المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب اللقطة مقدمة اللُّقَطة: فيها لغاتٌ، أشهرها: أنَّها بضم الَّلام، وفتح القاف، - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب اللقطة مقدمة اللُّقَطة: فيها لغاتٌ، أشهرها: أنَّها بضم الَّلام، وفتح القاف،

‌باب اللقطة

مقدمة

اللُّقَطة: فيها لغاتٌ، أشهرها: أنَّها بضم الَّلام، وفتح القاف، أو سكونها.

وقال الخليل: قافها ساكنة، وأما بفتحها فهو اللاقط، كثير الالتقاط كضحكة؛ لكثير الضحك، وهذا هو القياس، إلَاّ أنه أجمع أهل اللغة والحديث على فتح القاف، حتى قيل؛ لا يجوز غيره.

وشرعًا: هي مال، أو مختص ضلَّ عنه ربُّه، وَتَتْبَعُه همة أوساط الناس.

حُكْمها: الأفضل لمن أَمِن نفسَه عليها، وقوي على تعريفها، والبحث عن صاحبها هو أخذها، ففي هذا حفظ مال الغير عن الضياع، أو تعرضه لأخذ من لا يقوم بواجب حفظه، والبحث عن صاحبه، وأما من عرف من نفسه التدني إلى الخيانة والعجز عن تعريفها، والبحث عن صاحبها، فهذا يحرم بحقه أخذها؛ لأنَّه يعرض نفسه للحرام ويَحْرِم صاحبها من العثور عليها.

فالالتقاط أشبه شيء بالولايات، فمن قام بها وأدَّى حقَّ الله فيها، أُثيب على ذلك، ومن لم يقم بواجب العمل، أثِم وَعرَّض نفسه للخطر.

* أقسام اللقطة:

تنقسم إلى أربعة أقسام:

ص: 133

الأول: ما لا تتبعها همة أوساط الناس كالسوط والرغيف، والنقد اليسير، فهذا يُملك بلا تعريف، وإن وَجد صاحبَه قبل إنفاقه، واستهلاكه، أعطاه إيَّاه.

الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع كالإبل، والظباء، والطيور، فهو محصن، وممتنع، إما بقوته كالإبل، وإما بعدْوه كالغزال، وإما بطيرانه، فهذا يحرم التقاطه.

الثالث: لقطة الحرم، فهذه يحرم التقاطها إلَاّ لمن يريد تعريفها أبد الدهر، لحديث:"وَلا تحل ساقطتها إلَاّ لمنشد".

وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وأما مذهب الثلاثة فإنَّها كغيرها.

الرابع: ما عدا ما تقدم من الأموال الضائعة عن أهلها من حيوان، وأثمان، ومتاع، فهذه يحل التقاطها، ويعرَّف عليها، ولها أحكام اللقطة الآتية، إن شاء الله تعالى.

***

ص: 134

811 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَال: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكلْتُهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في الحديث الدلالة على أنَّ قليل المال الساقط يملك بمجرد وجوده والتقاطه، ولا يجب تعريفه إن لم يُعْلم صاحبه، فإن عُلِم صاحبه وهو باقٍ رده إليه، وإن لم يكن باقيًا، فلا يلزم رد بدله.

2 -

وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مع جلالة قدره، وعلو مقامه، لا يترفع عن أن يجد قليلاً حقيرًا فيأخذه ويأكله؛ لأنَّه من نِعم الله تعالى.

3 -

الزكاة محرَّمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى آله من بني هاشم، كما جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد، إنما هي أوساخ الناس".

4 -

وفيه ورع النبي صلى الله عليه وسلم فالتمرة مباحة له صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها من حيث الملك لقطة يسيرة، ومن حيث الصدقة لم تتحقق، ولكن ورعه كفَّه عمَّا فيه شبهة، وإن قلَّت.

قال بعضهم: الورع مجتمع في قوله صلى الله عليه وسلم: "منْ حُسْنِ إِسلام المرء تركه ما لا يعْنِيهِ"

فالحديث يعم الكلام، والنظر، والاجتماع، والبطش، والمشي، وسائر الحركات الباطنة والظاهرة، فهذه الحكمة النبوية الشافية في الورع كافية.

قال الإِمام الخطابي: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه.

(1) البخاري (2431)، مسلم (1071).

ص: 135

وحديث: "دع ما يريبُك إلى مَا لَا يَرِيبُك" معناه أنَّك إذا شككت في شيء فدعه.

وقال شيخ الإِسلام: الورع ترك ما يُخاف ضرره في الآخرة.

5 -

وفيه أنَّ الورع لا يكون إلَاّ مع خوفٍ ووجود شبهة، أما الورع من دون ذلك فلا يسمى ورعًا، وإنما هو وسواس.

قال في الإحياء: ورع الصالحين هو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين.

***

ص: 136

812 -

وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكاءَهَا، ثُمَّ عرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَاّ فَشَأنُكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أوْ لأَخِيكَ أَوْ للذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبل؟ قَالَ: مَالَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤهَا وَحِذَاؤهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- اعْرِف: بكسر الهمزة من المعرفة.

- عِفَاصَهَا: بكسر العين، ففاء، ثم ألف، فصاد مهملة، هو وعاؤها، وفي رواية خِرْقتهَا، وَقال بعضهم: العِفَاص من جلد، يلبس رأس القارورة، وأما الذي يدخل في فيها، فهو الصمام.

- وَوِكاءَهَا: بكسر الواو، ممدودًا، أصله من أوكيت إذا شددت، وفي الحديث:"لا توكي، فيوكي الله عليك" فهو ما يربطه به.

قال ابن منظور: الذي يستخلص من كلام اللغويين أنَّ العفاص والوِكاء يشتركان فيما يطلقان عليه، فمرة على ما يربط أو يشد به الوعاء، ومرَّة على الوعاء نفسه.

-عرِّفْهَا: بالتشديد، أمرٌ من التعريف، وهو أن ينادي عليها في الموضع الذي وجدها فيه، وفي الأسواق، والشوارع، وأبواب المساجد، ويقول: من ضاع

(1) البخاري (91)، مسلم (1722).

ص: 137

له شيء، فليطلبه عندي.

- فإن جاء صاحبُها: الجزاء محذوف وتقديره، فوصفها، فأعطِها إيَّاه.

- فشأنك: يجوز فيها الرفع على الابتداء، والنصب على أنَّها مفعول لفعل محذوف.

- سِقَاؤها: بكسر السين، وفتح القاف ممدوداً، جوفها الذي بمثابة السقاء الذي يحمل الماء.

- حِذَاؤهَا: بكسر الحاء المهملة، فذال معجمة، خُفَّها الذي بمنزلة الحذاء.

- تَرِدُ المَاء: هذه الجملة يجوز أن تكون بيانًا لما قبلها، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن يكون محلها الرفع، على أنَّها خبر مبتدأ محذوف، أي هي ترد الماء.

- فضالَّة الإبل: مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: ما حكمها؟

- مالكَ وَلَها: أي مالك ولأخذها، والحال أنَّها مستقلة بأسباب تَمْنَعُها من الهلاك.

- معها سقاؤها: على تقدير الحال، والمعنى مالك ولأخذها، والحال أنَّها مستقلة بأسباب تعيشها.

- هي لك أو لأخيك أو للذئب: "أو" هنا للتقسيم والتنويع، والمعنى: هي لك إن أخذتَها وعرَّفتها، ولم تجد صاحبها، وهي لأخِيكَ إن جاء صَاحِبُهَا، فَهِي له، وهي للذئب إن تركتهَا ولم يأخذها أحدٌ غيرك فهي طعْمَة للذئب.

- ربها: أي مالكها ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلَاّ مضافًا مقيَّدًا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم للسائل أنَّ اللقطة نوعان:

أحدهما: يجوز التقاطها لحفظها لصاحبها، أو دخولها في ملكه، إن لم يوجد صاحبها، وهي غالب الأموال من المتاع، والنقدين، والحيوان الذي

ص: 138

لا يمتنع من صغار السباع.

الثاني: هي ضالة الإبل، ويقاس عليها البقر لقوتها، والغزلان لعدْوها، والطير لطيرانها، فهذه الأشياء الممتنعة عن السباع تُتْرك، ولا تلتقط حتى يجدها ربُّها، فليس بحاجة إلى الحفظ.

2 -

استحباب أخذ اللقطة لحفطها لصاحبها، والبحث عنه لترد إليه، وهذا أرجح القولين لِمن أمِنَ على نفسه من الخيانة، وقوي على التعريف.

3 -

أن يعرف وَاجدُها وكَاءَها، ووِعَاءَها، وجنسها، وعددها؛ ليميِّزها من ماله، وليعرف صفاَتها؛ لاختبار مدعي ضياعها منه، فإنَّ ذلك من تمام حفظها وأدائها إلى ربِّها.

4 -

أن يعرِّفها سنة كاملة، ويكون تعريفها في مجامع الناس، كأبواب المساجد، والأسواق؛ والنوادي، والمدارس، ويكون قرب المكان الذي وجدها فيه؛ لأنَّه مكان بحث صاحبها عنها، أو يبلغ الجهات المسؤولة عنها، كدوائر الشرطة والإمارات، وفي زمننا وسائل الإعلام من الصحف والإذاعة والتلفاز إذا كانت لقطة هامة.

5 -

إذا مضى العام، ولم يعرف صاحبها ملكها واجدها ملكًا قهريًّا، فله إنفاقها مع عزْمه على تعويض صاحبها عنها إن وجده، فترد له بمثل المثلي، وقيمة المتقوم، وله بيعها، وله إبقاؤها، وهذا التخيير هو تخيير مصلحي، فينظر في ذلك إلى مصلحة اللقطة وصاحبها، وليس تخيير شهوة له، فإنَّ عمله فيها عمل يتْبع المصلحة حيث وجدت.

7 -

إن جاء صاحبها، ولو بعد مدة طويلة، فوصَفَها دفعت إليه بلا بينة ولا يمين، فوصْفها هو بينتها، لعموم قوله:"فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه".

فالبينة ما أبان الحق وأظهره، ووصْفُها كافٍ لأن يكون بيِّنة، ما لم يكن له منازع فيها.

ص: 139

قال في مغني ذوي الأفهام: وإن وصفها اثنان قسمت بينهما، وإن وصفها واحد، وأقام الآخر بينة، فهي لصاحب البينة.

وقال في المنتهى: إذا وصفها اثنان، أُقرع بينهما، فمن قرع حُكم له بيمينه.

8 -

أما ضالة الإبل ونحوها مما يمتنع بقوته، أو بعدوه، أو بطيرانه فلا يجوز التقاطها؛ لأنَّ لها بما ركَّب الله في خلْقها ما يحفظها ويمنعها، فإن أخذها ضمنها بتلفها، فرَّط أو لم يفرِّط؛ لأنَّ يده يد متعدية كيد الغاصب، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكَ وَلَها، معها سِقَاؤها وحِذَاؤُها، تَرِدُ المَاء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربُّهَا".

9 -

أمَّا ضالَّة الغنم فيفعل فيها ما هو الأصلح، من أكلها مقدِّرًا قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو إبقائها مدة التعريف محفوظة، فإن جاء صاحبها رجع بها إن كانت موجودة، أو بثمنها إن كانت مباعة، وإن لم يأت فهي لمن وجدها، يملكها ملكًا قهريَّا كالإرث.

وأفتى الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ بأنَّ الضوال واللقطة إذا باعها أمراء البلدان للمصلحة، وحفظوا ثمنها، وجاء صاحبها فليس له إلَاّ ذلك الثمن؛ لأنَّ الإِمام أو نائبه قائمان مقام الغائب في ماله.

10 -

يستدل بقوله: "اعرف عِفَاصها ووكَاءها" على وجوب المحافظة على اللقطة، والعناية بها كسائر الأمانات، فإذا كان الأمر بالمعرفة للحفظ جاء في العفاص والوكاء، ففي اللقطة نفسها أهم وأولى.

11 -

بناء على أنَّ اللقطة مدَّة التعريف أمانة عند الملتقط، ولا تكون ملكًا للملتقط إلَاّ بعد حول التعريف، فإنَّها لو تلفت بلا تفريط، ولا تعدٍّ في مدة التعريف، فلا ضمان على الملتقِط، أما بعد حول التعريف، فيجب عليه ضمانها، تلفت بتفريط، أو تعدٍّ أو دونهما، لدخولها في ملكه، فتلَفُهَا من

ص: 140

ماله، أما ملكه فهو مراعى يزول بمجيء صاحبها.

12 -

قوله: "عرِّفْهَا سنة" ظاهره أنَّه لا يجب التعريف بعد السنة، وهو إجماع.

13 -

قال الفقهاء: يكون التعريف فور وجودها أسبوعًا كل يوم؛ لأنَّ طلبها والبحث عنها فيه أكثر، ثم بعد الأسبوع عادة النَّاس في ذلك، فيقول المُنادي: من ضَاع منه شيء أو نفقة ونحو ذلك.

واتَّفقوا على أنَّه لا يصفها؛ لأنَّه لا يؤْمَن أن يدَّعيها بعضُ من يسمع صفاتها فتضيع على مالكها.

14 -

قال الوزير: الجمهور على أنَّ ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة.

15 -

قال الموفق: إذا التقطها عازمًا على تملكها بغير تعريف، فقد فعل محرَّمًا، ولا يحل له أخذها بهذه النية، فإن أخذها لزمه ضمانها، ولا يملكها، وإن عرفها؛ لأنَّه أخذ مال غيره على وجه ليس له أخذه، فهو كالغاصب.

***

ص: 141

813 -

وعَن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- آوى ضالَّة: أوى يأوي مأوى، كرمى يرمي، قال تعالى:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10].

وأما آوى بالمدَّ، فمعناه ضم غيره إليه، قال تعالى:{آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] أي ضمه إلى نفسه، يقال: آواه وأواه.

- ضالَّة: قال الأزهري وغيره: لا يقع اسم الضالة إلَاّ على الحيوان، فهي الضوال، وأما الأمتعة فيقال لها: لقطة، ولا يقال: ضالة.

- فهو ضال: المراد بالضال هنا أنَّه غير رشيد، بل بعيد عن الصواب.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على أنَّه لا يجوز التقاط ضوال الإبل، فإنَّ معها سِقاءها وحِذاءها، ترِدُ الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها صاحبها.

2 -

أنَّ من التقطها فتلفت معه فهو غارم لها، سواء تلفت بتعدٍّ، أو تفريط، أو بدون ذلك؛ لأنَّ يده يد غصب.

3 -

وصف الملتقط بالحديث بأنَّه "ضال"؛ لأنَّه عمل عملًا بغير بصيرة، فإنَّ ترك الضوال في مكانها أقرب لأن يجدها مالكها؛ لأنَّه سيبحث عنها في المواطن التي ضلت عنه فيها، فهو حري بأن يجدها، وأما الملتقط فقد أخفاها،

(1) مسلم (1725).

ص: 142

وأضلها عن صاحبها.

4 -

وهو ضال من حيث إنَّه فعل معصية باعتدائه على مال غيره بطريق الظلم والاعتداء، والضلال هو فعل على غير هدى.

5 -

إنَّ من اعتدى على حق غيره فهو ضال، فلا يحل مال امريءٍ إلَاّ بطيب نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:"إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".

6 -

قوله: "ما لم يعرفها" التعريف هنا مطلق لم يقيد بسنة، كالحديث الذي قبله، ولا يصلح حمل المطلق هنا على المقيَّد، لاختلاف الحكم، فإنَّ اللقطة في الحديث الأول مباحة الالتقاط، وفي الثاني: محرَّمة الالتقاط، فحينئذ يجب على ملتقط الضوال التعريف أبدًا حتى يجد صاحبها؛ لأنَّ الضوال لا يملكها الملتقط بعد حول التعريف، فطلب صاحبها على الدوام واجب، ولأنَّ ملتقطها معتد بالتقاطها، فكفارة اعتدائه استمرار تعريفه.

***

ص: 143

814 -

وَعنْ عِيَاضِ بن حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ وَجَدَ لقَطَةً فَلْيشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، فَإنْ جَاءَ رَبُّهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بهَا، وَإِلَاّ فَهُوَ مَالُ اللهِ، يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ إِلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

رواه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، قال في التلخيص: وله طرق.

قال ابن عبد الهادي؛ رجاله رجال الصحيح.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جواز أخذ اللقطة بالشرطين السابقين: الأمانة في حفظها، والقوة على تعريفها.

2 -

مشروعية الإشهاد عليها عند وجودها، فبعض العلماء قال: يجب ذلك، ومنهم الحنفية، وبعضهم قال: يستحب. وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة.

3 -

حِكمة الإشهاد هو الحفاظ عليها؛ لئلا تضيع في ماله، فيجحدها وارثه، أو ينساها، وينسى أوصافها، فلا يؤديها كما التقطها.

(1) أحمد (4/ 261)، أبو داود (1709)، النسائي في الكبرى (3/ 418)، ابن ماجه (2505)، ابن الجارود (671)، ابن حبان (1169).

ص: 144

4 -

وليعرف عِفاصها، وهو وعاؤها، أو خِرقتها.

5 -

ويعرف وكاءها، وهو صفة شدِّها، وما ربطت به، فإنَّ معرفة ذلك من طالبها هو البينة على صحة دعواه، أنَّها لقطته وضالته.

6 -

ولا يحل لواجدها أن يكتم شيئًا منها، أو من صفاتها، ليضل صاحبها، إذا وصفها، كما لا يحل أن يغيِّب منها شيئًا، فإن فعل فهو ظالم في أمانته.

7 -

كون كتمان الملتقط بعض صفاتها محرَّمًا، دليل على أنَّ جحده وكتمانه لها معتبر، وأنَّ القول قوله في هلاكها، وفي قدرها وفي نقصها؛ لأنَّه أمين، والأمين مقبول القول، فيما اؤتمن عليه مع يمينه.

8 -

وجوب ردها على صاحبها إذا جاء، سواءٌ قبْل تمام الحول من التقاطها، أو بعده، فالحديث عام في ذلك، ولما جاء في الترمذي وأبي داود بلفظ:"عرِّفها سنة، فإن عرفت فأدِّها، وإلَاّ فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها ثم كُلْها، فإن جاء صاحبها فأدها" فهذا يقتضي بقاء حق مالكها فيها بعد الحول إذا وُجِدَ.

9 -

فإن تَمَّ الحول من التقاطها، والتعريف عليها، ولم يجد صاحبها، فهي رزق من الله تعالى ساقه إلى الملتقط، فإنَّه يملكها ملكًا قهريًّا من حين تمَّ الحول على التقاطها.

10 -

الأمر بالإشهاد عليها، وحفظ عفاصها ووكائها، وتحريم كتمانها وتغييبها، كل هذا دليل على وجوب العناية بحفظها وصيانتها حتى يعثر على صاحبها، فإنَّ هذه الوصايا إنما جاءت من أجل حفظها لصاحبها، فالشرع الحكيم بجانب الضعيف المحق، أما صاحب الحق الخاص به فعنده من الحرص عليه ما يكفيه عن التوصية والتأكيد.

11 -

إذا جاء طالبها، فوصفها، لزم دفعها إليه بلا بينةٍ، ولا يمينٍ، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقام وصفها مقام البينة واليمين، ولما روى مسلم من حديث زيد

ص: 145

ابن خالد الجهني أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها فأعطها إيَّاها".

واتَّفق الأئمة الأربعة على أنَّها لا تدفع إليه إلَاّ إذا وصف العفاص والوكاء؛ لأنَّها أمانة في يد الملتقط، فلا يجوز له دفعها إلَاّ إلى من يُثْبِت أنَّه صاحبها.

***

ص: 146

815 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ" رواهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ينص الحديث على أنَّ لقطة الحاج لا يحل التقاطها، وقد حُكي الإجماع على ذلك؛ لظاهر حديث الباب.

2 -

لقطة الحاج لا تخص الحرم وحده، بل تشمل الحرم، وأمكنة الحجاج من الحل كعرفات، والمواقيت، وطرق الحج.

3 -

لعل الحكمة في ذلك خدمة الآمّين إلى البيت الحرام، وأن في الإمكان عثور صاحب اللقطة عليها، لتحدد مكانها، كما يمكن حفظها عند المسؤولين عن أمن الحجاج، حتى يراجعهم صاحبها.

4 -

ويمكن تمييز لقطة الحاج عن لقطة غيره بقرائن الأحوال، كوجودها زمن اجتماعهم، أو وجودها في مكان ازدحامهم، كأن تكون عند الجمار، أو في المطاف والمسعى، وأماكن ازدحام الحجيج في تلك الأزمنة التي لا يكون فيها غالبًا إلَاّ الحجاج، والأحكام الشرعية إذا لم يوجد اليقين بنيت على غالب الظن.

* خلاف العلماء:

أما لقطة مكة وحرمها التي في غير مكان وجود الحجاج.

فقد اختلف العلماء في جواز التقاطها لغير منشد عليها أبد الدهر.

فذهب جمهور العلماء إلى إباحة التقاطها كسائر البقاع، ومن هؤلاء

(1) مسلم (1724).

ص: 147

الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور من مذهبه.

وقد روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب.

مستدلين على ذلك بعموم أحاديث إباحة الالتقاط.

وذهب الإِمام الشافعي إلى أنَّه لا يجوز أخذها للتعريف، ثم بعده للتملك، وإنَّما يجوز عند أخذها لحفظها أبدًا.

وهذا القول روايةٌ عن الإِمام أحمد اختاره من الحنابلة الحارثي، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وصاحب الفائق وغيرهم.

مستدلين على ذلك بما جاء في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ولَا تَحل ساقطتها إلَاّ لمنشد" قال أبو عبيد في كتابه الأموال: المنشد هو المعرف.

واعتبروا هذا من خصائص مكة لشرفها، وحرمها، وهذا القول راجح.

وقد تمَّ والحمد لله بيان حدود الحرم من الحل في هذه السنة (1421 هـ) والاستعدادات من قبل الحكومة السعودية -وفقها الله تعالى- مستمرة لإحاطة ما بين الحل والحرم بأعلام بارزة من جميع جهاته؛ ليميز الحرم بأحكامه من الحل بأحكامه، وقد منَّ الله تعالى عليَّ بأن كنت أحد المشاركين في التحديد، وسأشارك -إن شاء الله تعالى- في الإشراف على وضع الأعلام من قبل المهندسين والفنيين، والله الموفق.

***

ص: 148

816 -

وَعَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعديكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، ولَا الحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَاّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صالح غريب.

الحديث رواه أبو داود، وسكت عنه، وأما المنذري فقال: ذكره الدارقطني مختصرًا، وأشار إلى غرابته.

* مفردات الحديث:

- ذو ناب: الناب هو السن الذي بجانب الرباعية، وهو للسَّبُع بمنزلة المخلب للطير الجوارح، جمعه أنياب ونيوب.

- السِّباع: بكسر السين. السبع: كل ما له ناب، ويعدو على الناس والدواب، فيفترسها كالأسد والنمر.

- الحِمار الأهلي: بكسر الحاء، نُسِب إلى الأهل؛ لكونه مستأنسًا مع الناس، وأليفًا لهم.

- معاهد: المعاهد هو من أقرَّرناهُ من الكفار على دينه، بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة.

- أن يسْتَغْنِيَ: مثل أن تكون حقيرة مرغوبًا عنها.

(1) أبو داود (3804).

ص: 149

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على أنَّ اللقطة من مال المعاهد، كاللقطة من مال المسلم في الحكم، فحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم، فلا يحل لمسلم أن يجترىء عليه، فيستحل ماله متوسلاً إلى ذلك بكفره، فإنَّ له عهدًا وذمة، ولا يجوز خفر الذمة والعهد.

2 -

مثل هذه الأحكام الرشيدة تُظْهر ما في الإِسلام من عدالةٍ ومواساة، فإنَّ لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ما داموا ملتزمين.

3 -

لقطة المعاهد ليس فيها أمارة تدل عليها، ولكن وجودها في حيّ أهله أو غالبهم، أهل ذمة، قرينةٌ قويةٌ على أنَّ هذه اللقطة من أموالهم، فيجب أن تعرَّف، كما تعرف لقطة المسلم، فإذا وجد صاحبها سلمت له، كما تسلم لقطة المسلم.

4 -

قوله: "إلَاّ أن يستغني عنها" دليلٌ على أنَّ اللقطة التي لا تتبعها همة أوساط الناس، مثل السوط، والرغيف، والتمرة، والنقد القليل، وكذا ما تركه صاحبه رغبةً عنه لا يجب تعريفه كله، وإنما تملك بمجرد الالتقاط.

5 -

تقدم أنَّ اللقطة اليسيرة التي لا تتبعها همة أوساط الناس، إذا وجد صاحبها -وهي موجودة- سُلِّمتْ له، وإن لم يعرف إلَاّ بعد إنفاقها، فإنَّها لا تضمن له.

6 -

أما تحريم أكل ذي الناب من السباع، والحمار الأهلي، فسيأتي الكلام عليه في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى.

***

ص: 150