المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الطلاق مقدمة الطلاق: لغة: مصدر طلَقَ، بفتح اللام وضمّها، وهو الإرسال - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٥

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الطلاق مقدمة الطلاق: لغة: مصدر طلَقَ، بفتح اللام وضمّها، وهو الإرسال

‌باب الطلاق

مقدمة

الطلاق: لغة: مصدر طلَقَ، بفتح اللام وضمّها، وهو الإرسال والترك.

وشرعًا: حَلَّ قيد النكاح أو بعضه.

والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس:

فإن النكاح إذا تم بالعقد لمصالحه، فإنه ينفسخ بالطلاق للمقصد الصحيح أيضًا، ونصوصه من الكتاب والسنة معروفة.

حكمته: قال الأستاذ عفيف طبارة: بواعث الطلاق الواردة في القرآن هي رغبة أحد الزوجين في الانفصال، وعدم المعاشرة، وليس كل خلاف ينبعث عنه الطلاق، وإنما الذي يعيّنه هو: دوام الشقاق الذي يستحيل معه العشرة الزوجية، وفي حالة الشقاق نفسه لا يجوز فصم عرى الزوجية مباشرة، فلابد من الإصلاح بين الزوجين، وإجراء التحكيم قبل الطلاق، بإرسال حكمٍ من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة؛ ليتروَّى كل من الزوجين، ويجدا الفرصة للصلح ورجوعهما عن رأيهما، فعلى الحَكمين أن لا يدّخرا جهدهما ووسعهما في الإصلاح بين الزوجين.

فإذا نفدت وسائل الإصلاح والجمع، وتحقق لدى الحكمين أن التفريق أجدى لهما، فالفرقة في هذه الحالة أفضل؛ قال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].

ص: 476

ثم إن الطلاق يأتي على ثلاث مراحل:

الأولى: طلاق رجعي، يكون فيه تجربة للزوجين بالفرقة بينهما فترة معينة، يتروَّيان فيها، فإن يكن بينهما علاقة مودةٍ ومحبةٍ، أمكن الرجعة والاجتماع.

الثانية: طلاق ثان، رجعي أيضًا؛ لتكون التجربة الثانية، فإن كان هناك رغبة في بناء العشرة الزوجية بينهما، فالفرصة باقية.

الثالثة: طلاق غير رجعي إلَاّ بعد نكاح زوج آخر، وذلك أنهما تفرَّقا مرتين، فلم يتفق لهما الانسجام، ومعناه أن الفرقة قائمة، وأن هُوَّة الشقاق بينهما واسعة؛ وحينئذٍ يكون الطلاق رحمة وراحة من عيشة الشقاق والخلاف.

والطلاق تأتي عليه الأحكام الخمسة:

أولاً: مكروه في حالة استقامة الزوجين، وعند أبي حنيفة حرام في هذه الحالة.

ثانيًا: مباح عند الحاجة إليه كسوء خلُق المرأة، والتضرر ببقائها عنده.

ثالثًا: مستحب إذا كافت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحال التي تحوج المخالعة، وعند الشيخ تقي الدين: أنه واجب.

رابعًا: واجب للإيلاء إذا أبى الزوج الفيئة، ويجب أيضًا على الصحيح إذا تركت واجبًا شرعيًّا، أو تركت العفة على الصحيح؛ واختاره الشيخ تقي الدين.

خامسًا: حرام إذا كان الطلاق بدعيًّا، كأن يطلق في حيضٍ، أو نفاسٍ، أو طُهْرٍ جامع فيه، أو طلاقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن رجعة ولا نكاح.

***

ص: 477

928 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الصَّواب إرساله.

أخرجه أَبُو دَاود، وابن ماجه، والحاكم، عن محمد بن خالد، عن معرف بن واصل، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به.

وأخرجه البيهقي (7/ 322) من طريق أبي داود، وأخرجه ابن عدي (6/ 461) من هذا الوجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي.

وقد تعقَّب المناويُّ السُّيوطيَّ حين رمز له بالصحة في الجامع الصغير، فقال المناوي: هذا غير صواب.

قال الألباني: وجملة القول: أن الحديث رواه عن معرف بن واصل أربعة من الثقات، وهم:

1 -

محمد بن خالد الوهبي.

2 -

أحمد بن يونس.

3 -

وكيع بن الجراح.

4 -

يحيى بن بكير؛ وقد اختلفوا عليه.

ولا يشك عالمٌ بالحديثِ أن رواية هؤلاء أرجح؛ لأنَّهم أكثر عددًا، وأتقن حفظًا، وأنهم جميعًا ممن احتج بهم الشيخان في صحيحهما؛ فلا جرم أن رجح

(1) أبو داود (2177)، ابن ماجه (2018)، الحاكم (2/ 196).

ص: 478

الإرسال ابن أبي حاتم، عن أبيه، وكذلك رجَّحه الدارقطني، والبيهقي، وقال الخطابي وتبعه المنذري: المشهور فيه المرسل.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغرض من النكاح البقاء والدوام، وبناء بيت الزوجية، وتكوين الأسرة التي نواتها الزوجان.

2 -

الطلاق هدم لهذا البيت، ونقض لدعائمه، وإزالة لمعالمه.

3 -

الطلاق إبطال لمصالح النكاح المتعددة؛ من تكوين الأسرة، وحصول الأولاد، وتكثير سواد المسلمين.

4 -

الطلاق تفرُّقٌ بعد وفاق سعيد، وهمٌّ بعد فرحة، ويأسٌ بعد أملٍ كبير.

5 -

الطلاق يسبِّب العداوة والبغضاء بين الزوجين، وبين الأسرتين، بعد التقارب والتآلف والتعارف.

6 -

الطلاق يشتت الأولاد الموجودين، ويُفْقِدهم إما قيام الأب، وتربيته، وتعليمه، وتوجيهه، وإما يفقدهم حنان الأم، ورعايتها، وعطفها.

7 -

الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لما يجرّه من الويلات، ولما يعقبه من النكبات، ولما يسببه من المصاعب والمفاسد.

8 -

الطلاق لا يكون محمودًا، ولا تبرز حكمة شرع الله فيه، إلَاّ حينما تسوء العشرة الزوجية، وتفقد المحبة والمودة، ويكثر الشقاق والخلاف، ويصعب التفاهم والتلاؤم، ولا يمكن الاجتماع؛ فحينئذٍ يكون الطلاق رحمةً، ويكون التفرق نعمة؛ قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (229)} [البقرة: 229]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].

9 -

وبهذا يعرف جلال هذا الدين، وسمو تشريعاته، وأنها الموافقة للعقل الصحيح، ومتمشية مع المصالح العامة والخاصة.

ص: 479

10 -

قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق مكروه في حال استقامة الزوجين، إلَاّ أبا حنيفة، فهو عنده حرام مع الاستقامة.

11 -

الطلاق تجري فيه الأحكام الخمسة:

(أ) يباح عند الحاجة إليه؛ كسوء خلُق المرأة.

(ب) يستحب إذا كانت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحالة التي تحوجها إلى المخالعة.

(ج) يجب إذا أبى المُولِي الفيئة، وكذلك الصواب: أنه يجب عند ترك أحد الزوجين العفة، أو الصلاة، وغيرها من حقوق الله تعالى.

(د) يحرم للبدعة، وهي إذا أوقع الطلاق وكانت حائضًا، أو نفساء، أو في طُهْرٍ جامع فيه، أو بالثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن نكاح ولا رجعة.

(هـ) يكره لعدم الحاجة إليه.

* فوائد:

الأولى: أجمع الأئمة الأربعة على أن السكران الآثم بسكره يقع طلاقه، ويؤاخذ بسائر أقواله وأفعاله.

والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنه لا يقع طلاقه؛ اختاره ابن عَقيل، والموفَّق، والشارح، والشيخ تقي الدين، وابن القيم، وقال به جماعة من التابعين.

قال الزركشي: إن أدلة هذه الرواية أظهر.

ورجَّح هذه الرواية الشيخان: محمد بن إبراهيم، وعبد الرحمن السعدي.

الثانية: قال ابن القيم: الغضب ثلاثة أقسام:

1 -

يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، ولكن لا يتغير عقله؛ فهذا لا إشكال في

ص: 480

وقوع طلاقه.

2 -

يبلغ به الغضب نهايته، فلا يعي ما يقول؛ فلا خلاف في عدم وقوعه.

3 -

يستحكم به الغضب ويشتد، فلا يزيل عقله، فهو يعي ما يقول، ولكنه يحول بينه وبين نيته؛ ففيه خلافٌ، ولكن الأدلة تدل على عدم وقوع طلاقه وعقوده.

الثالثة: قال ابن عبد البر، وابن المنذر، وابن رشد: أجمع العلماء على أن المطلِّق للسنة في المدخول بها، هو الذي يطلق امرأته في طُهْر لم يمسها فيه، طلقةً واحدةً، وأن المطلق في الحيض، أو الطهر الذي جامع فيه غير مطلِّقٍ للسنة، فصارت السنة من جهتَيْن: من جهة العدد، وهو أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، والجهة الثانية: أن يطلقها في طُهْر لم يصبها فيه.

الرابعة: فيه أن بعض المكروهات إلى الله تعالى تكون مشروعة، فمن ذلك: الطلاق، ومنها: الصلوات المفروضة في البيوت، وبُغض الطلاق جاء من أمورٍ كثيرة، تقدم بعضها، ومنها أن من أحب الأشياء إلى الشيطان التفريق بين الزوجين؛ فينبغي أن يكون أبغض الأشياء عند الله تعالى.

***

ص: 481

929 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذلِكَ؟ فَقَالَ:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، تُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، تُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلاً".

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلبُخَارِيِّ: "وَحسِبَتْ تَطْلِيقَةً".

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَني أَنْ أُرَاجِعَهَا، ثُمَّ أُمْهِلَهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَاتِكَ".

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: "فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ"(1).

ــ

* مفردات الحديث:

- طَلَّق امرأته: اسمها آمنة بنت غفار، وقيل: اسمها النوار، ولعلَّ الأول اسم،

(1) البخاري (5251، 5253)، مسلم (1471).

ص: 482

والثاني لقب.

- حُسِبَت عليه: مبنيٌّ للمجهول، والحاسب عليه هو النبي صلى الله عليه وسلم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

طلَّق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فتغيظ عليه الصلاة والسلام غضبًا، حيث طلَّقها طلاقًا محرمًا، لم يوافق السنة، ثم أمره بمراجعتها، وإمساكها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم تحيض أخرى، ثم تطهر منها، وبعد ذلك إن بدا له طلاقها، ولم ير في نفسه رغبة في بقائها، فليطلقها قبل أن يطأها؛ فتلك العدة التي أمر الله بالطلاق فيها لمن يشاء، ومع أن الطلاق في الحيض محرم، ليس على السنة، فقد حُسِبَت عليه تلك الطلقة من طلاقها؛ فامتثل رضي الله عنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فراجعها.

2 -

تحريم الطلاق في الحيض، وأنه من الطلاق البدعي، الذي ليس على أمر الشارع، ولأنَّه جاء في بعض روايات هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم تغيظ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يتغيظ إلَاّ في حرام.

3 -

أمره صلى الله عليه وسلم ابن عمر برجعتها دليلٌ على وقوعه، ووجهته: أن الرجعة لا تكون إلَاّ بعد طلاق، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله، والأمر برجعتها يقتضي الوجوب؛ وإليه ذهب أبو حنيفة، وأحمد، والأوزاعي.

حَمَله بعضهم على الاستحباب، وذهب إليه الشافعي، ورواية عن أحمد، واحتجوا بأن ابتداء النكاح ليس بواجب، فاستدامته كذلك.

4 -

الأمر بإرجاعها إذا طلَّقها في الحيض، وإمساكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر.

5 -

قوله: "قبل أن يَمَسَّ" دليلٌ على أنه لا يجوز الطلاق في طُهْر جامع فيه.

6 -

الحكمة في إمساكها حتى تطهر من الحيضة الثانية، هو أن الزوج ربَّما واقعها

ص: 483

في ذلك الطهر، فيحصل دوام العشرة، ولذا جاء في بعض طرق الحديث:"فإذا تطهرت، مسَّها".

وقال ابن عبد البر: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلَاّ بالوطء؛ لأنَّه المقصود في النكاح.

وأمَّا الحكمة في المنع من طلاق الحائض، فخشية طول العدة، وأمَّا الحكمة في المنع من الطلاق في الطهر المجامَع فيه، فخشية أن تكون حاملاً، فيندم الزوجان أو أحدهما، ولو علما بالحمل، لأحسنا العشرة، وحصل الاجتماع بعد الفرقة والنفرة، وكل هذا راجعٌ إلى قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ولله في شرعه حكمٌ، وأسرارٌ، ظاهرةٌ وخفيةٌ.

* خلاف العلماء في وقوع طلاق الحائض:

ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة رضي الله عنهم إلى وقوع الطلاق في الحيض، ودليلهم على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر بإرجاع زوجته، حين طلَّقها حائضًا، ولا تكون الرجعة إلَاّ بعد طلاقٍ سابقٍ لها، ولأنَّ في بعض ألفاظ الحديث:"فحُسِبَت من طلاقها".

وذهب بعض العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم- إلى أن الطلاق لا يقع، فهو لاغٍ.

واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والنسائي: "أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردَّها عليَّ، ولم يرها شيئًا".

وقد استنكر العلماء هذا الحديث؛ لمخالفته الأحاديث كلها.

وأجاب ابن القيم عن أدلة الجمهور: بأن الأمر برجعتها معناه إمساكها على حالها الأولى؛ لأنَّ الطلاق الذي لم يقع في وقته المأذون فيه شرعًا ملغيٌّ، فيكون النكاح بحاله.

وأمَّا الاستدلال بلفظ: "فحُسِبَت من طلاقها" فليس فيه دليل؛ لأنَّه غير

ص: 484

مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وأطال ابن القيم النقاش في هذا الموضوع في كتابه "تهذيب السنن"، ولكن الأرجع ما ذهب إليه جمهور العلماء، والله أعلم.

فقد قال الشيخ ناصر الدين الألباني: وجملة القول: أن الحديث مع صحته، وكثرة طرقه، فقد اضطرب الرواة عنه في طلقته الأولى في الحيض هل اعتد بها، أم لا؟ فانقسما إلى قسمين:

الأول: من روى عنه الاعتداد بها.

القسم الآخر: الذين رووا عنه عدم الاعتداد بها، والأول أرجح لوجهين:

الأول: كثرة الطرق.

الثاني: قوة دلالة القسم الأول على المراد، دلالةً صريحةً، لا تَقْبل التأويل، بخلاف القسم الآخر، فهو ممكن التأويل، بمثل قول الإمام الشافعي:"ولم يرها شيئًا" أي: صوابًا، وليس نصًّا في أنه لم يرها طلاقًا، بخلاف القسم الأول، فهو نصٌّ في أنه رآها طلاقًا، فوجب تقديمه على القسم الآخر.

وقد اعترف ابن القيم رحمه الله بهذا، ولكنه شك في صحة المرفوع من هذا القسم، فقال: وأمَّا قوله في حديث ابن وهب: "وهي واحدة"، فلعمر الله! لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قدمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة.

فتشككه رحمه الله في صحتها خطأٌ، فابن وهب لم ينفرد بإخراج الحديث، بل تابعه الطيالسي فقال: حدَّثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فأتى عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك، فجعله واحدة".

وتابعه أيضًا يزيد بن أبي ذئب به، ورجاله ثقات، وتابع ابنَ أبي ذئب: ابنُ جريج، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هي واحدة"،

ص: 485

قلت: ورجاله ثقات.

وكل هذه الروايات لم يقف عليها ابن القيم، وظني أنه لو وقف عليها، لتبدد الشك الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دل عليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض.

والرواية التي جاءت عن الشعبي: "إذا طلَّق الرجل امرأته وهي حائض، لم تعتدَّ بها في قول ابن عمر".

قال ابن عبد البر: ليس معناه ما ذهب، وإنما معناه: لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة. اهـ.

وقال الشيخ عبد الله بن محمد: أمَّا مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور والمفتى به عند علماء الأمصار من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، وغيرهم: أن الطلاق في الحيض طلاق بدعة، ومعصية لله ورسوله، ولكنه لازم، ويحسب من الطلاقات الثلاث.

وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائله كثيرة، وقد ذُكِرَت في البخاري ومسلم وغيرهما.

***

ص: 486

930 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أَنَاة: قال في المصباح: الآناء هي الأوقات، وفي واحدها لغتان:

إحداهما: "إِنْي" بكسر الهمزة، والقصر؛ على وزن حِمْل.

والثاني: "أَنَاة" على وزن حَصَاة، والأناة هي المهلة.

- أمضيناه: يقال: أمضى الأمر إمضاءً: أنفذه، أي: لو أجرينا وأنفذنا عليهم ما استعجلوه من الثلاث، لكان ذلك مانعًا لهم عن تتابع الطلقات.

(1) مسلم (1472).

ص: 487

931 -

وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: "أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَارَسُولَ اللهِ! أَلَا أَقْتُلُهُ؟ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوثَّقُونَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال ابن كثير: إسناده جيد.

قال المؤلف: رواه النسائي ورواته موثقون، وَقال في فتح الباري: رجاله ثقات.

وقال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه النسائي، وقال: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة.

أمَّا ابن القيم فقال في زاد المعاد: إسناده على شرط مسلم، ومخرمة ثقة بلا شك، قد احتج به مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه، والذين أعلوه قالوا: لم يسمع منه.

قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير؟ فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب مخرمة.

والجواب: أن كتاب أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطًا، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدَّث به، أو رواه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف.

(1) النسائي (3401).

ص: 488

* مفردات الحديث:

- يُلعب: مبنيٌّ للمجهول، يُقال: لعب يلعب لعبًا: ضد جدَّ، ومعناه: عبث بالأمر، أو هزىء بالدين، واستخفَّ به، ولعله المراد هنا.

- كتاب الله: المراد به هنا أحكامه المأخوذة منه.

- بين أظهركم: أي وسطكم، والأصل في هذا الأسلوب أنه على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، ثم أكثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا، والمعنى: أيُلعب بأحكام الله، وأنا مازلت معكم حيًّا؟!.

***

ص: 489

932 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ: "طَلَّقَ رُكَانَةُ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فإِنَّهَا وَاحِدَةٌ"، وَفِي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ:"أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ ألْبَتَّةَ، فَأَخْبرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذلِكَ، وَقَالَ: واللهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَاّ وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"(1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من صحَّحه وأخذ به، ومنهم من ضعَّفه وأخذ بما يعارضه، ونتج عن هذا الاختلاف اختلافهم في حكم المسألة التي في هذا الحديث:

قال المصححون: قال أبو داود: هذا الحديث أصحّ من حديث ابن جريج الذي فيه: "إن ركانة طلَّق امرأته ثلاثًا".

وقال ابن ماجه: سمعت الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث.

(1) أبو داود (2196، 2206)، أحمد (1/ 265).

ص: 490

وهذا بيان لشرف إسناده، وكثرة فائدته.

وقال المضعفون -ومنهم ابن القيم-: حديث "ألبتة" ضعَّفه أحمد.

وقال شيخنا -يعني ابن تيمية-: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، وابن عيينة، وغيرهم ضعَّفوا حديث ركانة "ألبتة"، وكذلك ابن حزم، وقالوا: إن رواته قومٌ مجاهيل، لا تُعرف عدالتهم، ولا ضبطهم، وقال أحمد: حديث رُكانة لا يثبت.

قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه، وسألت البخاري عنه، فقال: مضطرب.

وقال الألباني: وجملة القول: أنَّ حديث الباب ضعيف، وأن حديث ابن عباس المعارض له أقوى منه، والله أعلم.

* مفردات الحديث:

- أبو رُكانة: هكذا وقع في نسخ بلوغ المرام التي اطلعت عليها: "أبو رُكانة"، والمعروف في كتب التراجم والحديث وغيرها: أنه رُكَانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب القرشي المطلبي، ورجعت إلى كثير من المصادر فلم أجد إلَاّ رُكانة، منها الإصابة للمؤلف، ولا أظن إلَاّ أن زيادة "أبي" من النُّسَّاخ.

- سُهَيْمَة: بالسين المهملة المضمومة تصغير سهمة، هي سهيمة بنت عمير المزنيَّة، من بني مزينة، قبيلة مضرية، دخلت بالحلف الآن مع قبيلة حرب، وتسكن في غرب القصيم.

- ألبتة: بهمزة وصل، أو قطع، بعدها لام ساكنة، ثم ياء مفتوحة، ثم تاء مشددة، آخرها تاء التأنيث، والبت هو القطع، قال في المصباح: بت الرجل طلاق امرأته، فهي مبتوتة، والأصل: مبتوتٌ طلاقُها، إذا قطعها عن الرجعة.

ص: 491

* ما يؤخذ من هذه الأحاديث:

1 -

الحديث رقم (930) يفيد أن الطلقات الثلاثة بكلمة واحدة، لا تحسب إلَاّ طلقةً واحدةً، فإن لم تكن نهاية الثلاث، فله الرجعة.

وهذا الحديث هو عمدة القائلين بهذا القول.

2 -

أمَّا الحديث رقم (931) فيدل على أن الطلقات الثلاث التي لم يتخللهن رجعة، ولا نكاح: أنها طلاقٌ بدعةُ محرمةً.

3 -

ويدل على أن التلاعب بأحكام الله تعالى، وتعدي حدوده، من كبائر الذنوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغضب إلَاّ على معصية كبيرة.

4 -

التلاعب بكتاب الله، وسنة رسوله، حرام، ولو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإنما قال ذلك استغرابًا من سرعة تغير الأمور.

5 -

أمَّا الحديث رقم (932) فتدل روايتا أبي داود وأحمد على ما دل عليه الحديث رقم (930)، من اعتبار الطلاق الثلاث واحدةً، وأن للمطلق الرجعة، إن لم تكن نهاية عدده من الطلاق.

6 -

وأمَّا الرواية الثانية لأبي داود، فتدل على أن الطلاق "ألبتة"، يكون بحسب نية المطلق، فإن نوى به الثلاث، صار ثلاثًا، وإن نوى به واحدة، فهو واحدة رجعية.

7 -

قال الشيخ بخيت المطيعي: إن رُكانة طلَّق زوجته "ألبتة"، وهو من كنايات الطلاق، يقع به واحدة إن نوى واحدة، ويقع به ثلاثًا إن نواها.

8 -

رواية "طلَّقها ألبتة" في حديث ركانة من أدلة الجمهور على أنَّ الطلاق الثلاث كلمةً واحدةً: طلاقٌ بائنٌ بينونةٌ كبرى، وليس فيه رجعة إلَاّ بعد أن تنكح زوجًا آخر.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء فيمن أوقع الطلقات الثلاث دفعةً واحدةً، أو أوقعها

ص: 492

بكلماتٍ ثلاثٍ، لم يتخللها رجعةٌ ولا نكاحٌ، فهل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلَاّ بعد أن تنكح زوجًا غيره، وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة، له رجعتها ما دامت في العدة، وبعد العدة يعقد عليها، ولو لم تنكح زوجًا غيره؟:

اختلف العلماء في ذلك اختلافًا طويلاً عريضًا، وعُذِّب من أجل القول بالرجعة بها جماعة من الأئمة والعلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض أتباعه.

ولكننا نسوق هنا ملخصًا فيه الكفاية، إن شاء الله تعالى:

ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- وجمهور الصحابة والتابعين: إلى وقوع الطلاق الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، إذا قال:"أنت طالق ثلاثًا" ونحوه، أو بكلمات ولو لم يكن بينهن رجعة ولا نكاح.

ودليلهم: حديث ركانة بن عبد الله "أنه طلَّق امرأته ألبتة"؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فقال له: "والله ما أردت إلَاّ واحدة؟ ".

وهذا الحديث أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبَّان، والحاكم.

ووجه الدلالة من الحديث: استحلافه صلى الله عليه وسلم للمطلق أنه لم يرد بـ "ألبتة" إلَاّ واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده.

واستدلوا أيضًا بما في صحيح البخاري عن عائشة: "أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت، فطلقت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؛ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول"، ولو لم تقع الثلاث، لم يمنع رجوعها إلى الأول إلَاّ بعد ذوق الثاني عسيلتها.

واستدلوا أيضًا بعمل الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إيقاع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ ثلاثًا، كما نطق بها المطلَّق، وكفى بهم

ص: 493

قدوة وأسوة، ولهم أدلة غير ما سقنا، ولكن ما ذكرنا هو الصريح الواضح لهم.

وذهب جماعة من العلماء: إلى أن موقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللها رجعة ولا نكاح، لا يقع عليها إلَاّ طلقة واحدة، وهو مروي عن الصحابة، والتابعين، وأرباب المذاهب.

فمن الصحابة القائلين بهذا القول: أبو موسى الأشعري، وابن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.

ومن التابعين: طاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وغالب أتباع ابن عباس، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن إسحاق.

ومن أرباب المذاهب: داود وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب أحمد، منهم المجد عبد السلام ابن تيمية، وكان يفتي بها سِرًّا، وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية يجهر بها، ويفتي بها في مجالسه، وكثير من أتباعه.

ومنهم ابن القيم، الذي نصر هذا القول نصرًا مؤزَّرًا في كتابيه "الهدي"، و"إغاثة اللهفان"، فقد أطال البحث فيها، واستعرض نصوصها، وردَّ على المخالفين بما يكفي ويشفي.

واستدل هؤلاء بالنَّص والقياس:

فأمَّا النص: فما رواه مسلم في صحيحه: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت جعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وفي صدر من إمارة عمر؟ قال: نعم" وفي لفظ: "تردّ إلى واحدة؟ قال: نعم".

فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ لا يقبل التأويل والتحويل.

وأمَّا القياس: فإن جمع الثلاث محرَّمٌ وبدعةٌ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"، وإيقاع الثلاث دفعًة واحدةً ليس من أمر الرسول، فهو مردود مسدود.

ص: 494

وأجاب هؤلاء عن أدلة الجمهور بما يأتي:

أمَّا حديث ركانة: فقد ورد في بعض ألفاظه: "أنه طلَّقها ثلاثًا"، وفي لفظ:"واحدة"، وفي لفظ:"ألبتة"؛ ولذا قال البخاري: "إنه مضطرب".

وقال الإمام أحمد: طرقه كلها ضعيفة، وقال بعضهم: في سنده مجهول، وفيه من هو ضعيف متروك.

قال شيخ الإسلام: وحديث رُكَانة ضعيف عند أئمة الحديث، ضعَّفه أحمد، والبخاري، وأبو عبيد، وابن حزم، بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط.

وأمَّا حديث عائشة: فالاستدلال به غير وجيه؛ إذ من المحتمل أن مرادها بالثلاث نهاية ما للمطلق من الطلقات الثلاث، وإذا وجد الاحتمال، بطل الاستدلال، وهو مجمل، يحمل على حديث ابن عباس المبين؛ كما جاء في الأصول.

وأمَّا الاستدلال بعمل الصحابة، فمَنْ أولاهم بالاقتداء والاتباع؟!

ونحن نقول: إنهم يزيدون عن مائة ألف، وكل هذا الجمع الغفير -وأولهم نبيهم صلى الله عليه وسلم يعدون الثلاث واحدة، حتى إذا تُوفي صلى الله عليه وسلم وهي على ذلك، وجاء خليفته الصديق، فاستمرت الحال على ذلك حتى تُوفي، وخَلَفَه عمر رضي الله عنه فمضى صدر خلافته، والأمر كما هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصديق، بعد ذلك جعلت الثلاث، كعددها ثلاثًا؛ كما بيَّنَّا سببه.

فصار على أن الثلاث واحدة: جمهور الصحابة، ممَّن قضى نحبه قبل خلافة عمر، أو نزحت به الفتوحات قبل المجلس الذي عقده لبقية الصحابة المقيمين عنده في المدينة.

فعلمنا -حينئذٍ- أن الاستدلال بعمل الصحابة منقوض بما يشبه إجماعهم في عهد الصديق على خلافه.

ص: 495

وعمل عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- حاشاه وحاشا من معه أن يعملوا عملاً يخالف ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما رأى أن الناس تعجلوا وأكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث، وهو بدعة محرمة، فرأى أن يلزمهم بما قالوه تأديبًا وتعزيرًا على ما ارتكبوا من إثمٍ، وما أتوه من ضيق هُمْ في غنًى عنه، ويُسرٍ وسعة، وهذا العمل من عمر رضي الله عنه اجتهادٌ من اجتهادِ الأئمة، وهو يختلف باختلاف الأزمنة، ولا يستقر تشريعًا لازمًا لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإن طلَّقها ثلاثًا، في طهرٍ واحدٍ، بكلمةٍ واحدةٍ، أو كلماتٍ، مثل:"أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق"، أو يقول:"أنت طالق"، ثم يقول:"أنت طالق"، ثم يقول:"أنت طالق"، فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء أكانت مدخولاً بها، أو غير مدخولٍ بها:

أحدها: أنه طلاقٌ مباحٌ لازمٌ، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه؛ اختارها الخرقي.

الثاني: أنه طلاقٌ محرم لازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد؛ اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقولٌ عن كثيرٍ من السلف والخلف من الصحابة والتابعين.

الثالث: أنَّه محرم، ولا يلزم منه إلَاّ طلقة واحدة، وهذا القول منقولٌ عن طائفة من السلف والخلف من الصحابة، وهو قول كثير من التابعين، ومَن بعدهم، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.

وأمَّا مسألة الحلف بالطلاق: فقال -رحمه الله تعالى-: والفرق ظاهرٌ بين الطلاق والحلف به، وبين النذر والحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مريضي، أو قضى ديني، أو خلَّصني من هذه الشدة، فلله عليَّ أن أتصدق بألف درهمٍ، أو أصوم شهرًا، أو أعتق رقبةً، فهذا تعليقُ

ص: 496

نذرٍ يجب عليه الوفاء به بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.

وإذا علَّق النَّذر على وجه اليمين قاصدًا الحث أو المنع، فقال: إن سافرت معكم، أو إن زوجت فلانًا، فعلىَّ الحج، أو فمالي صدقة، فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء: هو حالف بالنذر، ليس بناذر، فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين.

* قرار مجلس كبار العلماء بشأن مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد: رقم (18) وتاريخ 12/ 11/ 1393 هـ:

قال مجلس هيئة كبار العلماء: بَحْث مسألة الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ، وبعد الدراسة وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قولٍ، توصَّل المجلس بالأكثرية إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ ثلاثًا، وخالف من أعضاء المجلس خمسة وهم:

الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ محمد بن جبير.

فهؤلاء الخمسة لهم وجهة نظر نصّها ما يلي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد:

فنرى أن الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ طلقةٌ واحدة.

وقال محرِّره: وجاء كل واحد من الفريقين بأدلته وما يراه.

ص: 497

933 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ جِدُهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ" رَوَاهُ الأَرْبعةُ، إلَاّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: "الطَّلَاقُ، وَالعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ"(1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

أخرجه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم وصحَّحه، وأقرَّه صاحب الإلمام، وابن خزيمة، كلهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

فذكره، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

وقد ذكر الزيلعي في معناه أحاديث أُخر.

قال الألباني: والَّذي تلخَّص عندي أن الحديث حسنٌ بمجموع طريق أبي هريرة التي حسَّنها الترمذي، وطريق الحسن البصري المرسلة، وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت، وآثار الصحابة التي تدل على أن معنى الحديث كان معروفًا عندهم، والله أعلم.

* مفردات الحديث:

- جِدّ: بكسر الجيم المعجمة، وتشديد الدال المهملة، قال في المصباح: جَدَّ

(1) أبو داود (2194)، الترمذي (1184)، ابن ماجه (2039)، الحاكم (2800)، ابن عدي (6/ 5).

ص: 498

فى كلامه: ضد هزل؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جِدّهن جِدّ، وهزلهن جدّ".

- هَزْل: ضد الجد، فالهزل هو العمل يتغلب فيه الهزل على الجد، قال في المصباح: هزل في كلامه: مزح.

- العَتاق: العتق لغة: الخلوص، وشرعًا: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق.

***

ص: 499

934 -

وَلِلْحَارِثِ بْنِ أُسَامَةَ، مِنْ حَدِيْثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه رَفَعَهُ:"لَا يَجُوْزُ اللَّعِبُ فِي ثَلَاثٍ: الطَّلَاقِ، والنِّكَاحِ، وَالْعَتَاقِ، فَمَنْ قَالَهُنَّ، فَقَدْ وَجَبْنَ" وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدَّثنا بشر بن عمر، حدَّثنا عبد الله بن لهيعة، حدَّثنا عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبادة بن الصامت، به.

قلت: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، وله علتان:

الأولى: الانقطاع بين عبيد الله بن أبي جعفر، وعبادة بن الصَّامت؛ فإنَّه لم يثبت لعبيد الله سماع من الصحابة.

الثاني: ضعف عبد الله بن لهيعة، قال الحافظ: صدوق خلَّط بعد احتراق كتبه.

لكن ذكر ابن حجر في التلخيص الحبير عدة طرق للحديث، وكلها فيها ضعف، لكن تتقوى ببعضها، والله أعلم، وروي موقوفًا عن عمر، وعلي نحوه.

* مفردات الحديث:

- وَجَبْن: لزمن، وثبتن، ونفذ حكمهن.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديثان يدلان على نفوذ الأحكام المذكورة، وهي عقد النكاح، والطلاق، ورجعة الزوجة إلى عصمة النكاح، والعتق.

(1) مسند الحارث (زوائد الهيثمي)(1/ 555).

ص: 500

2 -

فهذه أحكامٌ سريعة النفوذ، قوية السريان متى ما صدرت ممن يملكها ويملك التصرف فيها، فإنه لا رجعة له فيها بعد إطلاقها.

3 -

فمن عقد على موليَّته، أو طلَّق زوجته، أو أعتق عبده، نفذ ذلك من حين تلفظه بذلك، سواء كان جادًّا، أو هازلاً، أو لاعبًا؛ حيث إنه ليس لهذه العقود خيار مجلس ولا خيار شرط.

4 -

وكذا الرجعة تحصل من حين التلفظ بها، حيث لا يشترط رضا الزوجة، ولا قبولها لذلك.

5 -

حديثا الباب مخصِّصان؛ لعموم حديث: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات".

6 -

فهذان الحديثان ينبِّهان الإنسان بأن لا يمزح ولا يهزل بمثل هذه الأحكام؛ كما يفعله بعض الناس في مجالسهم العامة والخاصة، بل يكون الإنسان حذرًا؛ لئلا يقع فيما يورطه من الأمور.

7 -

الحكمة -والله أعلم- في سرعة نفوذ وسريان النكاح، والرجعة، والعتق، تشوّف الشارع إلى إيقاعها؛ فصارت نافذة سارية من حين إطلاقها.

8 -

أمَّا الطلاق فالحكمة -والله أعلم- أنه خطيرٌ جدًّا، وأن تكريره مما يجعل الزوجة مطلَّقة أجنبية، وأن معاشرتها ومباشرتها محرمة، وأن غالب المطلقين هم أصحاب الانفعالات النفسية، وليسوا غالبًا من المستقيمين؛ فخشية من أن ينكر نية الطلاق وقصده، ويتلاعب بذلك، جُعِلَ نافذًا عليه، وساري المفعول، ولو لم ينو أو يقصد الطلاق.

9 -

أجمع العلماء على أن من طلَّق زوجته، طلقت عليه، سواء كان في طلاقه هازلاً أو جادًّا، وأنه لا ينفع أن يقول فيه: كنت لاعبًا، أو هازلاً.

***

ص: 501

935 -

وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أوْ تَكَلَّمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- تجاوز: هو من جاز يجوز، فألفه منقلبة عن واو، وتجاوز عن المسيء: عفا عنه، وصفح عنه، ولم يؤاخذه بذنبه.

- حدَّثت: بتشديد الدال المهملة، يقال: حدَّثه بكذا، أي: أخبره، والمراد هنا حديث النفس، وهو ما يخطر بالقلب من الوسوسة.

(1) البخاري (5269)، مسلم (127).

ص: 502

936 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لا يَثْبُتُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

اختلفت أنظار العلماء في هذا الحديث وشواهده، والأرجح قبوله.

قال ابن حجر: رجاله ثقات، إلَاّ أنه أعلَّ بعلة غير قادحة.

وقال ابن رجب في شرح الأربعين؛ هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرَّجه ابن حبَّان في صحيحه (16/ 202)، والدارقطني (4/ 170)، وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتج بهم في الصحيحين، وقد خرَّجه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي.

ولكن له علة، فقد أنكره الإمام أحمد جدًا، وقال: لا يروى إلَاّ عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة، وكأنها موضوعة، فإن الأوزاعي لم يسمع هذا الحديث عن عطاء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أُخر.

قال أبو داود: روى الوليد بن مسلم، عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصلٌ، منها عن نافع أربعة.

(1) ابن ماجه (2045)، الحاكم (2/ 198).

ص: 503

قلت: والظاهر أن منها هذا الحديث.

أمَّا الشيخ الألباني فقال ما خلاصته: لست أرى ما ذهب إليه أبو حاتم، فإنه لا يجوز تضعيف حديث بمجرد دعوى عدم السماع؛ ولذلك فنحن على الأصل، وهو صحة الحديث حتى يتبيَّن انقطاعه.

وأمَّا الحافظ ابن حجر فقال: رجاله ثقات، وقال البوصيري: إسناده صحيح، كما صححه ابن حبان، وحسَّنه النووي في الروضة، كما صححه الشيخ أحمد شاكر.

* مفردات الحديث:

- وضع: عفا، وتجاوز، وأسقط المؤاخذة.

- الخطأ: جمعه أخطاء، وهو ضد الصواب، فهو: ما لم يُتعمَّد من الأمر.

- النسيان: مصدر نسي، وله معنيان:

أحدهما: الترك مع الذِّكْرِ.

الثاني: وهو المراد هنا: دخول غفلة عمَّا كان في الذهن.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحديث رقم (935) يدل على أن الله تبارك وتعالى تجاوز، وعفا عن الأفكار والهواجس، التي تطرأ على النفس، فيحدّث الإنسان بها نفسه، وتمر على خاطره، ذلك أن الخواطر النفسية، والهواجس القلبية، ليست من عمل الإنسان وإرادته، وإنَّما هي أمور ترد وتخطر على قلبه، بدون قصدٍ وتعمدٍ لها، فهذا عفا الله عنها، وتجاوز لعباده عنها، فلا تلحقهم تبعاتها.

2 -

ومن هذا الطلاق، فإذا فكَّر فيه، وعرض في خاطره، ولكنه لم يتكلم به، ولم يكتبه، فإن حديث نفسه به، وتفكيره فيه، لا يعتبر طلاقًا.

3 -

أمَّا الحديث رقم (936) فيدل على أن الخطأ، والنسيان، والإكراه في الطلاق معفو عن صاحبه، مسامح فيه؛ فلو أراد أن يقول لزوجته: "أنت

ص: 504

طاهر" فقال خطأ: "أنت طالق" لم تطلق؛ لأنَّ الطلاق يعتبر لوقوعه إرادة لفظه لمعناه.

4 -

أمَّا المكره بغير حق، فلا يقع طلاقه.

قال ابن القيم: لأنَّه قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولكن لم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غير قاصد له، وإنَّما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم؛ لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ.

5 -

أمَّا المكره بحق، فيقع طلاقه، وذلك المُوْلِي إذا مضى عليه أربعة أشهر، وأبى أن يفيء، فأجبره الحاكم على الطلاق، فيقع طلاقه؛ لأنَّه إكراه بحق.

6 -

الحديث رقم (936) دليلٌ على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفو عنها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا صدرت عن خطإٍ، أو نسيانٍ، أو إكراهٍ.

7 -

أن طلاق الخاطىء والمكره لا يقع عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، ويقع عند أبي حنيفة.

8 -

مفهوم الحديث أن الإنسان إذا تكلم بالحكم الشرعي، كأن يلفظ بالطلاق، أو يفعل بأن يكتبه؛ أنه يقع عليه، ولا يعذر حينئذٍ.

***

ص: 505

937 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "إِذَا حَرَّمَ امْرَأتهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وِلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَهي يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا"(1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

معنى الحديث أن الرجل إذا قال لزوجته: "أنت عليَّ حرام"، فليس التحريم بطلاق، وإنَّما يكون يمينًا، فيه كفَّارة اليمين؛ كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]، أي: شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المذكورة في سورة المائدة.

2 -

فالحديث يدل على أن من حرَّم شيئًا قد أحلَّه الله له، فإنه لا يكون حرامًا؛ فإنَّ حِلّ الأمور وحرمتها بيد الله تعالى؛ ولذا قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]؛ فإنه لا فرق بين من أباح ما حرَّم الله، وبين مَن حرَّم ما أحلَّ الله، فكله افتئات على الله في أحكامه.

3 -

أثر ابن عباس صريح في أن الرجل إذا حرَّم زوجته، يصير تحريمه يمينًا، تحلها كفارة اليمين المذكورة في سورة المائدة.

وفي مثل هذا اليمين الواجب على الحالف أن يأتي ما حرَّم، وحلف عليه،

(1) البخاري (5266)، مسلم (1473).

ص: 506

ويُكَفِّر عن يمينه؛ لما جاء في الصحيحين، من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك، وأْتِ الذي هو خير".

4 -

شارح هذا الكتاب صحح القول بأن تحريم الزوجة أو غيرها من المباحات لغوٌ، لا حكم له في شيء من الأشياء؛ والحجة على ذلك: أن التحريم والتحليل إلى الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]؛ فلا فرق بين تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فلما كان الأول باطلاً، فليكن الثاني باطلاً، ونظرنا إلى ما سوى هذا القول، فوجدنا أقوالاً مضطربة، لا برهان عليها من الله، وهذا القول يدل عليه حديث ابن عباس، أمَّا الكفارة فهي لليمين، لا لمجرد التحريم.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت عليَّ حرام" إلى ثمانية عشر قولاً، وأقرب هذه الأقوال، أقوالٌ ثلاثة هي:

أحدها: أنها يمين مكفرة؛ وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وبه قال أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة.

الثاني: أنه حسب نية المتكلم من طلاقٍ، أو ظِهارٍ، أو يمينٍ؛ وهذا قول لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد، واختاره جماعة من الحنابلة.

الثالث: أنه ظهارٌ، فيه كفارة الظهار؛ وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، وإسحاق، وجماعة من التابعين.

قال القرطبي: وسبب الاختلاف أنه ليس في الكتاب والسنَّة نصٌّ يعتمد عليه، فتجاذبها العلماء لذلك.

ص: 507

قال ابن القيم في مأخذ أصحاب هذه الأقوال فمأخذ من قال: إنها يمين مكفرة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وأثر ابن عباس الذي معنا.

قال صاحب الشرح الكبير: وهذا القول أقرب الأقوال، وأرجحها.

ومأخذ القول الثاني: هو أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمل للطلاق، والظِّهار، والإيلاء، فإذا صرفه إلى أحدها بالنية، فقد استعمله فيما هو صالح له، فيُصْرَف إلى ما أراده، ولا يتجاوز به، ولا يقصر عنه.

أمَّا مأخذ القول الثالث: فهو أن اللفظ موضوع للتحريم، والعبد ليس له التحريم والتحليل، وإنَّما إليه إنشاء الأسباب التي يترتب عليه ذلك، فإذا حرَّم ما أحلّ الله له، فقد قال القول المنكر والزور، فيكون كقوله: أنت علي كظهر أمي، بل هذا أولى أن يكون ظهارًا؛ لأنَّه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرح بتحريمها، فقد صرح بموجَب التشبيه في لفظ الظهار؛ فهو أولى أن يكون ظهارًا.

***

ص: 508

938 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ ابْنَةَ الجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ، فَقَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعَمْرة بنت الجون، فلما قَرُب منها صلى الله عليه وسلم قالت -اجتهادًا منها-: أعوذ بالله منك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"مَن استعاذكم بالله، فأعيذوه"، فأعاذها صلى الله عليه وسلم، وقال:"لقد عُذْتِ بعظيم، الحَقِي بأهلك".

2 -

ففيه دليل على أن لفظ: "الحقي بأهلك" هو طلاقٌ، وإن لم يكن بلفظ الطلاق، وما تصرَّف منه.

3 -

قوله: "الحقي بأهلك" كناية من كنايات الطلاق الخفية، والكناية -على المشهور من مذهب أحمد- لابد فيها من نية الطلاق، المقارنة لتلفظ المطلِّق، أو أن تكون في حال غضبٍ، أو خصومة، أو جواب لسؤال المرأة الطلاق، وبدون النية، أو هذه القرائن، فلا يقع بالكناية طلاق.

4 -

الطلاق له صريح وكناية:

فأمَّا صريحه: فلفظ الطلاق، وما تصرَّف منه من المشتقات، فيقع فيه الطلاق جادًّا، أو هازلاً، ولو لم ينوه.

5 -

أمَّا كنايات الطلاق فقسمان: ظاهرة، وخفية:

فالظاهرة: نحو أنت خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وتزوَّجي مَن شئت

إلخ.

(1) البخاري (5254).

ص: 509

والخفية: نحو اخرجي، واذهبي، واعتدي، واستبرئي، ولستِ لي با مرأة، وخلّيتك، والحقي بأهلك

إلخ.

6 -

الفرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، أن ألفاظ الظاهرة: موضوعة للبينونة، فيقع بها ثلاثًا، ولو نوى واحدة، وهذا هو المشهور عن مذهب الحنابلة.

أمَّا الخفية: فموضوعة لطلقة واحدة، ما لم ينو أكثر، فيقع ما نواه.

7 -

هذا التقسيم في ألفاظ الطلاق هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، رحمه الله تعالى.

8 -

قال ابن القيم: تقسيم الألفاظ إلى صريح أو كناية، وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص، والأزمنة، والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للفظ في ذاته، فرُبَّ لفظ صريح عند قوم، كناية عند آخرين، أو صريح في زمان ومكان، كناية في غير ذلك المكان والزمان، والواقع شاهدٌ بذلك.

وقال الشيخ علي بن عيسى، قاضي بلدة شقراء: إن لفظ التخلاة صريح في عرفنا اليوم.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أن ألفاظ الطلاق لا تتعين بلفظ مخصوص، فكل لفظ أفاد معنى الطلاق، فإنَّه يصلح أن يكون من ألفاظ الطلاق، كما هو في المعاملات وغيره، والله أعلم.

9 -

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: لا شك أن الإمضاء على ورقة الطلاق، ليس من صيغ الطلاق، لا من الصريح ولا من الكناية؛ إذ الزوج لم يكتب طلاق زوجته، وغاية ما في الأمر أنه كتب اسمه تحت كتابة وإنشاء غيره، فإذا لم يتلفظ بشيء مما كتب في الورقة، فلا يظهر لنا وقوع الطلاق منه بإمضائه الورقة.

ص: 510

939 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا طَلَاقَ إلَاّ بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَاّ بَعْدَ مِلْكٍ" رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ (1)، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيْضًا (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال المصنف: رواه أبو يعلى، وصحَّحه الحاكم، وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، فلقد صحَّ على شرطهما من حديث ابن عمر، وعائشة، وابن عبَّاس، ومعاذ بن جبل، وجابر.

ولكنه معلول بما قاله الدارقطني: الصحيح أنه مرسل ليس فيه جابر.

قال يحيى بن معين: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح".

وقال ابن عبد البر: روي من وجوه إلَاّ أنها عند أهل العلم بالحديث معلولة، ولكن يشهد له ما أخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله، وإسناده حسن، لكنه أيضًا معلول؛ لأنَّه اختلف فيه على الزهري.

قال البيهقي: أصح حديث في الباب حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أصحاب السنن:"ليس على رجل طلاق فيما لا يملك"

الحديث.

(1) الحاكم (2/ 204).

(2)

ابن ماجه (2048).

ص: 511

قال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، وقال البيهقي: قال البخاري: أصح شيء وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وقد حسَّن الحديث السيوطي في الجامع الصغير، وقال ابن عبد الهادي: رجاله ثقات.

***

ص: 512

940 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَنَقَلَ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

تقدم الكلام عليه في درجة الحديث السابق. وذكره ابن حجر في التلخيص، وسكت عنه، ونقل هنا ابن حجر تصحيح الترمذي له. وقال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، كما سبقه الإمام البخاري فقال: إنه أصحّ شيء في الباب، وحسّنه المنذري.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

التصرف لا يصح ولا ينفذ إلَاّ فيما يملكه الإنسان، أمَّا الشيء الذي ليس تحت تصرفه، فلا يجوز ولا يصح تصرفه فيه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"ولا تَبعْ ما ليس عندك".

2 -

من ذلك الطلاق لا يصح من رجل على امرأة أجنبية، ليست زوجة له؛ فـ"إنَّما الطلاق لمن أخذ بالساق"، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا طلاق فيما لا يملك".

3 -

ومن ذلك العتق، فلا يصح أن يعتق رقيقًا لا يملكه؛ لأنَّ تصرفه لم يقع محله.

4 -

إذا علَّق طلاق أجنبية على نكاحه لها، فقال: إن نكحتُ فلانة فهي طالق، ففيه ثلاثة أقوال للعلماء:

(1) أبو داود (2190)، الترمذي (1181).

ص: 513

الأول: عدم وقوع الطلاق؛ وهو قول الشافعي، وأحمد.

الثاني: صحة التعليق مطلقًا؛ وهو قول أبي حنيفة.

الثالث: التفصيل بين أن يخص امرأة بعينها، فيقع الطلاق وإن عم فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، لم يقع شيء؛ وهو قول مالك.

والراجح هو القول الأول.

قال ابن رشد: والفرق بين التخصيص والتعميم هو استحسانٌ مبنيٌّ على المصلحة.

5 -

الإمام أبو حنيفة رحمه الله فرَّق في التعليق بين الطلاق والعتق، فأبطله في الطلاق، وأجازه في العتق، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن القيم وذلك لأنَّ العتق له قوة وسراية، ولأنَّه يصح أن يجعل الملك سببًا للعتق، من باب القُرَب والطاعات، بخلاف النكاح: فإنه يقصد للبقاء، وليس الطلاق عبادة، وإنَّما هو مكروه.

6 -

أمَّا الحديث رقم (940) فيدل على أن النذر لا يصح، ولا ينعقد في شيء لا يملكه الناذر حين نذره، حتى ولو ملكه بعده، فلا يلزمه الوفاء به، ولا كفارة عليه.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن الطلاق المعلق: قرار رقم (16) وتاريخ 12/ 11/ 1393 هـ

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد: فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14)، الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين (1/ 4/ 1393 هـ و 17/ 4/ 1393 هـ)، القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة، فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الرابعة، المنعقدة فيما بين 29/ 10/ 1393 هـ و 12/ 11/ 1393 هـ، وفي هذه الدورة

ص: 514

جرى دراسة الموضوع، بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.

وبعد دراسة الموضوع، وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نصٌّ صريحٌ لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، باعتبار الطلاق المعلق طلاقًا عند الحنث، وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال.

بعد ذلك: توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلَّق عليه، سواء قصد من علَّق طلاقه على شرطِ الطلاقَ المحض، أو كان قصده الحث، أو المنع، أو تصديق خبر، أو تكذيبه؛ وذلك لأمور، أهمها ما يلي:

1 -

ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم، من أن رجلاً طلَّق امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر: إن خَرَجَتْ، فقد بانت منه، وإن لم تخرج، فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلَتْ كذا وكذا، فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها. وما رواه أيضًا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيّما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجْتِ إلى الليل، فخرجت، طلقت امرأته. إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضًا.

2 -

لما أجمع عليه أهل العلم، إلَاّ من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل، مع القطع بأنَّه لم يقصد الطلاق؛ وذلك استنادًا إلى حديث أبي هريرة وغيره، مما تلقته الأمة بالقبول، من أنَّ ثلاثًا جدهنَّ جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والعتاق؛ فإن كلاًّ من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذلك الطلاق، وإن لم يقصده؛ فلا وجه للتفريق بينهما، بإيقاعه على الهازل

ص: 515

به، وعدم إيقاعه على الحالف به.

3 -

لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور]، ووجه الاستدلال بها أنَّ الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة، والغضب على تقدير الكذب.

4 -

أن هذا التعليق، وإن قصد به المنع، فالطلاق مقصودٌ به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعًا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع.

5 -

أن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلَّق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم. قال تقي الدين السبكي في رسالته "الدرة المضيئة": وقد نقل إجماع الأئمة على ذلك أئمة، لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم؛ فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به، وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضًا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري، وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضًا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه "التمهيد" و"الاستذكار"، وبسط القول فيه على وجه لم يُبْقِ لقائل مقالاً، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب "المقدمات" له، ونقله الإمام الباجي في "المنتقى".

إلى أن قال: وأمَّا الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم: فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقرٌّ بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصًّا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أنَّ يمين

ص: 516

الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر، ولا تدخلها الكفارة. اهـ.

وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي رحمه الله من الإجماع بأنه خاصٌّ فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط. وفي القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: قال إسماعيل ابن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق، وعبدي حر؟ قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. اهـ.

وقال أيضًا: وما وجدت أحدًا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور من الصحابة ما بلغ أحمد. فقال المروذي: قال أبوعبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر، فيعتق عليه إذا حنث؛ لأنَّ الطلاق والعتق ليس فيه كفارة. اهـ.

أمَّا المشايخ عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان، فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلَّق على شرط -يقصد به الحث، أو المنع، أو تصديق خبر، أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق- يمينًا مكفَّرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء

ص: 517

941 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

فقد ورد من حديث عائشة، وعلي بن أبي طالب، وأبي قتادة.

أمَّا حديث عائشة: فرواه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن حبَّان، والحاكم، وأحمد، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ورجاله كلهم ثقات، احتجّ بهم مسلم برواية بعضهم عن بعض.

وحديث علي أصح من حديث عائشة، فحديثها طريقه واحد، وأمَّا حديث علي، فله أربع طرق، وهو صحيح.

وأمَّا حديث أبي قتادة: فأخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وفي الباب: عن أبي هريرة، وثوبان، وابن عباس، وشدَّاد بن أوس، وغير واحد من الصحابة، لا تخلو أسانيدها من مقال.

وذكر له الحافظ ابن حجر طرقًا عديدة بألفاظ متقاربة، ثم قال: وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، وصحَّحه ابن خزيمة والسيوطي، وقال الزيلعي: هو قوي الإسناد.

(1) أحمد (6/ 100)، أبو داود (4398)، النسائي (6/ 156)، ابن ماجه (2041)، ابن حبان (142)، الحاكم (2/ 59).

ص: 518

* مفردات الحديث:

- رُفِعَ: بالبناء للمجهول، يُقال؛ رفع يرفع رفعًا: خلاف خفض.

قال في المصباح: الرفع في الأجسام: حقيقة في الحركة والانتقال، وفي المعاني: محمول على ما يقتضيه المقام؛ ومنه قول صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة"، والقلم لم يوضع على الصغير، وإنَّما معناه: لا تكليف، فلا مؤاخذة.

- القلم: بفتحتين، هو ما يكتب به، والمراد هنا: القلم الذي بيد الملائكة الكتبة، والله أعلم بكيفيته.

- أو يفيق: من الإفاقة، يقال: أفاق المجنون إفاقة: رجع إليه عقله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأهلية: هي صلاحية الشخص، ومحليته للحقوق المشروعة، تثبت له أو عليه؛ فلابد من اعتبارها في التصرفات.

2 -

فإذا فقد الإنسان الأهلية، أصبح بفقدها عادمًا للحرية الاختيارية؛ إما بسبب النوم الذي أفقده الاستيقاظ لأداء واجباته، أو بسبب حداثة السن والصغر الذي هو معها فاقد للأهلية، أو بسبب الجنون الذي اضطربت معه وظائفه العقلية، ففقد التمييز والتصور الصحيحين، فانتفت عنه الأهلية بسبب من هذه الأسباب الثلاثة؛ فإن الله تبارك وتعالى بعدله، وحلمه، وكرمه، قد رفع عنه المؤاخذة، بما يصدر عنه من تعدٍّ، أو تقصير.

3 -

قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} [البقرة]؛ فالتصرفات التي تصدر من الإنسان، وهو في حال فاقد الأهلية، وعادم حرية الاختيار، لا يترتب عليها حكم يؤاخذ به المتصرِّف.

4 -

من ذلك الطلاق، فطلاق النائم -الذي يهذي في نومه- غير معتبر، ولا نافذ.

ومثله المجنون الذي فقد أهليته، فصار يقول ما لا يميزه ولا يتصوره؛ فطلاقه غير نافذ، ولا معتبر.

ص: 519

5 -

أمَّا المميِّز من الصبيان، فالتكاليف التي على البالغين أمرًا أو نهيًا، لم يكلَّف بها، وأمَّا الطلاق، فإن الصبي المميز يعلم أن زوجته تبين منه، وتحرم عليه إذا طلقها، فطلاقه معتبر نافذ؛ لأنَّه صدر من عاقل، فوقع طلاقه كطلاق البالغ، فهو ذو أهلية فيه.

***

ص: 520