المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب إحياء الموات - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب إحياء الموات

‌باب إحياء المَوَات

مقدمة

الموات: بفتح الميم والواو المخففة، فهي على وزن سَحَاب، وهو ما لا روح فيه، وأرض لا مالك لها، شبهت عمارتها بالحياة، وتعطيلها بالموت، لعدم الانتفاع بالأرض الميتة بزرع وغيره، وإحياؤها عمارتها.

واصطلاحًا: هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فالاختصاصات كالطرق، والأفنية، والساحات، ومسايل المياه، وكل ما يتعلق بمصلحة المملوك.

والإنسان المعصوم هو المسلم، أو الكافر المالك للأرض بسببٍ شرعي، من شراء أو غيره.

فالأرض المختصة، أو المملوكة لا تملك بالإحياء.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قد حد الفقهاء ضابطًا لما يملك بالإحياء، فقالوا: الذي يُحْيَا هيَ الأرض الخالية من الاختصاصات، ومن ملك المعصومين.

فدخل في هذا كله أرض لا مالك لها، وليس لها اختصاص بالأملاك، ولا للناس فيها اشتراك، وخرج من هذا ما لا يُملك، فالأرض المملوكة، أو التي جرى عليها ملكٌ لمعصومٍ معلومٍ لا تُملك بالإحياء، حتى ولو كانت دراسة عائدة مواتًا، وكذلك ما تعلق بمصالح الأملاك، كالمتعلق بمصالح الدور والبلدان، مما يحتاجون إليه في مسيل مياههم، ودفن أمواتهم، ومحتطباتهم ونحو ذلك، وكذلك ما الناس فيه شركاء، كالمعادن الجارية أو الظاهرة،

ص: 70

فوجود الإحياء في هذه الأشياء بخلاف الأول، فإنَّ من أحياه ملَكه.

قال في الإقناع: ولا يملك بإحياء ما قَرُب من عامر، وتعلَّق بمصالحه، كطرقه، وفِنائه، ومجتمع ناديه، ومسيل مائه، ومطرح قيامته، وملقى ترابه، ومرعاه، ومحتطبه، ومرتاض الخيل، ومدافن الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعدة للمسافرين حول المياه والبقاع المرصدة لصلاة العيد ونحو ذلك، فكلُّ مملوكٍ لا يجوز إحياء ما تعلَّق بمصالحه.

والأصل في إحياء الموات السنة، والإجماع.

فالسنة: ما في الباب من أحاديث وغيرها.

وأما الإجماع: فقد حكى الوزير ابن هبيرة الاتفاق على جواز إحياء الأرض الميتة العادية، كما قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنَّ ما عرف بملك مالك أنَّه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه.

قال في شرح الإقناع: وإحياء الأرض الموات هو أن يحوزها بحائطٍ منيعٍ، وبناء ما جرت عادة أهل البلد البناء به من لِبنٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ، ونحوه، سواءٌ أرادها لبناءٍ، أو لزرعٍ، أو أرادها حظيرة غنم، أو حظيرة خشبٍ، ونحوهما، ولا يعتبر التسقيف، ولا نصب الباب

إلخ.

وعن أحمد: إحياء الأرض ما عدَّه الناس إحياء؛ لقوله: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"[رواه أبو داود (3074)].

واختاره ابن عقيل والموفق وغيرهما؛ لأنَّ الشرع ورد بتعليق الملك عليه، ولم يبيِّنه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياءً في العرف، والله أعلم.

***

ص: 71

788 -

عَنْ عُروَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، قَالَ عُروَةُ رضي الله عنه: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- مَنْ عمر أرضًا: بتشديد الميم وتخفيفها، والمراد بتعميرها: إحياؤها بما جرت به العادة، من أنواع إحياء الأراضي الميتة "البور".

- فهو أحق بها: أي فهو صاحب الحق فيها، والملك عليها.

***

ص: 72

789 -

وعَنْ سَعِيدِ بْن زَيْدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ" رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: رُوِيَ مُرْسَلاً، وَهُوَ كَمَا قَالَ، واخْتُلِفَ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقِيلَ: جَابِرٌ، وَقِيلَ: عَائِشَةُ، وَقِيلَ: عبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَالرَّاجِحُ الأوَّلُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحْيَا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حَقٌّ" قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب، وفي الباب عن عائشة، وسمرة بن جندب، وعبادة بن الصامت، قال الحافظ في الفتح: وفي أسانيدها مقال، لكن يتقوَّى بعضها ببعض.

وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير.

* مفردات الحديث:

- من: شرطية و"أحيا" فعل الشرط، وجوابه "فهي له"، وإحياء الأرض الموات يكون بزرعها، أو غرسها، أو بنائها، ونحو ذلك، شبَّه تعطيلها بالإماتة.

- ميِّتَة: أصله "ميوتة" اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فهي "ميِّتة" بتشديد الياء، ولا تخفف؛ لأنَّه لو خففت لحذف تاء التأنيث.

- والأرض الميِّتة: هي الأرض التي لم تُعمَر، وإحياؤها عمارتها، شبهت

(1) أبو داود (3074)، الترمذي (1378)، ولم يروه النسائي.

ص: 73

العمارة بالإحياء.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديثان يدلان على جواز إحياء الأرض الموات، وأنَّ الإحياء من أسباب الملك الشرعي.

2 -

أنَّ من أتمَّ إحياء الأرض الإحياء الشرعي ملكها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فهي له".

3 -

يدل عموم الحديث على أنَّ المُحيِي يملك ما أحياه، سواءٌ كان المُحْيِي مكلفًا، أو غير مكلفٍ، مسلمًا كان أو كافرًا، إذا كان ذميًّا.

4 -

يدل على أنَّ الإحياء يحصل ولو بغير إذن الإمام، قال في كشاف القناع: ولا يُشترط إذن الإمام، وهو مذهب جمهور العلماء.

5 -

لابد أن تكون الأرض المحياة مواتًا، بأن لم يجر عليها ملك معصوم، ومنفكة عن الاختصاصات، أما المملوكة فلا يصح إحياؤها، وكذلك الأرض المختصة لصاحبها بتحجيرها، وشروعه في إحيائها، فإنَّها لا تملك، وكذلك مصالح ومرافق المكان العامر، الذي يتعلق بمصالحه ومرافقه، فلا يجوز إحياؤها، وكذا ما تعلق بمصالح البلدان من طرقٍ، وشوارعَ، وميادين، وحدائق، ومقابر، ومغالي، ومسايل مياه، وغير ذلك فلا يصح إحياؤه.

قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: ولا شكَّ أنَّ منع ولي الأمر إحياء بعض الأراضي معناه اختصاصه بها، لما يعود على المسلمين بالمصلحة العامة، وعليه فالإحياء على هذه الصورة غير صحيح.

6 -

لم يقيَّد الإحياء بمساحة معيَّنة، فما أحياه إحياء شرعيًّا ملكه، ولو كثر.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم: إنَّ مساحة الإحياء لا تحديد فيها، بخلاف الإقطاع فيقدر بحسب حاجة المقطع، وسيأتي إن شاء الله.

7 -

ضابط الإحياء ما قاله الإمام أحمد: إحياء الأرض ما عُدَّ إحياء عرفًا، لقوله

ص: 74

-صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له".

وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: الإحياء كالحرز، يرجع فيه إلى العرف، وأما أنواعه فكثيرة، منها:

- من أحاط أرضًا مواتًا بحائطٍ منيع، بأنَّ أداره حوله بما جرت به العادة، من لَبِنٍ، أو طوبٍ، أو حجرٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ، ونحوه فقد أحياه وملكه، وقدر ارتفاع الجدار الذي يحصل به الإحياء بارتفاع متر ونصف متر، وما دونه يكون متحجرًا لا محييًا.

قال في الشرح الكبير: تحجر الموات مثل أن يدير حول الأرض ترابًا، أو أحجارًا، أو يحيطها بجدارٍ صغيرٍ، فلا يملكها بذلك، لكن يصير أحق الناس به.

- إذا حفر بئرًا فوصل ماؤها فقد أحياها، وله حماها، ومرافقها المعتادة، إذا كان ما حولها مواتًا، فإن كانت في حيٍّ عامر فيتصرف كل واحد منهم في المرافق بما جرت به العادة.

- من أجرى الماء إلى الأرض الموات من نحو عينٍ، أو موارد فقد أحيا تلك الأرض.

- من حبس الماء عن أرض موات قد غمرتها المياه، إذا كانت لا تزرع معه، فحبسه ليزرعها فقد أحياها.

- إذا عمد إلى أرضٍ موات ذات حجارةٍ، أو أشجارٍ، فأزال حجارتها، وقطع أشجارها، وسوَّاها وعدَّلها؛ ليعلوها السيل؛ لتكون بعلاً فقد أحياه.

والخلاصة أنَّ ما عده الناس إحياءً اعتبر إحياءً، وهو يختلف باختلاف المقاصد من الانتفاع، وباختلاف أعراف البلدان.

8 -

قال الشيخ محمد بن إبراهيم: وأما الأرض البيضاء التي لا يوجد فيها أثر إحياءٍ أصلًا، فإنَّها لا تملك بمجرد دعوى عليها، ولو كان بيد مدَّعيها

ص: 75

صكوك استحكام، بل هي باقية مواتًا على الأصل.

9 -

وإذا أحيا الأرض بنوعٍ من الإحياءات الشرعية، استحق مرافقها، ومنافعها، من الطرق، والميادين، والساحات، والمسابل، ونحو ذلك.

10 -

وإذا كانت الأرض المحياة لزراعةٍ، أو سكنٍ، محفوفةً بملك الغير من كل جانب، فلا حريم لها، ولا مرافق خاصة، وإنما ينتفع ويستفيد كل واحد من المجاورين في ملكه، بحسب ما جرت به العادة.

11 -

قال في الإقناع: ولا يُملك بإحياء ما قَرُب من عامر، وتعلق بمصالحه، كطرقه، وفنائه، ومجتمع ناديه، ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه، ومرعاه، ومحتطبه، وحريم البئر، ومرتكض الخيل ومدفن الموتى، والمنازل المعدة للمسافرين، والبقاع المرصودة لصلاة العيد، ونحو ذلك، فكلُّ مملوك لايجوز إحياء ما تعلَّق بمصالحه.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: الأرض التي ينحدر سيلها إلى أرضٍ مملوكة، يكون مسيل سيلها تبعًا لها على وجه الاختصاص، فلا يسوغ إحياؤها، ولا إقطاعها لغير أهل الأرض المملوكة إلَاّ بإذنهم.

12 -

أما التحجر فلا يفيد الملك، وإنما يفيد صاحبه الاختصاص به، فلا يصح لأحد إحياؤها، ومن أنواع التحجر ما يأتي:

- أن يحيط الأرض بجدار ليس بمنيع أو يبني الجدار ببعض الجوانب دون بعض.

- أن يحيط الأرض بشبكٍ، أو خندقٍ، أو حاجزٍ ترابي، ونحو ذلك.

- أن يحفر بئرًا، فلا يصل إلى الماء.

13 -

فكل هذه وأمثالها تحجرات، لا تفيد التملك، وإنما تفيد من تحجرها الاختصاص بها، والأحقية من غيره، فلا يتعدى عليها غيره ممن يريد الإحياء وهي تحت يده، وإذا وُجِد متشوف لإحيائها ضرب ولي الأمر له

ص: 76

مدة لإحيائها، فإن أحياها وإلَاّ نُزِعَت من يده لمن يريد إحياءها.

14 -

أفتى زعيم الدعوة السلفية بعد أبيه الشيخ عبد الله بن محمد، ومفتي البلاد السعودية عن المسايل بما يأتي: المسايل قسمان:

أحدهما: فيه عمل لأرباب الأملاك، وهو ما يحفرونه لتجري معه السيول، فهذا القسم يملك بالإحياء، فحفره وتوجيه السيل معه تغييرٌ فيه، وإحياءٌ له.

الثاني: ليس لأرباب الأملاك فيه عمل بالحفر ونحوه، وإنما وجده صاحب الملك ينحدر سيله من الجبل بطبعه إلى جهة ملكه، فهذا إذا استغنت الأرض المملوكة عن مسيل سيلها، ولم يبق لها حاجة إلى مائة، كأن جعلت هذه الأرض المملوكة بيوتًا، ونحو ذلك، فالذي يظهر أنَّ حق اختصاص أصحابها بهذا السيل يزول، ويكون حكمه حكم الأرض الموات، ما لم يكن لهم فيه سبب اختصاص آخر، من تحجرٍ، أو حفر بئرٍ، لم يصل إلى الماء. وتأيدت هذه الفتوى من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي البلاد السعودية السابق.

***

ص: 77

790 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثَّامَةَ اللّيْثِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا حِمَى إِلَاّ للهِ وَلرَسُولِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا حِمَى: الحِمَى بكسر الحاء، وفتح الميم، بلا تنوين مقصورٌ، تقول: حميته حماية: أي دافعت عنه ومنعته، فهو محمي: أي محظور، فيكون اسمًا غير مصدر، وإنما هو على وزن "فعل" بكسر الفاء بمعنى مفعول.

هذا تعريفه اللغوي.

أما معناه الاصطلاحي: فهو ما يحميه الإمام من الموات لمواشٍ بعينها، ويمنع عنه سائر الناس من الرعي فيه.

- إلَاّ لله ولرسوله: أي لا حمى لأحد يخص نفسه فيه، فيرعى فيه ماشيته دون سائر الناس، إنَّما هو لله ولرسوله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحمى هو خلاف المباح، ومعناه أن يمنع الإمام الرعيَ في أرضٍ مخصوصة، لتخص برعيها إبل الصدقة، وإبل بيت مال المسلمين.

2 -

الحديث يدل على أنَّ ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فهو يبقى ولا يغير، ولا يجوز إبطاله، ولا نقضه، ولا تغييره، لا مع الحاجة إليه، ولا مع عدمها؛ لأنه حمى بنص، والاجتهاد لا يبطل النص، ولا ينقضه.

3 -

أما مَن بعده من الخلفاء والأئِمة والملوك، فلهم أن يحموا الأرض

(1) البخاري (2370).

ص: 78

الموات؛ لرعي دواب المسلمين، ما لم يضيق على المسلمين، لما روى أبو عبيد أنَّ عمر رضي الله عنه قال:"لولا ما أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت من الأرض شبرًا في شبر" وقد اشتهر حمى عثمان رضي الله عنه ولم يُنْكر، فكان كالإجماع.

4 -

كان رؤساء القبائل في الجاهلية، يحمون المكان الخصيب لخيلهم، وإبلهم، وسائر مواشيهم، وكانوا يختصون به عن أفراد قبائلهم، فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا حمى إلَاّ لله ولرسوله"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" وما كان حماه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أو حماه لإمام المسلمين، فهو للصالح العام، لا يختص به الإمام لمصالحه الخاصة.

5 -

ليس لغير إمام المسلمين أن يحمي شيئًا، فإنَّ إمام المسلمين قائم مقامهم فيما هو من مصالحهم، دون غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الناس شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار".

6 -

قال الشيخ محمد بن إبراهيم: الحكم الشرعي يقضي بأنَّ جميع الأحمية باطلة، إلَاّ حمى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"لا حمى إلَاّ حمى الله ورسوله"[رواه البخاري]، ولا نزاع بين أهل العلم في ذلك.

7 -

هذه نبذة عن حمى "النقيع" الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم، نلخصها من قرار من هيئة التمييز، ومن بحث للأستاذ "علي بن ثابت العمري" أحد أبناء ضواحي المدينة المنورة.

النَّقِيع: بالنون المفتوحة، والقاف المكسورة، والياء التحتية الساكنة، والعين المهملة، اسم جنس لكل موضع يستنقع به الماء، فسمي به هذا "الحمى" لذلك.

يحده من الغرب: جبل قدس "أوقيس"، وعرض هذا الحد (15) كيلو.

ص: 79

من الشرق: حَرة بني عمرو من قبائل حرب، وكانت في السابق لقبيلة سليم، وعرض هذا الحد (12) كيلو.

من الشمال: مضيق النقيع، وعرض هذا الحد (6) كيلو.

من الجنوب: جبلان أسودان، يقال لأحدهما: عبود، والثاني: برام، وعرض هذا الحد (8) كيلو.

ويبعد حمى النقيع عن المدينة غربًا بمسافة (75) كيلو، وهو تابعٌ لمقاطعة تسمى وادي الفرع.

النصوص فيه:

- ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "حمى لخيل المسلمين".

- جاء في صحيح البخاري قال ابن شهاب الزهري: "بلغنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حمى النقيع".

- وروى الزبير بن بكار عن المرواع المزني: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نزل بالنقيع وقال: نِعْمَ مرتع الأفراس، يحمى لهن ويجاهد بهن في سبيل الله، حماه النبي صلى الله عليه وسلم واستعملني عليه".

- وجاء في تاريخ المدينة لابن شبَّة بسنده إلى ابن عمر: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل ترعى فيه" والآثار فيه كثيرة.

8 -

قال في الشرح الكبير: وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه، ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه؛ لأنَّ ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم نص، لا يجوز نقضه بالاجتهاد.

وقال في شرح الإقناع: وكان للنبي صلى الله عليه وسلم فقط دون غيره أن يحمي لنفسه؛ لقوله: "لا حمى إلَاّ لله ولرسوله"[رواه أبو داود]، وروى أبو عبيد:"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين".

قال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

ص: 80

أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك بأنَّه إذا حكم الله ورسوله بشيءٍ، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيارٌ، ولا رأىٌ، ولا قولٌ.

9 -

صار مرافعة شرعية بخصوص "وادي النقيع" عند قاضي وادي الفرع الشيخ "محمد بن أحمد الراضي"، ودرس الموضوع من جميع جوانبه، ورجع إلى المصادر، واستعان بأهل الخبرة من أهل المنطقة، ثم حكم ببقاء حمى النبي صلى الله عليه وسلم للمصلحة العامة، التي كانت تجري زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتأيد حكمه من محكمه التمييز للمنطقة الغربية، والصك الذي أصدره الشيخ الراضي برقم (7) وتاريخ 29/ 1/ 1406 هـ، وصلَّى الله على نبينا محمَّد.

***

ص: 81

791 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه (1).

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَهُوَ فِي المُوَطَّأ مُرْسَلٌ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

حديث ابن عباس رواه أحمد، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، والطبراني، والدارقطني، ومداره على عكرمة عن ابن عباس.

ورواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسلاً، وأخرجه أحمد، وابن ماجة والبيهقي من حديث: عبادة بن الصامت، وفيه انقطاع.

وله شواهدُ عن أبي هريرة، وجابر، وعائشة، وثعلبة القرظي، وأبي لبابة.

فالحديث متعدد الطرق، ولم يطعن بشيء منها إلَاّ من حيث الوصل أو الإرسال، فهو قوي بمجموع هذه الطرق.

وقد حسَّن الحديث الإمام النووي في الأربعين، وكذلك السيوطي.

وقال الهيثمي: رجاله ثقات.

وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي بمجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به.

(1) أحمد (1/ 313)، ابن ماجه (2341).

(2)

مالك (2/ 745).

ص: 82

* مفردات الحديث:

- لا ضرر: ضره يضره ضرًّا ضد نفعه، أو جلب إليه الضرر، والضَّر -بالفتح- مصدرٌ، وبالضم اسمٌ للفعل، ومعناه: لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئًا من حقه.

- ولا ضرار: فعال من الضر، أي لا يجازيه على ضرره أكثر مما ضرَّه، فالأول ابتداء، والثاني جزاءٌ عليه متجاوزًا حقه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث أحد القواعد الكبرى، التي يندرج تحتها الكثير من الصور والمسائل.

2 -

معنى "لا ضرر": أي منع إلحاق أيّ مفسدة بالغير مطلقًا، سواء كان ضررًا خاصًّا، أو ضررًا عامًّا، ودفع الضرر قبل وقوعه بطريقة الوقاية الممكنة، كما يشمل رفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدبير.

3 -

وبهذا فإنَّ إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه القاعدة، وإن ترتَّب عليها ضرر بهم؛ لأنَّ فيها عدلاً، ودفعًا ووقايةً، من ضرر أعمَّ وأعظم.

4 -

معنى "ولا ضرار" هو نفس الضرر بقصد الثأر الذي يزيد في الضرر، ويوسع دائرته، فالإضرار -ولو كان على سبيل المقابلة- لا يجوز أن يكون مقصودًا، وإنما يُلجأ إليه عند الضرورة، فإنَّ المشروع هو دفع الضرر بدون ضرر أصلًا، فإن لم يمكن فيدفع بالقدر الممكن منه.

فمن أتلف مال غيره -مثلًا- لا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله؛ لأنَّ في ذلك توسعة للضرر بلا منفعةٍ، وأفضل منه تضمين المتلِف قيمة ما أتلف، وذلك

ص: 83

بخلاف الجناية على النفس أو الطرف، ممَّا شُرع فيه القصاص؛ لأنَّ الجنايات لا يقمعها إلَاّ عقوبةٌ من جنسها.

5 -

فالحديث يفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل، والإمكانيات الممكنة، وفقًا للسياسة الشرعية، ويكون دفعه بدون ضرر أصلًا، وإلَاّ فيدفع بالقدر الممكن.

6 -

الشرع إنَّما جاء ليحافظ على الضروريات الخمس، فيحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، وأعراضهم، فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة، يجب إزالتها ما أمكن، وفي سبيل تأييد مقاصده، يدفع الضرر الأعم، بارتكاب الضرر الأخص، ولهذه الحكمة شُرعَ القصاص وقتل المرتد، صيانةً للأنفس والأديان، وشُرعَ حد الزنا والقذف، صيانةً للأعراض، وشُرع حد شرب الخمر، حفظًا للعقول، وشُرع القطع في السرقة، حمايةً للأموال.

***

ص: 84

792 -

وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال في التلخيص: حديث سمرة رواه أحمد، وأبو داود عنه، والطبراني، والبيهقي من حديث الحسن عنه، وفي صحة سماعه منه خلافٌ.

ورواه عبد بن حميد من طريق سليمان اليشكري عن جابر، وسكت عنه الحافظ في التلخيص، وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أحد أنواع الإحياء، وهو إحاطة الأرض الموات بحائط يمنع الحيوانات من القفز من أعلاه، فمن أحاط أرضًا بجدار منيع فقد أحيا تلك الأرض.

2 -

وإذا أحيا الأرض فقد ملكها ملكًا شرعيًّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فهى له".

3 -

قال الفقهاء: من أحاط مواتًا بأن أدار حوله حائطًا منيعًا بما جرت به عادة أهل البلد بالبناء، من لبنٍ، أو طوبٍ، أو حجرٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ ونحوه، فقد أحياه سواء أرادها للبناء أو غيره.

والمقدار المعتبر ما يسمى حائطًا في اللغة.

قال الطيبي في شرح المشكاة: قوله: "أحاط" يدل على أنَّه بنى حائطًا

(1) أبو داود (3077)، ابن الجارود (1015).

ص: 85

مانعًا محيطًا بما يتوسطه من الأشياء.

والعمل في المحاكم في المملكة أنَّه إذا كان ارتفاع الجدار مترًا ونصف المتر فهو إحياءٌ؛ لأنَّه منيع، وما كان دون ذلك فهو تحجرٌ، وليس إحياءً.

4 -

وإحاطة الأرض الموات بالجدار المنيع يعتبر إحياءً، ولو لم يُرِدها للبناء، فمجرَّد الإحاطة كافٍ في الإحياء، والملك.

***

ص: 86

793 -

وَعَنْ عَبدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَفَرَ بئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، عَطَنًا لِمَاشِيتَهِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

قال في التلخيص: رواه ابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف، وقد أخرجه الطبراني من طريق أشعت عن الحسن، وقد ضعفه ابن الجوزي، وابن عبد الهادي.

وقواه الزيلعي، وقال البوصيري في الزوائد: مدار هذا الحديث على إسماعيل بن مسلم الحكمي، وقد اختلفوا في توثيقه. اهـ.

وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد (2/ 494).

* مفردات الحديث:

- ذراعًا: بكسر الذال، وذراع الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى، وأشهر أنواعه الذراع الهاشمية وهي (32) إصبعًا أو (64) سنتيمترًا.

- عطنًا: يُقال: عطنت النَّاقة عطونًا: روت ثمَّ بركت، فهي عاطنة، فالعطن بفتحتين: جمع معاطن، وهو مبارك الإبل، ومربض الغنم حول الماء؛ لتشرب عَلَلاً بعد نَهَلٍ.

- ماشيته: هي الإبل والبقر، والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم جمعها مواش.

(1) ابن ماجه (2486).

ص: 87

* ما يؤخذ من الحديث:

يتعلق بحفر الآبار ثلاثة أحكام:

أحدها: متى تُحْيا، وتكون ملكًا بالحفر؟

الثاني: تقسيمها حسب إرادة من حفرها.

الثالث: حريم الآبار يختلف باختلاف المراد منها.

الحكم الأول: إذا حفر إنسان بئرًا، فوصل في حفره إلى الماء فقد أحياها، فإن حفرها، ولم يصل إلى الماء فليس حفره إحياءً، وإنما يعتبر تحجرًا، فهو أحق بها من غيره، فإن وُجد متشوف لإحيائها والانتفاع بها، ضَرَبَ ولي الأمر مدَّة للتحجر، فإِن أتمَّ إحياءها في تلك المدة المضروبة، وإلَاّ نزعها منه وأعطاها المتشوفَ لإحيائها.

الحكم الثاني: إذا حفرها ووصل إلى الماء لا يخلو قصده من ثلاثة أمور:

- إما أن يريد تملكها لزراعةٍ، أو سقايةٍ خاصَّةٍ به، فهذه محياة مملوكة.

- وإما أن يكون حفرها لنفع المجتازين، فهذه يشترك الناس في مائها، لا فضل لأحد على أحد، والحافر لها كأحدهم في السقي والشرب؛ لأنَّ الحافر لم يخص بها نفسه ولا غيره.

- وإما أن يحفرها لا ليملكها، بل ليرتفق بمائها، ما دام مقيمًا عليها، فإذا رحل عنها انتفع بها غيره، فهذه لا يملكها، وإنما هو أحق بمائها ما دام باقيًا عندها، فإذا رحل صارت سابلة لعموم الناس، فإذا عاد عاد إليه حقه بالاختصاص بالارتفاق بمائها.

وهذه طريقة البادية الرحّل الذين يقيمون إقامة مؤقتة، ويظعنون تجاه المراعي، وحسب فصول السنة.

الحكم الثالث: ما قدر حريمها؟

ص: 88

إذا حفر الإنسان بئرًا فوصل إلى مائها، فلا يخلو من ثلاثة أمور:

الأول: أن تكون البئر محاطة من جميع جوانبها بأملاك الغير، فهذه ليس لها حريمٌ، ولا مرافقُ، وإنما كل واحدٍ ينتفع بما جرت به العادة.

الثاني: أن يريدها الحافر لسقي الماشية ونحو ذلك، فهذه إن كانت البئر قديمة ثم جذد حفرها، فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب من جوانبها، وإن كانت بدية محدثة، فحريمها خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، وذلك بذراع اليد، وجعلت القديمة أكثر حرمًا؛ لأنَّ ماءها غالبًا أغزر، وحاجتها إلى الساحة أكثر، وذلك لما روى أبو عبيد في الأموال، عن سعيد بن المسيب، قال:"السُّنَّة في حريم القليب العادي خمسون ذراعًا"، وبعض العلماء جعل حريم البئر أربعين ذراعًا، كما في حديث الباب، وهذا الحريم هو معاطن للإبل، ومجرٌّ للبئر، ومرافقُ لها.

وقال القاضي وغيره: ليس هذا على طريق التحديد، بل حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها، وهذا قول جيد.

الثالث: وإن كانت البئر تراد للزراعة، فقد جاء في سنن الدارقطني من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"وَعين الزرع ستمائة ذراع" وهذا قول أكثر العلماء.

وقيل: قدر الحاجة، اختاره القاضي والموفق وغيرها.

قال مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "الحافر لغير الشرب كمريد إحياء الأرض للفلاحة، فله ما حواليه مقدار الزرع؛ لأنَّه جاء ليزرع، فما كان حواليه فلا يعترضه أحد؛ لأنَّه سبق إليها، فيترك له ما جرت العادة به أن يزرع، وفَرْقٌ بين من حفر على الارتوازي، والذي على الحيوان". اهـ.

قُلتُ: وكلام المفتي -رحمه الله تعالى- هو عين الصواب، والله أعلم.

ص: 89

794 -

وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صححه الترمذي، وابن حبَّان.

قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، ورواه البيهقي، والطبراني، وابن حبان، وصححه.

* مفردات الحديث:

- أقطعه: أي ملكه أرضًا يستبد بها، وينفرد بها، والإقطاع يكون تمليكًا، وغير تمليك، وإنما هي للارتفاق والمنفعة.

وإقطاع الإمام هو لمن يراه أهلاً لذلك، وأكثر ما يستعمل في إقطاع الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم.

- بحضْرموْت: والتركيب مزجي، منطقة بجنوب الجزيرة العربية مشهورة، عاصمتها مدينة المكلا.

(1) أبو داود (3058)، الترمذي (1381).

ص: 90

795 -

وَعَنِ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ، فَقَال: أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السَّوطُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيه ضعْفٌ. (1)

ــ

* درجة الحديث:

أصل الحديث في الصحيح.

قال في التلخيص: رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، وفيه العمري ضعيف، وله أصل في الصحيح من حديث أسماء بنت أبي بكر.

* مفردات الحديث:

- أقطع الزبير: الإقطاع تعيين قطعة من الأرض لغيره، يقال: أقطع الإمام إقطاعًا: جعلها للمقطع، وهو مأخوذٌ من القطع، كأنه يقطع له قطعة من الأرض، وإقطاع الإمام نوعان: إقطاع إرفاق، وإقطاع تمليك، كما سيأتي إن شاء الله.

- حُضر فرسه: بضم الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، الحُضر: عدْوٌ، ووثبٌ والمراد قدر عدو فرسه، ولكنه أقام المصدر مقام الاسم، ومعناه موضع حُضر فرسه.

- حُضْر: منصوب على حذف المضاف، أي: قدر ما يعدو عدوة واحدة.

- السَّوط: بفتح السين، ما يضرب به من جلد، سواء أكان موضونًا، أم لم يكن، جمعه أسواط وسياط.

(1) أبو داود (3072).

ص: 91

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

إقطاع الإمام هو تسويغه من مال الله شيئًا لمن يراه أهلاً لذلك.

2 -

ففي الحديثين جواز إقطاع الإمام أرضًا مواتًا لمن يحييها.

3 -

ويكون الإقطاع هو تسويغ من مال الله تعالى العائدة مصالحه إلى المسلمين، والإمام هو نائب المسلمين أنيط الإقطاع به، فلا يكون من غيره أو نائبه ولأنَّ الإقطاع راجع إلى رأي الإمام في المصلحة العامة.

4 -

ففي الحديثين إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم وائلَ بن حُجر أرضًا بحضرموت، ومناسبة إقطاعه هناك أنَّها بلاده، وهو قادر على إحيائها، والانتفاع بها، وإقطاع الزبير بن العوام قدر عدو فرسه.

5 -

وفيهما جواز إقطاع المساحة الكبيرة للشخص الواحد، إذا رأى الإمام في ذلك مصلحةً، بأن يكون عنده القدرة على إصلاحها، واستثمارها.

6 -

وفيهما أنَّه لا يذم الإنسان، -وإن كان فاضلاً- على الرغبة في الحصول على الدنيا من طرقها المشروعة، ومن تلك الطرف عطايا الإمام.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الزبير على حُضْر فرسه حتى وقف، ثم زاد على حُضْر الفرس أن رمى سوطه فأعطاه ما رغب فيه، وهو منتهى ما وصل إليه سوطه.

* فوائد:

الأولى: قسَّم الفقهاء الإقطاع إلى ثلاثة أقسام:

1 -

إقطاع قصد به تمليك المقطع لما أُقطع.

2 -

إقطاع استغلال: بأن يقطع الإمام أو نائبه من يرى في إقطاعه مصلحةً، لينتفع بالشيء الذي أقطعه، فإذا فقدت المصلحة فللإمام استرجاعه.

3 -

إقطاع إرفاق: بأن يقطع الإمام أو نائبه الباعة الجلوس في الطرف الواسعة، والميادين، والرحاب، ونحو ذلك.

فأما إقطاع التمليك: فالمذهب أنَّ المقطع لا يملك الموات بالإقطاع،

ص: 92

وإنما يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء، فإن أحياه ملكه، وحينئذٍ لا يجوز استرجاعه منه بعد إحيائه؛ لأنَّه ملكه بالإحياء، فإن لم يُحْيه وَوُجد متشوف لإحيائه، ضرب الإمام أو نائبه للمقطع مدةً حسب ما يراه، إن أَحياه فيها، وإلَاّ استرجعه.

قال في الإنصاف: يثبت الملك بنفس الإقطاع، فيبيع، ويورَث عنه.

وهو الصحيح، وبهذا القول أفتت الهيئة القضائية بالديار السعودية.

قال في الإقناع وشرحه: وإن أحياه غير المتحجر في مدة المهلة أو قبله لم يملكه، لأنَّ حق المتحجر أسبق فكان أولى، ولمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحيا أرضًا ميتة غير حق مسلم فهي له".

ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلَاّ ما قدَّر المقطع على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حقٍّ مشتركٍ بينهم، وقد استرجع عمر في خلافته من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العَقِيق الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يقطع كل فردٍ إلَاّ الشيء الذي يقدر على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حقٍّ مشتركٍ بينهم.

قال في شرح الإقناع وغيره: ولا يجوز للإمام إقطاع ما لا يجوز إحياؤه ممَّا قَرُب من العامر، وتعلَّق بمصالحه؛ لأنَّه في حكم المملوك لأهل العامر.

وقالت الهيئة القضائية في الديار السعودية: إقطاع الأرض الموات لا يسري على أملاك الآخرين، ومرافق البلد، ومصالحها، وما تحتاج إليه.

الثانية: قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا من علماء المسلمين من الأئمة الأربعة ولا غيرهم قال: إجارة الإقطاعات لا تجوز، حتى حدَث بعض أهل زماننا، فابتدع القول بعدم الجواز.

ص: 93

796 -

وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه قَالَ: غَزوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الكَلأِ، وَالمَاءِ، وَالنَّارِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

أخرجه أبو داود بسند صحيح.

والحديث بلفظ "الناس" شاذٌّ، تفرَّد به يزيد بن هارون عند أبي عبيد، فخالفه كلٌّ من علي بن الجعد، وعيسى بن يونس عند أبي داود، وثور الشامي عند أحمد والبيهقي، وكلهم عن حريز بن عثمان حدثنا أبو خداش، عن رجل من الصحابة، وفيه "المسلمون" بدل "الناس".

وللحديث شواهدُ منها:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار" أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ صحيح، قاله الحافظ وصاحب الزوائد.

* مفردات الحديث:

- في ثلاث: لما كانت الأسماء الثلاثة في معنى الجمع أنَّثها بهذا الاعتبار.

- الكلأ: بفتح الكاف واللام، مهموز في آخره، مقصور، هو العشب رطبًا كان أو يابسًا، جمعه أكلاء، قال الصاغاني: وأما الحشيش فمختصٌّ باليابس.

- الماء: أصله ماه بالهاء، فأبدلت همزة؛ لأنَّها أقوى على الحركة، ويدل على

(1) أحمد (5/ 364)، أبو داود (3477).

ص: 94

هذا الأصل ظهورها في الجمع فتقول: مياه وأمواه، وفي التصغير: مويه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على عدم اختصاص أحد من الناس بواحد من الأشياء الثلاثة، وإنما تبقى مشاعة عامة بين الناس؛ لأنَّ هذه الأشياء الثلاثة من الأمور الضرورية، المبذولة لعامة المنتفعين، فلا يجوز لأحد أن يختص بها، ويمنع منها أحدًا محتاجًا إليها.

2 -

وهذا من أحكام الإسلام العادلة، وإباحته الشاملة، وإفضاله على أهله، فأمورهم الضرورية، وحاجتهم المشاعة هي شركة للجميع، من حازها ملكها وانتفع بها، وهذا مبدأ اقتصادي هام، وهذه الثلاث هي:

أولًا: الكلأ الذي هو الحشيش، سواءٌ كان رطبًا أو يابسًا، فهو نبت الفيافي والقفار، وهو علف المواشي من الإبل والبقر والغنم، وغيرها من الحيوانات، قال تعالى:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54،53].

وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلَاّ لله ولرسوله".

وقال الفقهاء: ولايصح بيع ما نبت بأرضه من كلأٍ وشوكٍ لقوله صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاث"

ثانيًا: الماء، فلا يجوز بيعه ما لم يَحُزه في بِركته، أو قِربته، أو إنائه ونحوه، وأما الذي لم يحز من ماء السماء، أو ماء العيون، أو نقع الآبار، فلا يملك، ولا يصح بيعه، قال تعالى:{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر]

وقال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقعة].

ص: 95

وجاء في صحيح مسلم عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع فضل الماء".

ثالثًا: النار، فهي من الأشياء المشاعة العامة، ولا يجوز بيعها، وإنما يجب بذلها لمحتاجها، سواءٌ في ذلك وقودها كالحطب، أو جذوتها كالقبس، أو الاستدفاء، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} [الواقعة].

3 -

فهذه الأشياء الثلاثة من المرافق العامة التي يجب بذلها لمحتاجها، ويحرم منع أحد عنها؛ لأنَّها أمور أشاعها الله تعالى بين خلقه، والضرورة تدعو إليها، فمنعها أو منع أحد محتاج إليها منها، لا يجوز، وهو من الدناءة التي يكرهها الإسلام السمح.

***

ص: 96