المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب عشرة النساء - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب عشرة النساء

‌باب عِشرة النساء

مقدمة

العِشرة: بكسر العين وسكون الشين المعجمة، هي المخالطة والمصاحبة من العشيرة، قال تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء].

وشرعًا: هي ما يكون بين الزوجين من الألفة، والوِئام، والمحبَّة، وحُسن الصُّحبة والعِشرة، وقد جاء الحث عليها، والأمر بها، والترغيب فيها، بنصوص الكتاب العزيز، والسنة المطهَّرة:

قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

وقال صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

أما حقه عليها فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وقال تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أَمَرْت أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها".

فيلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، فلا يمطله حقه، ولا يتكره لبذله، ولا يُتْعبه أذًى ومِنة، فيحرم المطل بما يلزم والتكره، ويجب بذل الواجب والحق المشروع.

قال الشيخ تقي الدين: حقوق الزوج على زوجته أن تجله وتوقره، وأن تعاشره بالحسنى، وأن تطيعه في غير معصية الله، وأن تُجيب مطالبه العادلة، ورغباته الممكنة، وأن تشاركه في أفراحه وأتراحه، وأن تحفظه في نفسها

ص: 344

وماله، وأن تصون بيته، فلا تُدْخله أجنبيًّا، ولا تخرج منه إلَاّ بإذنه، وأن لا تتزيَّن لسواه، وتتجنَّب ما يغضبه، وأن لا تلح عليه في طلب مرهق.

وأن تحافظ على كرامة أهله، وأن تقوم بخدمة أولادهما، وأن تعينه على ما أمكن عند مرضه أو عجزه، وأن لا تُنكر خيره وبره.

وأما حقوق الزوجة على الزوج فأن يعاشرها بالمعروف، ويعاملها بالإحسان، ويحفظ حرمتها، ويراعي راحتها وفطرتها، ويعينها في خدمة بيتها، ويشاركها في سرورها وحزنها، ويقابلها بطلاقةٍ وبشاشةٍ، ويخاطبها برفقٍ ولينٍ، ويوسِّع في الإنفاق عليها، ويصون شعورها، ويرعى أهلها، ويحفظ كرامتها، ولا يمنعها عنهم، ولا يكلِّفها من الأمور ما لا تطيق، ولا يحرمها ما تطلب من الممكنات المباحة، ويشركها في المصالح المشتركة، ويعلِّمها إن جهلت طاعة الله، أو أهملت، ويحلم إن غضبت، ولا يحرمها حقًّا مشروعًا لها، ويرعى حريَّتها ضمن نطاق الشرع والدين، ويتحمَّل الأذى عنها، ويُعنَى بمداواتها إن مرضت.

***

ص: 345

878 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

رواه الشافعي، وقوَّاه، وأخذه عنه البيهقي، والطحاوي، والخطابي، وسنده صحيح، وله طريق أخرج جيِّدة، كما قال المنذري، وهذه الطرق عند النسائي، والطحاوي، والبيهقي، وابن عساكر، وصحَّحه ابن حبان، وابن حزم، ووافقهما الحافظ في فتح الباري.

(1) أبو داود (2162)، النسائي في الكبرى (9015).

ص: 346

879 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأُعِلَّ بِالوَقْفِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

هذا الحديث بلفظه جاء من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، منهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والبراء، وأنس وأبو ذر، وعقبة بن عامر، وعلي بن طلق، وطلق بن علي.

وهذه الطرق كلها فيها كلام، ولكن مع كثرة الطرق، واختلاف الرواة، يشدُّ بعض طرقها بعضًا، فهو حسن أو صحيح، وقد احتجَّ به ابن حزم.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

يدل الحديثان على تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وإلى هذا ذهبت الأمة، لقوله تعالى:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، ولهذين الحديثين اللَّذين استفاضت طرقهما، ولأنَّ الأصل في الفروج الحرمة إلَاّ ما أمر الله به، وأذن فيه.

2 -

أما الاستمتاع من الزوجة بما دون دبرها من جسدها فهو جائز، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض".

وأمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالاتزار للمباشرة وقت الحيض اتقاءٌ للفرج.

(1) الترمذي (1165)، النسائي في الكبرى (9001)، ابن حبان (4203).

ص: 347

3 -

فالحديثان يدلان على أنَّ إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب؛ لأنَّ اللَّعن لا يكون إلَاّ على كبيرة.

4 -

قال ابن القيم في الطب النبوي ما خلاصته: دلَّت الآية الكريمة على تحريم الوطء في دبرها من وجوه:

أحدها: أنَّه أباح إتيانها في موضع الولد؛ فقال تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] لا في الحشِّ الذي هو موضع الأذى.

الثاني: للمرأة حق على الزوج في الوطء، والوطء في دبرها يفوتها حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصِّل مقصودها.

الثالث: الوطء بالدبر مضرٌّ بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء.

الرابع: يوجب النفرة والتباغض بين الفاعل والمفعول به.

واستطرد رحمه الله في ذكر المضار والمفاسد التي تجلبها هذه الفعلة الشنيعة.

***

ص: 348

880 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ مِن الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ، كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ، لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَلِمُسْلِمٍ: "فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، اسْتَمْتَعْتَ وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- استَوْصوا: يعني: ليُوصِ بعضكم بعضًا خيرًا وإحسانًا في نسائكم. أو معناه: اقبلوا وصيَّتي إيَّاكم فيهن، فإني أوصيكم بهنَّ خيرًا وإحسانًا.

- ضِلَع: بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام، آخره عين مهملة، هو عظم قفص الصدر، وهو منحن، والمراد أنَّ حواء أصلها خلقت من ضلع آدم، كما قال تعالى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1].

- أعلاه: هو ما يكون عند الترقوة، فإنَّه مدور كنصف الدائرة، فهو عظم شديد الاعوجاج.

- تقيمه: تعدله وترده إلى الاستقامة.

- عِوَج: بكسر أوله على الأرجح، وقال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل منتصب كالعود، وبالكسر ما كان في بساطٍ، أو أرضٍ، أو دِينٍ، فيُقال: في

(1) البخاري (9/ 252)، مسلم (1468).

ص: 349

دِينه عِوج، بالكسر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في الحديث بيان حق الجار، وأنَّ حقَّه على جاره كبير، فقد جاء في الحديث الصحيح:"ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننتُ أنَّه سيورثه".

2 -

ويدل على أنَّ من آذى جاره بأذى قولي أو فعلي، فليس بكامل الإيمان بالله تعالى، ولا باليوم الآخر؛ فإنَّ الإيمان بالله يحمل صاحبه على اتِّقاء محارمه، والإيمان باليوم الآخر يوجب الخوف من أهوال ذلك اليوم، فلا يؤذي جاره، أما من آذى جاره، فلو كان حين آذاه يتَّصف بالإيمان ما صدر منه أذى لجاره؛ فإنَّ الإيمان يحمل صاحبه على القيام بالواجبات، وترك المحرَّمات.

3 -

ويدل الحديث على الوصية بالنساء خيرًا، فقد جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قوله:"فاتَّقوا الله في النساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله".

فالله تعالى من رحمته ولطفه بخلقه، يوصي ويحث على العناية والرعاية بالجنس الصغير والضعيف من خلقه، فاليتامى أمر بحفظ أموالهم، ونهى عن إضاعتها، وتوعدَّ على أكلها فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء] وهذه المرأة الضعيفة الأسيرة في بيت زوجها يوصي بها تعالى فيقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

وقال صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

4 -

ولما وصَّى صلى الله عليه وسلم بالنساء ذكر "أنَّهنَّ خُلِقن من ضِلع، وأنَّ أعوج شيء في الضِّلَعِ أعلاه" وهذا بيان لطبيعة النساء وخلقهن، وهو تمهيد للأمر

ص: 350

باحتمالهن، والصبر عليهنَّ ولذا قال:"فإن ذهبتَ تقيمُهَا، كسرتها، وكسرها طلاقها، وإن استمتعت؛ بها استمعت بها على عِوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".

فهذا الوصف الرائع، والتصوير البارع، والوصية الكريمة منه صلى الله عليه وسلم، يحدِّد موقف الرجل من زوجته، فيسلك معها سبيل الحكمة، والرحمة، والبر، والإحسان.

والمراد بخلقها من الضِلع، يعني: خلق أُمنا حواء من ضِلع آدم، عليهما السلام.

5 -

إذا تدبرنا أحكام الإِسلام الرشيدة، وآدابه السامية، ووصاياه الكريمة، وجدنا من صفاته الكريمة الإيثار، فهو يشعر النفس بحبِّ الخير للإنسانية كلها، لاسيَّما أصحاب الحقوق من مسلمٍ، وقريبٍ، وجارٍ، وغيرهم ممَّن تربطهم بالإنسان علاقةٌ وصلةٌ، وهذا الإيثار له أكبر الأثر في توثيق المحبة بين أفراد المجتمع، وجعلهم متعاطفين متعاونين، بِعَكس الأثرة، وحب النفس، والأنانية، فإنَّها تجعل صاحبها مكروهًا، منبوذًا من المجتمع؛ لأنَّه لا يرغب أن يؤدي حق غيره.

فمن أهم مكتشفات علم النفس الحديث: ما ثبت من أنَّ سعادة الإنسان لن تأتي بغير تضحية في سبيل الغير، قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر].

وما أجمل الإيثار وأحسنه إذا كان فيمن لا تطمع منه في مكافأة، ولا ترجو منه جزاء ولا شكورًا، من امرأة ضعيفة أو يتيم فاقد لراعيه وواليه، فالإِسلام دائمًا يوصينا بهؤلاء وأمثالهم ممن ليس لهم حول ولا طَوْل، فالموفَّق البار بنفسه وبإخوانه لا تفوته هذه المواقف الكريمة من الإحسان، والمفرِّط المهمل هو من فاتته الفرص، وضاعت منه الغنائم.

ص: 351

6 -

الحديث قرن بين حق الجار، وبين حق الزوجة، كما قرنت بينهما الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] فقد ذكر المفسرون أنَّ الجار الجنب هو الجار في الدار، والصاحب بالجَنب هو الزوجة.

7 -

تشبيه الطلاق بكسر العظم تشبيه بليغ جدًّا، ففيهما شبَهٌ كبيرٌ من حيث الإيلام، وصعوبة جبره وعلاجه، ومن أجل أنَّه قد يعود على غير خِلقته الأولى.

8 -

وفيه بيان أنَّ الناس ليست حقوقهم عليك سواء، بل بعضهم آكد حقًّا من بعض، كما في الحديث:"إنَّ الجار له حق، فإذا كان الجار مسلمًا فله حقان، فإذا كان جارًا مسلمًا قريبًا فله ثلاثة حقوق".

9 -

وفيه دليل على نقص عقول النساء وكمال عقول الرجال، فإنَّه لم يوص بهن إلَاّ لضعفهنَّ، وعدم احتمالهنَّ، وأنَّهنَّ بحاجة إلى ملاطفة ومداراة، وإلَاّ فلا يمكن البقاء معها.

10 -

وفيه دليل على أنَّ الرجال هم القوامون على النساء، فإنَّه لم يوص الرجل بالمرأة إلَاّ لِما له عليها من الرئاسة.

11 -

وفي الحديث دليل على أنَّ أحوال الدنيا ناقصة، وأمورها لا تأتي على المطلوب والمراد، وأنَّ الواجب على الإنسان التحمل والصبر، والقناعة بما يحصل من خيرها.

12 -

الزوجان ما داما في انسجام ووئام، فهذه هي العِشرة الطيبة التي حثَّ عليها الشرع المطهر.

أما إذا دبَّ الخلاف والشقاق بينهما، فسبيلهما الإصلاح، ببعث حكمين بينهما؛ أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة، فيعملان ما يريانه الأصلح من جمع أو تفريق، وفي هذه الحال يجوز

ص: 352

الإلزام بالفراق، إما بالخلع والفسخ، أو الطلاق إذا لم يمكن الإصلاح بينهما.

وممَّن اختار إلزام الزوج شيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن مفلح، وذكر أنَّه ألزم به بعض حكام الشام من المقادسة الفضلاء.

واختار الشيخ محمَّد ابن إبراهيم المشهور من المذهب، وهو عدم إجبار الزوج على الخلع؛ ولكن نصوص الشريعة تدل على القول بالإلزام لإزالة الضرر والشقاق، قال صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس:"خُذْ الحديقة، وطلِّقها تطليقة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر، ولا ضرار".

***

ص: 353

881 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا -يَعْنِي عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمَغِيبَةُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَإِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أمْهِلُوا: انتظروا، ولا تستعجلوا.

- عِشاءً: بكسر العين، الظلام، أو من صلاة المغرب إلى العتمة.

- تَمْتَشِط: مَشَّطت المرأة شعرها بالمشط: سرَّحته، والمِشط بالكسر: آلةٌ يُمشط بها، جمعها أمشاط.

- الشَّعِثَة: بفتح الشين، وكسر العين، معناه: التي انتشر شعرها وتفرَّق.

- تسْتحِد: بسين وحاء مهملتين، أي تزيل المرأة الشعر المرغوب في إزالته بالحديدة، أو بأي وسيلةٍ أخرى.

- المُغِيبَة: بضم الميم، وكسر المعجمة، ثم مثناة تحتية ساكنة، فموحدة مفتوحة، هي التي غاب عنها زوجها.

- فلا يطرق أهله ليلًا: قال أهل اللغة: الطروق المجيء بالليل من سفر وغيره على غفلة، فذكر الليل من باب التبيين والتأكيد.

(1) البخاري (5079، 5244)، مسلم (715).

ص: 354

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث فيه توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ، في كيفية مقابلة الزوجة لزوجها، والحال التي يحسن أن يراها عليها.

ذلك أنَّ الزوجة إذا غاب عنها زوجها قد تهمل نفسها، فتكون شَعِثة الرأس، قليلة العناية بنظافة بدنها، فتكره أن يفاجئها زوجها على هذا الحال، وتود أن تستعد لمقدمه عليها على أحسن هيئة، فأمر صلى الله عليه وسلم الغزاة معه إذا قربوا من المدينة المنورة، وعُلِم بقُربهم أن لا يدخلوا بيوتهم حتى تستعد لهم نساؤهم، لاستقبالهم بالحالة اللائقة بمقابلة الزوجة لزوجها الغائب.

2 -

وهذا التوجيه الكريم، والتعظيم الحكيم، مع ما في أثره من متعةٍ حسيةٍ بين الزوجين، فإنَّ فيه بقاء للعِشرة الكريمة، وتمام انسجام ووئام، فإنَّ كلًّا من الزوجين إذا رأى من الآخر ما يسره، ويمتع نفسه، تزداد رغبته، وتنمو محبته؛ فتطول الحياة الزوجية بسعادةٍ وهناءةٍ، وقد أباح لها الشارع من اللِّباس ما هو محرَّمٌ على الرِّجال، وهو لبس الحرير، والتَّحلي بمصاغ الذَّهب والفضة.

3 -

الأفضل للرجل الغائب أنْ يُعلم أهله بقدومه عليهم، بوعدٍ محدَّدٍ من ليلٍ أو نهارٍ، والآن -والحمد لله- سُهِّلت الاتصالات، فبإمكانه تحديد السَّاعة التي سيقدَم فيها، بواسطة الهواتف، وغيرها من وسائل الاتصالات.

4 -

إنَّ هذه الآداب النبوية هي من حسن العشرة، ومراعاة الأحوال، والإشعار بمدى الاهتمام، ممَّا يزيد في المحبّه والمودَّة.

5 -

ظاهر الرِّوايتين التَّعارض، وجمع بينهما الحافظ في فتح الباري فقال: الجمع بينهما: أنَّ الأمر بالدخول ليلًا لمن أعلم أهله بقدومه فاستعدوا له، والنَّهي لمن لم يفعل ذلك.

ص: 355

882 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَشَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- يُفْضي إلى امْرَأته، وَتُفْضي إليه: قال القرطبي: أصل الإفضاء في اللغة: المخالطة.

قال الهروي والكلبي وغيرهما: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإنْ لمْ يجامِعْها، وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: الإفضاء: الجِمَاع. اهـ.

قال محرره: ومِن لازِمِ الجِمَاع الخلوة، فهذا أحسن.

- سِرَّها: السِّرّ، بكسر السين، ما يسره الإنسان في نفسه، ويكتمه من الأمور، جمعه أسرار، ويطلق السر على الجِماع؛ لأنَّه يفعل سرًّا، وعلى ما يجري بين الزوجين عند فعله.

- أشرَّ: قال القاضي عياض: هكذا وقعت هذه الرواية، والنحويون لا يجوزون "أشَرّ"، و"أَخْيرَ"، ولكن قد جاءت الأحاديث الصحيحة باللفظين جميعًا، وهي حجة في جوازهما.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الزوج مع زوجته لديهما أسرارٌ جنسية، هذه الأسرار هي في الغالب مداعباتٌ تحصل بين الزوجين أثناء العملية الجنسية، أو أنَّها أمورٌ من عيوب الأعضاء التناسلية.

(1) مسلم (1437).

ص: 356

هذه أشياءٌ هي في غاية السرِّية بينهما، فيكرهان أن يطلع عليها أحد.

2 -

لذا فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصف الذي يخون أمانته من أحد الزوجين، فيُطلع الناس على ما دار بينه وبين زوجه في تلك الحال، أو ما رآه من زوجه من عيب، أنَّه شر النَّاس عند الله تعالى وأحطهم منزلة.

3 -

فالحديث يدل على تحريم إفشاء أسرار الزوجين الخاصَّة عند إفضاء أحدهما إلى الآخر؛ لأنَّ المفضي بهذا السر شرُّ النَّاس عند الله تعالى.

4 -

يعتبر الإِسلام العلاقات الجنسية بين الزوجين أمرًا محترمًا له اعتباره، فيجب أن يحافظ عليه، وأن لا يفرط فيه أحدهما، بحيث يأتمن أحدهما الآخر، ثم يفشي سرَّه.

5 -

من ناحيةٍ أخرى فإنَّ هذه المداعبات بين الزوجين أثناء الجماع هي شيءٌ مطلق الحرية في هذه الحال؛ لأنَّها ترغِّب أحد الزوجين بالَآخر وتنشِّطه، ولهذا سُمِحَ فيها بالكذب، لكن إذا علِمَ أحَدهما أنَّ هذه الأسرار ستُفشى، وتظهر أمام الناس، وتصير موضع سخريةٍ وانتقادٍ، أقْصر عنها وكتمها، ثم يكون التلاقي الجنسي فاترًا باردًا، قد ينتهي إلى فشل الزواج، أو الاتصال الجنسي.

6 -

قال العلماء: ذكر مجرَّد الجِماع يُكره لغير حاجة، ويباح للحاجة كذكره إعراضها عنه، أو هي تدَّعي عليه العجز عن الجِماع، ونحو ذلك.

* قرار مجمع الفقه الإِسلامي بشأن السر في المِهن الطبية:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.

إنَّ مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر

ص: 357

سيري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرَّم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "السر في المهن الطبية".

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرَّر ما يلي:

1 -

(أ) السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتمًا إيَّاه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان، إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطَّلع عليها الناس.

(ب) السر أمانةٌ لدى من استودع حفظه؛ التزامًا بما جاءت به الشريعة الإِسلامية، وهو ما تقضي به المروءة، وآداب التعامل.

(ج) الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مُقْتَضٍ معتبرٍ موجبٌ للمؤاخذة شرعًا.

(د) يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المِهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح، وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.

2 -

تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:

(أ) حالات يجب فيها إفشاء السر بناءً على قاعدة ارتكاب أهون الضررين

ص: 358

لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعيَّن ذلك لدرئه.

وهذه الحالات نوعان:

- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.

- وما فيه درء مفسدة عن الفرد.

(ب) حالات يجوز فيها إفشاء السر لِما فيه:

- جلب مصلحة للمجتمع.

- أو درء مفسدة عامة.

وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها، من حيث حفظ الدين، والنَّفس، والعقل، والمال، والنسل.

(ج) الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء، أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية، وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصًا عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولِمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.

3 -

يوصي المجمع نقابات المهن الطبية، ووزارات الصحة، وكليات العلوم الصحية، بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات، والاهتمام به، وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.

والله أعلم

***

ص: 359

883 -

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ? قَالَ: تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، وصححاه، وعلَّق البخاري طرفًا منه، وصححه الدارقطني، وقد ساقه أبو داود في سننه من ثلاث طرق، في كل واحدٍ منها بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد اختلف الأئمة في نسخة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، فمنهم من احتج بها، ومنهم من أبى ذلك، وخرَّج الترمذي منها شيئًا وصحَّحه.

* مفردات الحديث:

- ما حق: "ما" لها عدة معانٍ، والمراد هنا الاستفهام، ومحلها الرفع على الابتداء، و"حق" خبرها.

- لا تُقَبِّح: بضم التاء، وفتح القاف، وتشديد الباء، وآخره حاء: قبحه الله عن

(1) أحمد (4/ 447)، أبو داود (2142)، النسائي في عشرة النساء (289)، ابن ماجه (1850)، ابن حبان (1286)، الحاكم (2/ 187).

ص: 360

الخير، أي: أبعده، والمعنى: لا تشتم وتسب، كأن تقول: قبَّح الله وجهك.

- ولا تهجر: "لا" ناهية، و"تهجر": فعلٌ مجزومٌ بلا، الهجر: الترك والإعراض، وسيأتي تفصيله في معنى الحديث إن شاء الله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث فيه بعض حقوق أحد الزوجين على الآخر، أمَّا الزوج فعليه لزوجته النفقة، والسكنى، وكذلك عليه كسوتها.

2 -

وعليه أن يكف عنها أذاه، فلا يضربها، وإذا جاء ما يوجب تأديبها بالضرب، فعليه اجتناب الوجه؛ لكرامته، ولحساسيته، ولئلا يقع فيه من ضربها ما ينفره منها من أثر شين وتشويه.

3 -

وعليه أن يقابلها بالبشاشة والطلاقة، فإذا وجد ما يوجب توبيخها، فليكن بالكلام والتوجيه، فلا يكون بالألفاظ القبيحة، والسباب المكروه.

4 -

وعليه إيناسها بالكلام الطيب، والمباسطة من الأحاديث، لاسيَّما الأحاديث الودية، وإذا احتاج الأمر إلى تأديبها بهجرها وبترك كلامها، فليكن هذا في البيت فقط ليس أمام الناس؛ لئلا يجرح شعورها، ويخجلها أمام الناس، وأمام الشامِتِين بها، فتظهر بمظهر المَقْلِيَّة المتروكة.

هذه بعض الأمور المتعلِّقة بسلوك الزوج مع زوجته.

5 -

يدل الحديث عليها وجوب نفقة المرأة على زوجها، وكسوتها، وسُكناها.

6 -

ويدل على جواز تأديب الزوج زوجته عند الحاجة إلى ذلك، ولكنه تأديبٌ تراعى فيه الآداب العامة والرحمة:

فإن هجرها: فليكن هجرًا سريًّا بينهما، لا يكون أمام الناس، وإذا ضربها، فلا يكون في الوجه، ولا يكون في مواضع مؤلمة أو مواضع شريفة، وإذا عاتب ووبَّخ، فلا يستعمل الألفاظ البذيئة، والكلمات الجارحة، والشتم، والسب.

ص: 361

7 -

سيأتي الكلام على نفقة الزوجة وقدرها في "باب النفقات"، إن شاء الله تعالى.

8 -

قال في الإنصاف: ليس على الزوجة عجنٌ ولا طبخٌ، ونحو ذلك على الصحيح من المذهب، نُصَّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب.

أما الشيخ تقي الدين فقال: يجب عليها المعروف من مثلها لمثله.

قال في الإنصاف: والصواب أن يُرجع في ذلك إلى عرف البلد.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّه تجب معاشرة كل من الآخر بالمعروف، وأنَّ الطبخ والخبز وخدمة الدار ونحو ذلك واجبٌ عليها مع جريان العادة بذلك.

قال الشيخ عبد الله بن محمد: كلام الشيخ تقي الدين "أنَّه يجب عليها المعروف من مثلها لمثله" من أحسن الكلام.

9 -

عالج الحديث مشكلة النشوز؛ لأن الزواج في الشريعة الإِسلامية ميثاقٌ غليظ، وعهدٌ متين، ربَطَ الله به بين رجلٍ وامرأةٍ، وأصبح كل منهما يسمى زوجًا، بعد أن كان فردًا، قال تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء] والميثاق الغليظ هو العقد، فهو أمتن عقد.

ثم هناك علاقةٌ بين الزوجين، حيث جعل الله كلَّ واحدٍ منهما موافِقًا للآخر، مُلبيًا لحاجته الفطرية: نفسية، وعقلية، وجسدية، بحيث يجد عنده الرَّاحة، والطمأنينة، والاستقرار، ويجد أنَّ في اجتماعهما السَّكن، والاكتفاء، والمودة، والرحمة؛ لأنَّ تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي، مرادٌ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما، وامتزاجهما في النهاية؛ لإنشاء حياةٍ جديدةٍ، تتمثَّل في جيلٍ جديد.

ويصوِّر هذهِ المعاني قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

ص: 362

أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم] هذه الرابطة الكريمة بين الزوجين عُنِيَ بها الإِسلام عنايةً فائقةً، من المعاشرة بالمعروف، ومن الأمر بالصبر والاحتمال.

فإذا طرأ عليها ما غير جوَّها، فإنَّ الإِسلام أرشد إلى تصفية الجو، باتخاذ أمورٍ يتدرج فيها المصلح، حتى ينتهي إلى النتيجة:

أولًا: الوعظ والإرشاد، فبعض النساء يُؤثِّر فيهنَّ هذا اللون من التأديب؛ قال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34].

ثانيًا: الإعراض عنها في الفراش، وهَجرها، وقد يُنتج هذا النوع من العلاج نتائج طيبة، فالهَجر في المضجع علاجٌ نفسيٌّ بالغ، يفوِّت عليها السرور والمتعة التي هي عندها من أصعب الأمور، قال تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34].

ثالثًا: الضرب غير المُبرِّح؛ قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] والضرب دواءٌ لا يلجأ إليه إلَاّ عند الضرورة، والحالات الصعبة.

رابعًا: إذا تعذَّر نجاح هذه الوسائل، وأصرَّت على نشوزها وترفعها وسوء عشرتها، فإنَّ الحاجة تدعو إلى دَرْءِ الصدع بحَكَمٍ من أهله وحَكَمٍ من أهلها {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].

خامسًا: إذا لم يحصل الجمع بين الزوجين، وتعذَّر التوفيق بينهما، فالمذهب: أنَّ الزوج لا يُجبر على الفراق.

والقول الثاني: أنَّه يُجبر على خلعها، أو فسخها، أو طلاقها، بعوضٍ أو بدونه، وممَّن اختار هذا القول شيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن مفلح، ونقله عن بعض قضاة الحنابلة، والشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ يوجِّه قضاة المملكة العربية السعودية إلى الأخذ به عند الحاجة، لقصة ثابت بن قيس، ولحديث:"لا ضرر، ولا ضرار".

ص: 363

884 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ؛ فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أتى الرَّجل امرأته: يعني جامعها.

- من دُبُرهَا: من جهة عجَيْزَتِها.

- في قُبُلهَا: القُبُل مَن كل شيء: مقدمته، وهنا المراد به: العورة الإمامية من المرأة.

- أحول: حَوِلَتْ عينه حولًا: كان بها حول، فهو أحول.

قال في الموسوعة الميسرة: الحول -بفتح الواو- تعبيرٌ عامٌّ يُطلق على جميع الحالات التي يتَّخذ فيها محور الأبصار بالنسبة لكليهما أوضاعًا تختلف عن الحالة السوية.

وقال في المغرب: الحول أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأنف، والأخرى إلى الصدغ.

قال الأطباء: سببه إما خللٌ في أعصاب العضلات المحرِّكة للعين، أو ضعفٌ فيها، أو أغلاطٌ في انكسار الأشعة الضوئية الداخلة في العين، أو غير ذلك.

- حرث: يقال: حرث الأرض حرثًا: أثارها للزراعة، فقوله سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ

(1) البخاري (4528)، مسلم (1435).

ص: 364

حَرْثٌ لَكُمْ} قال في المحيط: أي موضع حرث لكم، شبه نساءهم بموضع الحرث، تشبيهًا لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

كان اليهود يضيِّقون في هيئة الجماع، من غير استنادٍ إلى علم، وكان الأوس والخزرج يأخذون عنهم أقوالهم وأحوالهم؛ لأنَّهم أهل كتاب، وكان من جملة افتراء اليهود قولهم: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد المقدر من ذلك الجِماع أحول، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

2 -

فيه دليل على افتراءات اليهود، وأكاذيبهم القديمة والحديثة، وتحريفهم لكتب الله تعالى، وتغييرهم كلماته؛ قال تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46].

3 -

وقال تعالى عن جهلهم وافترائهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة].

4 -

الحديث فيه بيان كذب اليهود، وإبطال فريتهم، وأنَّ الرجل له أن يُجامع زوجته على أي هيئةٍ وشكلٍ كان، مقبلةً أو مدبرةً، قائمةً أو جالسةً، ما دام ذلك في القُبُل، وأنَّ هذا لا دخل له في صورة الولد وشكله ونوعه.

5 -

الطب الحديث المبني على التجارب الصادقة، والحقائق الثابتة، كذَّب اليهود، وأثبت إعجازًا علميًّا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولسنَّته المطهَّرة.

6 -

الحديث حدد مكان الجماع بمكان الحرث الذي يطلب منه الولد، ويخرج منه؛ كما قال تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] فلا تجاوزوا مكان الحرث إلى المكان الآخر.

ص: 365

7 -

فيه الترغيب بالجماع، والتهييج عليه ما دام أنَّه حرث، والحَرْث يثمر الغلَّة النَّافعة، ويحصل منه الثمرة الطيبة، وكذا الجماع: فإنَّه السبب بكثرة النسل، وتكثير سواد المسلمين، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته الأنبياء يوم القيامة.

***

ص: 366

885 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا; فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لو أنَّ: "لو" هذه للتمنِّي، فلا تحتاج إلى الجواب عند محققي النحويين.

- أهله: جمعه أهلون، وأهل الرجل قرابته، قال تعالى:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] والمراد هنا من أهله: زوجته.

- جَنِّبنا: من جنَّبَ الشيءَ يجنِّبُهُ تجنيبًا: إذا أبعده منه.

- الشيطان: وزنه فيعال من شطن، فالنون أصلية على الصحيح، والشيطان معروف، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب: شيطان.

- ما رزَقْتَنَا: من الرزق، وجمعه أرزاق، والرِّزق بكسر الراء: الاسم، وبفتح الراء المصدر، والرزق في كلام العرب: الحظ، قال تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة] أي حظكم من هذا الأمر، والرزق عام لكل ما ينتفع به، ولذا يقال: اللَّهمَّ ارزقني زوجةً صالحةً، والمراد هنا: الولد الناشيء من هذا الجماع.

- لم يضره: بفتح الراء، والضرر هنا عام للديني والبدني.

(1) البخاري (5165)، مسلم (1434).

ص: 367

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث سنة من آداب الجماع، وهو أنَّه ينبغي للرجل إذا أراد جماع زوجته أن يقول: باسم الله، فإنَّ اسم الله تعالى يحل البركة والخير فيما تقدم عليه، وترك اسم الله يجعل الشيء ناقصًا مبتورًا.

2 -

أما الذِّكر الثاني عندَ الجِمَاع فهو أن يقول: "اللهمَّ جنبِّنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا" فهذا الدعاء المبارك، وتلك الاستعاذة، من شأنها إذا قبلها الله تعالى "فإنَّه إن يقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره الشيطان"، ويبقى محفوظًا مصونًا من الشيطان الرجيم.

قالت المرأة الصالحة امرأة عمران: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} [آل عمران].

قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37].

3 -

أسباب العصمة من الشيطان كثيرة منها الحسي، ومنها المعنوي: فهذا الدعاء من الوقاية المعنوية من الشيطان ونزغاته، فإذا وُجِد معه أيضًا الأسباب الأُخرى، وانتفت الموانع، وجد المسبَّب الذي رتِّب عليه، وهو العصمة من الشيطان، وإنْ لم توجد الأسباب، أو وجد ولكن حصل معها الموانع، لم يقع المسبَّب

4 -

غالب أعمال الإنسان وعاداته لها أذكار؛ من دخول المنزل، والخروج منه، والأكل، والشرب، والفراغ منهما، وعند النوم، والاستيقاظ، وغير ذلك من التصرفات، فينبغي للإنسان أن لا يهمل هذه الأذكار؛ ليكون من {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} .

5 -

أفضل ما يحصن به الإنسان نفسه من عدوه الشيطان هو ذكر الله تعالى، الذي منه الأوراد الشرعية؛ من كتاب الله ومما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 368

6 -

الذكر المذكور ليس واجبًا، وإنما هو مستحب عند هذه الحالة، وسياق الحديث يدل على هذا.

7 -

وفيه دليلٌ على أنَّ الشيطان لا يُفارق ابن آدم، بل يُلازمه، ويُتابِع أعماله؛ ليجد الفرصة في إغوائه وإضلاله ما استطاع، ولكن الفَطِن هو الذي لا يدع فرصة له؛ وذلك باستحضار ذكر الله.

***

ص: 369

886 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، فَبَاتَ غَضْبَانَ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَلِمُسْلِمٍ: "كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا". (1)

ــ

* مفردات الحديث:

- دعا الرجل امرأته: أي طلبها.

- إلى فراشه: بكسر الفاء، وهو هنا كناية عن الجماع.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على عِظم حق الزوج على زوجته؛ كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

2 -

ويجب له عليها السمع والطاعة في المعروف؛ فقد جاء في المسند وسنن ابن ماجه عن معاذ بن جبل أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمَّد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها، وهي على قَتَبٍ، لم تَمْنعه".

3 -

أنَّه يحرم على المرأة أن تمنع، أو تماطل، أو تتكرَّه على زوجها إذا دعاها إلى فراشه من أجل الجماع، وأنَّ امتناعها هذا يُعتبر كبيرةً من كبائر الذنوب؛ فإنَّه يترتب عليه أنَّ الملائكة تلعنها حتى تصبح.

(1) البخاري (5193)، مسلم (1436).

ص: 370

واللعن لا يكون إلَاّ لفعل محرَّمٍ كبير، أو ترك واجبٍ محتم.

4 -

أنَّ العشرة الحسنة والصُحبة الطيبة هي أنْ تسعى المرأة في قضاء حقوق زوجها الواجبة عليها، وتلبية رغباته، وأن تؤديها على أكمل وجه ممكن.

5 -

الشَّارع الحكيم لم يُرتِّب هذا الوعيد على الزوجة العاصية لزوجها، إلَاّ لِمَا يترتَّب على عصيانها من شرور، فإنَّ الرَّجل لاسيَّما الشاب إذا لم يجد حلالًا، أغواه الشيطان بالوقوع في الحرام، فضاع دينه وخلقه، وفسد نسله، وخرب بيته وأسرته.

6 -

الزوجة الصالحة هي التي وصفها الله تعالى بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "خير النساء امرأة إذا نظرتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غِبْتَ عنها حفظتك في نفسها ومالك".

7 -

وفي الحديث دليل على جواز لعن العصاة ولو كانوا مسلمين، وفي الإخبار عن لعن الملائكة: زجر لها في الاستمرار في العصيان، وردع لغيرها عن الوقوع في مثله.

8 -

الحديث فيه وجوب طاعة الزوجة زوجها عند طلبها لفراشه من غير تحديد بوقت ولا عدد، وإنما يقيَّد بما يضرُّها، أو يشغلها عن واجب.

فأما الوقت فقد روى أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها، وهي على قتب، لم تمنعه".

قال في الروض وغيره: ويلزمه الوطء إن قدر عليه ثُلث سنة مرَّة بطلب الزوجة؛ لأنَّ الله قدَّر ذلك في أربعة أشهر في حق المُولِي، فكذلك في حق غيره، واختار الشيخ أنَّ الوطء الواجب يكون بقدر حاجتها، وقُدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها، وقدرته، وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ

ص: 371

للفسخ بكل حال.

وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: وله الإكثار من ذلك، لا يتحدَّد بحد، ولا يقيَّد، ما لم يضر بها، فإن أضرَّ بها فلا؛ لحديث:"لا ضرر، ولا ضرار"[أخرجه أحمد وابن ماجه]، ولحديث:"من ضارَّ، ضاره الله"[رواه الأربعة].

***

ص: 372

887 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الوَاصِلَةَ، وَالمُسْتَوْصِلَةَ، وَالوَاشِمَةَ، وَالمُسْتَوْشِمَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لعنه: أي طرده وأبعده عن الخير والرحمة.

- الوَاصِلَة: هي المرأة التي تصل شعرها أو شعر غيرها، بشعرٍ غيره.

- المستوصلة: هي المرأة التي تطلب أن يوصل شعرها بشعر غيره.

- الواشمة: الوشم يكون من غرز الإبرة في البدن، وذر النيلج عليه، حتى يزرق أثره، أو يخضر، والواشمة هي المرأة التي تعمل هذا العمل.

- المستوشمة: هي المرأة التي تطلب أن يُعمل في بدنها الوشم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الواصلة هي التي تصل شعرها بشعر غيرها، والمستوصلة هي التي تطلب أن يوصل شعرها بشعر غيرها.

2 -

الحديث دلَّ على تحريم وصل الشعر بشعرٍ آخر، وأنَّ هذا من كبائر الذنوب؛ لأنَّ الشَّارع لعن الواصلة، والمستوصلة، والَّلعن هو الطَّرد عن رحمة الله، ولا يكون إلَاّ في حق صاحب كبيرة.

3 -

قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: وأما لبس الباروكة، فقد بدا في بلاد المسلمين، واشتهر النساء بلبسه والتزين به، حتى صار في زينتهن، فلُبس المرأة إيَّاها، وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبهٌ بالكافرات، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله:"من تشبه بقوم فهو منهم".

(1) البخاري (5940)، مسلم (2124).

ص: 373

4 -

وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز -أيضًا-: يجوز للرجل إزالة شعر جسده من الظهر والصدر والساقين والفخذ إذا لم يضر بدنه، ولم يقصد التشبه بالنساء؛ لأنَّ الأصل الإباحة، ولا يجوز للمسلم أن يحرم شيئًا إلَاّ بالدَّليل، ولا دليل على تحريم هذا، وسكوت الله ورسوله يدل على الإباحة.

5 -

أما الواشمة: فهي التي تغرز إبرة في موضع من بدنها أو بدن غيرها، حتى يسيل الدم، ثم تحشو الموضع بالكحل والنورة، فيخضر، وأما المستوشمة: فهي التي تطلب أن يُفعل بها ذلك.

6 -

الحديث يدل على تحريم الوشم، وأنَّ فاعله والمفعول به ملعونان، واللَّعن لا يرتب إلَاّ على من فعل كبيرة من كبائر الذنوب.

7 -

قال الشيخ أحمد بن محمد بن عساف في كتابه "الحلال والحرام": ومِن الزينة وشم الأبدان، ووشر الأسنان، وقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة، والمستوشمة، والواشرة"[رواه مسلم].

أما الوشم ففيه تشويهٌ للوجه واليدين.

هذا ومن النَّاس من يتَّخذون منه صورًا لمعبوداتهم وشعائرهم، كما نرى في أيَّامنا بعض النَّصارى يرسمون الصليب على أيديهم وصدورهم.

8 -

وقال الألوسي في كتابه "بلوغ الأرب": إنَّ الوشم مذهب باطل، وعادة مستقبحة جدًّا؛ فلذلك أبطلته الشريعة الإِسلامية، وجعلته محرَّمًا؛ لِما فيه من تغيير خلق الله.

***

ص: 374

888 -

وَعَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رضي الله عنها قَالَتْ: "حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ أَوْلَادَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- هَمَمْتُ: قال أهل اللغة: همَّ بالأمر همًّا: عزم على القيام به ولم يفعله؛ فقد همَّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن الغِيلة، ولكنه لم ينه.

- الغِيلة: بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية، وهي مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع، أو حامل.

- الروم: جيلٌ عظيمٌ من الناس، بلغوا في زمانهم الغاية في الكثرة والقوَّة.

قال ابن حزم: إنَّ الرُّوم نسبوا إلى "روملس" باني روما، ولما زحفت الفتوحات الإِسلامية، استولت على غالب بلادهم.

- فارس: أمةٌ عظيمةٌ كثيرةٌ وشديدة فيما وراء النَّهر من بلاد العرب، قال ابن حزم: من بني ساسان بن بهمن.

وقال في الموسوعة الميسرة: المرجح أنَّ الفرس كانوا رُحَّلًا في القرن السابع قبل المسيح، واستقروا بإقليم فارس الخالي بعد الآشوريين.

- العَزْل: هو أن ينزع الرجل ذكره من فرج المرأة، حتى لا يُنزل فيه؛ دفعًا لحصول الحمل.

(1) مسلم (1442).

ص: 375

- الوأد الخفي: بفتح الواو، ثمَّ همزة ساكِنة، يُقال: وأد الرجل ابنته يئدها وأْدًا: دفنها حيَّة فهي موءودة؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير].

فلمّا كان العزل إتلافًا للحيوانات المنوية بالإنزال خارج الفرج، شبِّه بالوأد الخفي الذي لا يرى أثر قتله؛ فهو إتلاف نفسٍ ولو بعيدة عن الوجود.

***

ص: 376

889 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ اليَهُودَ تَحَدَّثُ أنَّ العَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: كَذَبَتِ اليَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

فرجاله ثقات كما قال المصنف، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والطحاوي، والترمذي، بسندٍ صحيح، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو يعلى، والبيهقي بسندٍ حسنٍ أيضًا؛ فالحديث صحيح.

* مفردات الحديث:

- الجارية: هي الشَّابَّة من الإماء، سميت به؛ لخفة جريانها.

- أعزل: العزل: هو نزع الذكر من الفرج؛ ليُنزِلَ خارجه.

- الموءودة: في الأصل هي البنت التي تُدفن حية تحت التراب، شبَّه عزل الحيوان المنوي حينما يتلف قبل أن ينمو نموًّا بشريًّا بالبنت الموءودة، إلَاّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كذَّب اليهود في ذلك.

(1) أحمد (3/ 33)، أبو داود (2171)، النسائي في عشرة النساء (194)، الطحاوي (1916).

ص: 377

890 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالقُرآنُ يَنْزِلُ، ولَوْ كَانَ شَيءٌ يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ القُرآنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: "فَبلَغَ ذلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- والقرآن ينزل: جملة حالية.

* ما يؤخذ من الأحاديث:

1 -

قال في النهاية: الغيلة: الاسم من الغيل، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، والعرب تكره ذلك، والأطباء يقولون: إنَّ ذلك داءٌ يضر بالطفل الرضيع.

2 -

همَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن الغيلة، بناءً على خبر أطباء زمنه، وكونه مستكرهًا عند العرب، لكنه لم يفعل.

3 -

لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعب فارس وشعب الروم، وإذا بهم يغيلون أولادهم، يسقونهم لبن الحوامل ولا يضرهم شيئًا مع تطبيق التجربة، والتجربة هي سُلَّم العلوم الطبيعية، فظهر أنَّ الغيلة لم تضر أبناء فارس والروم، فأقصر عن النَّهي عنها.

4 -

جاء في سنن أبي داود من حديث أسماء بنت يزيد قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا؛ فإنَّ الغيل يدرك الفارس فيُدَعْثِره عن فرسه"، ومعنى يدعثر أي يصرعه ويهلكه.

(1) البخاري (9/ 305)، مسلم (1440).

ص: 378

والغيل أصله أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: إنَّ المرضع إذا جومعت، فحملت، فسد لبنها، ونهك الولد إذا اغتذى بذلك اللبن، فيبقى ضاويًا، فإذا صار رجلاً فركب الخيل فركضها، أدركه ضعف الغيل، فزال وسقط عن متونها؛ فكان ذلك كالقتل له، إلَاّ أنَّه سِرٌّ لا يُرى ولا يُشعر به؛ كما قال الخطابي في معالم السنن.

5 -

قال ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة": الغيل: هو وطء المرأة إذا كانت ترضع، وأنه يشبه قتل الولد سواء، وأنَّه يدرك الفارس، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث:"لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة، ثم رأيتُ فارس والروم يفعلون، ولا يضر ذلك أولادهم شيئًا"؛ فإن الغيل يفعل في الوليد مثل ما يفعل من يصرع الفارس عن فرسه، وذلك يوجد نوع أذى، ولكنَّه ليس بقتلٍ للولد ، وإن كان يترتب عليه نوع أذى للطفل، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى تركه، ولم ينه عنه، ثم عزم على النَّهي؛ سدًّا لذريعة أذى ينال الرضيع، فرأى أنَّ سدَّ هذا الذريعة لا يقاوم المفسدة التي تترتَّب على الإمساك عن وطء النساء مدَّة الرضاع، فرأى أنَّ هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة، فنظر فإذا الأُمَّتان اللتان هما من أكثر الأمم وأشدها بأسًا يفعلون ذلك فأمسك عن النَّهي عنه، فلا تعارض بين الحديثين، والله أعلم.

6 -

قال الدكتور محمَّد علي البار: الجنين يستمد غذاءه كله من أمه، فتمده بجميع عناصر الغذاء، ولو أدَّى إلى الإضرار بها، فمثلاً تعطيه الكالسيوم ولو أدَّى إلى سحبه من عظامها، كما تعطيه الحديد ولو أصابها بفقر الدم، وتمنعه من وصول المواد الضارة مثل: البولينا، وغاز أكسيد الكربون، وتمنعه المواد السامة، مع أنَّها تعيش في جسمها.

ومن المعلوم أنَّ الرضيع -وخاصة في الأشهر الأولى- يعتمد اعتمادًا كاملأ في غذائه على لبن الأم، وهو يسحب الموادَّ الهامة لبناء جسمه، كما

ص: 379

يفعل الجنين أثناء الحمل من الضرر الذي يقع أولاً على الأم، ثم يقع بعد ذلك على الجنين؛ لأنَّ دم الأم أصبح فقيرًا بالمواد الغذائية، فإذا استنفذت مصادر الكالسيوم والحديد .. إلخ، المدخرة لدى الأمّ، أدى لك إلى نقص هذا المواد لدى الجنين، ولدى الرضيع.

7 -

وقال الدكتور محمَّد علي البار -أيضا- في كتابه: "خلق الإنسان": إنَّ الرضاع هو أحد العوامل القديمة والهامة في تحديد النسل؛ فالمرضع عادة تتوقف عادتها الشهرية، ويمتنع المبيض نتيجة الإرضاع عن إفراز البيضة المعهودة في كل شهر، وقد قرَّر الإسلام حق المولود في الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.

ومع هذا، فإنَّ القاعدة قد تنخرق، كما تنخرق بقية القواعد أمام الإرادة الإلهية، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك قد يضر بالجنين الذي حملت به أمه أثناء إرضاعه لأخيه أو أخته.

8 -

العزل هو نزع الذكر من فرج المرأة أثناء الجِماع، وإراقة المني خارج الفرج؛ خشية الحمل.

والحديث رقم (888) جعله الوأد الخفي، والوأد هو دفن البنت حيَّة، وإهالة التراب عليها حتى تموت، وكانت عادة جاهلية، والوأد حرام، والعزل يشبه الوأد من حيث إتلاف نطفة خفية عندها استعداد للنمو لتكون إنسانًا، لا من حيث الحكم الذي هو قتل النفس المعصومة البريئة بهذه الطريقة الوحشية.

9 -

يدل الحديث علما أنَّ العلوم الطبيعية من طب ونحوه تُدْرَكُ بالتجارب وتُحصَّل بالنتائج.

10 -

ويدل الحديث على أنَّ أخذ العلوم غير الشرعية من الأمم الكافرة لا يعد ذلك تقليدًا لهم، وركونًا إليهم، وتشبهًا بهم؛ فإنَّ هذا العلم من سنن الله

ص: 380

الكونية من أخذ بأسبابها حصلها من مسلم وكافر، فليست ملكًا لأحد، وإنما يدركها من بحث فيها.

11 -

ويدل الحديث على أنَّ حصول الأشياء من خيرٍ وشرٍّ، منوطةٌ بأسبابها التي رتَّبها الله تعالى عليها.

12 -

يدل الحديث على مثل هذه العلوم الدنيوية؛ كالغيلة، وتأبير النخل، وأمثال ذلك، أنَّها أمورٌ يأتي بها النَّبي صلى الله عليه وسلم بإدراكه البشري، وقد لا يصيب فيها؛ لانَّها ليست من الأمور المتعلِّقة بالرِّسالة، وإنَّما هي من الأمور التي يرجع فيها إلى التجربة والبحث.

13 -

تحريم الوأد، وهو عادةٌ جاهلية، ومعناه: دفن بناتهم وهنَّ أحياء؛ قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير]، وتحريم ذلك ممَّا عُلِم من الدِّين بالضرورة.

14 -

قوله: "كنَّا نعزل، والقرآن ينزل" يدل على مسألة أصولية، وهي أنَّ ما عمله الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّه سنَّة، سواءٌ علمنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علم به أو لم يعلم؛ لأنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يقر المسلمين على عملٍ يريد -جلَّ وعلا- شرعه، إلَاّ بيَّنه لهم.

15 -

وتدل هذا الجملة على قاعدةٍ أُخرى، وهي أنَّ ما عُمِل زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ عليه، فلم ينه عنه، فهو من الأمور المعفو عنها.

16 -

ويدل الحديث على أنَّ إرادة الله الكونية نافذة، فلا يردها عمل وقاية منها، ولا حذر، ومع هذا: فالإنسان مأمور بعمل الأسباب المفيدة النافعة، فإنَّ الله تعالى إذا أراد وقاية أحد من شيءٍ، جعل له سببًا واقيًا منه.

قال ابن القيم: الذي كذَّب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ هو زعمهم أنَّ العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنَّه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه، لم تكن وأدًا

ص: 381

حقيقة، وإنما سمَّاه وأدًا خفيًّا؛ لأنَّ الرَّجل إنَّما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، ولكن الفرق بينهما: أنَّ الوأد ظاهر بالمباشرة، فاجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلَّق بالقصد فقط، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا؛ وبهذا حصل الجمع بين الحديثين.

17 -

يدل الحديث رقم (889) على إلحاق النسب مع العزل.

18 -

أما الحديثان رقم (889)، ورقم (980) فيدلان على جواز العزل.

19 -

واختلف العلماء في جواز العزل تبعًا لاختلاف الأحاديث:

فذهب الأئمة الثلاثة: إلى جواز العزل؛ عملاً بالأحاديث التي تبيحه.

وذهب الإمام أحمد: إلى تحريمه إلا إذا أذِنَت الزوجة المشاركة للزوج في اللَّذة والولد؛ عملاً بحديث جدامة بنت وهب الذي في مسلم.

* تحديد النسل:

ظهر في هذه العصور المتأخرة نظرية تحديد النسل، وجعْله مبدأً اقتصاديًّا، نظرًا عندهم إلى تزايد عدد السكان تزايدًا سريعًا، بينما تزايُد المواد الغذائية يسير بنسبة حسابية متوالية.

دُرست هذه النظرية على ضوء الشريعة الإسلامية من ظاهر الحديثين؛ حديث جدامة بنت وهب رقم (888)، وحديث أبي سعيد (889)، فالأول يدل على تحريم العزل، وأنَّه جنايةٌ على النطفة، وقتلٌ لها، والحديث الثاني يدل على إباحة العزل، وأنَّه لا أثر له في إتلاف النفس التي ستخلق من تلك النطفة.

ووجه الجمع بينهما: أنَّ العزل ليس وأدًا حقيقة، وإنما سمَّاه وأدًا لقصده من العازل منع الحمل، فأجري مجرى الوأد، بخلاف الوأد: فإنَّه اجتمع فيه القصد، ومباشرة القتل؛ وبهذا يعرف أنَّ حديث رقم (888)، لم يقصد به التحريم، فلا يعارض الحديث رقم (889)، وبهذا فمنع الحمل ليس حرامًا لذاته فيكون محرَّمًا مطلقًا، وإنَّما حرم لمقاصده؛ فصار فيه التفصيل المبين

ص: 382

في قرارات المجامع الفقهية.

وإنما كرهه من كره العزل لعدة محاذير، من حرمان الزوجة من كمال اللذة، ومشاركتها الزوج في التمتع بالحالة الجنسية، ولأنَّ فيه شبه معارضة للقدر، وسعيًا إلى ردِّه بالتدبير حسب ظن العازل.

وأما ما يفعله الأطباء في هذا الزمان من قطع بعض العروق لإبطال قوَّة التوليد، مع بقاء قوَّة الجِماع؛ لتحديد النسل، فلا شكَّ في تحريمه، فلا يقاس على العزل قطعًا، فإنَّ بينهما فرقًا كبيرًا؛ فالعزل سبب ظنِّيٌّ، وأما قطع العرق فسببٌ قطعيٌّ لمنع الحمل، ولا يبقى للجاني خيار بعد ذلك في وجود الولد.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد النسل رقم (42) بتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:

ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر، عام (1396 هـ)، بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل، وتنظيمه، بناءً على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان (1395 هـ)، من إدراج موضوعها في جداول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطَّلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قِبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر، قرَّر المجلس ما يلي:

- نظرًا: إلى أنَّ الشريعة الإسلامية ترِّغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى، ومنَّة عظيمة، منَّ الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة، والمقدم لها، ونظرًا

ص: 383

إلى أنَّ القول بتحديد النَّسل، أو منع الحمل مصادمٌ للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفةٍ عامَّة، وللأمة العربية المسلمة بصفةٍ خاصَّة، حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد، واستعباد أهلها، وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظنٍّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللَّبِنات البشرية، وترابطها.

لذلك كلِّه: فإنَّ المجلس يقرر بأنَّه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرَّازَّقُ ذوالقوَّة المتين؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محقَّقة، ككون المرأة لا تلد ولادةً عاديَّةً، وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترةٍ ما لمصلحةٍ يراها الزوجان، فإنَّه لا مانع حينئذٍ من منع الحمل أو تأخيره؛ عملاً بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- من جواز العزل، وتمشِّيًا مع ما صرَّح به الفقهاء من جواز شرب الدواء؛ لإلقاءِ النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحقَّقة.

وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلَّى الله على محمَّد.

هيئة كبار العلماء

* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تنظيم النسل:

إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة المؤتمر الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409 هـ، 10 إلى 15 كانون الأول

ص: 384

(ديسمبر) 1988م.

بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع: "تنظيم النسل"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.

وبناءً على أنَّ من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب، والحفاظ على النوع الإنساني، وأنَّه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأنَّ إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النَّسل، والحفاظ عليه، والعِناية به، باعتبار حفظ النَّسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.

قرَّر ما يلي:

أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حريَّة الزوجين في الإنجاب.

ثانيًا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل، أو المرأة، وهو ما يعرف بـ"الإعقام" أو "التعقيم"، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.

ثالثًا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معيَّنةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعًا، بحسب تقدير الزوجين، عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أنْ لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأنْ تكون الوسيلة مشروعة، وأنْ لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم، والله أعلم.

* قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامى بمكة المكرمة:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل، أو

ص: 385

مايسمى تضليلاً بـ"تنظيم النسل".

وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي:

نظرًا إلى أنَّ الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمةً، ومنةً عظيمة، منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلَّت على أنَّ القول بتحديد النَّسل أو منع الحمل، مصادمٌ للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين؛ لتقليل عددهم بصفةٍ عامَّة، وللأمَّة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفةٍ خاصَّة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد، واستعباد أهلها، والتمتع بثروات البلاد الإسلامية.

وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظنٍّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.

لذلك كله فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قرَّر بالإجماع أنَّه لا يجوز تحديد النَّسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرةٍ شرعًا.

أمَّا تعاطي أسباب منع الحمل، أو تأخيره في حالات فردية لضررٍ محققٍ؛ ككون المرأة لا تلد ولادة عاديَّة، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين، فإنَّه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخر شرعية أو صحية يقررها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه، إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير ممن

ص: 386

يوثق به من الأطباء المسلمين.

أما الدعوة إلى تحديد النسل، أو منع الحمل بصفةٍ عامَّةٍ، فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشدُّ من ذلك في الإثم إلزام الشعوب بذلك، وفرضه عليها، في الوقت الذي تُنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلُّح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب.

* قرار المجمع الفقهي بشأن تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس:

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، سيدنا ونبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم. أما بعد:

فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي فى دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م، إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989م، قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس، وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه، قرَّر ما يأتي:

أولاً: الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها لا يحل تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحق فاعلها العقوبة؛ لأنَّه تغييرٌ لخلق الله، وقد حرَّم سبحانه هذا التغيير بقوله تعالى مخبرًا عن قول الشيطان:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].

وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنَّه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنَّامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل"، ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله عز وجل يعني قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ

ص: 387

فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

ثانيًا: أمَّا من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله، فإن غلبت عليه الذكورة، جاز علاجه طبيًّا بما يزيل الاشتباه في أنوثته، سواء أكان العلاج بالجراحة أو بالهرمونات؛ لأنَّ هذا المرض والعلاج يقصد به الشفاء منه، وليس تغييرًا لخلق الله عز وجل.

وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.

***

ص: 388

891 -

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ علَى نِسَائِه بِغُسْلٍ وَاحِدٍ" أَخْرَجَاهُ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).

ــ

* مفردات الحديت:

- يطوف على نسائه: طاف بنسائه يطوف طوفًا: ألمَّ بهنَّ، والإلمام هو الزيارة القصيرة، والمراد هنا: كنايةٌ عن وقاعه بهنَّ بغسلٍ واحدٍ، وفي هذا دليل كمال رجولته صلى الله عليه وسلم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغسل من الجنابة من الطهارة المشروعة، ومن النظافة المرغَّب فيها؛ قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ لما في الاغتسال من فوائد صحية، فإنَّ المجامع حينما تخرج منه النطفة، التي هي سلالة بدنه، وجوهر قوَّته، يحصل له بعد خروجها شيءٌ من الإجهاد والتعب، ويحصل من ذلك فتورٌ وركودٌ في حركة الدم ودورته.

2 -

من رحمة العليم الخبير: أن شرع الغُسل من الجنابة الذي يعيد إلى الجسم قوته وحيويته ونشاطه، وكم لله في شرعه من حِكمٍ وأسرار!!.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بما رواه مسلم، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدُكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءًا"، زاد الحاكم:"فإنَّه أنشط للعود".

3 -

القَسْم بين الزوجين أو الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن محرَّمٌ، وقد جاء في السنن الأربع عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من

(1) البخاري (268)، مسلم (309).

ص: 389

كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة يجر أحد شدقيه ساقطًا، أو مائلاً".

4 -

أخذ العلماء من هذا الحديث وجوبَ القسم بين الزوجات؛ فقال في الإقناع وشرحه: ويحرم على من تحته أكثر من زوجة دخوله في ليلتها إلى غيرها إلَاّ لضرورة، فإن لبث عندها، أو جامع، لزمه أن يقضي لها مثل ذلك في حق الأخرى؛ لأنَّ التسوية واجبة ولا تحصل إلَاّ بذلك".

5 -

تقدم أنَّ من حكمة الغسل من الجنابة إعادة النشاط إلى البدن المختل، وتنشيط الأعضاء الخاملة، نتيجة التعب والإجهاد، هذا هو المعهود، والمعروف عند الناس.

أما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فكان يغتسل من الجنابة؛ لأنَّها إحدى الطهارتين، ويحب أن يكون على كل أحواله طاهرًا، ولكن لديه صلى الله عليه وسلم من القوَّة البدنية والرجولة ما هو أكمل من غيره وأوفى، وهذه بعض النصوص الواصفة لتلك الحال:

- حديث الباب في الصحيحين عن أنس وهو خادمه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغُسلٍ واحد".

- حديث أنس عَند البخاري أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم "كان يطوف على نسائه فى الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة".

- وجاء في صحيح البخاري: "أنَّه صلى الله عليه وسلم كان له قوهَّ ثلاثين رجلاً"، وفي روايةٍ لأسماء:"على قوَّة أربعين".

6 -

فله هذا الخاصية من القوَّة والرجولة التي يكتفي بها عن تنشيط جسمه بالماء والاغتسال، إذا كانت الحال والوقت غير متهيِّء للاغتسال من كل مرَّة، على أنَّه صلى الله عليه وسلم بعد فراغه يسكب الماء على جسمه، وكان يغتسل بالصاع من الماء.

7 -

أما أنَّه صلى الله عليه وسلم يدور عليهن في ليلةٍ واحدةٍ، ويجامعهن، فقد أجاب العلماء عن ذلك بعدَّة أجوبة، ولكن أفضلها، وأولاها، وأقربها من الصواب: أنَّ

ص: 390

القَسْم بين زوجاته ليس واجبًا عليه، قال تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51].

فقد أخرج ابن سعد، عن محمَّد بن كعب القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موسَّعًا عليه في قَسْم أزواجه، يقسم بينهن كيف يشاء؛ وذلك قوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] إذا علمن أنَّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن الجوزي: القسم غير واجب عليه صلى الله عليه وسلم.

وقال الشيخ تقي الدين: أبيح له ترك القَسم.

وقال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 15] أي: من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القَسم لهن، فتُقدِّم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت، هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم.

ومع هذا كان صلى الله عليه وسلم يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من فقهاء الشافعية وغيرهم: إلى أنَّه لم يكن القسم واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، واختار ابن جرير: أنَّ هذا الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللائي عنده أنَّه مخيَّر، إن شاء قَسَم، وإن شاء لم يقسم؛ وهذا الذي اختاره حسنٌ جيِّدٌ قويٌّ يجمع بين الأحاديث.

وقال السيوطي: اختصَّ صلى الله عليه وسلم بإباحة عدم القَسم لأزواجه في أحد الوجهين، وهو المختار، وصحَّحه الغزالي.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أباح الله له ترك القسم بين زوجاته على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك فهو تبرُّع منه، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في القسم بينهنَّ في كل شيء، ويقول:"اللَّهمَّ هَذا قَسْمِي فيما أملكُ، فلا تلُمْنِي فيما لا أملك".

ص: 391