الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمثل هَذَا النزاع أَن يُقَال هَل فعل مَا أَمر بِهِ أَو لم يفعل مَا أَمر بِهِ فالمأمور بِهِ فِي نفس الْأَمر لم يَفْعَله وَأما الْمَأْمُور بِهِ فِي حَقه من الْعَمَل الْمُمكن فقد فعله وَلذَلِك إِذا اشتبهت اخته بأجنبية هَل يُقَال الْحَرَام فِي نفس الْأَمر وَاحِدَة أم الإثنتان محرمتان على الْقَوْلَيْنِ بِهَذَا الإعتبار
فصل
التَّوْبَة من الْحَسَنَات لَا تجوز عِنْد أحد من الْمُسلمين
فَأَما التَّوْبَة من الْحَسَنَات فَلَا تجوز عِنْد أحد من الْمُسلمين بل من تَابَ من الْحَسَنَات مَعَ علمه بِأَنَّهُ تَابَ من الْحَسَنَات فَهُوَ إِمَّا كَافِر وَإِمَّا فَاسق وَإِن لم يعلم أَنه تَابَ من الْحَسَنَات فَهُوَ جَاهِل ضال وَذَلِكَ أَن الْحَسَنَات هِيَ الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فالتوبة من الْإِيمَان هِيَ الرُّجُوع عَنهُ وَالرُّجُوع عَنهُ ردة وَذَلِكَ كفر وَالتَّوْبَة من الْأَعْمَال الصَّالِحَة رُجُوع عَمَّا أَمر الله بِهِ وَذَلِكَ فسوق أَو مَعْصِيّة
وَالله تَعَالَى حبب إِلَى الْمُؤمنِينَ الْإِيمَان وَكره إِلَيْهِم الْكفْر والفسوق والعصيان فَكل حَسَنَة يَفْعَلهَا العَبْد إِمَّا وَاجِبَة وَإِمَّا مُسْتَحبَّة وَالتَّوْبَة تَتَضَمَّن النَّدَم على مَا مضى والعزم على أَن لَا يعود إِلَى مثله فِي الْمُسْتَقْبل والندم يتَضَمَّن ثَلَاثَة أَشْيَاء اعْتِقَاد قبح مَا نَدم عَلَيْهِ وبغضه وكراهته وألم يلْحقهُ عَلَيْهِ فَمن اعْتقد قبح مَا أَمر الله بِهِ أَمر إيحاب أَو اسْتِحْبَاب أَو أبْغض ذَلِك وَكَرِهَهُ بِحَيْثُ يتألم على فعله ويتأذى بِوُجُودِهِ فَفِيهِ من النِّفَاق بِحَسب ذَلِك وَهُوَ إِمَّا نفاق أكب ريخرجه من أصل الْإِيمَان وَإِمَّا نفاق أَصْغَر يُخرجهُ من كَمَاله الْوَاجِب عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم [سُورَة مُحَمَّد 28] وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا
مَا أنزلت [سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون سُورَة التَّوْبَة 124 - 125] وَقَالَ تَعَالَى وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا [سُورَة الْإِسْرَاء 82]
بل إِذا علم العَبْد أَن هَذَا الْفِعْل قد أمره الله بِهِ وأحبه فَاعْتقد هُوَ أَن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا أَمر الله بِهِ وأبغضه وَكَرِهَهُ فَهُوَ كَافِر بِلَا ريب فَمثل هَذِه التَّوْبَة عَن الْحَسَنَات هِيَ ردة مَحْضَة عَن الْإِيمَان وَكفر بِالْإِيمَان وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين [سُورَة الْمَائِدَة 5]
فإطلاق القَوْل بِأَن الْحَسَنَات يُتَاب مِنْهَا هُوَ كفر يجب أَن يُسْتَتَاب صَاحبه إِذْ مَعْنَاهُ أَنه يُؤمر بِالرُّجُوعِ عَن الْحَسَنَات واعتقاد أَن الرُّجُوع عَن الْحَسَنَات يقرب إِلَى الله وَهَذَا كفر بِلَا ريب ثمَّ إِن هَذِه التَّوْبَة متناقضة ممتنعة فِي نَفسهَا فَإِن التائب من الْحَسَنَات إِن اعْتقد أَن هَذِه التَّوْبَة حَسَنَة فَعَلَيهِ أَن يَتُوب مِنْهَا فَتكون بَاطِلَة فَلَا يكون قد تَابَ من الْحَسَنَات وَإِن اعْتقد أَنَّهَا سَيِّئَة كَانَ مقرا بِأَن هَذِه التَّوْبَة مُحرمَة فقد الْتزم أحد أَمريْن إِمَّا أَنه لم يتب من الْحَسَنَات أَو تَابَ تَوْبَة مُحرمَة وَهَذَا اشْتبهَ عَلَيْهِ حَال السَّابِقين المقربين الَّذين يتوبون من ترك المستحبات أَو فعل المكروهات غير الْمُحرمَات فَظن أَنهم تَابُوا مِمَّا فَعَلُوهُ من الْحَسَنَات وتركوه من الْمُحرمَات فَإِنَّهُم لَو تَابُوا من ذَلِك لكانوا مرتدين إِمَّا عَن أصل الْإِيمَان وَإِمَّا عَن كَمَاله وَإِنَّمَا هِيَ كوبة عَمَّا تَرَكُوهُ من مُسْتَحبّ وفعلوه من مَكْرُوه مثل أَن يكو العَبْد يُصَلِّي صَلَاة مجزئة غير كَامِلَة فتبلغه صَلَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم المستحبة فَيصَلي كصلاته ويندم على مَا كَانَ يَفْعَله من الصَّلَاة النَّاقِصَة
فَهُوَ لَا يَتُوب مِمَّا فعله من الْحسن وَإِنَّمَا يَتُوب مِمَّا تَركه من الْحسن وَلِهَذَا ينْسب نَفسه إِلَى التَّفْرِيط بِمَا أضاعه من الْحَسَنَات وَكَذَلِكَ إِذا سمع فَضَائِل الْأَعْمَال المستحبة وَمَا وعد الله لأصحابها من علو الدَّرَجَات فيندم على مَا فرط من ذَلِك ويعزم على فعلهَا فَهُوَ تَوْبَة مِمَّا تَركه من الْحَسَنَات
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ يصبر على المكاره مثل الْفقر وَالْمَرَض وَخَوف الْعَدو من غير رضى بذلك فَبَلغهُ مقَام أهل الرِّضَا وَأَنه أَعلَى من الصَّبْر الَّذِي لَا رضَا مَعَه وَأَن هَؤُلَاءِ يسْتَحقُّونَ رضوَان الله عَلَيْهِم وَأَن أول من يدعى إِلَى الْجنَّة الْحَمَّادُونَ الَّذين يحْمَدُونَ الله على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لِابْنِ عَبَّاس إِن اسْتَطَعْت أَن تعْمل لله بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل وَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا يكره خيرا كثيرا
فَهَذَا يَتُوب من ترك الرِّضَا لَا من نفس مَا أَمر بِهِ من الصَّبْر فَإِن الصَّبْر يبْقى مَعَ الرِّضَا لَا بُد من الصَّبْر فِي الْحَالَتَيْنِ لَكِن تذْهب مرَارَة الْكَرَاهَة بِالرِّضَا وَتلك المرارة لَيست من الْحَسَنَات الْمَأْمُور بهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَة أَيْضا فِي حد الصَّبْر الْمَأْمُور بِهِ بل الصَّبْر قد تكون مَعَه مرَارَة وَقد لَا تكون
وَمن اعْتقد أَن الصَّبْر لَا يكون إِلَّا مَعَ مرَارَة وَأَنه ضد الرِّضَا فقد تكلم بعرف بعض الْمُتَأَخِّرين وَلَيْسَ ذَاك عرف الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى أمرنَا بِالصبرِ وَأثْنى على أَصْحَابه فِي أَكثر من تسعين موضعا من كِتَابه