الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوقف
مقدمة
الوقف: مصدر وقَفَ الشيء، وحَبَسَه وسبله بمعنى واحد، وأوقفه لغة شاذة.
قال ابن فارس: الواو والقاف والفاء أصل يدل على مكث، ثم يقاس عليه.
قلتُ: ومن هذا الأصل المقيس يؤخذ الوقف، فإنه ماكث الأصل.
وتعريفه شرعًا: حبس مالكٍ مالَه المنتفَع به، مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنول القُرب، ابتغاء وجه الله.
حكمه: الاستحباب، وقد ثبت بالسنة بأحاديث كثيرة:
منها حديث أبي هريرة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إذَا مَاتَ ابْن آدم انقطع عمله إلَاّ من ثلاث: صدقة جارية
…
" إلخ.
وأجمع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، على جوازه ولزومه.
قال الترمذي: لا نعلم أحدًا من الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خالف في جواز وقف الأرضين.
قال جابر: لم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا مقدرةٍ إلَاّ وقف.
وبهذا يُعلم إجماع القرن المفضل، فلا يُلتَفت إلى خلافٍ بعده، كما جاء عن شريح أنَّه أنكر الحبس. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه.
فضله: فهو أفضل الصدقات التي حثَّ الله عليها؛ لأنَّه صدقةٌ دائمةٌ ثابتةٌ.
وهذا الفضل المترتب عليه إذا كان وقفًا شرعيًّا، مقصودًا به وجه الله تعالى، موجهة مصارفه إلى وجوه البر والإحسان، من بناء المساجد، والإعانة على علمٍ نافع، والدعوة إلى الله، والمشاريع الخيرية، وصرفه إلى ذوي القربى والفقراء والمساكين، ومساعدة أهل الخير والصلاح على طاعة الله تعالى.
أمَّا أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف لئلا يبيعوه، فمثل هذا لا يُعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء.
وأما أن تكثر ديونه فيقف العقار خشية أن يباع لإيفاء أصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحابي بعضهم، ويحرم بعضهم، أو يفضل بعضهم على بعض بلا مسوِّغ شرعي.
فمثل هذا لا يعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء، وبهذا يدخل في باب الظلم بدلاً من باب البر؛ لأنَّه ليس على مراد الله تعالى.
وكل ما أحدث في غير أمر الله تعالى فهو مردودٌ غير مقبولٍ.
فالوقف برٌّ وإحسانٌ على الموقوف عليهم، إما لقرابتهم، وإما لحاجتهم، وإما للحاجة إليهم.
وهو صدقةٌ مؤبدةٌ للواقف يجري عليه ثوابها بعد انقطاع أعماله، وانتهاء آماله، بخروجه من دنياه إلى آخرته.
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس].
796 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإنْسَان انْقَطَع عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَاّ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، اوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ" روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
المؤلف ذكر هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ الوقف من الصدقة الجارية.
2 -
أول من وقف في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرج ابن أبي شيبة:"إنَّ أول من وقف في الإسلام وقف عمر" وسيأتي إن شاء الله.
3 -
الدنيا جعلها الله تعالى دار عمل يتزود منها العباد من الخير، أو يحملون معهم من الشر للدار الأخرى، التي هي دار الجزاء، وسيفلح المؤمنون، كما سيخسر المفرطون.
4 -
إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَاّ من هذه الأعمال الثلاثة، التي هي من آثار عمله، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
5 -
الأول: الصدقة الجارية كوقف العقار الذي ينتفع به، والحيوان المنتفع بركوبه، والأواني المستعملة، وكتب العلم، والمصاحف الشريفة، والمساجد والربط، فكل هذه وأمثالها أجرها جار على العبد ما دامت باقية، وهذا أعظم فضائل الوقف النافع الذي يعين على الخير، والأعمال الصالحة من علمٍ وجهادٍ وعبادةٍ، ونحو ذلك.
(1) مسلم (1631).
6 -
من هذا نستدل على أنَّ الوقف الشرعي الصحيح هو ما كان على جهة بر من قريبٍ، أو فقيرٍ، أو جهةٍ خيريةٍ نافعة.
7 -
الثاني: العلم الذي يُنتفع به بعد وفاته من طلاب محصلين ينشرون العلم، وكتب مؤلفة يستفاد منها، أو كتب طبعها وأعان على نشرها بين الناس، ففي الحديث الصحيح؛ "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لكَ من حُمْر النَّعَم".
8 -
الثالث: الولد الصالح، سواء كان ولد صلب، أو ولد ولد، ذكرًا كان أو أنثى، فينتفع بدعائه وإهدائه القُرب والأعمال الصالحة إليه، وإذا عبد الله تعالى استفاد والده، أو جده من عمله.
9 -
قد يجتمع للعبد الثلاثة كلها، بأن يجعل صدقة جارية، ويستفاد من عليه، أو نشره الكتب، ويكون له ذرية صالحون، يدعون له، ويهدون إليه الأعمال الصالحة، ففضل الله واسع.
10 -
قال ابن الجوزي: من علم أنَّ الدنيا دار سباق، وتحصيل الفضائل، وأنَّه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت مرتبته في دار الجزاء، أنهب الزمان، ولم يُضِعْ لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلَاّ حصلها، ومن وُفِّق لهذا فليغتنم زمانه بالعلم، وليصابر كل محنةٍ وفقرٍ إلى أن يحصل له ما يريد.
***
798 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "أَصَابَ عُمَرُ رضي الله عنه أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يسْتأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبرَ، لَم أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَقَال: إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ رضي الله عنه: أَنَّهُ لَا يُباَعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوْرَثُ، وَلا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ، وَفِي القُرْبىَ، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيل، والضَّيفِ، لَا جُنَاحَ عَلى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "تَصَدَّقَ بأَصْلِهَا، لَا يُباَعُ، وَلَا يُوهَب، وَلكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أرضًا بخيبر: اسم تلك الأرض "ثمغ" بفتح الثاء المثلثة، وسكون الميم، وآخره غين معجمة.
- يستأمره: أي يستشيره فيها.
- أنفس عندي: يقال: نفُس، -بضم الفاء- نفاسة، والمراد: أجودُ وأعجبُ مالٍ عندي.
(1) البخاري (2764، 2772)، مسلم (1632).
- القربى: قرابة الإنسان الشاملة لجهة الأب، وجهة الأم، والمراد قربى الواقف.
- الرقاب: وهم الأرقاء، الذين كاتبهم أسيادهم، ولا يجدون وفاء كتابتهم وديْنهم.
- في سبيل الله: هم الغزاة، وجميع ما أعان على إعلاء كلمة الله، ونشر دينه.
- ابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة في غير بلده، فالسبيل هو الطريق، سمي ابن السبيل لملازمته له.
- الضيف: النزيل ينزل على غيره، دعي أو لم يدع، يكون للواحد والجمع؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وقد يجمع على أضياف وضيوف.
- لا جُنَاح: بضم الجيم، وهو الإثم على من وليها أن يأكل من رَيعها بالمعروف.
- غير مُتمول: حال من قوله "من وليها"، أي أكله وإطعامه غير متَّخذ من الوقف ملكًا له، فليس له سوى ما ينفقه، بلا مجاوزة للمعتاد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضًا بخيبر هي أغلى مال عنده، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في صفة الصدقة بها، فأشار عليه بتحبيس أصلها عن التصرفات، والصدقة بِغَلَّتها، ففعل، فكان هو أول من وقف في الإسلام رضي الله عنه.
2 -
ففي الحديث بيان معنى الوقف، من أنَّه تحبيس الأصل عن التصرف بالرقبة بما ينقل ملكها، أو يكون سببًا لذلك، وتسبيل المنفعة.
3 -
قوله: "غير أنَّه لا يُباع أصلها" فيه بيان حكم التصرف في الوقف، فإنَّه لا يجوز بما ينقل الملك، كالبيع والهبة، وإنما يجب بقاء الرقبة يعمل فيه حسب الشرط الشرعي من الواقف.
4 -
أنَّ الوقف لا يكون إلَاّ في الأشياء التي ينتفع بها، وتبقى أعيانها، فأما الذي يذهب بالانتفاع به فهو صدقةٌ، وليس وقفًا.
5 -
قوله: "فتصدَّق بها في الفقراء" فيه بيان مصرف الوقف، ذلك بأن يكون في وجوه البر العام أو الخاص، كالقرابة، والفقراء، وطلاب العلم، والمجاهدين، ونحو ذلك.
6 -
قوله: "لا جناح علما من وَلِيَهَا" فيه مشروعية وجود ناظر للوقف، ينفذ شرط الواقف، ويصلح الوقف، ويصرفه مصارفه.
7 -
قوله: "أن يأكل منها بالمعروف" فيه بيان أنَّ الناظر له قدر نفقته من الوقف بالمعروف، وذلك مقابل عمله، ومقابل حبسه نفسه على إصلاحه وأعماله.
8 -
وفيه أنَّ للواقف أن يشترط شروطًا عادلةً جائزةً شرعًا، وأنَّه يجب إنفاذها، والعمل بها، ولولا ذلك ما كان لاشتراطها فائدة.
9 -
فيه فضيلة الوقف، وأنَّه من الصدقات الجارية، والإحسان المستمر.
10 -
وفيه أنه ينبغي أن يكون الوقف من أطيب المال وأحسنه، طمَعًا في ثواب الله تعالى، حيث قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة].
11 -
وفيه وجوب النصح لمن استشار، وأن يدله على أفضل الطرق، وأحسن الوجوه.
12 -
وفيه فضيلة استشارة العلماء، وأهل الرأي والنصِج، وأنَّ الإنسان لا يستبد بأموره الهامة، فقد قال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا} [الشورى: 38] ففي هذا السداد، والرشاد، والنجاح في الأمور غالبًا.
13 -
فيه ما يدل على أنَّه يجب أن تكون شروط الواقف من الشروط العادلة الصحيحة الشرعية؛ لأنَّه جاء في الحديث الذي في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط".
أما الشروط الجائرة الظالمة، مثل الشروط التي يقصد بها حرمان بعض الورثة، ومحاباة بعضهم بلا مسوغ، فهذه شروطٌ باطلةٌ محرَّمةٌ، لا تصح.
14 -
فيه أنَّه يجب على العلماء، والقضاة، وكتَّاب العدل، ونحوإ لك ممن يتولون كتابة وثائق الناس في أوقافهم، ووصاياهم، أن يدلوهم على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله، وأن يجنبوا الواقفين والموصين الظلم والحَيف، قال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من اشترط في الوقف، أو الهبة، أو البيع، أو النكاح، أو الإجارة، أو النذر، أو غير ذلك، شروطًا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النَّهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرَّمه الله، أو تحريم ما حلَّله، فهذه الشروط باطلة باتفاف المسلمين في جميع العقود الوقف وغيره.
15 -
فيه بيان بعض جهات البر التي ينبغي أن يكون مصرف الوقف فيها وهي:
- الفقراء: ويدخل معهم المساكين، وهم من لا يجدون كفاية عامهم من النفقات.
قال الشيخ: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب، مع التساوي في الحاجة.
- القُربى: وهم قرابة الإنسان من النسب أو المصاهرة، والأفضل أن تكون بالأقرب فالأقرب، مع الاستواء في الحاجة، وإلَاّ فتقدَّم الحاجة.
- الرقاب: من عتق الأرقاء، وفكاك الأسرى.
- وفي سبيل الله: من المرافق العامة النافعة للمسلمين، من الدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله، والملاجيء، والمساجد، وغير ذلك.
- ابن السبيل: المسافرون المنقطعون عن بلدانهم وأموالهم وعن بعضهم، فيعطون ما يبلغهم إلى أوطانهم.
- والضيف: بره والإحسان إليه، والواجب يوم وليلة، والمستحب أدناه ثلاثة أيام.
16 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اشتراط البر والقربة في الوقف يدل على أنَّ الوقف على بعض الورثة دون البعض الآخر يحرم، ولا يصح.
17 -
وقال الشيخ تقي الدين: اتَّفق العلماء على أنَّه لا يجوز بذل المال إلَاّ لمنفعة تعود على الدِّين أو الدنيا، والوقف لا يعود على الدنيا لصاحبه، وحينئذٍ فلا ينتفع به الدِّين إلَاّ لما يقفه في سبيل طاعة الله تعالى.
18 -
وقال الشيخ: اتَّفق العلماء على أنَّ شروط الوقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كما في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إنَّ شروط الواقف كنصوص الشارع، فمراده في الدلالة على المراد، لا في وجوب العمل بها، مع أنَّ التحقيق في هذا أنَّ لفظ الحالف، والموصي، وكل عاقد يُحمل قوله على عادته في خطابه، ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية الفصحى، أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقه، فإنَّ المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نرجع في معرفة كلام الواقف إلى معرفة لغته وعرفه وعادته.
وقال ابن القيم: إنَّ أحسن حمل لقول: "نص الواقف كنص الشارع" بمعنى تخصيص عامها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيَّدها، واعتبار
مفهومها كاعتبار منطوقها، وأما وجوب الاتباع فلا يظن ذلك من له نسبة إلى العلم، وإذا كان حكم الحاكم يرد منه ما خالف حكم الله ورسوله، فنص الواقف أولى.
* خلاف العلماء:
يرى الإمام أبو حنيفة جواز بيع الوقف والرجوع فيه إلَاّ أن يحكم به الحاكم، أو يعلقه بموته، فيقول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فيلزم حينئذٍ، وخالفه أصحابه في ذلك، قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة "حديث عمر" لقال به، ورجع عن بيع الوقف، والمفتى به في المذهب الحنفي هو قول أبي يوسف رحمه الله.
قال القرطبي: الرجوع في الوقف مخالفٌ للإجماع، فلا يلتفت إليه.
وذهب مالك والشافعي إلى لزوم الوقف، وعدم جواز بيعه بحال، أخذًا بعموم الحديث:"غير أنَّه لا يُباع أصلها".
وذهب أحمد إلى قول وسط، وهو أنه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال به، إلَاّ أن تتعطَّل منافعه، فيجوز بيعه، واستبداله بغيره.
استدل على ذلك بفعل عمر حينما بلغه أنَّ بيت المال الذي بالكوفة نقب، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة:"أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلى".
وكان هذا بمحضر من الصحابة، فلم يُنْكر، فهو كالإجماع.
وشبَّهه الإمام أحمد بالهَدي الذي يعطب قبل بلوغه محله، فإنَّه يذبح بالحال، وتترك مراعاة المحل لإفضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية.
قال ابن عقيل: الوقف مؤبد، ولما لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إذا نقص الموقوف، أو قلَّت منافعه، وكان غيره أصلح منه، وأنفع للموقوف عليهم، ففيه عن أحمد روايتان: المذهب: المنع، والأخرى: الجواز، وهو اختيار شيخ الإسلام.
قُلتُ: وعليها العمل في الديار السعودية، ولكن بعْد نظر الحاكم الشرعي وحكمه، ثم تمييز الحكم من محكمة التمييز.
***
799 -
وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "بعثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلى الصَّدَقَةِ
…
الحَديثَ، وفِيهِ: فَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَاعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- احتبس: التحبيس ابتغاء وجه الله تعالى بوقف عين ينتفع بها، ويبقى أصلها.
- أدْرَاعه: مفرده درع، والدرع قميص من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس وقايةً من السلاح، يذكَّر ويؤنَّث.
- أَعْتاده: مفرده عتاد، بفتح العين، والعتاد آلات الحرب من سلاح وغيره.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب لجباية الزكاة، فجاء إلى خالد بن الوليد، وإلى ابن جميل، فمنعا أداءها، فشكاهما عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فَقال صلى الله عليه وسلم "أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فلا زكاة عليه، وأما ابن جميل فليس له من العذر، إلَاّ أنَّه كان فقيرًا فأغناه الله".
2 -
ففيه مشروعية بعث الإمام السعاة لجباية الزكاة من أهلها.
3 -
جواز شكوى من امتنع من أداء الواجبات إلى من يقدر على إجباره على أدائها، وأنَّ هذا لا يُعدُّ من الغيبة المحرَّمة.
4 -
قبيح فعل من جحد نعمة الله عليه شرعًا وعقلاً؛ لأنَّه جعل كفر النعمة مكان شكرها.
5 -
أنَّ الأشياء الموقوفة على جهة برٍّ، كالمساجد، والربط، والمدارس،
(1) البخاري (1468)، مسلم (983).
والفقراء، ليس فيها زكاة؛ لأنَّه ليس لها مالك معيَّن.
6 -
أما الموقوفة على معيَّن ففيها الزكاة، إذا بلغت حصة كل واحد منهم نصابًا.
7 -
جواز جعل الأعيان المنقولة وقفًا لله تعالى، فلا يختص الوقف بالعقار، وجواز وقف الحيوان، فقد فسرت الأعتاد بالخيل.
8 -
إن الوقف جهة برٍّ، ثوابه كبير، وأجره عظيم.
9 -
إنَّ الحقيقة الشرعية "في سبيل الله" هي الغزو وقتال الكفار، لا جميع المرافق التي ينتفع المسلمين، كما أدخلها بعضهم.
10 -
وفيه فضيلة الوقف والتحبيس على الجهاد في سبيله، وأنَّ هذا من جهات البرِّ النَّافعة.
11 -
الجهاد الغرض منه نشر الدعوة، وإعلاء كلمة الله تعالى، وهذا كما يكون بالقتال يكون أيضًا بالدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها.
12 -
قوله: "في سبيل الله" دليلٌ على أنَّ الوقف لا يُشرع، ولا يصح، إلَاّ إذا كان على قُربة، وبر، يرجو الواقف ثوابه عند الله تعالى؛ لأنَّه صدقةٌ، والصدقة يقصد بها الثواب.
قال ابن القيم: الوقف على المَشَاهد باطلٌ، وهو مالٌ ضائعٌ فيصرف في مصالح المسلمين، فإنَّ الوقف لا يصح إلَاّ في قربةٍ وطاعة الله ورسوله، فلا يصح على قبور تُسْرج وتعظَّم، وتُتَّخذ من دون الله، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة المسلمين، ومن اتَّبع سبيلهم.
***