

وفي الحديث (918): استحباب الاقتصار علها زوجةٍ واحدةٍ، إذا خاف إن لا يعدل بين الزَّوجين؛ لئلا يقع في التقصير في الدين؛ قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].

12 -

قال في شرح المنتهى: "وعماد القَسْم الليل؛ لأنَّه مأوى الإنسان إلى منزله، وفيه يسكن إلى أهله، وينام على فراشه، والنَّهار للمعاش، والاشتغال؛ قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]، والنَّهار يتبع الليل، فيدخل في القسم تبعًا -لما روي: "أنَّ سودة وهبت يومها لعائشة" متَّفقٌ عليه، وقالت عائشة: "قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي"، وإنَّما قبض نهارًا، ويتبع الليلة الماضية.

* فائدة: قال الشيخ عبد الله بن محمد: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة، ولا بأس أن يولِّي إحداهن على الأخرى أو الأخريات، إذا كانت أوثق، وأصلح لحاله.

ص: 451

919 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ: إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ البِكْرَ عَلى الثَيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُم قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أقَامَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).

920 -

وَعَنْ أَمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاتًا، وقَالَ:"إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2).

ــ

* مفردات الحديث:

- أَهْلِك: يعني بالأهل هنا هو نفس النبي صلى الله عليه وسلم، والزوج هو أهل للزوجة، والزوجة أهل للزوج، فالأهل ما يجمعهم مسكن واحد.

- هَوَان: الهوان: الحقارة والذل والضعف، أي: ليس بك شيء من هذا عندي، وهذا تمهيد للعذر من الاقتصار على التثليث لها، وهو أمر مستحسن جدًّا عند الكلام على ما لم يؤلف عادة، ولكل مقام تمهيد يناسبه.

- سبَّعتُ لَك: بالتثقيل، من التسبيع، أي: إن شئت بت عندك سبع ليالٍ، فأمكثها عندك، ثم أسبع لنسائي، فالعرب اشتقَّت فعلاً من الواحد إلى العشرة، فمعنى "سبَّع" أقام عندها سبعًا، و"ثلَّث" أقام ثلاثًا، وسبَّع الإناء: إذا غسَّله سبع مرات.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

العدل بين الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن دون الأخرى ظلم؛ فيجب

(1) البخاري (5214)، مسلم (1461).

(2)

مسلم (1460).

ص: 452

على الرجل العدلُ ما أمكنه، وأما ما ليس في طوقه، فلا حرج عليه فيه؛ قال تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]، فالعدل الكامل ليس في طوق الإنسان، أو قدرته.

2 -

ومن القسم الواجب ما جاء في هذين الحديثين، من أنَّ من تزوَّج وعنده زوجة أو أكثر، فإن كانت الزوجة الجديدة بكرًا، أقام عندها سبع ليال، ثم دار على نسائه، وإن كانت الجديدة ثيِّبًا، أقام عندها ثلاث ليال، ثم دار على نسائه.

3 -

أنَّ الزوج يخير الزوجة الجديدة الثيب بعد الثلاث، فإن شاءت أقام عندها سبعًا، ثم أقام عند كل واحدة من نسائه سبعًا، وإن شاءت اكتفت بالثلاث، ودار على نسائه كل واحدة ليلتها فقط.

4 -

إباحة الإقامة عند العروس الجديدة أكثر من ليلة عند أول دخول الزوج بها، فهو من الحفاوة بها، وإكرام مقدمها، وإيناسها، في المسكن الجديد، وإشعارها بالرَّغبة فيها.

5 -

أما الفرق بين البكر والثيب بقدر المكث؛ فهو أنَّ البكر غريبة على الزوج، وغريبة على فراق أهلها؛ فاحتاجت لزيادة الإيناس، وإزالة الوحشة.

6 -

وفيه التنبيه على العناية بالقادم؛ بإكرام وفادته، وإيناس وحدته، ومباسطته في الكلام.

7 -

وفيه حسن ملاطفة الزوجة بالكلام اللين بقوله: "ليس بِكِ هَوان على أهلك".

8 -

كما أنَّ فيه التمهيد والتوطئة لما سيفعله الإنسان، أو يقوله لصاحبه، ممَّا يخشى أنْ يتوهَّم منه نفرة منه، أو عدم رغبة فيه.

9 -

وفيه أنَّ الخيار في الثلاث أو السبع الليالي للزوجة الثيب لا للزوج، فالحق

ص: 453

لها، لا له.

10 -

وفيه أنَّ الزوج من أهل الزوجة، وأنَّ الزوجة من أهله أيضًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما علمتُ في أهلي إلَاّ خيرًا".

11 -

وفيه استحباب الصراحة مع من تعامله، فتخبره بما لَهُ من الحق، وما عليه؛ ليكون على بصيرة، ويعلم أنَّ ما قلتَ له هو حقه، وما قسم الله له.

* اختلاف العلماء:

اختلف العلماء هل هذا الحكم والتفضيل عامٌّ في كلِّ من عنده زوجة، فأكثر، أم أنَّه خاصٌّ بمنْ له زوجات غير الجديدة؟

قال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أنَّ ذلك حقٌّ للمرأة، بسبب الزفاف، سواءٌ كان عنده زوجة أم لا؛ لِعُموم الحديث.

أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فهذا لمن عنده أكثر من امرأة.

***

ص: 454

921 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائشَةَ يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سوْدَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

سودة بنت زمعة القرشية العامرية هي الثانية من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تزوَّجها بعد وفاة خديجة، فأسَنَّت عنده، وثقلت، فخافت أن يفارقها فتفقد هذه المنقبة الكبيرة، والنِّعمة العظيمة، من كونها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها وليلتها لعائشة؛ لتبقى له زوجة، فقَبِل ذلك، فمات صلى الله عليه وسلم، وهي في عصمته من أمهات المؤمنين.

2 -

روى الطيالسي، عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن طلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذا الآية:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: لما كبرت سودة، وهبت يومها لعائشة؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لي بيوم سودة.

3 -

فالحديث يدل على جواز الصلح بين الزوجين، وذلك حينما تحس المرأة من زوجها نفورًا، أو إعراضًا، وخافت أن يفارقها؛ بأن تسقط عنه حقها، أو بعضه من نفقةٍ، أو كسوةٍ، أو مبيتٍ، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل منها ذلك؛ فلا جناح عليها في بذلها له، ولا جناح عليه في قبوله منها؛

(1) البخاري (5212)، مسلم (1463).

ص: 455

ولهذا قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] يعني: أنَّ الصلح خير من الفراق.

4 -

هذا التصرف من أم المؤمنين سودة رضي الله عنها تصرفٌ حكيمٌ جدًّا فقد صحَّ عن عائشة أنَّها قالت: ما من الناس أحدٌ أحب أن أكون في مِسْلاخها من سودة. وتوفيت سودة رضي الله عنها آخر خلافة عمر، رضي الله عنه.

5 -

قال العلماء: إذا وهبت الزوجة يومها وليلتها لضرتها، فلا يلزم ذلك في حقِّ الزوج، فله أن يدخل على الواهبة، ولا يرضى بغيرها عنها، وإن رضي الزوج، فهو جائز.

6 -

وللواهبة الرجوع في هبتها نوبتها من زوجها متى شاءت؛ لأنَّ الهبة يجوز الرجوع فيما لم يُقبض منها، والمستقبل منها لم يقبض.

7 -

إذا كان للزوج عدة زوجات، فخضَّت الواهبة نوبتها لواحدةٍ منهنَّ، تعيَّنت لها؛ كقصة سَوْدة مع عائشة، وإن تركت حصتها من القَسْم، من غير تخصيص في ضرائرها، فيسوِّي الزوج بينهنَّ، ويخرج الواهبة من القسم.

***

ص: 456

922 -

وَعَنْ عُرْوَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها "يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلى بَعْضٍ فى القَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَاّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

إسناده حسن.

أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي.

والشطر الثاني له شاهد من حديث ابن عباس، وأخرجه الطيالسي، وعنه البيهقي، وفي إسناده ضعف.

وفي الباب عن سمية عن عائشة، ورجاله ثقات رجال مسلم، غير سمية هذه، وهي مقبولةٌ عند الحافظ ابن حجر.

* مفردات الحديث:

- مُكْثه: إقامته عند الواحدة من زوجاته.

- يطوف علينا: يعني يدور علينا في بيوتنا.

- من غير مَسِيس: المراد بالمسيس هنا: هو الجِماع.

(1) أحمد (6/ 107)، أبو داود (2135)، الحا كم (2/ 186).

ص: 457

923 -

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى العَصْرَ، دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، تُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ

" الحَدِيثَ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- دار: أي طاف عليهن في بيوتهن.

- يدنو: دنو تأنيس ومداعبة وملاعبة بدون جِماع.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

فيه بيان عدله صلى الله عليه وسلم في القسم بين زوجاته، مع أنَّ الله لم يوجب عليه القسم بينهن، وأنَّ له أن يرجي من يشاء منهنَّ، ويؤوي إليه من يشاء، وأنَّ أعيُنهن قارَّةٌ وراضيةٌ بذلك؛ لأنَّه أمْرُ الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب].

2 -

وكان يطوف كل يوم عِلى نسائه كلهنَّ، فيُلاطفهن، ويداعبهن، من غير جِماع، وإنَّما ذلك لِطْمأَنَةِ أنفسهن، وحسن عشرته معهن، لاسيَّما وأنَّه لو لَم يأتهنَّ كل يوم، لطالت عليهن غيبته؛ لتعددهن.

3 -

كان يخص التي هو في يومها بالمبيت عندها، وفي رواية مسلم: أنَّ دورانه عليهن يكون بعد صلاة العصر.

4 -

في هذا دليل على جواز دخول الرجل على المرأة التي ليس لها ذلك اليوم، ولا تلك الليلة لها؛ خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة.

(1) مسلم (1474).

ص: 458

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما تحريم الدُّخول إلى غير ذات الليلة من الزوجة إلَاّ لضرورة، أو حاجة في النَّهار، فالصواب في هذا الرجوع إلى العادة والعرف؛ فإنَّ الرُّجوع إلى العادة أصلٌ كبيرٌ في كثيرٍ من الأمور، وخصوصًا الأمور التي لا دليل عليها، وهذه من هذا الباب.

5 -

فيه بيان وجوب العدل في القسم بين الزوجات، وأنَّ الميل إلى بعضهنَّ ظلم، والظلم محرَّمٌ؛ ففي الحديث القدسي:"يا عبادي! إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا".

***

ص: 459

924 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائشِةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- غَدًا: بفتح الغين والدال، قال في المصباح: الغد اليوم الذي بعد يومك على أثره.

- أين أنا غدًا: كان هذا الاستفهام تعريضًا لهنَّ؛ لأن يأذنَّ له أن يكون عند عائشة؛ ولذَا فهمن ذلك فأذنَّ له.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه بيان وجوب العدل في القسم بين الزوجات، وعدم تفضيل بعضهن على بعض في المبيت وغيره.

2 -

أنَّ القسم الواجب حتى في حالة المرض؛ لأنَّ الغرض منه المبيت والعشرة، لا نفس الجماع.

3 -

أنَّ الهوى النفسي والمحبة القلبية إلى بعض الزوجات لا تنافي القسم والعدل؛ لأنَّ هذا ليس في وسع الإنسان، وإنَّما هو أمرٌ يملكه الله تعالى وحده؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل، ويقول:"اللَّهمَّ هَذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

4 -

أنَّ الزوجة الأخرى أو الزوجات إذا أذن للزوج أن يبيت عند من يشاء منهن، فإنَّه جائز؛ لأنَّ الحق لهنَّ وأسقطنه برضاهن.

(1) البخاري (5217)، مسلم (2443).

ص: 460

5 -

حسن عشرة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهنَّ، وإيثارهنَّ ما يحبه على محبّه أنفسهنَّ؛ فقد علمن رغبة إقامته صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فتنازلن عن حقهنَّ؛ ليمرَّض في بيتها.

6 -

فضل عائشة رضي الله عنها فلو لم يكن عندها من حسن العشرة، ولطف الخدمة، وكمال الخُلُقِ، ما آثرها على غيرها بالرَّغبة في المقام عندها.

فقد جاء في الصحيحين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".

وجاء في الصحيحين -أيضا- عن عائشة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "يَا عَائشَة! هَذا جِبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته".

7 -

يجوز للإنسان أن يعرِّض برغبته بالشيء لمن يريد منه قضاءها، ولا يعتبر هذا التعريض من النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا يشينه؛ لأنَّهنَّ يعرفن ذلك فيه.

8 -

أنَّ الأفضل للإنسان أن يفعل الذي هو خير، ولو لم يجب عليه؛ فالقسم بين الزوجات ليس واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا راعاه حتى في هذه الحالة الشديدة عليه.

9 -

اختلف العلماء في وجوب القسم على صلى الله عليه وسلم، والراجح: أنَّه لا يجب عليه؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51]، إلَاّ أنَّه مع هذا الفُسحة له من ربه، كان صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن فيما أقدره الله عليه من القسم، صلوات الله وسلامه عليه.

***

ص: 461

925 -

وَعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ سَفَرًا أقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أقرع بين نسائه: من القرعة، بضم فسكون، يقال: تقارعوا واقترعوا، فمن خرجت قرعته، فله ما قارع عليه.

- فأيَّتُهُنَّ: أية امرأة منهنَّ خرج سهمها الذي باسمها، خرج بها معه، وَصَحِبَتْهُ في سفره.

- سَهْمُهَا: السهام جمع سهم، وهي التي توضع على الحظوظ، فمن خرج سهمه الذي وضع على النصيب، فهو له.

وكيفية القرع بالخواتيم، فيأخذ خاتم هذا، وخاتم هذا، ويدفعان إلى رجل، فيخرج منهما واحدًا.

وقال الشافعي: يجعل رقاعًا صغارًا يكتب في كل واحدة اسم ذي السهم، ثم تغطى عليها بثوب، ثم يدخل رجل يده، فيخرج واحدة ينظر من صاحبها، فيدفعها إليه.

ولها طرقٌ أخر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه وجوب العدل بين الزوجات حتى إذا أراد أن يسافر، ويصطحب معه في سفره بعض زوجاته.

(1) البخاري (2593)، مسلم (2770).

ص: 462

2 -

أنَّ الزوج إذا لم يرد أن يسافر بزوجاته جميعًا، فإنَّ المتعيِّن عليه هو القرعة بينهن، فالتي يخرج سهمها يخرج بها معه في سفره.

3 -

قال القرطبي: استدل بعض علمائنا بهذه الآية: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء، ورد العلم بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه.

4 -

قال أبو عبيد: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ومحمَّد، عليهم الصلاة والسلام.

قال ابن المنذر: واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فلا معنى لردها.

5 -

قال ابن العربي: فائدة: القرعة استخراج الحكم الخفي عند التشاح، ولا تجري مع التراضي.

6 -

للقرعة عدة صفات، وسواء كانت بالورق، أو بالحصى، أو بالخواتيم، فكيفما اقترعوا جاز.

7 -

في هذا التأكيد على أنَّ الأفضل في حق الشباب أن لا يذهبوا للخارج إلَاّ ومعهم نساؤهم؛ ليكون أغض لأبصارهم، وأحفظ لفروجهم.

8 -

إذا كان الإنسان كثير الأسفار في داخل البلاد وخارجها، وأراد أن يجعل لكل واحدة من زوجاته أو زوجتيه سفرة، فإنَّه يجوز؛ لأنَّ هذا حق متميز، لا خفاء فيه.

***

ص: 463

926 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأتهُ جَلْدَ العَبْدِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لَا يَجلِد: جَلدت الجاني جلدًا، من باب ضرب، والجلد: هو الضرب بالسوط، الواحدة جلدة، واشتقاقه من جِلْدِ الحيوان، وهو غشاء جسمه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الله تبارك وتعالى كرَّم المرأة، وجعل لها من الحقِّ مثل ما للرَّجل عليها؛ فقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 228].

2 -

ولكن قد يكون بعض النساء عندها سوء عشرة، وعصيان لزوجها، فإذا ظهرت عليها أمارات النشوز، فلها ثلاث مراتب:

الأولى: هو وعظها وإعلامها بِعِظم حق الزوج عليها، وتخويفها من الله تعالى، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وتلاوة النصوص الواردة في ذلك عليها، فإن استجابت فذاك؛ وإلَاّ فالمرتبة:

الثانية: وهي: هجرها في المضجع، بان يترك مضاجعتها ما يراه من المدة؛ قال تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك.

وأما في الكلام: فلا يزيد في هجرها على ثلاثة أيَّام؛ لما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَحِل لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، فإنْ أصرَّت ولم تردع بالهجر، فالمرتبة:

(1) البخارى (5204).

ص: 464

الثالثة: وهي أن يضربها ضربًا غير مبرح ولا شديد، بأن يجتنب الوجه تكرمة له، ويجتنب المواضع المخوفة كالبطن، ولا يزيد على عشرة أسواط خفيفات؛ لِما في الصحيحين من حديث أبي بردة عن أبيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط، إلَاّ في حدٍّ من حدود الله".

3 -

وإن ادَّعى كل واحد من الزوجين ظلم صاحبه، ووقع الشقاق بينهما، بعثَ الحاكم حكمين: أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة؛ لكونهما أخبر وأعرف من غيرهما بأسباب الشقاق الواقع بينهما، وأقرب إلى الأمانة والنصح، فيفعلان ما هو الأصلح من الجمع بينهما، أو التفريق بعوضٍ أو بدونه، وهما يملكان ذلك؛ فقد سمَّاهما الله حَكَمَينِ، فقَال تعَالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} [النساء].

4 -

قال شيخ الإسلام: الشَّارع لا يُكرِهُ المرأة على النِّكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنَّه يجعل أمرها إلى غير الزوج، لمن ينظر في المصلحة من أهلها مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلِّصها من الزوج بدون أمره، وكيف تؤسَر معه بدون أمرها.

5 -

في الحديث النَّهي عن الضرب المؤلم، وأفضل منه ترك الضرب مطلقًا؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يضرب خادمًا قط، ولا امرأةً قط، كما في شمائل الترمذي والنسائي.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن النشوز:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فبناءً على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء، من اختيار موضوع النشوز؛ ليكون من جملة الموضوعات التي تُعِدُّ فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثًا، أعدت في ذلك بحثًا، وعُرض على مجلس كبار

ص: 465

العلماء في الدورة الخامسة، المنعقدة بمدينة الطائف، فيما بين الخامس من شهر شعبان عام: 1394 هـ، والثاني والعشرين منه.

وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها، وبعد تداول الرأي في ذلك قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي:

- أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة، وترغيبها في الانقياد لزوجها وطاعته، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته، وأنَّها إن أصرَّت، فلا نفقة لها عليه، ولا كسوة، ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنَّها تكون دافعةً الزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها.

فإن استمرت على نفرتها، وعدم الاستجابة، عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك، نصح الزوج بمفارقتها، وبيَّن له أنَّ عودتها إليه أمرٌ بعيد، ولعلَّ الخير في غيرها، ونحو ذلك ممَّا يدفع الزوج إلى مفارقتها.

فإن أصرَّ على إمساكها، وامتنع من مفارقتها، واستمر الشقاق بينهما، بعثَ القاضي حكمين عدلين، ممَّن يعرف حالة الزوجين من أهلهما، حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسَّر، فمن غير أهلها، ممَّن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما، وإلَاّ أفهم القاضي الزوج أنَّه يجب عليه مخالعتها، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإنْ أبى أن يطلِّق، حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوضٍ، أو بغير عوض.

فإن لم يتفق الحكمان، أو لم يوجدا، وتعذَّرت العشرة بالمعروف بين الزوجين، نظر القاضي في أمرهما، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعًا بعوضٍ، أو بغير عوض.

والأصل في ذلك: الكتاب، والسنة، والأثر، والمعنى:

أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، ويدخل في هذا

ص: 466

العموم الزوجان في حالة النشوز، والقاضي إذا تولى النَّظر في دعواهما.

وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [الآية النساء: 34]، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز، يكون من القاضي لما فيه من تحقيق المصلحة.

وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} الآية [النساء: 14] فكما أنَّ الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج؛ فهو مشروع إذا كان من الزوجة، أو منهما.

وقال تعالى في الحكمين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]؛ وهذه الآية عامَّةٌ في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع، أو تفريق؛ بعوضٍ أو بغير عوض.

وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ} [البقرة: 229].

وأمَّا بالنسبة للتفريق: فما روى البخاري في صحيحه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ما أنقم على ثابت في دينٍ ولا خُلُق، إلَاّ أنِّي أخاف الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفتَرُدين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فردت عليه، فأمره ففارقها".

وأما المعنى: فإنَّ بقاءها ناشزًا مع طول المدة، أمرٌ غير محمودٍ شرعًا؛ لأنَّه ينافي المودة والإخاء، وما أمر الله من الإمساك بمعروفٍ او التسريح بإحسان، مع ما يترتَّب على الإمساك من المضار، والمفاسد، والظلم، والإثم، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر، وتوليد العداوة، والبغضاء، وصلى الله وسلم على محمَّد وآله وصحبه.

ص: 467