الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتنازعهم فِي تعْيين القطب الْفَرد الْغَوْث الْجَامِع، وَنَحْو ذَلِك من الْمَرَاتِب الَّتِي يدعونها، وَهِي مَعْلُومَة الْبطلَان بِالشَّرْعِ وَالْعقل. ثمَّ يتنازعون فِي عين الْمَوْصُوف بهَا، وَهَذَا بَاب وَاسع.
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن هَؤُلَاءِ الاتحادية من أَتبَاع صَاحب "فصوص الحكم" وَصَاحب "الفتوحات المكية" وَنَحْوهم، هم الَّذين يعظمون فِرْعَوْن، وَيدعونَ أَنه مَاتَ مُؤمنا، وَأَن تغريقه كَانَ بِمَنْزِلَة غسل الْكَافِر إِذا أسلم، وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يدل على كفره، ويحتجون على إيمَانه بقوله:{حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين} [سُورَة يُونُس: 90] .
بطلَان حجتهم على إِيمَان فِرْعَوْن:
وَتَمام الْقِصَّة تبين ضلالهم، فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ:{آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} [سُورَة يُونُس: 91] ، وَهَذَا اسْتِفْهَام إِنْكَار وذم، وَلَو كَانَ إيمَانه صَحِيحا مَقْبُولًا لما قيل لَهُ ذَلِك.
وَقد قَالَ مُوسَى عليه السلام: {رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} [سُورَة يُونُس: 88] .
قَالَ الله تَعَالَى: {قد أجيبت دعوتكما} [سُورَة يُونُس: 89] ، فَاسْتَجَاب الله دَعْوَة مُوسَى وَهَارُون، فَإِن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يؤمّن أَن فِرْعَوْن وملأه لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم.
وَقد قَالَ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون * فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين * فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} [سُورَة غَافِر: 82]- 85] ، فَأخْبر سبحانه وتعالى أَن الْكفَّار لم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم حِين رَأَوْا الْبَأْس، وَأخْبر أَن هَذِه سنته الَّتِي قد خلت فِي عباده، ليبين أَن هَذِه عَادَته سُبْحَانَهُ فِي الْمُسْتَقْدِمِينَ والمستأخرين، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} [سُورَة النِّسَاء: 18] .
ثمَّ إِنَّه سبحانه وتعالى قَالَ بعد قَوْله: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتَكون لمن خَلفك آيَة} [سُورَة يُونُس: 91]- 92] ، فَجعله الله تَعَالَى عِبْرَة وعلامة لمن يكون بعده من الْأُمَم لينظروا عَاقِبَة من كفر بِاللَّه تَعَالَى، وَلِهَذَا ذكر الله تَعَالَى الِاعْتِبَار بِقصَّة فِرْعَوْن وَقَومه فِي غير مَوضِع.
وَقد قَالَ سبحانه وتعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود * وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط * وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم
تبع كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد} [سُورَة ق: 12]- 14] ، فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، فِرْعَوْن وَغَيره، كذب الرُّسُل كلهم، إِذْ لم يُؤمنُوا بِبَعْض ويكفروا بِبَعْض كاليهود وَالنَّصَارَى، بل كذبُوا الْجَمِيع، وَهَذَا أعظم أَنْوَاع الْكفْر، فَكل من كذب رَسُولا فقد كفر، وَمن لم يصدقهُ وَلم يكذبهُ فقد كفر؛ فَكل مكذب للرسول كَافِر بِهِ، وَلَيْسَ كل كَافِر مُكَذبا بِهِ، إِذْ قد يكون شاكا فِي رسَالَته، أَو عَالما بصدقه لكنه يحملهُ الْحَسَد أَو الْكبر على أَلا يصدقهُ، وَقد يكون مشتغلا بهواه عَن اسْتِمَاع رسَالَته والإصغاء إِلَيْهِ؛ فَمن وصف بالْكفْر الْخَاص الأشد، كَيفَ لَا يدْخل فِي الْكفْر؟!
وَلَكِن ضلالهم فِي هَذَا نَظِير ضلالهم فِي قَوْله:
مقَام النُّبُوَّة فِي برزخ
…
فويق الرَّسُول وَدون الْوَلِيّ
وَقد علم أَن كل رَسُول نَبِي، وكل نَبِي ولي، وَلَا ينعكس.
وَقَالَ سبحانه وتعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد * وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة أُولَئِكَ الْأَحْزَاب * إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب} [سُورَة ص: 12]- 14] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} [سُورَة الحاقة: 9]- 10] .
ثمَّ إِن الله تَعَالَى أخبر عَن فِرْعَوْن بأعظم أَنْوَاع الْكفْر: من جحود الْخَالِق، ودعواه الإلهية، وَتَكْذيب من يقر بالخالق سُبْحَانَهُ، وَمن تَكْذِيب الرَّسُول وَوَصفه بالجنون وَالسحر وَغير ذَلِك. وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار أَن الْكفَّار الْعَرَب الَّذين قَاتلهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم -مثل أبي جهل وَذريته- لم يَكُونُوا يجحدون الصَّانِع، وَلَا يدعونَ لأَنْفُسِهِمْ الإلهية، بل كَانُوا يشركُونَ بِاللَّه ويكذبون رَسُوله.
وَفرْعَوْن كَانَ أعظم كفرا من هَؤُلَاءِ؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب * فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال * وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب * وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} [سُورَة غَافِر: 23]-28] ، إِلَى قَوْله:{وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 36]- 37] .
أخبر الله سبحانه وتعالى أَن فِرْعَوْن وَمن ذكر مَعَه قَالَ إِن مُوسَى سَاحر كَذَّاب، وَهَذَا من أعظم أَنْوَاع الْكفْر.
ثمَّ أخبر الله أَنه أَمر بقتل أَوْلَاد الَّذين آمنُوا مَعَه لينفروا عَن
الْإِيمَان مَعَه كيدا لمُوسَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي تباب} [سُورَة غَافِر: 37] ، فَدلَّ على أَنهم من الْكَافرين الَّذين كيدهم فِي تباب، فوصفهم بالتكذيب وبالكفر جَمِيعًا، وَإِن كَانَ التَّكْذِيب مُشْتَمِلًا مستلزما للكفر، كَمَا أَن الرسَالَة مستلزمة للنبوة، والنبوة مستلزمة للولاية.
ثمَّ أخبر عَن فِرْعَوْن أَنه طلب قتل مُوسَى وَقَالَ: {وليدع ربه} ، وَهَذَا تَنْبِيه على أَنه لم يكن مقرا بربه، وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمام الْكَلَام:{مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} [سُورَة الْقَصَص: 38] ، وَهَذَا جحد صَرِيح لإله الْعَالمين، وَهِي الْكَلِمَة الأولى.
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك لما ذكره الله تَعَالَى بقوله: {فكذب وَعصى * ثمَّ أدبر يسْعَى * فحشر فَنَادَى * فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى} [سُورَة النازعات: 21]- 24] ، قَالَ الله تَعَالَى:{فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى * إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} [سُورَة النازعات: 25]- 26] . قَالَ كثير من الْعلمَاء: أَي نكال الْكَلِمَة الْآخِرَة، ونكال الْكَلِمَة الأولى، فنكل الله تَعَالَى بِهِ على الْكَلِمَتَيْنِ باعترافه، وَجعل ذَلِك عِبْرَة لمن يخْشَى. وَلَو كَانَ هَذَا مِمَّن لم يُعَاقب على مَا تقدم من كفره، وَلم يكن عِقَابه عِبْرَة، بل من آمن غفر الله لَهُ مَا سلف، وَلم يذكرهُ بِكفْر وَلَا بذم أصلا، بل يمدحه على إيمَانه، ويثني عَلَيْهِ كَمَا أثنى على من آمن بالرسل، وَأخْبر أَنه نجاهم.
وَفرْعَوْن هُوَ أَكثر الْكفَّار ذكرا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ لَا يذكرهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا
بالذم والتقبيح واللعن، وَلم يذكرهُ بِخَير قطّ.
وَهَؤُلَاء الْمَلَاحِدَة المُنَافِقُونَ يَزْعمُونَ أَنه مَاتَ طَاهِرا مطهرا لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْخبث، بل يَزْعمُونَ أَن السَّحَرَة صدقوه فِي قَوْله: مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي، وَأَنه صَحَّ قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه كَانَ عين الْحق.
وَقد أخبر سبحانه وتعالى عَن جحوده لرب الْعَالمين. قَالَ لما قَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام: {إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين * حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل} [سُورَة الْأَعْرَاف: 104]- 105] ، {قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين * قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين * قَالَ لمن حوله أَلا تستمعون * قَالَ ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين * قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون * قَالَ رب الْمشرق وَالْمغْرب إِن كُنْتُم تعقلون * قَالَ لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين} [سُورَة الشُّعَرَاء: 23]- 29] ، فتوعد مُوسَى بالسجن إِن اتخذ إِلَهًا غَيره.
وَهَؤُلَاء مَعَ تنظيمهم لفرعون يشاركون فِي حَقِيقَة كفره، وَإِن كَانُوا مفارقين لَهُ من جِهَة أُخْرَى، فَإِن عِنْدهم: مَا ثمَّ مَوْجُود غير الله أصلا، وَلَا يُمكن أحد أَن يتَّخذ إِلَهًا غَيره، لِأَنَّهُ أَي شَيْء عبد العابد من الْأَوْثَان والأصنام وَالشَّيَاطِين، فَلَيْسَتْ عِنْدهم غير الله أصلا. وَهل يُقَال هِيَ الله؟ لَهُم فِي ذَلِك قَولَانِ.